الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

النازلة من السّماء ومن الأموات والحشرات ونحوها ، وما يخرج منها النباتات والأشجار والأنهار والمعادن والأبدان (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) وغيرها ، أخذ سبحانه بذكر الدلائل الأنفسيّة فقال :

١١ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) إمّا باعتبار كون البشر تولّدوا من آدم عليه‌السلام وهو مخلوق من التراب ، وإمّا باعتبار أن بني آدم وإن كانوا من النّطف إلّا أن النّطف مبادئها الأغذية التي هي في مناهيها من التراب ، فبنو آدم أولهم من التراب وهم مخلوقون منه كأبوهم. فضمير الجمع في صدر الآية لعلّ بهذا الاعتبار. وأما قوله بعد ذلك (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) فهو باعتبار نسل آدم عليه‌السلام على ما هو المتعارف المعتاد (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي أصنافا متنوّعة ذكرانا وإناثا كقوله (يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) ويؤيّده قوله (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي ذلك معلوم له تعالى لا لغيره وهو من الغيب الذي اختصّه بذاته المقدسة حتّى أن والأمّ الحامل لا تعلم منه شيئا (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) أي ما يزاد في عمر من يطول عمره ، وما ينقص من عمره إلّا في ينقص من عمره ثابت ومتحقّق في كتاب علمه سبحانه لعله اللوح المحفوظ ولا يعلمه غيره تعالى ، وهو مما اختص به وحده (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي ما ذكر من الحفظ والنقص والزيادة والخلق فإنّه كله سهل عليه جلّ وعلا.

* * *

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ

٥٠١

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

١٢ ـ (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ ...) العذب الهنيء شربه بخلاف المالح المر أو الشديد الملوحة. فالبحران من هذه الجهة ليسا بمتساويين. نعم من جهة استخراج المنافع والنعم كلاهما متساويان في ما فيهما من النّعم المستخرجة إذ قال سبحانه (وَمِنْ كُلٍ) من البحرين (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) هو الأسماك (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) أي اللآلئ واليواقيت والمرجان تجعل زينة وتلبس (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) على وزن فواعل يعني جواري تشقّ الماء شقّا من مخرت السّفينة تمخر مخرا ومخورا إذا جرت بشدّة فشقّت الماء بصددها مع صوت يسمع (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي من فضل الله بالانتقال فيها والتجارة بها وبركوبها وقيل : البحران هما مثلان للمؤمن والكافر فإنّهما لا يستويان من جهة الإيمان والكفر ولكن في نظام عالم الوجود يستفاد من كليهما وينتفع بهما وإلّا يلزم لغويّة خلق ما لا فائدة فيه وهو محال على الخالق الحكيم والصانع العليم (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون الله الذي خلق لكم تلك النّعم فإنكم إن تشكروها تزيد.

٥٠٢

١٣ ـ (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ...) مرّ تفسير نصف هذه الشريفة الأول فلا نكرّره ، فصاحب هذه القدرة والعظمة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) مدبّر هذه الأمور كلّها وخالق تلك النّعم الجليلة ، وهو خالقكم وبارئكم الذي انحصر به ملك الدنيا والآخرة ، وأمّا المعبودات التي أشركتموها معه ف (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي لا يملكون القشرة الرقيقة الملتفّة على النّواة. وهذه مبالغة في القلّة ، ولكنّها ليست مبالغة في الواقع ونفس الأمر لأنهم لا يملكون خلق شيء ولا إيجاده ، فهم بحكم من لا يملك شيئا ، لأن معبوداتهم جمادات صمّاء بكماء ، وهي مملوكة لمن يملك الأشياء بحذافيرها كبيرها وصغيرها.

١٤ ـ (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ...) لأنّهم جماد (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي باشراككم حيث يبرءون من عبادتكم إيّاهم (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي يا محمد لا يخبرك بحقيقة الحال وواقع الأمر مثل ما يخبرك العليم بالحقائق والبصير بالأمور وهو الله تعالى. ثم أخذ سبحانه في بيان ما هو مستلزم لكونه حقيقا بالمعبودية وبطلان معبوديّة غيره لعدم استحقاقه أبدا ، وهو غناؤه المطلق الذي به أنعم على جميع الموجودات من الدّرة إلى الذّرة وفقر غيره غاية الفقر ونهاية الاحتياج بحيث لا يكون قابلا لأيّ تعظيم وتكريم فكيف للعبودية فقال تعالى :

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها

٥٠٣

لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))

١٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ...) أي أنتم المحتاجون إليه (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ) عن عبادتكم والمستغني على الإطلاق والمنعم على الممكنات طرّا بحيث استحقّ عليهم الحمد والشكر الجزيل. وقوله (الْحَمِيدُ) إشارة إلى هذا أي جهة استحقاقه الحمد والثناء الجميل.

١٦ و ١٧ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ...) هذا بيان لعدم الحاجة إليهم ، وإظهار لكمال قدرته ، ووعيد لهم بالإهلاك إذا لم يرجعوا عمّا كانوا عليه من الطغيان (وَما ذلِكَ) التهديد بإهلاكهم والإتيان بغيرهم من العباد الصالحين (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي ليس ممتنعا عليه ولا صعبا لديه فإنه يقول للشيء كن فيكون. وبالمناسبة نذكر حكاية لطيفة لأحد الأعلام الذين عاصروا الشيخ مرتضى الأنصاري رحمهما‌الله تعالى ، ويسمّى بشريف العلماء ، ففي سنة مجدبة لم ينزل فيها مطر أبدا طلب سكان القرى المجاورة من شريف العلماء أن يخرج بهم إلى الفلاة ليصلّي بهم صلاة الاستسقاء لعلّ الله تعالى يرسل الغيث من عنده. فخرج وصلّى بهم ثم رفع يديه نحو السماء وقال : اللهم إن أردت أن تهلك هؤلاء الجماعة بمنع المطر عنهم وتأتي بخلق جديد ، فإنك قادر على ذلك ، ولكن لم يأت خلق جديد إلّا كان أسوأ من سابقه ، فارحمهم برحمتك يا أرحم الراحمين. فما استتم كلامه حتى هطل المطر عليهم وعمّتهم الرحمة. فسبحان من هو لطيف بعباده.

٥٠٤

١٨ ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ...) أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، بل (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وأمّا قوله سبحانه : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) فإنه قول صدر بحقّ الضالّين المضلّين لغيرهم فإنّهم يحملون أثقال إضلالهم للآخرين مع أثقال ضلالهم ، وكلّ ذلك أوزار لأنفسهم وليس فيها شيء من أوزار غيرهم (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي تطلب نفس مثقلة بالذنوب (إِلى حِمْلِها) إلى أن يتحمّل عنها الآخرون شيئا من ذلك الحمل (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ولو كان المدعوّ إلى التحمّل صاحب قرابة بالنسبة إلى الدّاعي كابنه وأبيه وأخيه وأمّه رغم إشفاق هؤلاء الأقارب عليه.

وعن ابن عباس أنه قال : يوم القيامة يقول كل واحد من الأب والأم لابنه احمل عنّي وزرا واحدا فيقول الولد حسبي ما عليّ فأنت (تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي الخائفين من بطشنا وعذابنا مع أنه غائب عنهم ولم يرده ، فهم يصدّقون ربّا رأوه بعين عقولهم وآمنوا به وخافوا عذابه ، غائبين عن عذابه. وهذا كقوله (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) يعني إنذارك لا ينفع إلّا الذين يخشون ربّهم في خلواتهم وغيابهم عن الخلق ، أو لا ينفع إلّا الّذين هم من أهوال القيامة خائفون مع أنهم ما رأوا الأهوال ولا العذاب لكنهم معتقدون بها (وَمَنْ تَزَكَّى) أي طهّر نفسه عن دنس المعاصي والأوزار (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أي نفعه عائد إلى نفسه لا إلى غيره. وهذه الجملة معترضة مؤكّدة للخشية وإقامة الصّلاة. فإنّهما من شعب التزكية (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي هو تعالى يجازيهم على تزكيتهم فإنهم صائرون إليه.

* * *

٥٠٥

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦))

١٩ إلى ٢٣ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ...) أي لا يتساوى الكافر والمؤمن أو الجاهل أو العالم أو الأعمى عن طريق الحق والذي يهتدي إليه ولا ظلمات الشرك والضّلال ونور الإيمان والهداية (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) أي الحق والباطل أو الجنّة والنار. وتكرير (لَا) على الشقّين لمزيد التأكيد ، والحرور من الحرّ غلب على السّموم. وقال القمّي : الظل الناس ، والحرور البهائم. (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) وهذا مثال آخر للمؤمن والكافر فإن المؤمن قلبه حيّ بمعرفة التّوحيد والكافر قلبه ميت بالشّرك وبالجحد والعناد وقال بعضهم : هذا تمثيل للعالم الذي يعمل بعلمه فإن قلبه منوّر بأنوار العلوم وبأنوار المعارف ، بخلاف الجاهل فإن قلبه ميت بظلمة الجهل وعدم معرفة شيء. وهذه الجملة أبلغ من الأولى ولذا كرر الفعل فيها (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي من يريد هدايته فيوفّقه للتفكّر في آياته والاتّعاظ بعظاته ففي النتيجة

٥٠٦

يصير موحّدا مؤمنا بجميع ما جاء به النبيّ (ص) (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي من هم مصرّون على الكفر والجحود ومعاندون للحق. وهذا ترشيح لتمثيل من هو مصرّ على الكفر بالأموات. فإنك يا محمّد لا تقدر أن تنفع الكفّار وتهديهم إلى الإيمان بإسماعك إياهم الآيات والعظات والنّصح إذ لم يقبلوا منك ، كما أنك لا تقدر أن تنفع وتهتدي الأموات بالآيات والبراهين. وتأكيدا لهذا المعنى يقول تعالى : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) وما عليك إلّا الإنذار حيث أن هذا هو شغل النذير. وأمّا الاستماع وإلجاء أهل الكفر والنّفاق إلى الانتفاع بكلام أهل الحق فما هو شغلك لأنه ليس تحت قدرك واختيارك في المطبوع على قلوبهم.

٢٤ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ ... وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ ...) أي لا تكون أمة في أيّ عصر من الأعصار إلّا وقد أتممنا عليها الحجة بإرسال رسول إليها أو وصيّ رسول وقال القمّي : لكل زمان إمام

٢٥ و ٢٦ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ ...) هذه الكريمة تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كذّب السابقون بالبيّنات بالزّبر ، أي الكتب السماوية كصحف إبراهيم (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) كالتوراة والإنجيل فأهلكت المكذّبين (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري بعقوبتهم وتدميرهم.

* * *

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى

٥٠٧

اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١))

٢٧ ـ (أَلَمْ تَرَ ... وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ ...) أي ذوات جدد ، خطط وطرائق (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) أي ثمرات مختلفة الألوان (وَغَرابِيبُ سُودٌ) عطف على جدد أي ومنها ما هي شديدة السّواد لا خطط فيها. وهي تأكيد لمضمر يفسّره (سُودٌ) وقيل إن الغرابيب تأكيد للسّود وتقدّم على المؤكد لمزيد التأكيد لما فيه من التأكيد باعتبار الإضمار والإظهار. والتقدير : سود غرابيب. والحاصل كأنّه يقال إنّ الله تعالى أظهر قدرته في الجبال فخلقها مثل الثمرات مختلفة فمنها جبال فيها جدد أي علائم وخطط وطرق ، وهي مختلفة الألوان : بيض وحمر وسود غرابيب حالكة السّواد أي شديدة السواد. وهذا أمر مشاهد يعرفه كلّ من ارتاد الجبال ورأى مسالكها.

٢٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ...) أي كذلك ، كاختلاف الثّمار والجبال تختلف ألوان الناس والدوابّ والأنعام. وذكر الأنعام بعد الدّواب من ذكر الخاص بعد العام لشرافتها على مطلق الدواب واختصاص ألوانها بالذّكر من بين أوصافها مع أنها ، أي الثلاث ، مختلفة كلّ واحدة منها عن الأخرى بأوصاف أخر كما لا يخفى إذا كان الاختلاف

٥٠٨

بحسب الأنواع الثلاثة ، وإذا كان المراد من الاختلاف هو الاختلاف بين أفراد كلّ واحد من الأنواع بمعنى أن كل فرد من أفراد الإنسان لونه غير لون الفرد الآخر ، فكذلك يختلف هذا الفرد مع الفرد الآخر في أوصاف أخر غير اللّون أيضا من حيث الأوصاف الظاهريّة. فالاختصاص لماذا؟ فيقال : يمكن أن يكون من باب أن تمييز كل صنف من الآخر يكون غالبا باللّون كتمييز الأسود من الأبيض أو من الأحمر أو الأصفر باللّون. نعم إن أفراد كل صنف تميّزها غالبا بالصّور وقد يكون باللّون وغيره.

والحاصل أنّ هذه الأشياء كما أنها في أنفسها دلائل ، فهي كذلك في اختلافها لونا ، وفي الثمرات طعما وريحا ولونا ... ثم إنّه تعالى بعد بيان قدرته على خلق الأشياء المختلفة الذّوات والألوان وغيرها قال عزّ من قائل : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وجه مناسبة تعقّب هذه الجملة لما قبلها من آيات القدرة أن الخشية منه تعالى دليل معرفته ، ولذا نرى أنّ كلّ من كان أعرف بذاته المقدّسة كان أخشى له وأطوع. فنرى أن النبيّ إبراهيم وأمثاله صلوات الله عليهم إذا قام في محرابه سمع من صدره صوت كصوت القدر حينما يغلي فيها الماء ، من خشية ربّه. وإذا حضر وقت الصّلاة كان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله يتغيّر لونه الشريف إلى الصّفرة والحمرة وكان مثل الذي في حال نزعات الموت من كثرة الخشية وكان أثناء صلاته وتسبيحه يسمع له أزيز كأزيز المرجل ، وكان وصيّه أمير المؤمنين صلوات الله عليه إذا هيّأ نفسه القدسية لإقامة الصّلاة لا يلتفت يمينا ولا شمالا بل تنزع حينئذ من جبينه الشريف النّبال التي كانوا يرمونه بها في الحروب ولا يتأثّر بذلك لكمال توجّهه إلى ربّه وغاية توغله في ذاته ونهاية خوفه منه تعالى. وكان يغشى عليه في مناجاته ويصير أثناءها كالخشب اليابس ، وكان ولده الصادق عليه‌السلام لا يقدر على التّلبية ويقول : أخاف من ربّي أن يقال لي : لا لبيّك ولا سعديك ، ولم يزل كذلك حتى ظنّ أنه يكاد يختنق لدوران نفسه

٥٠٩

المقدسة ، وهكذا سائر أولياء الله. فإذا كان الخوف ناشئا عن المعرفة الناشئة عن التدبّر والتفكّر في الآيات ودلائل المعرفة ، فبهذه المناسبة ذكر هذه الجملة في ذيل الآية الكريمة.

والمراد بالعلماء هم العارفون بالله والمتفكّرون في آياته ودلائل معرفته. ولذا قيل تفكّر ساعة خير من عبادة سنة ، أو أربعين سنة أو أزيد ، لأنّه كلّما زيد في معرفة الشخص زيد في إيمانه ، وكلّما زيد في إيمانه زيد في أجر أعماله ، فإن الأجر زيادته ونقصه على قدر المعرفة زيادة ونقيصة. وبالجملة شرط الخشية معرفة المخشيّ والعلم بصفاته تعالى وأفعاله! فمن كان أعلم به كان أخشى منه. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي أخشاكم لله ، أتقاكم له ، لهذه الجهة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فهو تعالى غالب في الانتقام ، ومعاقب للمصرّ على طغيانه ، وغفور للتّائب عن عصيانه ، وهذه علّة لوجوب الخشية لدلالته على ما قلناه في ترجمة الكريمة. والذيل يدلّ على ما يوجب الخوف والرجاء اللذين هما المطلوب من العبد. وفي المجمع عن الصّادق عليه‌السلام : يعني بالعلماء من صدّق قوله فعله. ومن لم يصدّق فعله قوله فليس بعالم. وعن بعض الأفاضل أنه يجوز دفع اسم الجلالة ونصب العلماء أي (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) على أن تكون الخشية مستعارة للتعظيم ، وفيه بعد لبعد المعنى الذي يجب أن يتبادر إلى الذهن. وفي بعض مؤلّفات المحقّق الطوسي ما حاصله أن الخشية والخوف وإن كانا في اللغة بمعنى واحد إلّا إن الخوف والخشية منه تعالى في عرف أرباب القلوب فرقا ، وهو أنّ الخوف تألّم النفس من العقاب المتوقّع بسبب ارتكاب المنهيّات والتقصير في الطّاعات ، وهو يحصل لأكثر الخلق وأن كانت له مراتب متفاوتة جدا. والخشية حالة تحصل عند الشعور بعظمة الحق وهيبته وخوف الحجب عنه ، وهذه حالة لا تحصل إلّا لمن اطّلع على حال كبرياء عزوجل وذاق لذّة القرب. ولذا قال سبحانه : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ولم يقل إنما يخاف الله. فالخشية خوف خاص ، وقد يطلقون عليه الخوف تسامحا.

٥١٠

٢٩ و ٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ ...) أي يقرءون القرآن أو يتّبعونه بالعمل بما فيه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) يحتمل أن يكون المراد هو قراءة القرآن فيها فأثنى سبحانه عليهم بذلك. فعلى هذا (الواو) حاليّة في قوله (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) والمعنى : الذين يقرءون القرآن في صلاتهم. ويحتمل أن تكون لعطف الجملة على جملة (يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) كما في قوله (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) فالثناء على كلّ جملة بحيالها (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) وهي طلب الثواب وتحصيله من الله تعالى وهو الذي لن يكسد ولن يفنى بالخسران بل لا خسران فيه. فهؤلاء المؤمنون يفعلون ذلك (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) أي ينفقون أموالهم لوجهه تعالى لأجل أن يوفّيهم الله أجور أعمالهم فيعطيهم إياها تامّة كاملة (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ليزيد على ما يقابل أعمالهم من جوده وكرمه ، فإنه ذو فضل وإحسان عظيم. وفي المجمع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو الشفاعة لمن وجبت له النّار ممّن صنع إليه معروفا في الدّنيا (إِنَّهُ غَفُورٌ) لفرطاتهم (شَكُورٌ) لطاعاتهم ومجازيهم عليها جزاء موفورا. وعن عبد الله بن عبيد بن عمر اللّيثي أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله وقال : يا رسول الله (ص) إنّي أكره الموت ، فما حيلتي؟ فقال له الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل لك مال؟ قال : نعم. قال : قدّم مالك ، فان قلب كل امرئ وراء ماله أو قال : مع ماله ، إن قدّمه أحبّ أن يلحق بماله ، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه. ثم إنّه تعالى يخاطب رسوله (ص) فيقول عزوجل :

٣١ ـ (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ...) قوله (مِنَ الْكِتابِ) بيان من الموصول يعني القرآن (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي الكتب السّماويّة المتقدّمة عليه (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) عالم ببواطنهم (بَصِيرٌ) بظواهرهم وبما هم عليه ، ووحينا إليك هو الحقّ دون غيره

* * *

٥١١

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧))

٣٢ ـ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ ...) الألف واللام للعهد الذكري يعني القرآن أو المراد هو الجنس (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) هذا التفصيل متفرّع على قوله (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ) ضميره ظاهرا يرجع إلى العباد ، وقسّموا ثلاثة أقسام : قسم ظالم لنفسه بتحمّلهم الإثم وذلّ المعصية (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا (وَمِنْهُمْ

٥١٢

سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) أي المصطفين الأخيار الذين اختارهم الله من الأزل فهم (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) وهم ورثة الكتاب ، أي محمد وآله الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين وسائر الأنبياء عليهم‌السلام. فورثة الكتاب يدخلون الجنة بغير حساب ، والمقتصدون أهل النّجاة ولو بعد مدّة ، والظالمون هم أهل النار على مراتب ظلمهم ودرجات معاصيهم على اختلافها أعاذنا الله منها ومن النار. هذا ولكن عن الرّضا عليه‌السلام كما في العيون أنه قال : أراد الله بذلك العترة الطاهرة ، ولو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة لقول الله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) الآية ثم جمعهم كلّهم في الجنة فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم والأقوال والروايات في المقام كثيرة. فمن أراد التفصيل فليراجعها من شاء في مظانّها. وفي روايات كثيرة فسّر الظالم لنفسه بمن لا يعرف الإمام ، والمقتصد من يعرفه ، والسّابق بالخيرات هو الإمام عليه‌السلام (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي توريث الكتاب والاصطفاء هو الإحسان الجزيل ، ولا يعادلهما إلّا قليل من المناصب الإلهية الموهوبة كالنبوّة والإمامة اللّتين بينهما ، وبين التوريث والاصطفاء ملازمة ، أي أنهما من لوازم النبوّة والولاية.

٣٣ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ...) في المعاني عن الصّادق عليه‌السلام : يعني المقتصد والسابق. وهذا التفسير يؤيّد ما قلناه في تفسير الكريمة السّابقة من حكم الأقسام الثلاثة (جَنَّاتُ عَدْنٍ) معناه بساتين الإقامة ، ويمكن أن يكون تفسيرا (الْفَضْلُ) كأنّه قيل ما ذلك الفضل الكبير؟ فقال : هذا جنّات عدن : ويجوز إن يكون بدلا من الفضل ، أي ذلك الفضل جنّات عدن أي دخولها (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ) فيها بيانيّة للتّحلية وأساور جمع سوار وهو زينة اليد وحليتها (مِنْ ذَهَبٍ) من : تبعيضيّة ، أي بعضها ذهب خالص (وَلُؤْلُؤاً) يجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض عطفا على الذهب وقرئ بالخفض أيضا ومعناه بعضها لؤلؤ مصفى أو مرصّع به وهذه حلية المرأة فكيف صارت جملة

٥١٣

يحلّون حالا وصفة للرجال الذين يدخلون جنات عدن؟ نقول إنّ أصحاب كتاب عين المعاني نقل إن أساور الذهب المرصّعة باللآلئ والزمرّد الأخضر وغيرهما من الأحجار الكريمة كانت حلية ملوك العرب في الأعصار القديمة واختصّت بهم وامتازوا بها وقد تزيّنوا بها بل كانوا يلبسونها كثيرا كما أن التيجان تختصّ بملوك الفرس وامتازوا بها. ولذا اختصّها الله تعالى بالذكر وجعلها من ألبسة الجنّة وحليّها كما أنه تعالى ذكر من ألبستها الحرير ، فقال (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) وهو من أحسن ألبسة الدّنيا ويعدّ من الأزمنة القديمة من أفخرها ولذا لا يلبسها إلّا الملوك وأرباب الثّروة والأموال.

٣٤ و ٣٥ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ...) أي بعد ما استقرّوا في جنات عدن واطمأنّوا من العذاب حمدوا الله وأثنوا على إذهابه الحزن عنهم ، أي الحزن النّاشئ من خشية العذاب وخوف النار ، وكذلك همّ الدنيا الذين كانوا مبتلين به فيها فاستراحوا منه أيضا (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) لفرطاتنا وتقصيرنا (شَكُورٌ) لطاعاتنا مجازينا عليها بالثواب الجزيل فهو الذي (أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) أي أوردنا دار الإقامة من عطائه كرامته بعد تكليفنا بما استوجبنا به ذلك ، و (نَصَبٌ) أي تعب (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) كلال واعياء إذ لا تكليف فيها. والفرق بين النّصب واللّغوب أن النّصب سبب واللّغوب مسبّب منه. واللّغوب عبارة عن فتور وكلال يكون هو نتيجة حاصلة من المشقّة والتعب العارض على الإنسان أثناء عمله في سبيل تحصيل أمر ، ونفي النتيجة والمسبب بعد نفي السبب للمبالغة والتّأكيد. وفي روضة الكافي ذكر الكليني رحمه‌الله بسند معتبر صحيح أن الله سبحانه وتعالى بقدرته الكاملة خلق حوارا وقصورا وأعلمهم أنّي خلقتكم للمؤمن الفلاني فعرّفه إيّاهم فيشتاقون إليه اشتياقا كثيرا بحيث ينتظرونه آنا بعد آن. فإذا دخل المؤمن الجنّة أخبروهم بقدومه فيستقبلونه مع أن المسافة بينهما سبعون سنة ، فإذا وقع نظرهم عليه يطيرون لكثرة

٥١٤

الفرح والسّرور فيخرج من بريق ابتسامتهم نور يضيء تلك المسافة فإذا دنا المؤمن منهم تعانقوا منهم مدة سبعين سنة ، ثم تأخذ الحور بيد المؤمن ويدخلنّه القصر المختصّ به فيتّكئ المؤمن على سريره وتقوم الحور والغلمان في خدمته. فهنا يقول المؤمن : الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن. فلمّا ذكر سبحانه الجنّة وما أعدّه لأهلها وأنواع الجزاء والثواب لهم ، عقّبه ببيان ما أعدّه للكفرة من أليم العقاب فقال عزّ وعلا :

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ...) والذين كفروا لهم نار جهنّم فهي معدّة لهم في الآخرة (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) أي لا يحكم عليهم فيموتوا بموت ثان فيستريحوا من شدائد العذاب. وقوله (فَيَمُوتُوا) نصبه (بأن) المقدّرة حيث أنه وقع جوابا للنفي (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) فهم مع طول إقامتهم في النار لا ينقص شيء من عذابهم بل كلما خبت زيدوا سعيرا (كَذلِكَ) أي مثل ذلك العذاب ونظيره (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) كلّ جاحد كثير الكفران مكذّب لأنبياء الله تعالى.

٣٧ ـ (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها ...) أي يستغيثون بالصّراخ والصّياح قائلين : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) فقد كنّا نعمل ونحسب عملنا صالحا ، وقد تحقق وثبت الآن خلافه لنا. فيقال لهم توبيخا (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أوم نعطكم عمرا كنتم متمكّنين فيه من التفكّر والتذكر لو كنتم من أهل التذكّر والتدبّر. وهذا جواب من الله تعالى وتعيير لهم. وقوله (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ) يتناول كل عمر يمكن فيه من التذكر والروايات والأقوال على أنه ستون وقيل إنه أربعون سنة وقيل ١٧ سنة وقيل ١٨ سنة. والمراد من الموصول هو العمر (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي الرسول أو الكتاب ، أو الشيب ، أو العقل لأنه الرسول الباطني. وهذا القول عطف على معنى (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) ولفظه لفظ استخبار ومعناه معنى

٥١٥

الإخبار ، كأنه قيل : قد عمّرناكم وجاءكم النذير أي الشيب ، ونعم ما قيل :

رأيت الشّيب مذ نذر المنايا

لصاحبه ، وحسبك من نذير

ومثله :

لشيب رأسي جرى دمعي ولا عجبا

تجري العيون لوقع الثّلج في القلل

ثم إنّه سبحانه بعد إخبارهم بأنّا قد عمّرناكم وأرسلنا إليكم رسل التّذكير والتحذير وما تذكّرتم وما تحذّرتم ، ففرّع عليه بقوله : (فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي ناصر : يدفع عنهم العذاب

* * *

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا

٥١٦

وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١))

٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ...) أي عارف بمضمراتها ، فغيرها أولى بأن يعلمه فلا يخفى عليه شيء من أسرار السّماوات وخفيّات الأرضين.

٣٩ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ...) أي : يا معاشر الكفرة إن الله تعالى أنعم عليكم بعد نعمة الوجود بأن جعلكم خلفاء في أرضه مكان من كان قبلكم في التصرّف فيها والتسلّط عليها ، وذلك لكي تقرّوا بتوحيده وتطيعوا ولاة أمره ونهيه من الأنبياء العظام والرّسل الكرام وأوصيائهم عليهم‌السلام ، وكان هذا شكر تلك النعمة العظيمة والموهبة الجسيمة (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي جزاء كفره وضرره في الدّنيا بأن ينقصها بأخذها منه عاجلا ، وفي الآخرة بنار الخلود الّتي لا يخفّف عذابها بل يزاد في سعيرها كما يشير إليه بقوله تعالى (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ) الآية ، والمقت هو أشدّ البغض ، والخسار هو الخسران في الآخرة. والأمران بيان لجملة (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) والتكرير لبيان أن كلّ واحد من الأمرين له اقتضاء خاصّ لكفر ناشئ عن اقتضاء قبحه. والحاصل أن العمر كرأس المال ، فمن اشترى رضاء الله ربح ، ومن اشترى به سخطه خسر خسرانا مبينا.

٤٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ ...) أي يا محمد قل لهؤلاء المشركين أخبروني عن الأوثان التي تعبدونها من دون الله (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)

٥١٧

فيستحقون بذلك العبادة ، فإذا عجزوا عن الجواب فقل لهم : أخبروني (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي شركة مع الله تعالى في خلقها فاستحقّوا بذلك شركة في الألوهيّة والعبودية (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) أي هل أرسلنا إلى الأوثان كتابا أو أرسلنا إلى عبدة الأوثان رسالة من عندنا بأن الأصنام شركاؤنا في الألوهية؟ (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي فهم حينئذ كانوا على حجّة من كتابنا إليهم بأنّا جعلناهم شركاءنا فهم يستحقّون العبادة بمقتضى كتابنا والناس الذين يعبدونهم معذورون؟ أي بتلك الشركة الجعلية وبالجملة فاسألهم يا محمّد بأيّ وجه من تلك الوجوه يعبدونها (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي ليس لهم في هذا الأمر حجّة عقلية ، لأن الأصنام مخلوقات منحوتات عاجزة وليس لعاقل أن يعبد جمادا فاقدا لكل شيء بل ليس لديهم حجة نقليّة لأننا ما آتيناهم كتابا فيه أمر بجواز عبادة الأصنام. فهذه العبادة لا عقلية ولا نقلية بل صرف تقليد لأسلافهم في قولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) فوعد بعضهم ، من الأسلاف أو الرؤساء ، بعضا من الأخلاف أو الأتباع ، في فائدة عبادتها من الشفاعة أو الأرزاق ، ليس (إِلَّا غُرُوراً) أي مكرا وخدعة لا حقيقة لهما ، وطمع فيما لا يطمع فيه. وهذا هو معنى الغرور لغة.

٤١ ـ (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أكد سبحانه بتقديم الفاعل وحقّه التّأخير ، وبتصدير الجملة بكلمة (إِنَ) التي تفيد المبالغة في مضمونها ، أكّد وحصر قضيّة امساكهما في ذاته المقدّسة ولتنبيه البشر إلى كمال قدرته حتى يتفكّروا ويتدبّروا في أنّ من هذا شأنه هو الذي له الأهليّة للألوهيّة ويستحقّ العبادة ، لا الجماد المصنوع بيد المخلوق فقد أمسكهما (أَنْ تَزُولا) أي لئلّا تزولا. أو المعنى أنه تعالى يمنعهما من الزوال ، فإنّ الإمساك هو المنع من وقوع الشيء حيث إنّ الممكن حال بقائه لا بد من ممسك وحافظ من وقوعه وزواله. ولكن السّماوات والأرض معلّقتان من

٥١٨

غير تعليق بشيء من فوقهما وقائمتان بلا دعامة ولا عماد من تحتهما ، بل بقدرته الكاملة أمسكهما وبكلمة كن منعهما من الزوال (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) كلمة (إِنَ) نافية بمعنى (ما) النافية و (مِنْ) في قوله (مِنْ أَحَدٍ) زائدة جيء بها تأكيدا. وقوله (مِنْ بَعْدِهِ) يرجع الضمير إلى الله سبحانه ظاهرا ، ويحتمل أن يرجع إلى الزوال والمعنى أن السّماوات والأرض لا يمسكها غير الله جلّت قدرته. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ففي الرواية لما نسب اليهود والنصارى العزيز وعيسى إليه سبحانه بأن كل واحد منهما ابن الله كاد أن تزول السّماوات والأرض وتهدّا هدّا وينزل العذاب على كافة البشر لكنه تعالى عفا عنهم وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة إلى إسناد إلا بنيّة إليه تعالى واتّخاذ ولد له ، فكيف إذا قالوا بالألوهية بالنسبة إلى الأوثان وقاموا ويعبدونها إلّا أنه تعالى بفضله العميم وحلمه يرحم ويغفر للعباد الجهلة حيث أمسكهما رحمة على العباد ولم يهدّهما هدّا ولم يفطرهما فطرا كما قال عزوجل (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) من شركهم.

* * *

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ

٥١٩

مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

٤٢ و ٤٣ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ...) نقل أنّ قريشا قبل بعثة الرّسول الأكرم سمعوا بأنّ اليهود والنّصارى وغيرهما من الملل السابقين كذّبوا رسلهم وانحرفوا عن شرعهم الذي جاؤوا به ولم يتابعوهم ، فقالوا بئس ما فعلوا برسلهم بعد ما جاءوهم بالبيّنات ، فحلفوا بأيمان غليظة غاية وسعهم وطاقتهم لئن جاءهم رسول (نَذِيرٌ) وبشير من عند الله (لَيَكُونُنَّ أَهْدى) إلى قبول قوله واتّباعه من الأمم الماضية على ما أخبر عنهم سبحانه وتعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي تباعدا عن الهدى وتنافرا عن الحق (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) أي تكبّرا وتجبّرا وعتوّا على الله وأنفة من أن يكونوا تبعا لغيرهم في الأرض يعني أنهم كانوا يرون الإيمان عارا عليهم لأنّه يلزمهم باتّباع الرسول (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) عطف على (اسْتِكْباراً) والاستكبار يحتمل أن يكون بدلا من (نُفُوراً) أو يكون مفعولا له ، أي ينفرون للاستكبار ، أو مفعول مطلق للفعل المحذوف أي يستكبرون استكبارا أو يكون حالا بمعنى مستكبرين. ومكر السيّء يحتمل أن يكون (وأن مكروا المكر السيء) فحذف الموصوف للاستغناء بوصفه وأوّل الفعل مع (أن) المصدريّة وبدّل بالمصدر فأضيف المصدر إلى السيء. ويدل على التبديل والإضافة قوله تعالى (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ) أي لا ينزل ولا يلزم المكر السيء أي جزاؤه

٥٢٠