الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

٣٠ ـ (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ ...) أي ميقات يوم ينزل بكم ما وعدتم به وهو يوم القيامة (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي لا تتأخّرون عن ذلك ولا تتقدّمون عليه بأن يزاد في آجالكم أو ينقص منها.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤))

٣١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ ...) أي اليهود قالوا هكذا ، وقيل هم مشركو العرب ولعلّ هذا القول هو الأصح بقرينة قولهم

٤٨١

(وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) حيث إن المراد بالذي بين يديه هو التوراة والأناجيل ، واليهود كانوا مؤمنين بالإنجيل ظاهرا والإنجيل دالّ على البعث فهم لا ينكرونه (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في موضع الحساب (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي يتحاورون ويتراجعون بالقول ويتبادلونه في مقام الجدل بعض مع بعض و (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي القادة (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) فأنتم منعتمونا من الإيمان بالله وبالرّسول وصددتمونا عن الهدى.

٣٢ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى ...) أي قال المتبوعون والقادة للأتباع على طريق الإنكار : أنحن صددناكم؟ أي لم نصدّكم نحن عن قبول الهدى (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) الهدى (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) فأنتم باختياركم كفرتم حيث أعرضتم عن الهدى وآثرتم الضلالة عليه.

٣٣ ـ (وَقالَ ...) بل مكر اللّيل والنّهار ... أي قال الأتباع للمتبوعين مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا صدّنا عن هدايتنا إلى الإيمان. وهذا إضراب عن إضرابهم. وذلك كان (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) أي أنتم كنتم قوّادنا ورؤساءنا وكنّا من رعاياكم المأمورين بأوامركم المنتهين بنواهيكم ، وقد كنتم تأمروننا بأن نكفر بالله (وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي شركاء ولو لا أنتم لكنّا مؤمنين موحّدين (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي أخفاها الفريقان خوف الفضيحة والتّعيير ، وقيل أظهروا الندامة لأن صيغة أسرّ مما يفيد الأضداد حيث إنّ الهمزة لها الصّلاحيّة للإثبات والسّلب. وقيل إن ضمير أسرّوا راجع إلى القادة المتبوعين يعني هم أخفوا من الأتباع ندامتهم على إضلالهم حينما رأوا العذاب وشاهدوه خوف التعيير (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ) ، الآية ... إيراد المستقبل بلفظ الماضي لتحقّق وقوع الفعل فإنّهم بحكم من وضع الغلّ في عنقه (هَلْ يُجْزَوْنَ) الاستفهام للإنكار أي : (لا يجزون إلا ما كانوا يعملون) ثم إنّه سبحانه تسلية للنبيّ الأكرم صلّى الله

٤٨٢

عليه وآله قال في تكذيب قومه له (ص) :

٣٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ ...) أي رسولا منذرا (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي رؤساؤها المتنعّمون والمتموّلون من أهل تلك القرية قالوا لنبيّهم صلّى الله عليه : (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) تخصيص المترفين بالتكذيب لأنهم الأصل في العناد ، ولأنّ معظم الداعي على التكذيب هو التكبّر والتفاخر بالزخارف الدنيوية والانهماك في الشّهوات ، ولهذا أخذوا الإتراف علّة للتفوّق وعدم تعذيبهم.

* * *

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩))

٣٥ ـ (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً ...) أي من كان أكثر أموالا (وَأَوْلاداً) أي قوّة فهو أولى بدعوى الرّسالة والإمارة على الناس ، فنحن أولى بها (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) لأننا أكرم عند الله منكم في الدنيا فلا يهيننا

٤٨٣

بالعذاب يوم القيامة. يعني أن الكفرة قاسوا أمر الآخرة بأمر الدّنيا ، فكما أنّهم في الدنيا متنعّمون ، فهم كذلك في الآخرة لأنهم زعموا أن تنعّمهم في الدنيا حصل لهم لكونهم عبادا مكرمين ومحبوبين عند الله تعالى ففي الآخرة هم كذلك. والحاصل أن المترفين أصل في العناد والإضلال والضّلالة في كل قوم وفي كلّ عنصر وزمان.

٣٦ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ ...) هذه الكريمة ردّ لحسبانهم الفاسد وزعمهم السخيف. أي قل لهؤلاء المترفين الجهلة : إن الله تعالى يوسّع الرزق ويضيّقه بحسب المصالح والحكم التي يراها وهو عالم بها ، لا لكرامة بعض وهوان آخر كما زعمه الجهلة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لا يدرون ولا يدركون ذلك ، ويحسبون أن كثرة الأموال والأولاد لشرف الإنسان وكرامته ، في حين أنّهما ربما كانا لهوانه ولاستدراجه وقد صرّح سبحانه بهذا المعنى بقوله :

٣٧ ـ (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى ...) قربى أو : تقرّبا. وزلفى وزلفة نحو قربى وقربة في محلّ النّصب بتقرّبكم كقوله أنبتكم نباتا (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء من ضمير الخطاب والتقدير : الأموال والأولاد لا تقرّب أحدا منكم (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) بإنفاق ماله في سبيل الله ، وتعليم ولده الخير والصلاح وإرشادهم إلى طريق الهدى لا إلى ما فيه الضلالة والخسران كعصرنا هذا حيث نوقفهم بأيدينا في المهالك والمواقف الخطرة وبالنتيجة ننصّرهم ونهوّدهم ونمجّسهم كما في الرواية أعاذنا الله سبحانه من شرّ أنفسنا (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) أي يجازون الضّعف إلى العشر وزيادة إلى سبعمائة كما في الحديث ، وإضافة الجزاء إلى الضّعف من إضافة المصدر إلى مفعوله (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) أي في القصور السّامية العالية مأمونون من جميع المكاره والآلام. وفي القمّي عن الصّادق عليه‌السلام وقد ذكر رجل الأغنياء ووقع فيهم فقال له عليه‌السلام : اسكت فإنّ الغنيّ إذا كان وصولا برحمه بارّا بإخوانه

٤٨٤

أضعف الله له الأجر ضعفين لأن الله يقول وما أموالكم إلخ ...

٣٨ ـ (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا ...) أي بالإبطال والرّد والطّعن (مُعاجِزِينَ) بزعمهم أنّهم أعجزونا بذلك وظنّهم أنهم يفوتوننا ونحن لا نقدر على أخذهم والبطش بهم (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) فالذين يسعون ويهتمّون في إبطال الآيات ، أي القرآن أو الأعمّ منه ومن سائر الآيات كالمعجزات الأخر السماوية والأرضيّة فعمّا قريب يعلمون صدق ما جاء به رسلنا حينما حضورهم في مشهد القيامة عند ربّهم يوم يقوم الأشهاد.

٣٩ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ...) يتبادر إلى الذهن في بدء الأمر أنّ الآية تكرار لما قبلها ، ولكن ليس الأمر كذلك حيث إن هذه في شخص واحد في حالين وما سبق لشخصين. ويمكن أن يقال إنّ التكرار باعتبار اختلاف الفائدة. فإن الأولى توبيخ للكفار والخطاب معهم ، والثانية وعظ ونصح للمؤمنين. فكأنّه تعالى بيّن أنّ إعطاء النعمة للكفّار في الدّنيا لا من جهة الكرامة ولا يكشف عن سعادتهم ، بل يمكن أن يكون استدراجا لهم ، أو لمزيد عقوبتهم حيث يصرفون مال الله في غير موضعه المقرّر له ، بخلاف أغنياء المؤمنين فإن زيادة النعمة عليهم موجبة لمزيد درجاتهم وكاشف عن زيادة سعادتهم لإنفاقهم المال في سبيل الله سبحانه ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي ما بذلتم من أموالكم التي رزقكم الله في وجوه البرّ فهو يخلفه أي أنه تعالى يعطيكم عوضه عاجلا وآجلا بزيادة النعمة في الدنيا وعظيم الثواب في العقبى. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله تعالى أنه قال : عبدي ، أنفق أنفق عليك وقال (ص) : لم تطلع الشمس في كل يوم إلّا وينزل في صبح ذلك اليوم ملكان عن اليمين والشمال واحد ينادي اللهمّ أعط المنفق خلفا أي عوضا ، والآخر يقول : اللهمّ أعط كلّ ممسك تلفا. وفي رواية ثانية يقول أحدهما : هب المنفق خلفا ، ويقول الآخر : هب الممسك تلفا ويقول واحد :

٤٨٥

ليت الناس لم يخلقوا والآخر يقول : ليتهم إذ خلقوا فكّروا فيما له خلقوا. وعن الرّضا عليه‌السلام ، قال لمولى له : هل أنفقت اليوم شيئا؟ فقال : لا والله. فقال عليه‌السلام : فمن أين يخلف الله علينا؟ فإذا حصل الضمان والوعد والخلف منه تعالى فإمساكك عن البذل والإقراض إمّا سوء ظنّ بالله ، أو من قلة العقل ، مع أن المال في يد العبد على سبيل العارية. (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنه الرازق في الحقيقة وغيره واسطة ، ولأن الغير غالبا إذا أعطى شيئا فإمّا لجلب نفع أو لدفع ضرر بخلافه تعالى فإنّهما محال عليه لأنه الغنيّ بالذات ولا يتطرّق عليه الضرر والإضرار فيعطي بلا عوض ولا ترقّب شيء إلّا شكر نعمائه ، لا لاحتياجه تعالى إليه بل لمزيد النعمة على العباد.

* * *

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

٤٨٦

وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥))

٤٠ و ٤١ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ ...) أي يبعث المشركين ويقول للملائكة : هل إياكم (كانُوا يَعْبُدُونَ) هذا السؤال يكون توبيخا للمشركين وتقريعا لهم وإقناطا لهم عمّا يتوقعون من شفاعتهم. وتخصيص الملائكة يحتمل من باب أنهم أشرف شركائهم وهم الصّالحون للخطاب. فلمّا خوطبوا بذلك الخطاب (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا) أي قالت الملائكة : تنزيها لك من أن نعبد غيرك أو نتّخذ معبودا سواك ، أنت ناصرنا وأولى بنا من دون هؤلاء الكفّار ودون كلّ أحد ، وما كنّا نرضى بعبادتهم إيّانا مع علمنا بأنّك ربّنا وربّ كلّ شيء ، وأنت المعبود بالحقّ ولا معبود سواك (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي يطيعونهم فيما يأمرونهم ويدعونهم إليه من عبادة الملائكة أو الأصنام أو غيرهما. وقيل إنّ مرادهم من الجنّ هو إبليس وأعوانه كان (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي المشركون جميعا كانوا مصدّقين بالشياطين مطيعين لهم فيما يزيّنون لهم من عبادة الملائكة وغيرهم.

٤٢ ـ (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ...) أي في الآخرة لا يملك العابدون ولا المعبودون نفعا بالشفاعة ولا ضرّا بالتّعذيب إذ الأمر فيه لمالكه أي الله الواحد القهّار والخطاب للملائكة والكفرة.

٤٣ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) أي ظاهرات واضحات (قالُوا ما هذا) أي محمّد (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ) يمنعكم فيستتبعكم في الدلالة على الهداية والدّعاء إلى اتّباعه (وَقالُوا ما هذا) يعنون به القرآن (إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) أي كذب مختلق (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي لله تعالى أو للنبيّ أو القرآن أو الإسلام (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ونسبة السحر إلى الله تعالى باعتبار أنه بزعمهم موجود خياليّ شبيه بالسّحر ، وإلى

٤٨٧

النبيّ إما باعتبار بيانه ومنه إنّ من البيان لسحرا ، وإمّا باعتبار أن السّحر مصدر بمعنى السّاحر وبهذا الاعتبار أيضا كونه ساحرا بزعمهم بلحاظ غرابة كلامه ولطافته المؤثّرة في القلوب المحوّلة إيّاها من حال إلى حال كالسّحر ، ويسمّى هذا بالسّحر الكلامي ، وإلى القرآن باعتبار ألفاظه أو إعجازه. وإسناد الإفك إليه بلحاظ معانيه ، وإلى الإسلام لجهة مبانيه المتقنة وقواعده المحكمة التي يرغب فيها كلّ من تفكّر وتدبّر ، ويرغب ويميل إليها قهرا وبلا اختيار كالسّحر. وفي التصريح بكفرهم وحصرهم الحق في السّحر مبادهة وبلا تأمّل أبلغ إنكار وتعجيب من أمرهم ثم أخبر سبحانه أنّهم لم يقولوا ذلك عن برهان بل محض تقليد وعناد فقال عزّ من قائل :

٤٤ ـ (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ ...) أي ما أعطينا مشركي قريش كتبا قط يتعلّمون درسها حتّى يعلموا أن ما جئت به حق أو باطل ، سحر أو معجزة ، وإنما يقولون ما يقولون من تكذيبك وإنك ساحر أو مجنون بهوى أنفسهم لا عن علم ومعرفة فيصحّح لهم الإشراك وقول ما يقولون فيك (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي ما بعثنا قبلك من رسول ينذرهم سوء عاقبة الشّرك ويدعوهم إلى تركه لكي يصحح اشراكهم ويكون حجّة لهم ، فمن أين وقعت لهم هذه الشبهة فتمسّكوا بها وأصرّوا عليها ولم يدعهم إليها أحد؟

٤٥ ـ (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي كذّبوا الأنبياء والرّسل الذين كانوا قبلهم من الأمم كما يكذّبك هؤلاء من أمّتك (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي ما بلغ قومك عشر ما آتينا أولئك من القوّة وطول العمر والمال (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) أي الذين كانوا قبل قومك كذّبوا رسلهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي انظر إنكاري عليهم بالتّدمير والإهلاك ، فليحذر أهل مكة مثله. وليس في التكذيب تكرير فإن الأوّل مطلق والثاني مقيّد. وقيل إن

٤٨٨

الأول للتكثير والثاني للتّكذيب.

* * *

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠))

٤٦ ـ (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ...) أي بخصلة واحدة أو بكلمة واحدة وهي كلمة التّوحيد وقيل بطاعة الله بدليل قوله سبحانه : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) وهذه الجملة محلّها مجرور بالبدليّة أو عطف بيان ، ويمكن أن يكون مرفوعا بتقدير هو ، أو منصوبا بأعني. والمعنى هو الاستقامة والاعتدال في أمور الدّين لنيل رضى الله تعالى والإعراض عن الاعوجاج والتقليد وذلك بأن يكون قيامكم بأمر الدين (مَثْنى وَفُرادى) أي متفرّقين اثنين اثنين حتى يتشاور كلّ واحد مع صاحبه ، أو واحدا واحدا حتى تستريحوا من تشويش الخواطر بالازدحام حين التفكّر ، فإن الحق إنّما يتبيّن للإنسان بالتفكّر في نفسه (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمري وما جئت به لتعلموا حقّيته وتعرفوا أنّ (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي ليس به جنون موجب لادّعائه الرّسالة

٤٨٩

تزعمونه (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ) يخوّفكم (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) من عذاب صعب قريب وقوعه يوم القيامة (بَيْنَ يَدَيْ) كناية عن قرب وقوع الشيء عذابا وغيره.

٤٧ ـ (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ...) يعني أنّ كلّ ما تحملت في أداء الرسالة وتبليغها من المشاقّ والتكاليف فأجره لكم ، وما أريد منكم أجر رسالتي ولا أطالبكم بشيء ، كما قال تعالى قل لا أسئلكم عليه أجرا إلّا المودّة في القربى قل لا أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن إلخ .. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فأجر رسالتي أعظم شأنا وأعلى ممّا تقدرون على أدائه وإعطائه فهو على الله لأنّه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي مطّلع وشاهد على خلوص نيّتي وصدق دعوتي بلا طمع في الأجر منكم ، فهو القادر على كلّ شيء ويعطيني كل ما أريد منه بلا كلفة ولا عناء.

٤٨ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ...) أي يلقيه إلى أنبيائه وينزله على من يجتبيه من عباده ، أو يرمي به الباطل فيدمغه ، وهو (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي عالم بجميع الأمور الغيبيّة ، ولذا يعلم ويعرف من له الأهليّة لإلقاء الحق والوحي إليه (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فإنّه المطّلع على السرائر وضمائر عباده فيعطيهم على مقدار استعدادهم وقابليّتهم فكلّ يعمل على شاكلته وعلى طبق خلقته التي خلقه الله عليها وطبيعته وأهليته الذاتيّة.

٤٩ ـ (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ ...) أي جاء الإسلام أو التّوحيد وزهق الكفر ولم يبق له أثر لا بدءا ولا إعادة ورجوعا. وفي الأمالي عن الرّضا عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة وحول البيت ثلاثمئة وستّون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا ، جاء الحق وما يبدأ الباطل وما يعيد.

٥٠ ـ (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ ...) أي إن ضللت عن الحق وطريق

٤٩٠

الهدى ويكون وبال ضلالي على نفسي (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ) إلى الحقّ (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) أي يهدى ربّي تفضّلا ورحمة منه بي.

* * *

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

٥١ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ...) أي يفزع الكفرة عند الموت أو البعث أو يوم بدر ، فلو رأيتهم لرأيت أمرا فظيعا عجيبا من هولهم (فَلا فَوْتَ) أي لا يفوتوننا بهرب أو حصار أو حصن (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) من ظهر الأرض إلى بطنها أو من الموقف إلى النار أو من المعسكر إلى الحفر المعدّة لذلك.

٥٢ ـ (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ ...) التناوش هو التناول ، فمن أين لهم الوصول إلى الإيمان بعد فوات الوقت ومن أين يتيسّر لهم أن يأخذوا الإيمان بسهولة (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي من عالم الآخرة فإن محل التكليف بالإيمان هو الدنيا وهم في عالم الآخرة وقد ابتعدت دار التكليف.

٥٣ ـ (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ...) أي كفروا بالقرآن أو بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في أوان التكليف (وَ) هم الآن (يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) أي يرجمون بالظنّ ويتكلّمون بما غاب علمه عنهم من نفي البعث أو إنكار الصانع والرّسالة والجنّة والنّار وغيرها (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعني من جهة بعيدة عن حال الرّسول وحال الآخرة.

٤٩١

٥٤ ـ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ...) من قبول الإيمان أو من نفع التصديق والعمل الصالح في الآخرة (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي بأمثالهم من كفرة الأمم السابقة (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) أي موجب للرّيب والتحيّر ولم يؤمنوا ولم يصدقوا لضياعهم في الشكوك.

* * *

٤٩٢

سورة فاطر

مكية وآياتها ٤٥ نزلت بعد الفرقان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢))

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) قد مرّ تفسير الحمد في أوّل سورة فاتحة الكتاب فليراجع. وأما (فاطِرِ) فمشتق من الفطر وهو الشقّ الخاص أي الشق بلا افتراق ويعبّر عنه بالصّدع أيضا إذا أسند الصّدع إلى الشيء لا إلى القوم ونحوه ، فإنه حينئذ بمعنى الافتراق. والمعنى أنّه تعالى شقّهما لنزول الأرواح من السّماء وخروج الأجساد من الأرض. وأمّا قول كثير من كبار المفسّرين في معنى الكريمة بناء على اشتقاق فاطر من الفطر بمعنى الشق ، كأنّه شقّ العدم بإخراجهما منه فهو خلاف ظاهر الشريفة من إسناد الفطر وإضافته إلى نفس السموات والأرض لا إلى

٤٩٣

العدم. فهو تعالى شاقّهما لا شاقّ العدم لإخراجهما منه. ويحتمل أن يكون من فطره يفطره فطرا أي خلقه والمعنى : خالق السّموات والأرض وموجدهما ومبدعهما ومبتدئهما على غير مثال ، ويؤيد هذا الاحتمال قوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) ففطر الله الخلق من باب خلق أي خلقهم ، والاسم الفطرة بالكسر الخلقة. وعن ابن عباس كنت لا أدري ما فاطر السّماوات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها ، أي ابتدأتها واخترعتها ، فعلمت أن فطر كان معناه ابتدأ واخترع (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) أي وسائط بين الله وأنبيائه والصالحين من عباده ، ويبلّغون إليهم رسالاته بالوحي إلى الأنبياء وبالإلهام إلى الأولياء والأوصياء وبالرؤيا الصّادقة إلى المؤمنين ، أو وسائط بين الله وخلقه في إيصال آثار صنعه إليهم وإيصال الفيوضات إليهم (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى) ، الآية ... الجملة صفة للملائكة. واختلاف الأجنحة لتفاوت مراتبهم ، وإعطاؤها لتسهيل النّزول والعروج ، وللتسريع فيما يؤمرون به. وليس ذكر هذه الأعداد للحصر بل لبيان المثل ، ويدل على عدم الخصوصية لهذه الأعداد وعدم بيان الحصر قوله : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) وقول ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : رأيت في ليلة المعراج جبرائيل كان له ستمائة جناح. ثم بيّن سبحانه إحسانه على عباده بقوله :

٢ ـ (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ...) يعني إن الله تعالى لو أراد لعباده الخير وأن يفتح لهم باب رحمته (فَلا مُمْسِكَ لَها) أي لا يقدر أحد أن يعبده ويمنع خيره ورحمته النازلة إليهم من عنده سبحانه (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) أي ما يحبسه ويمنعه من نعمه ورحماته كنعمة الأمن في البلاد وغيرها والصحة والعلم والنبوّة والولاية فلا يتمكّن أحد أن يرسلها ويجيء بها من عنده ومن تلقاء نفسه (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد إمساك الله سبحانه ومنعه ، لأنها أمور ليست تحت قدرة البشر واختيارهم لأن إرسال الرّسل من أعظم النعم وقد وجدت في بعض كلمات أفلاطون الحكيم أن إرسال الرسل وبيان الناموس للخلق من أعظم النعم وأنه من

٤٩٤

موجبات البقاء ولولاه لآل أمر الناس إلى الفناء والاضمحلال.

فمن يقدر غيره جلّ وعلا على الإتيان بهذه النّعمة التي لا مرسل لها إلّا هو سبحانه ، وقس على هذه غيرها (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على ما يشاء وليس لأحد أن ينازعه فيه.

و (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل ما يفعل إلّا بعلم وإتقان.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) أي احفظوا (نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وآتوا حقّها بشكر مولاها قولا وعملا واعتقادا. والنعمة أعمّ من الظاهرية والباطنيّة التي من جملتها أنّه خلقكم وأوجدكم وأحياكم وأقدركم

٤٩٥

وخلق لكم أنواع الملاذّ. والنّعم مع كثرتها منحصرة في قسمين : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإبقاء ، ولذا قال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) إشارة إلى نعمة الإيجاد في ابتداء الوجود ، ثم قال : (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرّزق إلى الانتهاء. وهذا استفهام تقرير لهم ، ومعناه النفي ، ليقرّوا بأنّه لا خالق إلّا الله يرزق من السّماء بالمطر ومن الأرض بالنبات (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فأين تتوجّهون وتنصرفون عن التّوحيد إلى إشراك غيره معه؟ ثم إنه تعالى يسلّي نبيّه عن تكذيب قومه له فيقول :

٤ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ...) أي إن نسبك أهل مكة إلى الكذب (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) فتأسّ بهم في الصّبر على تكذيبهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازيك على الصبر ويجازيهم على التكذيب. ثم إنه تعالى يحذّر الناس من الغرور بحطام الدنيا الذي يستلزم الغفلة عن الآخرة ويخوّفهم من مكر الشيطان وخدعه فيقول :

٥ و ٦ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ...) أي وعده بما أرسل رسله به من البعث وما يتلوه ، فهو حقّ لا ريب فيه ولا خلف (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فلا تغشّنكم فيلهيكم التمتّع بها عن السعي في طلب الآخرة التي خلقتم لها بمقتضى قوله خلقتم للبقاء لا للفناء والباقي هو الآخرة والدّنيا فانية (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي لا يخدعنّكم عن طاعة الله وكرمه ومغفرته الشيطان الخدّاع بأن يمنّيكم المغفرة مع حمله إياكم على الإصرار على المعصية والجريرة نعوذ بالله منه. (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) عداوة قديمة وهو يدعوكم إلى ما فيه الهلاك والخسر ويصرفكم عن أفعال الخير ويدعوكم إلى أعمال الشر وترك القربات (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) لا تطيعوه واحذروه في عقائدكم وأفعالكم وجميع أحوالكم. وليعلم أن من حيله

٤٩٦

التسويف في التوبة مع أن الله تعالى أكّد في تعجيلها ، ولا بدّ للعبد أن يغتنم الفرصة فإنها تمرّ مرّ السّحاب.

وقد سئل حكيم : بأيّ كيفيّة نأخذ الشيطان عدوّا؟ قال : لا تمشوا وراء أمانيكم ولا تتّبعوا الهوى وافعلوا ما يوافق الشّرع ويخالف الطّبع ، فالشيطان (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) أي أعوانه وأنصاره ومتابعيه (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) من أهل النار المسعّرة. وهذا تقرير لعداوة الشيطان وبيان لغرضه في دعوته. ثم يبيّن حال من أجاب الشيطان في دعوته ومن خالفه فيها فقال عزّ وعلا :

٧ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ...) هذا حال الفئة الأولى أي المتابعين للشيطان (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) هذا وعد للفئة الثانية أي المخالفين لدعوته لعنه الله.

* * *

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)

٤٩٧

وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١))

٨ ـ (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ...) أي هل إنّ من يعمل عملا سيّئا ويعتقد أن عمله حسن ، هو كمن لم يزيّن له سوء عمله فينظر إلى ما عمله فيراه غير حسن وأنّ عليه أن يجدّ ويجتهد في تحرّي الأمور حتى يعرف الحقّ ويعمل بموجبه؟ ... ليس الأمر كذلك. فقد حذف الجواب الذي هو (كمن لم يزين له حسن عمله) أو (كمن اهتدى بهدى الله) فإن هذا التقدير أحسن وأنسب لدلالة ما بعده عليه وهو قوله تعالى (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فالمراد بمن يضلّه الله هو الذي ما شمله اللّطف والعناية الرّبانيّة لفرط عناده وغاية جحوده ، ولذا كان لا يميّز الحسن من القبيح ويرى ما يفعله ويعتقده من القبائح كالشّرك والتكذيب حسنا ، وما يتركه بزعم أنه قبيح كالإيمان بالله تعالى والتصديق لنبيّه يكون في الواقع حسنا ، بخلاف المهتدي بهدايته سبحانه فإنه مشمول بألطاف الله تعالى ومراحمه ، وهو لا يزال متفحّصا عن الحق والحقيقة ويكون الحق نصب عينيه ، فبهدى الله يهتدي ، وبعنايته يوفّق للتميز بين الحق والباطل والحسن والقبيح فيتّبع الحسن فالأحسن ، ويترك القبيح بجميع مراتبه. والحاصل أنّه تعالى يخذل من لا ينفعه اللّطف ، ويلطف بمن ينفعه. وفي الكافي عن الكاظم عليه‌السلام أنه سئل عن العجب الذي يفسد العمل ، فقال : للعجب درجات : منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه ويحسب أنّه يحسن صنعا (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وذهاب النفس كناية عن هلاكها. أي لا توقع نفسك في المهلكة لأجل الحسرات عليهم وعلى غيّهم وإصرارهم على تكذيبك. والحسرة شدّة الحزن على ما

٤٩٨

فات من الأمر (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) عارف بما يفعلون فيجازيهم عليه.

٩ ـ (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ...) ثم عاد سبحانه إلى أدلّة التوحيد وبيانها وذكر شواهد القدرة لأن في هبوب الرّياح دليلا ظاهرا على الفاعل القادر. وبيان ذلك أن الهواء قد تسكن وقد تتحرّك وتتموّج فتهبّ شرقية أو غربية وفي تلك التحرّكات المختلفة قد تنشئ السّحاب وقد لا تنشئه وهذه الاختلافات الناشئة من طبيعة واحدة دليل واضح وبرهان ساطع على مسخّر ومدبّر لها عليم حكيم في كمال القدرة وغاية السّلطة. فريح الشمال والدّبور والجنوب قد (فَتُثِيرُ سَحاباً) وذلك بأن تهيّجه (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) التفات إلى التكلم يفيد الاختصاص ، أي إلى أرض مجدبة فيمطر على ذلك البلد (فَأَحْيَيْنا بِهِ) يعني بمائه المستكن في السّحاب (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) فأنبتت بعد يبسها. وروى القمّي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه سئل عن السّحاب أين يكون؟ قال يكون على شجر على كثيب على شاطئ البحر يأوي إليه ، فإذا أراد الله عزوجل أن يرسله أرسل ريحا فأثارته فوكّل به ملائكة يضربونه بالمخاريق وهو البرق فيرتفع. وزاد في الكافي : ثم قرأ هذه الآية : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) ، الآية ... (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي مثل إحياء الأرض إحياء الأرواح.

١٠ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ...) أي من أراد الشّرف والعزّ والتّعالي فليطلبها منه بطاعته ، فإنها كلّها له ومن عند دنيوية وأخرويّة (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي التوحيد (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) في جملة (يَرْفَعُهُ) احتمالات ثلاثة : الأوّل : أن الضمير المستتر فيها يرجع إلى العمل الصالح ، والبارز يرجع إلى الكلم الطيّب لأن التوحيد وهو قول لا إله إلّا الله بغير العمل الصالح كالسحاب بلا مطر وكالقوس بلا وتر. فالقول لا بدّ وأن يعقبه العمل حتّى يكون منتجا. وفي بعض الآيات بعد

٤٩٩

الأمر بالإيمان بالله ورسوله أيضا أمر بالعمل الصّالح (وَاعْمَلُوا صالِحاً) والثاني : عكس الأول بمعنى أن الضّمير المستكنّ يرجع إلى الكلم الطيّب ، لأن العمل من غير الموحّد ليس بنافع ، فالتوحيد سبب لقبول الأعمال ومستلزم لإخلاص العمل. والثالث : أن المقدّر راجع إلى الله تعالى ، أي أن الله سبحانه يرفع الأعمال الصّالحة إليه ويجعلها في حيّز القبول. وعلى هذا الاحتمال الأخير يكون الكلام مستأنف غير راجع إلى ما قبله. يعني كما أن الكلم الطيّب يصعده إليه تعالى ، فكذلك العمل الصّالح يرفعه إليه ويقبله. وقيل هذه الجملة بيان لما يطلب به العزّة وهو التّوحيد والعمل الصالح. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : من قال لا إله إلّا الله ، طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرّق الأبيض ، فإذا قال ثانية لا إله إلّا الله مخلصا خرقت أبواب السّماء وصفون الملائكة حتى تقول الملائكة بعضها لبعض : اخشعوا لعظمة أمر الله ، فإذا قال ثالثة مخلصا لا إله إلّا الله لم تنته دون العرش ، فيقول الجليل : اسكتي فو عزّتي وجلالي لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه. ثم تلا هذه الآية (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) يعني إذا كان عمله خالصا ارتفع قوله وكلامه (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي المكرات السّيئات بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في دار النّدوة حيث كان يجتمع عتاة قريش وجبابرتها لتدبير المكائد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحيث تبنّوا أن يقوموا بواحدة من الأمور الثلاثة حبسه ، أو قتله ، أو إجلائه عن وطنه مكّة ، وهذا يشمل مكرات أصحاب السّقيفة فإنّ هذه مولّدة من تلك الندوة الخبيثة التي كانت ضد النبيّ (ص) وعقبتها ندوة ضد الوصي (ع) (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) جزاء مكرهم الذي (هُوَ يَبُورُ) أي يبطل ولا ينفذ ويفنى. ثم إنّه سبحانه بعد ما بيّن حال أهل الإيمان والكفر ، عاد إلى بيان دلائل التوحيد والدلائل مع كثرتها وعدم دخولها في عدد محصور وإن كانت على قسمين : (آفاقية وأنفسية) فلمّا ذكر سبحانه شطرا من الشواهد الآفاقية من السّماوات وما يرسل منها من الملائكة والرّياح والأمطار ، والأرض وما يولج فيها من المياه

٥٠٠