الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

٣ و ٤ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ...) إمّا إنكارا لمجيئها ، أو استبطاء واستهزاء بالوعد بها (قُلْ بَلى وَرَبِّي) ردّا لقولهم وإثباتا لما وعدهم به (لَتَأْتِيَنَّكُمْ ، عالِمِ الْغَيْبِ) لتجيئنّكم و (عالِمِ) صفة (رَبِّي) وتكرير لقوله بلى وربّي فقوله (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) تكرير لقوله (بَلى وَرَبِّي) وأكّد إتيانهما باليمين مع أنّهم مشركون والمسألة أصوليّة راجعة إلى أصول العقائد وهي لا تثبت باليمين ، والجواب أنّه تعالى ما اقتصر على اليمين بل عقّبها بالدّليل وهو قوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يكون الجزاء فيها لينتقم من الظالم للمظلوم فيكون خلاف العدل والحكمة. (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) أي لا يغيب عنه (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) أي زنة وأصغر جزء ممكن (فِي السَّماواتِ) إشارة إلى علمه بالأرواح (وَلا فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى علمه بالأجسام ، والإنسان روح وبدن ولا يستبعد عن الذي في غاية القدرة والاستطاعة ، والذي هو محيط بما سواه تمام الإحاطة أن يعيد الإنسان بعد الإماتة : للجزاء كما قال تبارك وتعالى. وقوله سبحانه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، إلخ علّة لإتيان السّاعة وبيان لدليل مجيئها على ما بيّناه إجمالا قبيل ذلك (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي في الجنّة. والرزق الكريم ما يأتي من غير طلب. فلا تعب فيه ولا منّة.

٥ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا ...) أي عملوا لإبطالها (مُعاجِزِينَ) مسابقين لنا ظانّين أن يفوتونا (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي من سيّء العذاب المؤلم. والرّجز هو سوء العذاب كأنّه قال عذاب مؤلم من أسوأ العذاب.

٦ ـ (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...) أي أهل العلم وهم الذين يعلمون أنّ القرآن الذي أنزل إليك (هُوَ الْحَقَ) لأنّهم يتدبّرونه ويتفكّرون فيه ، فيعلمون بالنظر والاستدلال أنه ليس من قبل البشر (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ويعلمون كذلك أنّه يهدي ويرشد إلى دين القادر الذي لا

٤٦١

يغالب ، المحمود على جميع فعاله وهو الله تعالى. وفي هذه الكريمة دلالة على فضيلة العلم وشرف العلماء وعظم أقدارهم كثرّهم الله تعالى.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

ثم عاد سبحانه إلى الحكاية عن الكفّار وقال عزّ من قائل :

٧ و ٨ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي كفرة قريش قال بعضهم لبعض استهزاء لا على وجه الاعلام (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) عنوا بذلك محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي يحدّثكم بأمر من الأعاجيب ، ويقول لكم : إذا متم وفنيت أجسامكم وتفرّقت أبدانكم وتقطّعت أوصالكم كلّ تقطيع وصرتم ترابا وعظامكم رفاتا (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يزعم أنّكم بعد ذلك تعودون وتبعثون وترجعون خلقا جديدا يوم المعاد فهو المراد بالخلق الجديد. فقالوا ذلك إنكارا واستبعادا للبعث (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) استغني بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل ، وإسنادهم كذبه على قوله إليه تعالى بناء على عقيدته صلوات الله عليه

٤٦٢

وإلّا فإنّهم كانوا غير معتقدين به تعالى ولا برسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل منكرين لكليهما غاية الإنكار. والمعنى : هل كذب على الله كذبا واخترع من عند نفسه متعمّدا حيث يزعم أنّا نبعث بعد الموت؟ وهذا استفهام تعجّب وإنكار منهم. والتّعبير بالافتراء عن الكذب لأنّه أخصّ من الكذب ، فإن الافتراء هو الكذب الخاصّ ، أي المخترع المتعمّد فيه (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون يخيّل له ذلك فيهذي به ويهجر؟ أي يتكلّم بما لا يعلم فيلقى على لسانه عبثا. وتقديم الظّرف للمبالغة والدّلالة على البعديّة. ثم ردّ عليهم سبحانه قولهم فقال ليس الأمر كما قالوا (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي المنكرون للبعث والجزاء (فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) وليس الأمر كما يقولون ، فما هو صلى‌الله‌عليه‌وآله بكاذب ولا به جنّة ، ولا يقول ما يقول إلّا بالحق ، بل الذين كفروا هم الكاذبون والمفترون على نبيّنا حيث يسندون إليه الافتراء على الله والجنون مع أنّه منزّه عنهما ويسيرون الآخرة وأنّهم في العذاب ، فيصدّقون ثمة قول النبيّ ويعترفون بأنهم كانوا في الضلالة وفي البعد عن الحق والحقيقة في الدّنيا ثمّ ينبّههم بقوله إلى دليل يدلّهم على صدق قوله (ص) بثبوت البعث والجزاء وهو قوله تعالى :

٩ ـ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ...) أي إلى ما أحاط بجوانبهم (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) كيف أحاطت بهم ، أفلم ينظر هؤلاء الكفرة إليهما فيستدلّون بهما على كمال قدرة خالقهما ، فيعرفون أنّا قادرون على إهلاكهم كما أهلكنا القرون الأولى. ثم بيّن كيفيّة الإهلاك بقوله : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما فعلنا بأقوام قبلهم وكما خسفنا بقارون وأمواله (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي قطعا منها فتغطّيهم فيهلكوا جميعا (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ترون من السّماء والأرض وإحاطتهما بهم ومن قدرة الخالق تعالى (لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي راجع إلى ربّه ويتدبّر في قدرته ويتفكّر في تدبيره وتنظيم عوالمه فيذعن إليه ويطمئنّ قلبه بوجود الصّانع تعالى وبرسوله وبما جاء به. ولمّا ذكر الله سبحانه المنيبين من عباده وصل إلى

٤٦٣

ذكرهم فحكى سبحانه قصّة داود وسليمان اللذين كانا في كمال الإنابة فقال :

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

١٠ و ١١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً ...) أي أعطيناه من عندنا مضافا إلى النبوّة كتابا وهو الزّبور ، أو المراد بالفضل الصّوت الحسن ، وكان عليه‌السلام إذا قرأ الزّبور تجتمع عليه السّباع والوحوش والطيور وجميع من يسمع صوته من البشر وغيره للاستماع. وقيل إن الفضل هو إعطاء مزيّة النّعم بالنسبة إلى الأنبياء الأخر ، من تسخير الجبال كما أشار إليه سبحانه

٤٦٤

بقوله (يا جِبالُ أَوِّبِي) أي سبّحي معه من التأويب وهو التسبيح. أي إذا سبّح داود سبّحي معه فأنطقها الله تعالى بالتسبيح حين ما يسبّح داود كما أنطق الشجرة بقولها إنّي أنا الله ، وكما أنطق الحصى في كفّ نبيّنا (ص) وأمرها بالتسبيح فسبّحت بحيث استمع أهل المسجد تسبيحها لله تعالى كما يسمع من المسبح معجزا له أو أن هذا من آب يؤب بمعنى رجع أي ارجعي معه التّسبيح على ما روي من أن الطّير والجبال كانت ترجّع التسبيح مع داود عليه‌السلام. وأمّا ما قيل في كيفيّة تسبيحها بخلق الكلام فيها تسبيحا ، أو بعبارة أخرى بإيجاده فيها كما أوجد في الشجرة ، أو بكيفية أخرى أنطقها وأنطق الشجرة والحصى ، فنحن لا ندري وليس لنا علم بذلك وكل ما قيل فهو لو كان من أهل بيت النبوّة فمقبول وإلّا فمردود. والحاصل أن نطق كل شيء بما يناسبه ، فإذا أسند إلى الإنسان كان عبارة عن التكلّم بالصّوت والحروف ، أو إذا أسند إلى الكتاب فقيل كتاب ناطق أي بيّن وواضح ، أو إلى الطّير فهو بكيفيّة أخرى يعرفها من علّمه الله منطقه ، وإذا أسند إلى الجبال والأشجار فهو إمّا بإيجاد الصوت فيها أو بما أراده الله من الكيفيّات المسموعة حينما يستنطقها الله بحيث يفهمه كلّ من أراد الله إفهامه وأعطاه الأذن الواعية. وتأويب الجبال والطير من معجزات داود عليه‌السلام أعطاه الله ذلك فضلا وإظهارا لقدرته الكاملة فيما أعطاه. فإن تسبيح الجبال والطير أو سير الجبال معه طبق مشيئة داود (ع) على ما هو أحد معاني التأويب أي السّير ، هو أمر خارق للعادة فما توهّمه البعض من أن المراد بتسبيح الجبال حينما يقرأ داود الزّبور هو ارتجاع صوته إليه وارتداده على وجهه كما يتّفق كثيرا في الأبنية الرفيعة إذا صوّت الإنسان تحتها ونادى فترتجع صوته بما يتكلّم بعينه كأن شخصا يحكي قوله مردود ، لأنه أمر يتفق لكل ذي صوت حتى عند استكاك حجر بحجر فما يكون من خصائص داود ومعجزاته يكون قابلا للذّكر في الآية الكريمة في مقام إظهار قدرته وإعطائه لنبيّه عليه‌السلام منّة عليه. فهذا كلام شعريّ لا أساس له وقد قيل من غير رويّة. هذا مضافا إلى عطفّ الطير عليه فلا بد من أن

٤٦٥

يحمل تسبيح الطير على معنى إنطاق الله تعالى له ، ولا معنى لهذا الحمل في الطّير. ويروى عن الصّادق عليه‌السلام أن الله تعالى أوحى إلى داود : نعم العبد لولا أنّك تأكل من بيت المال ، فبكى داود أربعين يوما وسأل من الله شغلا يكفى بمؤونته : فأجابه سبحانه وألان له الحديد مثل الشمع حتّى كان يتّخذ منه ما أحبّ على ما أشار إليه بقوله سبحانه : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) هذا مقول لقوله : قلنا له كما في مقوله : يا جبال. ومحلّه النّصب ، وقيل إن التقدير : أمرناه. والمعنى أننا أمرناه بأن يعمل دروعا واسعة الأذيال وقلنا له (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي عدّل وسوّ بين الحلقات في نسجها بحيث تتناسب حلقاتها في الصّغر والكبر وفي اللّين والغلظ. وحكي أنّ لقمان حضر داود عند أوّل درع عملها فجعل يتفكّر فيها ، وكان لا يدري ما أراد داود عليه‌السلام أن يصنع ، ولكن لم يسأله حتى فرغ داود منها ، ثم قام ولبسها وقال : نعم جنّة الحرب هذه. فقال لقمان عند ذلك : الصّمت حكمة وقليل فاعله (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي قلنا واعمل أنت وأهلك الصّالحات أي الطاعات فإنّها شكر لله تعالى على عظيم نعمه عليكم.

١٢ ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ ...) القول متعلّق بمقدّر : أي سخّرنا له الرّيح ، وقرئ بالرّفع : الريح (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي جريها بالغداة مسيرة شهر وبالعشيّ كذلك. والقميّ قال : كانت الريح تحمل كرسيّ سليمان فتسير به بالغداة مسيرة شهر وبالعشيّ مسيرة شهر (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي أجرينا ذلك له بعد ما أذبنا له معدن النّحاس. قال القمّي : الصّفر نبع نبوع الماء من الينبوع ولذلك سمّاه عينا. وقيل كان ذلك باليمن (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) أي سخّرنا له منهم من يشتغل له بحضرته وأمام عينه ما يأمرهم به من الأعمال (بِإِذْنِ رَبِّهِ) كان يعملون له الأعمال الشاقّة وما يكلّفهم به مثل نحت الأحجار الثقيلة وحملها من الجبال البعيدة لبناء الأبنية المشيّدة والقصور الرفيعة العالية كما يشاهد الآن رسمها والبقايا منها في بعض البلدان والقرى

٤٦٦

ممّا يذكّرنا بسالف التاريخ. وفي الآية دلالة على أنّه قد كان من الجنّ من هو غير مسخّر له لمكان قوله تعالى : (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) أي يعدل ويخرج عمّا أمرناه به من طاعة سليمان (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي نعذّبه بالنار المشتعلة في الآخرة كما عليه أكثر المفسّرين ، أو في الدنيا فقد قال السدّي قدّر لذلك ملك من عند الله تعالى وكان بيده سوطا من النار وهو واقف على الجنّ الذين يعملون لسليمان بما يأمرهم ، فإذا قصّر أحدهم في العمل يضربه بالسّوط ويحرقه والجنّ لا يراه. والآية الشريفة تدلنا على أن الجنّ مكلّفون مثل بني آدم.

١٣ و ١٤ ـ (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ ...) أي أبنية رفيعة وقصور منيعة ، أو المراد بها المساجد ومحاريبها و (التَّماثِيلُ) قيل هي صور الملائكة والأنبياء ليقتدى بهم. وعن الصّادق عليه‌السلام إنّها صور الشجر وشبهه (وَجِفانٍ) جمع جفنة أي صحاف جمع صحفة وهي قطعة كبيرة منبسطة تشبع الخمسة إذا ملئت طعاما وكانت من العود والأحجار (كَالْجَوابِ) جمع الجابية أي الحوض الكبير (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي ثابتات لا تنزل عن أماكنها لعظمها وكانت تصنع باليمن ، ثم خاطب سبحانه آل داود وأمرهم بالشكر بقوله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أي من يجتهد في أداء الشكر بجنانه ولسانه وأركانه. وقيل الشّكور من يرى عجزه عن الشكر لأن التّوفيق للشّكر نعمة تستدعي شكرا آخر وهكذا ، فإنّ عمر بن الخطاب سمع رجلا يدعو ربه ويقول : اللهمّ اجعلني من القليل ، فخاطبه عمرو قال : ما هذا الدعاء؟ فأجابه : إنّي سمعت الله يقول : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) فأنا دعوته أن يجعلني من ذلك القليل. فقال عمر : كلّ الناس أعلم من عمر. وكان من عادة سليمان عليه‌السلام أن يروح إلى بيت المقدس في كل سنة ويبقى فيه مدّة من الزمان لعبادة ربّه والخلوة عن الناس ، ويسدّ باب معبده عليه ويمنع دخول كلّ أحد عليه ولعلّ غرضه من هذا أن يدخل نفسه في الشاكرين

٤٦٧

القليلين الذين مدحهم الله. وفي سنة وفاته لمّا دخل بيت المقدس رأى فيه شجرا فسأله ما اسمك؟ قال : خروبة. قال : لم سمّيت خروبة؟ فأجاب لأنه بعدي يخرب بيت المقدس. فتطيّر سليمان بأنه يخبره عن موته لأنّه قال ما دمت أنا حيّا فلا يقدر أحد على خرابه. فأمر بقلعه ، ثم مات سليمان في تلك السّنة وجاء بختنصّر وملك الشامات وخرّب بيت المقدس ، ويؤيّد ما ذكرناه بما في الكافي عن الصّادق عليه‌السلام إذ قال : إن الله عزوجل أوحى إلى سليمان بن داود أن آية موتك أن شجرة تخرج من بيت المقدس يقال لها خرنوبة. قال فنظر سليمان يوما فإذا الشجرة الخرنوبة قد طلعت في بيت المقدس فقال لها ما اسمك؟ قالت : خرنوبة. قال (ع) فولى سليمان مدبرا إلى محرابه فقام فيه متّكئا على عصاه فقبض روحه من ساعته. (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ) أي حكمنا بموته ما دلّ الجنّ والشياطين على موته (إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) الأرضة ، فإنّها أكلت عصاه فسقط عليه‌السلام فعلموا أنه ميّت. ولكنّهم علموا بعد سنة وذلك لأنه عليه‌السلام لمّا علم بموته وصّى أهله بأن يعموا موته على الجنّ مضافا إلى أنّه دعا ربّه لذلك وقال : اللهمّ عمّ على الجنّ عن موتي وكان منه ذلك الدّعاء بالتعمية على الجنّ لأغراض : أولا ليعلم الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب وقد كان عقيدة الإنس أنهم يعلمون الغيب. وثانيا أنّه كان يشتغل ببناء بيت المقدس وكلّف الجن ببنائه بأشغال شاقة صعبة قد خرجت عن أيدي الإنس لعدم قدرتهم عليها وعدم علمهم بكيفيّتها. وثالثا ليعلم الجنّ والإنس أنّ الأجل إذا حضر وقته فلا يتأخّر ولو كان صاحبه مثل سليمان بتلك السّلطة والملك والقدرة ، فإنّه ما أمهله حتى يخبر أهله ليدخلوا عليه حين موته حتى يودّعهم ويودّعوه ويفرشوا له فراش موته ويوجّهوه إلى ما يوجّهون به موتاهم فبقي عليه‌السلام بعد موته على تلك الحالة سنة حتّى فرغوا من بناء بيت المقدس بالكيفية التي أمرهم سليمان عليه‌السلام وحصلت الأغراض والحكمة في كيفيّة موته على ما كان ، ولعلّ أصلها منشأة بالشين ، وقد سمّيت بها لأن المواشي ترعى بها. وعلى هذا كانت لفظا

٤٦٨

عبريّا فترجمت إلى العربي وهي العصا فأمر الله سبحانه الأرضة فأكلت منسأته أي عصاه التي اتّكأ عليها وقبض على تلك الهيئة (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أي سقط سليمان ميّتا وظهر ذلك واتّضح (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) قوله (أَنْ لَوْ كانُوا) بدل اشتمال من الجنّ كقول القائل : تبيّن زيد وجهه. فمعنى تبيّنت الجن اتّضح ذلك لهم وظهر ، من تبيّن الشيء إذا ظهر وتجلّى ، والإبانة وبينّ وتبيّن واستبان كلها جاءت بمعنى الوضوح والانكشاف أي العلم بالشيء ، فيصحّ أن نفسر التبيّن بمعنى العلم ، فقوله : تبيّنت الجن ، يعني علمت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ـ كما يزعمون ـ ما لبثوا في العذاب فإنهم لا يعلمون الغيب ولو علموه ما بقوا إلى ما بعد سنة في العمل الشاق. وقرئ تبيّنت الإنس ونسبت هذه القراءة إلى السّجاد والصّادق ، أي علمت الإنس أن الجن لو كانوا ، الآية ... فإن الإنس كانوا معتقدين ب. هم عالمون بالغيب ، فلما سقط ميّتا بعد سنة ظهر أنّ ما زعموه كان باطلا. والحاصل أنّ يوم قبض روحه كان يوما جعله لسروره وجلس فيه ليسرّ تمام ذلك اليوم وكان في قبّة من قوارير. فبينا هو قائم متكّئا على عصاه في القبة ينظر إلى الجن كيف يعملون ويبنون المسجد وهم ينظرون إليه نظر وحشة وخوف ولا يصلون إليه لأنه منع في ذلك اليوم وفي ذلك القصر الدخول عليه ، فإذا برجل شابّ حسن الوجه معه في القبة ، فقال : من أنت ومن أدخلك؟ فقال : أنا الذي لا أقبل الرّشى ولا أهاب الملوك ، وأدخلني هذا القصر ربّه وبإذنه دخلت. فقال : ربّه أحقّ به منّي فمن أنت؟ قال : أنا ملك الموت. قال : وفيما جئت؟ قال : لأقبض روحك. قال : امض لما أمرت به ، فهذا يوم سروري وأبى الله عزوجل أن يكون لي سرور دون لقائه. وفي الاحتجاج عن الصّادق عليه‌السلام أنه سئل كيف صارت الشياطين أمثال الناس في الخلقة والكثافة وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟ قال : غلظوا لسليمان كما سخّروا له ، وهم خلق رقيق غذاؤهم التنسّم. والدليل على ذلك صعودهم إلى السّماء لاستراق

٤٦٩

السّمع ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليها إلّا بسلّم أو سبب آخر. وغلظهم كان معجزة لسليمان لطفا من الله وفضلا عليه. وفي الإكمال عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : عاش سليمان عليه‌السلام سبعمائة سنة واثنتي عشرة سنة. ثم إنّه تعالى بعد ذكر قصّة سليمان وأمره لآل داود بتأدية شكر نعمه الجليلة التي أعطاهم إياها بيّن قصّة سبأ بما يدلّ على حسن عاقبة الشّكور وسوء خامة الكفور فقال :

* * *

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ

٤٧٠

مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١))

١٥ ـ (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ ...) أي لولده ، وهو ابن يشخب بن يعرب بن قحطان ، فالمراد به هاهنا القبيلة الذين هم من الأولاد سبأ بن يشخب المذكور ، وسبأ أبو القبيلة ،سئل النبيّ (ص) أنّ سبأ رجل هو أم امرأة؟ فقال هو رجل من العرب ولد عشرة أولاد تيامن منهم ستّة وتشأّم منهم أربعة. فأمّا الذين تيامنوا فالأزد ، وكندة ، ومذحج ، والأشعرون ، والأنمار ، وحمير. وقيل ما الأنمار؟ قال الذين منهم خثعم ، وبجيلة. وأمّا الذين تشأّموا فعاملة ، وجذام ، ولخم ، وغسّان ، وكلّهم رؤساء القبائل والعشائر في اليمن. فسبأ أبو عرب اليمن كلّها وقد سمّيت به القبيلة (فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) باليمن ، علامة دالّة على كمال قدرة الله وعظمته وسبوغ نعمه. ثم إنه سبحانه فسّر الآية بقوله (جَنَّتانِ) أي حديقتان ذاتي أشجار كثيرة عن يمين البلد وشماله متّصلة بعضها ببعض وكان من كثرة النعم أنّ المرأة كانت تمشي والمكتل على رأسها فيمتلى بالفواكه من غير أن تمسّ بيدها شيئا. وقيل المراد بالآية هي أنّه لم يكن في قريتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حيّة. وكان من الغريب أنّ من كان من خارج بلدهم إذا دخل عليها وفي ثيابه قمّل أو دوابّ أخرى ماتت في ساعتها. والحديقتان في تقاربهما واتّصال كلّ واحدة منهما بالأخرى فكأنّهما جنّة واحدة ، وكذا قيل (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) على إرادة القول : أي أنبياؤهم يقولون لهم : كلوا من هذه النّعم وافعلوا شكرها يزدكم من نعمه (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي هذه بلدة طيّبة أي منزهة مخصبة عذبة مياهها. والحاصل لعلّه أراد الله بكونها طيّبة حكاية عن أنبيائهم لصحّة هوائها وعذوبة مائها وسلامة تربتها ، وأنّه ليس فيها حرّ يؤذي في القيظ

٤٧١

ولا برد يؤذي في الشتاء ولمّا سمعوا هذا الكلام عن نبيّهم :

١٦ ـ (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ...) أي فلمّا أعرضوا عن الشكر وكفروا بأنعم الله أذاقهم الله النّقم والعذاب فقال سبحانه (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) والسيل هو الماء الكثير السّائل الذي ينشأ من المطر الشديد في الجبال والصّحارى ، والعرم : جمع عرمة نحو كلم جمع كلمة وهو هاهنا الجرذ الصّحرائي ، أي الفأرة الكبيرة التي أمرها الله تعالى بنقب السدّ الذي صنعوه لمنع السيّول فلما نقبته الجرذان جاءهم السيل الذي خرب البيوت وقلع الأشجار والأبنية وأهلك جميع ما مرّ عليه ووقع فيه من الأوادم والحيوانات. وإضافة السّيل إلى العرم لأن الجرذان نقبت السّكر بكسر السين وسكون الكاف : السّد ، فخرب ، فجاءهم السّيل فهي السبب لمجيئه ، فمن باب إضافة المسبّب إلى سببه وقيل معان أخر للعرم فمن أراد التفصيل فليرجع إلى المفصّلات من التفاسير أو اللغات من الكتب. وقال القمّي إنّ بحرا كان في المين وكان سليمان أمر جنوده أن يجرّوا خليجا من البحر العذب إلى بلاد الهند ففعلوا ذلك والخليج نهر يقتطع من النهر الأعظم إلى موضع ينتفع به فيه. وهكذا عقدوا له عقدة عظيمة من الصّخر والكلس حتى يفيض على بلادهم وجعلوا للخليج مجاري فكانوا إذا أرادوا أن يرسلوا منه الماء أرسلوه بقدر ما يحتاجون إليه وكانت لهم جنّتان عن يمين وشمال على مسيرة عشرة أيام يمرّ فيها المارّ فلا تقع عليه الشمس من التفافها فلمّا عملوا بالمعاصي وعتوا عن أمر ربّهم ، ونهاهم الصّالحون فلم ينتهوا ، بعث الله تعالى على ذلك السدّ الجرذ وهي الفأرة الكبيرة فكانت تقلع الصخرة التي لا تستقلّها الرجال وترمي بها. فلما رأى ذلك قوم منهم هربوا وتركوا البلاد فما زال الجرذ يقلع الحجر حتى خرب السدّ فلم يشعروا حتى غشيهم السّيل وخربت بلادهم واقتلعت أشجارهم وهو قوله تعالى (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) ، إلى قوله : (سَيْلَ الْعَرِمِ) وقيل : العرم العظيم الشديد وقيل الماء العظيم (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ) أي عوض

٤٧٢

جنّتيهم اللتين فيهما أنواع الفواكهة العذبة الحلوة (جَنَّتَيْنِ) أخراوين وسمّاهما جنّين لازدواج الكلام كما قال : ومكروا ومكر الله ، فمن اعتدى عليكم : فاعتدوا عليه (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) : تثنية ذوات مفرد على الأصل ، والأكل : الثمر ، وما يؤكل ، والخمط : الثمر الذي في غاية المرورة ، والبشع. وقال القمّي : هو أم غيلان الشجر المعروف ومنه كثير في طريق مكّة والخمط كلّ نبت فيه مرارة ، أو الأراك (وَأَثْلٍ) وهو شجر يقال له الطرفاء لا ثمر له ، ووصف السّدر في الآية بالقلّة لأنّ ثمره وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين. والحاصل أنّ أهل سبأ لمّا كفروا بنعم الله وأعرضوا عن شكرها ولم يسمعوا قول أنبيائهم زالت عنهم النّعم وبدّلت بالنّقم.

١٧ ـ (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ...) أي ذلك التبديل بكفرانهم النعمة ، و (ما) مصدريّة ، أو بسبب أنهم كفروا برسلنا الذين أرسلناهم إليهم وكانوا ثلاثة عشر نبيّا (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أي أن أخذ النعم والجزاء بالحرمان منها منحصر بمن يكفر منهم بنعمنا ، ومن يشكرها نزد له فيها ثم إنه بعد هلاك جماعة كثيرة بالسّيل ممن كفروا بنعم الله جاء أهل سبأ الباقون إلى نبيّهم وقالوا له : يا نبيّ الله نحن عرفنا بأن النّعم جميعها كانت من الله تعالى ، ولو أعطانا بعد ذلك نشكره على نعمه شكرا ما فعلته إلى الآن أمّة من الأمم السّابقة فلما تابوا عن كفرانهم تاب الله عليهم وفتح أبواب نعمه الموفّرة عليهم كما يقول سبحانه :

١٨ ـ (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى ...) أي بين الباقين من أهل سبأ وبين القرى (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بكثرة المياه وأشجار الفواكه المختلفة والزّروع والنّباتات التي كانت موجبة لسعة الرزق. والمراد منها هو قرى الشام أي فلسطين والأردن وأريحا وأيلة (قُرىً ظاهِرَةً) أي متظاهرة متواصلة كلّ واحدة مع الأخرى بحيث كانوا يرى أهل القرية أهل القرية الأخرى. وبالجملة كان من قصّتهم أنّا جعلنا بينهم وبين الشام التي باركنا

٤٧٣

فيها بالماء والشجر قرى متواصلة وكان متجرهم من أرض اليمن إلى الشام وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا. وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من وادي سبأ إلى الشام. فمعنى الظاهرة أن الثّانية كانت ترى من الأولى لقربها منها (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي وجعلنا السّير من قرية إلى أخرى مقدارا واحدا وهو نصف يوم وقلنا لهم (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي ليلا شئتم المسير أو نهارا بلا خوف عليكم بل مأمونون من الجوع والعطش والسّباع واللّص وكلّ المخاوف والمضارّ ، وهذا يدل على تكامل النّعمة عليهم سفرا وحضرا ونقلوا أن أهل سبأ أخذوا في التجارة حتّى الفقراء منهم حيث إنهم رأوا أنه ليس في متجرهم أي تعب ولا عناء ، فكانوا يصبحون في قرية ويمسون في أخرى في ظلّ الأشجار المثقلة بالفواكه بأقسامها فحسد الأغنياء الفقراء كما أخبر سبحانه أنّهم أخذوا في الكفران وبطروا وبغوا فحكى عنهم :

١٩ ـ (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ...) أي أشروا وبطروا النعمة وملّوا العافية فسأل الأغنياء الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز وأودية وأراضي خالية من الأشجار والزروع ليتطاولوا على الفقراء بركوب الرواحل وحمل الأزواد. وهذا كما كان في بني إسرائيل لما ملّوا النعم فقالوا : أخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها بدلا من المنّ والسّلوى (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والبطر (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لمن بعدهم فاتّخذوهم مثلا : يقال تفرّقوا أيدي سبأ أو أيادي سبا ، ويتحدثون بأمرهم وشأنهم ويضربون لهم المثل (مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرّقناهم وشتّتناهم كلّ تفريق وتشتيت حتى لحق غسّان منهم بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان إلى آخرهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي هذا المذكور من قصّة سبأ (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي فيها عبر لمن يصبر على الشدائد أو عن المعاصي ويشكر كثيرا على النّعم.

٢٠ ـ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ...) الضّمير في عليهم إمّا أنه

٤٧٤

يعود لبني آدم أو إلى أهل سبأ بمناسبة المقام ، يعني لما ظنّ الشيطان تسلّطه وقدرته على إغوائه لبني آدم بالقوّة الشهويّة والغضبيّة التي أودعها الله فيهم فصار صادقا في ظنّه. أو لاستماعه قول الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ، وقوله : ولأضلّنهم ولأغوينّهم ولأحتنكنّ ذرّيته إلّا قليلا ولا تجد أكثرهم شاكرين وما قال ذلك عن علم وتحقّق بل ظنّ السّلطة عليهم في إغوائهم فصدّق ظنّه حيث رأى الناس معرضين عن متابعة الأنبياء ومقبلين ما يدعوهم إليه (فَاتَّبَعُوهُ) أي فيما دعاهم إليه (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من : هنا للتّبيين يعني المؤمنين كلّهم ، وعن ابن عباس : أي علموا قبح متابعته فلم يتّبعوه واتّبعوا أمر الله سبحانه وتعالى. ويحتمل أن تكون للتّبعيض والمراد أن بعض المؤمنين ما اتّبعه ، وهم العباد المخلصون ، أي الأنبياء والأئمّة المعصومون عليهم الصلاة والسلام.

٢١ ـ (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ ...) أي أن تسلّط إبليس واستيلاءه على من ثبت وحقّق ظنّه في حقّهم ما كان عن قوّة فيه تجبرهم على مطاوعته في وسوسته ، ولكنه كان باختيارهم ، ولم يقع منهم (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) أي إلّا لتميّز المؤمن من الشاكّ فنجازي كلّا منهما جزاءه ، فالله تعالى أراد بحصول العلم حصول متعلّقه ، أي التميّز بين الفريقين ليتحقق أن الجزاء عن استحقاق كلّ واحد لما يستحقّه ، وربّك (حَفِيظٌ) أي رقيب على كلّ شيء.

* * *

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢)

٤٧٥

وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣))

٢٢ ـ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ...) أي يا محمّد قل لكفّار مكّة من بني مدلج وأتباعهم من أهل الشّرك تهكّما (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنّهم آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) أي اطلبوا منهم ما يهمّكم من جلب نفع أو دفع ضرّ ، فإنهم (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) من خير أو شرّ ، ويمكن أن تكون الجملة منصوبة المحلّ حالا ممّا قدّر مفعولا لزعمتم ، أي ادعوا ما زعمتم آلهة حال كونهم غير مالكين مثقال ذرّة (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي في أمرهما (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أي ليس لهم شركة مع خالق الكون (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) وليس له تعالى من آلهة المشركين من معين ولا ناصر على شيء لا في تدبير أمرهما ولا في تنظيم حركاتهما ولا في إيجادهما على ما هما عليه.

٢٣ ـ (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ ...) هذا ردّ على من زعم من المشركين أن آلهتهم من الملائكة أو الأصنام أو غيرهما شفعاءهم عند الله ، أي لا تنفعهم شفاعة الشافعين على زعمهم من الأصنام والأوثان لأنها جماد ولا تعقل الشفاعة ، وأمّا الملائكة فلأنّه لا شفاعة في ذلك اليوم (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) القمّي : لا يشفع أحد من أنبياء الله وأوليائه ورسله يوم القيامة حتى يأذن الله له ، إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن الله عزوجل قد أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة ، والشفاعة للأئمة عليهم‌السلام من بعده ، ثم بعد ذلك للأنبياء. وعن الباقر عليه‌السلام : ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة رسول الله (ص) يوم القيامة. ثم إن لرسول الله الشفاعة في أمته ، ولنا الشفاعة في شيعتنا ، ولشيعتنا الشفاعة

٤٧٦

في أهاليهم. ثم قال : إن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر ، وإن المؤمن ليشفع حتى لخادمه يقول : يا ربّ حقّ خدمتي كان يقيني الحرّ والبرد (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) الجار متعلّق بما يفهم عن سياق الكلام ، وهو ترقّب الإذن وتوقّعه ، أي حتى وقوعه ممّن يرجى الشفاعة به. والتّفزيع مع كلمة (عن) بمعنى الإزالة وكشف الفزع والمعنى أن الشافع والمشفع به يوم القيامة كلاهما ينتظران الشفاعة ولا يزالان في خوف وفزع حيث أنّهما يحتملان عدم قبول الشفاعة وردّها بل عدم الإذن لها إلى أن يسلب الفزع عن قلوب أهل المحشر بالإذن لهم بالشفاعة لهم فيفرحوا ويقول بعضهم لبعض : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) متسائلين عن قوله تعالى فيما يرجع إلى الشفاعة. فعامّة أهل المحشر ، حتّى الكفرة منهم ، تنكشف لهم الحقائق يوم القيامة من وجود الصانع جلّ وعلا ، إلى وحدانيّته ، إلى صحة الرسالة وصدق رسله ، وبالجملة تنكشف لهم سائر حقائق الدين بتمامها وكمالها ، حتى انهم إذا ما رأوا رحمة الله الواسعة على العباد ووفور جوده وفيضان فضله العميم عليهم ، فإنهم ، هم أيضا ، يتوقّعون شمول الرحمة وعموم الشفاعة لهم ، بل إن الشيطان اللعين ليطمع بذلك كما يستفاد من الروايات التي منها أن الله تعالى ينشر رحمته يوم القيامة حتى يمدّ إبليس لها عنقه.

والحاصل أنهم يسأل بعضهم بعضا : ماذا قال ربّكم بالنسبة إلى الشفاعة (قالُوا) : قال : (الْحَقَ) أي قالوا : قال ربّنا الصدق والواقع ، فإنه أذن للمؤمنين المطيعين في دار الدنيا بالشفاعة ولم يأذن للكافرين لأنه ليس عنده غير الحق ولأن وعده صدق (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي ذو العلوّ بقهره ، وذو الكبرياء بعظمته.

* * *

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ

٤٧٧

اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠))

٢٤ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) هذا الكلام تقرير لقوله (لا يَمْلِكُونَ) وإلزام لهم لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا ترزقنا آلهتنا التي نعبدها. فعند ذلك يتوقّفون ويتمكّثون قهرا في الجواب (قُلِ اللهُ) أي قل ذلك جوابا عن المشركين إذ لا جواب لهم سواه ، مضافا إلى أن قلوبهم مقرّة بذلك ومعترفة به. ثم إنّه تعالى يأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول لهم على سبيل المحاجّة وطريق المناظرة (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عطف على قوله : (اللهُ) يعني يا محمد قل للمشركين : نحن المؤمنون نقول بأن رازقنا وخالقنا واحد وإيّاه نعبد ولا نعبد سواه أمّا الذين تعبدونهم فهم في أدنى مراتب الممكنات وأخسّها ، أي الجماد الذي لا يضرّ ولا ينفع ولا يسمن ولا يشبع ولا يشعر ولا يحس. وعبارة : لعلى

٤٧٨

هدى ، أي على طريق الهداية والاستقامة (أَوْ فِي ضَلالٍ) أي على جادّة الغبّي والضّلالة ، والإبهام إنصاف من الخصم وتلطّف به وهو أبلغ من التصرّيح فقوله : بمن هو على هدى ومن هو في ضلال مبين ، قسم من المجادلة بالأحسن.

٢٥ ـ (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا ...) أي قل أنتم غير مسئولين بجرمنا إن كان علينا جرم (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وكذلك نحن غير مسئولين عن أعمالكم. وهذا أزيد في الأنصاف وأبلغ في الإسكات لأنّه أسند الاجرام إلى أنفسهم والعمل إلى الخصم وهذا يدل على كمال الخضوع صورة ، وغاية المماشاة مع الخصم المشاغب فيكون أدخل في ترغيب المخاطب إلى مدّعى المتكلم ولو كان الواقع خلاف ما يفهم المخاطب فإن المراد بالإجرام هو الصّغائر من الزّلات التي كان المؤمن يرجو العفو عنه (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) والمراد بالعمل هو الكفر والمعاصي العظام التي لا يرجى العفو عنها. وفي الكريمة دلالة على أن أحدا لا يؤخذ بذنب أحد ولا يؤخذ الجار بجرم الجار. ولمّا لم يؤمن الكفرة مع إيضاح الحجّة عليهم وتمامها أمر الله تعالى نبيّه بالإعراض عنهم وقال :

٢٦ ـ (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ...) أي يحشرنا وإيّاكم ربّنا يوم الجمع (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) وبينكم ، أي يحكم ويفصل (بِالْحَقِ) بالعدل والإنصاف بأن يدخل المؤمنين المحقّين الجنّة والمشركين المبطلين النّار (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) أي الحاكم في القضايا المغلقة والعالم بكيفيّة الحكم طبق الحكمة والمصلحة.

٢٧ ـ (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ ...) أي عرّفوني وأعلموني الذين زعمتم أنهم شركاء الله في استحقاق العبادة. وهذا الأمر للتهكّم والتّعجيز واستفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم (كَلَّا) كلمة ردع لهم فالمشركون لا يقدرون على إثبات صفة للأصنام مشتركة بينها وبين الله عزوجل فبتلك الصّفة تكون مستحقة للعبادة

٤٧٩

مشاركة له تعالى (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الغالب بقدرته الحكيم في تدبيره ، والأصنام متّسمة بالذّلة ، متباينة عن قبول العلم والقدرة رأسا حيث إنها جماد والجماد قاصر بالذات عن قبول العلم والقدرة فكيف تكون شركاء لمن ذاته علم وقدرة وحكمة ، إلى آخر صفاته الثبوتيّة التي هي عين ذاته كما بيّن وحقّق في مقامه؟

ثم بيّن سبحانه تحقّق نبوّة نبيّه على سبيل العموم بقوله تعالى وتقدسّ :

٢٨ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ...) : أي إلّا لرسالة عامة على جميع البشر من الأبيض والأسود والأحمر. وعن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال أعطيت خمسا ولا أقول فخرا. بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأحلّ لي الغنم ولم يحلّ لأحد قبلي ، ونصرت بالرّعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة فادّخرتها لأمّتي يوم القيامة. وذكر القميّ عن الصّادق عليه‌السلام أنّه قال لرجل : أخبرني عن الرّسول كان عامّا للنّاس؟ أليس قد قال الله عزوجل في محكم كتابه : وما أرسلناك إلّا كافّة للنّاس لأهل المشرق والمغرب وأهل السّماء والأرض من الجنّ والإنس؟ هل بلّغ رسالته إليهم كلّهم؟ قال : لا أدري. قال : إنّ رسول الله لم يخرج من المدينة فكيف أبلغ أهل الشّرق والغرب؟ ثم قال : إنّ الله تعالى أمر جبرائيل فاقتلع الأرض بريشة من جناحه ونصبها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكانت بين يديه مثل راحته في كفّه ينظر إلى أهل الشرق والغرب ويخاطب كلّ قوم بألسنتهم ويدعوهم إلى الله عزوجل وإلى نبوّته بنفسه فما بقيت قرية ولا مدينة إلّا ودعاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه.

٢٩ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) أي الموعود بقوله (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) فأين هو (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم ، والمخاطب هو النبيّ وأهل الإيمان ، ويحتمل أن يكون الاستفهام للتهكّم.

٤٨٠