الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) اي يكون الجناح والإثم فيما قصدتموه من دعائهم ونسبتهم إلى غير آبائهم فحينئذ أنتم آثمون تؤاخذون به (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للمخطئ (رَحِيماً) بالعفو عن العامد إن تاب وإن شاء.

٦ ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ ...) يحتمل أن يكون المراد بالأولويّة في الكريمة هو الأولويّة العامّة الإلهيّة على جميع البشر ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خليفة الله في الأرض ففوّض ما كان له تعالى من الولاية على جميع البشر إليه صلوات الله عليه. والمؤمنون خصّوا بالذكر لفضلهم وشرافتهم على غيرهم. وكذلك فهذه الولاية عامّة لجميع الأمور الدّينية والدنيويّة ، وقد انتقلت الأولوية بعد النبيّ لخلفائه المكرمين وأوصيائه المعصومين صلوات الله عليهم. والتعبير بأفعل التفضيل لما ورد من أن النبيّ (ص) قد صعد المنبر فقال : من ترك دينا أو ضياعا فعليّ وإليّ ، ومن ترك مالا فلورثته ، بعد ما قال : أنا وعليّ أبوا هذه الأمّة. فصار بذلك أولى من آبائهم وأمّهاتهم وصار أولى بهم من أنفسهم ، وكذلك أمير المؤمنين بعده جرى ذلك له مثل ما جرى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي كأمّهاتهم في التّحريم مطلقا وفي استحقاق التعظيم ما دمن على طاعة الله ورسوله. وفي الإكمال عن القائم عليه‌السلام أنه سئل عن معنى الطّلاق الذي فوّض رسول الله حكمه إلى أمير المؤمنين (ع) قال : إن الله تقدّس اسمه عظّم شأن نساء النبيّ (ص) فخصهنّ بشرف الأمّهات فقال رسول الله يا أبا الحسن إن هذا الشرف باق ما دمن على الطاعة فأيّتهنّ عصت الله بعدي بالخروج عليك فأطلقها في الأزواج وأسقطها من تشرّف الأمّهات ومن شرف أمومة المؤمنين (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي ذوو القرابات بعضهم أقدم في الإرث وأولى ببعض. وهذه الشريفة نسخت التوارث بالهجرة والموالاة في الدين والتبنيّ كما كانت قبل الإسلام وقبل نزول هذه الكريمة (فِي كِتابِ اللهِ) اي في اللوح أو القرآن أو في حكمه

٤٢١

المكتوب. وقال القمّي : نزلت في الإمامة. وقال الباقر عليه‌السلام : نزلت في الإمرة ، وهذان المعنيان لا يلائمان الاستثناء على ما هو الظاهر إلا أن يقال إن الحمل عليهما تأويل ، وبالتعميم في الآية أيضا يرتفع الإشكال. أي أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في الإمامة والإمارة والمال أي الميراث وكلّ نفع (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي الأنصار والمهاجرين فإن المؤمنين هم الأنصار بقرينة التقابل (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) إلى محبّيكم من الأنصار والمهاجرين وصيّة بأموالكم أن تعطوهم في دبر وفاتكم. أو المراد (بالمعروف) هو إعطاؤهم في حال حياتكم. وتعدية (تَفْعَلُوا) بإلى لأنه بمعنى الإعطاء. وقيل إن الله تعالى لمّا منع التوارث بالمؤاخاة أباح الوصيّة من ثلث مال الرجل لإخوانه في الدين وفي النسبة. فالمراد بالمعروف في الشريفة هو الوصيّة بمقدار الثلث أو الأزيد لو أجاز ورثته (كانَ ذلِكَ) أي كل ما ذكر في الآيتين من أولويّة النبيّ (ص) وأولويّة ذوي الأرحام في التوارث (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) في القرآن أو في اللّوح المحفوظ ثابتا ومحفوظا.

* * *

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))

٧ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ ...) أي أذكر يا محمد حين أخذنا من الأنبياء والرّسل (مِيثاقَهُمْ) وعهدهم بتبليغ الرسالة وإرشاد الناس إلى سبل الهداية (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إنّما قدّم نبيّنا لفضله وشرفه ، وإنما خصّوا بالذّكر بعد التعميم لأنّهم أولو العزم من

٤٢٢

الرّسل ومن مشاهير أرباب الشرائع (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي شديدا ، ولعلّ المراد كونه مؤكّدا باليمين أو مقرونا بأخذ الوفاء بالصّبر والتحمل لمشاقّ أعباء الخلافة وأثقال النبوّة.

٨ ـ (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ...) أي لأنه تعالى يسأل الصّادقين عن صدقهم في تبليغ الرسالة والعمل بوظائفهم المقرّرة كلّ بحسب مرتبته وشأنه ، و (لِيَسْئَلَ) متعلّق بأخذنا.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١))

٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ...) أي الأحزاب وهم قريش ، وغطفان وكنانة ، ويهود من قريظة والنّضير طائفتان من اليهود وكانوا جميعا عشرة آلاف نفر وذلك في غزوة الخندق (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) أي الدّبور وهي ريح تقابل الصّبا وتهبّ من ناحية المغرب. وأظنّ أنها ريح العذاب. وقيل إن المراد بما في الآية هو الصّبا (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) أي الملائكة ، وقيل كانوا عشرة آلاف (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) من حفر الخندق وغيره من الاستعداد لهم.

١٠ ـ (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ...) أي من أعلى الوادي (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) من أسفلها (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) مالت من مقرّها خوفا ودهشا

٤٢٣

وشخوصا (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) فزعا إذ عند الشّدّة تنتفخ الرّئة فترتفع مقرّها الطّبيعي إلى الحنجرة وهي منتهى الحلقوم. ويحتمل أن يكون هذا الكلام مثلا لشدّة اضطراب القلب وإن كان القلب في موضعه الطبيعيّ (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) يعني أيّها المسلمون ظننتم بربّكم ظنونا مختلفة ، فالمخلصون الثابتون على الإيمان كانت عقيدتهم النّصر وإنجاز الوعد بالغلبة ، والمنافقون ظنّوا باستئصالهم وغلبة الكفّار. والذين ظنّوا النصر أيضا كانوا خائفين كثيرا كما أخبر سبحانه عن حالهم.

١١ ـ (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ...) أي اختبروا أو امتحنوا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) تزعزعوا من شدّة الدهشة والاضطراب.

* * *

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ

٤٢٤

 اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))

١٢ ـ (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي ضعف يقين واعتقاد يقولون : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من الظفر وإعلاء الدّين (إِلَّا غُرُوراً) وعدا باطلا يظهر فيه الغشّ.

١٣ ـ (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ ...) أي يا أهل المدينة ليس هنا موضع قيامكم (فَارْجِعُوا) إلى مدينتكم ومنازلكم ، وقد كانوا مع النبيّ خارج المدينة فخافوا (وَ) صاروا (يَقُولُونَ : إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي غير حصينة (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) بل هي حصينة رفيعة السّمك أي السقف وليست مكشوفة لأحد بل هم يتعلّلون بذلك (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) من القتال من شدة خوفهم.

١٤ ـ (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ...) أي لو دخل هؤلاء الذين يريدون القتال وهم الأحزاب على الذين يقولون إن بيوتنا عورة وهم المنافقون (مِنْ أَقْطارِها) أي من جميع نواحي المدينة أو البيوت (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) بعد الدخول ودعوا من الأحزاب والمنافقين إلى الشّرك ، وهذا هو المراد بالفتنة على ما روي عن ابن عباس (لَآتَوْها) لأجابوهم (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) وما احتبسوا ولا تعلّلوا عن إجابة الأحزاب وإعطائهم ما طلبوا منهم من الشّرك وقتال المسلمين إلّا زمانا يسيرا ، أي بمجرّد أن يطلبوا منهم الارتداد لارتدّوا واتّصلوا بهم حبّا بالشّرك وكرها بالإيمان والمؤمنين. ثم أنّه سبحانه يذكّر نبيّه (ص) : عهدهم معه بالثّبات في مواطن القتال بقوله :

١٥ ـ (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ ...) أي بنو حارثة ومن معهم لمّا قصدوا الفرار يوم أحد فندموا على فعلهم وعاهدوا الله أن لا يفرّوا بعد ذلك أبدا

٤٢٥

(لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) بل يكونون ثابتين مستمرّين في الحروب (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) عن الوفاء به.

١٦ ـ (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ ...) أي لن تمتنعوا بالفرار (مِنَ الْمَوْتِ) حتف الأنف (أَوِ الْقَتْلِ) في وقت معيّن سبق به القضاء وجرى عليه قلم التقدير ، فإذا جاء الأجل لا يؤخّر ساعة ولا يقدّم ولا يمهل ، و (إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) تمتيعا في زمان قليل بعد هذا الفرار ثم تموتون قتلا أو موتا طبيعيّا.

١٧ ـ (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ ...) أي من الذين يحميكم ويمنعكم (مِنْ دُونِ اللهِ) جلّ وعلا (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) إذا كان قد قضى بما تكرهون وبما يسوؤكم (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) والمراد بالرحمة النّصر الذي هو نعمة على المسلمين ، فإنه ما من أحد يردّ ذلك من مشيئة الله تعالى (وَ) هم (لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) غيره (وَلِيًّا) ينفعهم (وَلا نَصِيراً) يدفع عنهم الضّر والسوء.

* * *

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ

٤٢٦

فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

١٨ ـ (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ ...) أي القاعدين والمتخلّفين عن مقاتلة الأحزاب مع النبيّ (ص) أو الذين يعوّقون الناس ويمنعونهم عن عمل الخير ، وفي الآية هم الذين يمنعون عن نصرة النبيّ. وقيل في وجه نزولها أن واحدا من عساكر النبيّ يوم غزوة الخندق ذهب إلى المدينة ودخل بيت أخيه فرأى أنه هيّأ مجلس طرب له فقال : يا أخي أنت بهذه الحالة والنبيّ محاط بأعداء الله من كلّ جانب؟ فأجابه وقال له : يا أبله ويا أحمق ، اقعد هنا واشتغل بالطرب والنشاط معي فإنّ النبيّ وأصحابه أخذهم البلاء ولا ينجون منه أبدا. فرجع من عند أخيه حتى يخبر النبيّ بمقالة أخيه فسبقه جبرائيل وأخبر النبيّ بذلك قبل إخباره وجاء جبرائيل بالآية الشريفة (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) هلمّ اسم فعل بمعنى اقربوا إلينا ، ويستوي فيه المفرد والجمع وهذا من لغة حجاز (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) أي المنافقون لا يحضرون القتال إلّا قليلا منهم ، أو لا يقاتلون إلا مقاتلة قليلة.

١٩ ـ (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ...) أي بخلاء عليكم بالمعاونة أو بالنفقة في سبيل الله أو بكليهما أو بالظفر والغنيمة ، وهم مع ذلك (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) حلّ بهم الفزع حين تدور الحرب (رَأَيْتَهُمْ) يا محمد وهم ينظرون إليك وإلى المعركة (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) تتحرّك أحداقهم يمنة ويسرة (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) كالمغشيّ عليه في سكراته ، وذلك لغلبة الخوف والفزع (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي يؤذونكم ويزعجونكم ببذيء الكلام (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) يعني عند تقسيم الغنيمة يجادلون ويناقشون مزيد حقهم وتوفير حصّتهم ليرد الكسر على المؤمنين ويذهبوا

٤٢٧

بحقّهم. ونصب (أَشِحَّةً) في الموضعين يحتمل أن يكون على الحاليّة أو على الذّم (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) على وجه الإخلاص باطنا ، بل كان إيمانهم صوريّا ظاهريّا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم وأخذ الغنيمة وغيرها من الأغراض الفاسدة ، وكانوا في الواقع مع المشركين ولهذا فهم لا يستحقّون الثواب على أعمالهم (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أظهر بطلانها وعدم ترتّب الثواب عليها ، أو أبطلها وجعلها هباء منثورا ، أو أبطل أعمالهم من تصنّعهم ونفاقهم ومكرهم وكيدهم مع النبيّ (ص) والمؤمنين المخلصين. أو المراد هذه وغيرها من الأعمال كصلواتهم وصيامهم وجهادهم فالله تعالى أبطلها جميعا من غير استثناء لعدم شرط القبول وهو الإخلاص في واحد منها (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي هيّنا ، وذلك إشارة إلى الإحباط.

٢٠ ـ (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا ...) أي المنافقون كانوا يظنّون أنّ الأحزاب لم ينهزموا وأنهم باقون على ما كانوا. ولقد انهزموا وانصرفوا (أي المنافقون) لجبنهم وما سألوا عن حال الأحزاب إذ كانوا قد انصرفوا إلى المدينة خوفا وبلا استئذان من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرّة ثانية (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي يتمنّى هؤلاء المنافقون أن يكونوا في البادية مع البدو والأعراب (يَسْئَلُونَ) كلّ قادم من طرف المدينة (عَنْ أَنْبائِكُمْ) عن أخباركم وعمّا جرى عليكم من المشركين (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) في هذه الكرّة (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) أي لم يقاتلوا معكم الأحزاب إلّا قدرا يسيرا ، رياء وخوفا من العار ، وهم لا ينصرونكم لأنّ قلوبهم مع الأحزاب.

* * *

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ

٤٢٨

الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

٢١ ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...) أي لقد كان لكم به صلى‌الله‌عليه‌وآله قدوة حميدة ، ويكفيكم تقليده بأقواله وأفعاله الشريفة وهو نعم المثل لكم في أخلاقه السامية ، وفي ثباته هنا في الحرب وصبره في الشدائد والمحن ، والمؤتسي بالرّسول (ص) يرضى باتّباعه وبالعمل مثلما يعمل. وهذه الخصلة من التأسّي به (ص) لا تكون إلا (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) يطلب رضاه (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يخاف سوء منقلبه فيه (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) فلم ينسه في حال من الأحوال وجعله نصب عينيه في الحرب وفي

٤٢٩

السّلم وفي الراحة والتعب وفي كل وقت من حياته.

٢٢ ـ (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ ...) أي حين نظروا إليهم يوم الخندق (قالُوا) في أنفسهم : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من حرب الكفّار والنّصر عليهم (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) في كلّ ما يصدر عنهما (وَما زادَهُمْ) هذا المشهد الذي ينذر بواقعة حربيّة رهيبة (إِلَّا إِيماناً) بما هم عليه من الحق (وَتَسْلِيماً) لأمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثم إنّه تعالى وصف بعض المؤمنين الذين شاركوا في تلك المعركة ببعض خصالهم الشريفة فقال :

٢٣ ـ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ...) أي تجد بين المؤمنين بالله وبرسوله رجالا امتازوا عن غيرهم بصدق العهد الذي أعطوه لله تعالى على أنفسهم من نصر دينه وإعلاء كلمته والجهاد مع رسوله (ص) والثبات معه ، وقد أبلوا في هذه الوقعة بلاء حسنا وحاربوا بإخلاص (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي قتل ومات كحمزة وجعفر بن أبي طالب عليهما‌السلام وكغيرهما من الشهداء الأبرار. وإنّه لما استشهد جعفر بن أبي طالب (ع) في معركة (مؤتة) رفعه أهل الشّرك على رؤوس رماحهم وقد تألّم النبيّ (ص) لموته كثيرا وحزن عليه حزنا شديدا إذ كان الكفّار قد قطعوا يديه في القتال فأبدله الله تعالى بهما جناحين يطير بهما في الجنّة حيث يشاء مع الملائكة. و (النحب) هو النّذر ، وقد أستعير للموت لأن الموت مخطوط على جيد ابن آدم كالنّذر اللازم على رقبة صاحبه ، وإن كل ذي حياة إذا مات فكأنّه قد وفي بنذر كان عليه لأنه قضى عهدا معهودا عليه ، ولذا يقال : قضى نحبه ، كما يقال : وفي بنذره. والحاصل أن من هؤلاء المؤمنين من قد مات واستشهد وقضى ما عليه من خدمة الله والدّين (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة في سبيل الله كعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَما بَدَّلُوا) العهد مع الله ورسله ولا غيّروه ، و (تَبْدِيلاً) تأكيد لثباتهم على ما هم عليه من الإيمان الراسخ.

٤٣٠

٢٤ ـ (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ...) ليثيبهم على إيمانهم وتصديقهم وإخلاصهم (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) لنقضهم العهد (إِنْ شاءَ) أي إذا أراد وإذا لم يتوبوا (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إذا تابوا وأنابوا وندموا على ما كان منهم (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لمن تاب وعمل عملا صالحا ، وهذا شأنه عزّ شأنه منذ كان فإنه متّصف بالرحمة والمغفرة.

٢٥ ـ (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) وهم الأحزاب ، وعلى رأسهم أبو سفيان وأشباهه من العتاة ، ردّهم سبحانه (بِغَيْظِهِمْ) بحنقهم وكيدهم السّيء وغضبهم ، ف (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) لم يصيبوا ظفرا ولا ذاقوا غلبة بل رجعوا خائبين خاسرين منهزمين خائفين. وقيل أريد بالخير المال والسلب الذي كانوا يأملون الحصول عليه (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) ردّ عنهم سبحانه كيد الكائدين ودفع عنهم الأذى أثناء قتال المنافقين. وفي المجمع عن الصادق عليه‌السلام : كفى الله المؤمنين القتال بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، بقتله عمرا بن ودّ فكان ذلك سببا لهزيمة القوم. وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك اليوم مأثور مشهور حين قال : ضربة عليّ يوم الخندق توازي عمل الثقلين (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) على ما أراد (عَزِيزاً) غالبا على كلّ شيء.

٢٦ ـ (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ ...) ثم إنه تعالى على سبيل تعداد نعمه على رسوله وتنبيه أصحابه لتلك النعم والامتنان عليهم بها يخبر رسوله بهذا الفتح ، أي فتح بني قريظة الذين كانوا من المتعاهدين مع الرسول صلوات الله عليه وآله فخالفوه ونقضوا عهدهم معه فنزل عليه أمين الوحي بالمباركة. ومعناها أن الله تعالى أنزل الذين عاونوا الأحزاب ، وهم اليهود من بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع الرّسول لينصروا المشركين من الأحزاب ، أنزلهم وأخرجهم من حصونهم (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي ألقى سبحانه الخوف من رسوله ومن المؤمنين في قلوبهم ، فظفر عليهم النبيّ بلا خيل ولا ركاب وبغير محاربة ومقاتلة فقسّمهم قسمين بحكم

٤٣١

سعد بن معاذ رحمة الله عليه كما أخبر سبحانه بقوله (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وهم الرجال من بني قريظة (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وهم النساء.

٢٧ ـ (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ...) يعني أعطاكم بعد قتلهم والانتصار عليهم مزارعهم وحصونهم (وَأَمْوالَهُمْ) والنقود والأمتعة والمواشي (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) لم تذهبوا إليها ولم تأخذوها بعد ولعلها أرض خيبر أو الروم وفارس والله اعلم بما قال والأول أظهر بمناسبة المقام. قال عكرمة : إن كلّ أرض دخلت في حوزة أهل الإسلام من اليوم إلى يوم القيامة داخلة في هذه الجملة لعمومها بمقتضى تنكير الأرض (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي قادر على تسخير البلاد وفتحها جميعا.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١))

٢٨ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ...) شأن نزول المباركة أنّ النبيّ الأكرم لمّا رجع من فتح خيبر بعد ما أصاب كنز آل أبي الحقيق وأموال كثيرة

٤٣٢

وافرة بحيث توقع أزواجه شيئا من تلك الأموال وقلن أعطنا ممّا أصبت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : قسّمتها بين المسلمين على ما أمر الله تعالى. فغضبن من ذلك وقلن لعلّك ترى أنك إن طلّقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجوننا؟ فأنف الله عزوجل ذلك لرسوله وكرهه له ، فأمره أن يعتزلهنّ فاعتزلهنّ في مشربة أمّ إبراهيم تسعة وعشرين يوما حتى حضن وطهرن. ثم أنزل الله عزوجل هذه الآية التي تسمّى آية التخيير لأنه تعالى قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي السّعة والتنعّم فيها (وَزِينَتَها) من الحليّ والثياب الفاخرة وزخارفها (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) أعطيكنّ متعة الطّلاق وقيل هي توفير المهر بتمامه أو المهر مع الزيادة حتى تتمتّعن بالزيادة التفضّليّة ، لأن ما ترغبن فيه من متاع الدّنيا ليس عندي (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) أطلقكنّ طلاقا لا ضرار فيه أي بلا مشاجرة ولا مخاصمة تكونان بين الزوج والزوجة نوعا ، وهو السراح الجميل. والسّراح كناية عن الطّلاق ومعناه هو الإرسال والإخراج وجاء بمعنى الطلاق أيضا.

٢٩ ـ (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ...) فتبن عن قولهنّ واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بدل الدنيا. وللمحسنات منكنّ أجر عظيم .. وقد تاب الله سبحانه عليهنّ فأمر النبيّ بالرجوع إليهنّ.

٣٠ ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ ...) أي بخصلة قبيحة وعمل شنيع (مُبَيِّنَةٍ) ظاهرة القبح (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) أي مثلي عذاب غيرهنّ لأن الذنب منهنّ أقبح لزيادة النعمة ونزول الوحي في بيوتهنّ وليس العالم كغيره. وعذابكنّ على الله سهل (يَسِيراً) في حال العصيان.

٣١ ـ (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ...) أي تدوم على الطاعة (وَتَعْمَلْ صالِحاً) عملا صالحا خالصا عن شوائب الأوهام (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي مثلي

٤٣٣

أجر غيرها (وَأَعْتَدْنا لَها) هيّأنا لها (رِزْقاً كَرِيماً) زائدا على أجرها المستحقّ لعملها.

* * *

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥))

٤٣٤

٣٢ ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ...) لم يقل كواحدة من النّساء لأنّ (أحد) لنفي العام وهو المطلوب في المقام ، قال ابن عبّاس معنى المباركة : ليس قدركنّ كقدر غيركنّ من الصّالحات. أنتنّ أكرم عليّ وأنا بكنّ أرحم ، وثوابكن أعظم لمكانكنّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) فإن الله سبحانه شرط عليهنّ التقوى ليبينّ أن فضلهنّ بالتقوى لا باتّصالهنّ بالنبيّ فلا يغتررن بذلك (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي فلا تتكلّمن بالقول الخاضع اللينّ مع الأجانب مثل تكلّم المريبات ، فأراد سبحانه أن يعرّفهن أدنى مرتبة تكون خلاف التقوى وغير مرضيّة عنده تعالى (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي مرض الرّيبة والفجور ... (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) بعيدا عن الطّمع والرّيبة وبكيفيّة طبيعيّة متعارفة لا مثل قول المريبات وقد جاء في الحديث أنّه لما نزلت هذه المباركة صارت نساء النبيّ (ص) حينما ينادي المنادي على المناوب لم يكن في الدار أحد من الرجال يدخلن أصابعهن في أفواههنّ ويجبن بصوت منكر خشن. ثم إنّه تعالى لما أدّبهن قولا كذلك منعهنّ عن بعض كيفيّات أعمالهن وأفعالهن بقوله سبحانه :

٣٣ ـ (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ ...) أي أنّ وظيفة النّساء هو الاستقرار في حجراتهن ولا يخرجن إلّا لضرورة اقتضت سواء كانت شرعية أو عقلية ، وإذا خرجن (لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) لا تظهرن زينتكنّ للأجانب من الرجال مثل تبرّج نساء الجاهلية القديمة. وقيل هو زمان ولادة إبراهيم عليه‌السلام فإن النساء كنّ يلبسن ألبسة مزيّنة بالجواهر ويعرضن أنفسهنّ للرجال ويختلطن معهم في مجامعهم. والجاهلية الأخرى هو عصر عيسى عليه‌السلام إلى زمان خاتم الأنبياء. وقيل الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والأخرى جاهلية الفسوق بعد ظهور الإسلام وفي الإكمال عن ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : أنّ يوشع بن نون وصيّ موسى بن عمران عليهما‌السلام عاش بعد موسى

٤٣٥

ثلاثين سنة وخرجت عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسى فقالت أنا أحق منك بالأمر فقاتلها وقتل مقاتليها وأحسن أسرها ، وأن ابنة أبي بكر ستخرج على عليّ عليه‌السلام في كذا وكذا ألفا من أمتي فيقاتلها فيقتل مقاتليها فيحسن أسرها وفيها أنزل الله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) الآية .. إلى قوله (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) يعني صفراء بنت شعيب ، فبالقرينة تظهر الثانية (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي كما أنّكن مّأمورات من عند الله ورسوله بإقامة الصلاة وإيتاء الزّكاة كذلك لا بدّ لكنّ أن تطعن إياهما في سائر ما أمراكنّ به ونهياكنّ عنه (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) المراد بالرجس هو الذنب والعصيان. وإنما أراد سبحانه بحصر الإذهاب فيهم لإفهام البشر أجمعين أنهم أشرف مخلوقاته من الأولين والآخرين وليس لأحد أن يزاحمهم في مناصبهم ويشاركهم في مناقبهم التي اختصهم الله بها ، فضلا عن أخذ حقوقهم وغصب مقامهم ومرتبتهم التي أوجبها الله لهم من فوق سماواته السّبع ، فإنهم دون الخالق وفوق المخلوق فلا يقاس أحد بهم. و (أَهْلَ الْبَيْتِ) نصبه بأخصّ المقدّر ، وإذا قرئ بكسر اللام فهو عطف بيان عن الضّمير المجرور في قوله (عَنْكُمُ) والألف واللام في البيت للعهد اي بيت النبوّة والرّسالة (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) من جميع المآثم. واستعارة الرجس عن الذنب والتطهير عن الترشيح أي التأهّل والتربية لتنفير الفطين وعدم تناسبهما لهم صلوات الله عليهم وقد أجمع المفسّرون على نزولها في أهل العباء ، وبه روايات مستفيضة عن الطّرفين مصرّحة بأن أهل البيت هم محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين سلام الله وصلواته عليهم أجمعين. وعن الباقر عليه‌السلام : نزلت هذه الآية في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وفي العياشي عنه عليه‌السلام في قوله تعالى ويطهّركم تطهيرا : من ميلاد الجاهلية.

٣٤ ـ (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ ...) قيل معناه : اشكرن الله تعالى

٤٣٦

إذ صيّركن بتوفيقه لكنّ في بيوت يتلى فيها الوحي والسنّة ، أي الآيات التي يوحى بها إلى النبيّ والحكمة أي أقوال النبيّ الأكرم وهي محض الحكمة. وقيل المراد من الموصول هو القرآن الجامع بين الأمرين. وقيل معنى الشريفة : احفظن ما يتلى عليكن من القرآن لتعمّلن به ، وهذا حثّ لهنّ على حفظ القرآن والسنّة ومذاكرتهنّ بهما. أو المراد هو الأمر بمذاكرة كتاب الله الذي يقرأ عليهنّ حتى يبقى في حفظهن ولا يضيّع ويعملن به حين احتياجهنّ ، وهذا هو الظاهر منها (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً) في تدبير خلقه (خَبِيراً) بمصالحهم.

٣٥ ـ (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ... وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ...) أي الدّائمين على الطّاعة (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) في أقوالهم وأفعالهم (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) على البلايا والقيام بالطّاعات (الْخاشِعِينَ) المتواضعين (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) بما فرض عليهم أو الأعمّ (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) عن الحرام (لَهُمْ مَغْفِرَةً) لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) على طاعتهم. وعن النبيّ (ص): المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه والمؤمن من أمن جاره بوائقه (أي غوائله وشروره ، والبائقة الدّاهية) وما آمن بي من بات شبعان وجاره طاو (من الطوى بمعنى الجوع).

* * *

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا

٤٣٧

قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

٣٦ ـ (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ...) نزلت في زينب بنت جحش الأسدية وكانت بنت أميمة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله فخطبها رسول الله على مولاه زيد بن حارثة ورأت أنّه يخطبها لنفسه فلما عرف أنه يخطبها على زيد أبت وأنكرت وقالت أنا ابنة عمّتك فلم أكن لأفعل ، وكذلك قال أخوها عبد الله بن جحش فنزلت الآية المباركة لتأديب الناس وبيان عظم شأن رسوله (ص) حيث قرنه الله سبحانه بذاته العليّة في كتابه في أنّ الناس مسلوبي الاختيار في مقام أمره ونهيه ورضاه بشيء يريده ، كما أنه كذلك الأمر بالنسبة إليه تعالى. ومعنى الشريفة أنه ما صحّ لرجل مؤمن كعبد الله بن جحش ولا لامرأة مؤمنة كزينب بنت جحش (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ) اي أوجب الله ورسوله (أَمْراً) أي ألزماه وحكما به (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي الخيرة عندهم والاختيار مسلوبان وغير مقبولين. والحاصل أنه يجب على المكلّفين أن يجعلوا اختيارهم تابعا لاختيارهما. ومعنى الخيرة ما يتخيّر فيه (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَ

٤٣٨

ضَلالاً مُبِيناً) وبعد نزول هذه الآية قالت زينب يا رسول الله جعلت أمري واختياري بيدك فزوّجها إيّاه. وفي الآية المباركة (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) إلى آخرها ردّ على من جعل الإمامة بالاختيار.

٣٧ ـ (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ...) أي أنعم الله عليه بالهداية إلى الإيمان (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق وهو زيد بن حارثة الذي كان من سبي الجاهليّة فاشتراه النبيّ (ص) قبل مبعثه وأعتقه وتبنّاه (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) أي زينت بنت جحش (وَاتَّقِ اللهَ) في أمرها ومفارقتها ومضارّتها فلا تطلّقها (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) عطف على تقوّل : يعني اذكر يا محمّد الّذي كنت تعرفه وتخفيه في نفسك والله تعالى مظهره وهو نكاحك لها بعد طلاقها ، أو ما أعلمك الله من أنّه سيطلّقها وتتزوّجها وأنها من أزواج (وَتَخْشَى النَّاسَ) أن يعيّروك بالتزوّج من مطلّقة رجل كنت تتبنّاه (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) والعتاب على الإخفاء مخافة الناس وإظهار ما يخالف ضميره في الظّاهر إذا كان الأولى أن يصمت أو أن يقول لزيد أنت وشأنك الاختيار بيدك حينما قال له زيد أريد أن أطلّقها لا أن يأمره بالإمساك عن طلاقها. ثم أكّده بقوله (وَاتَّقِ اللهَ) أي لا تحذر غيره سبحانه ولا تهتم بما دونه (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) أي حاجته منها. ولعل المراد من ووطره هو إطفاء نائرة شهوته التي يبتلي الشباب بها وهو أهمّ وطرهم. فلمّا طابت منها نفسه وسكنت وأريح بها منها طلّقها لأنّه كان نفسيّا غير مرتاح حيث إنه يخجل منها لأنه لم يكن كفؤا لها حسبا ونسبا فإنها كانت ابنة كريمة عبد المطّلب سيد قريش وشيخ البطحاء ورئيس سدنة لبيت الحرام وأمّها مضافا إلى ما قلناه كانت عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي بنفسها كانت عقيلة جليلة جميلة مكرّمة معظّمة بحيث بشّر الله سبحانه بتزويجها لرسول الله في ملكوت سماواته ، ولو لم تكن لها منقبة إلّا هذه البشارة وهذه المنقبة العظيمة لكفتها فكيف إذا اجتمعت فيها المفاخر كلّها فأين التراب ورب الأرباب؟ نعم

٤٣٩

كان زيد بن حارثة مؤمنا تقيّا زكيّا حبيبا لرسول الله بحيث تبنّاه وصار معروفا بابن محمد. ومحبة رسول الله هذه تكشف عن سموّ مقامه وعلوّ شأنه وهو يغبطه على مقامه هذا ولرتبته السّامية عند الله ورسوله كثير من الأصحاب المقربين .. وفي الظاهر قد أقدم على هذا التزويج نبيّ الرحمة لمصالح عديدة أشير إليها في الشريفة بقوله تعالى : (زَوَّجْناكَها) وقرئ زوّجتكها. قال الصّادق عليه‌السلام : ما قرأها أبي إلّا كذلك ، إلى أن قال : وما قرأ علي عليه‌السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا كذلك. وفي الجوامع أنّها قراءة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين. والحاصل أنّه تعالى أضاف تزويجها إلى ذاته المقدّسة تشريفا وتبجيلا لرسوله. وروي أنّ زينب كانت تفتخر على جميع نساء النبيّ بذلك بعد نزول تلك الكريمة وكانت تقول للنبيّ (ص) : إنّي لأدلّ عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدلّ بهنّ جدّي وجدّك واحد ، وزوّجنيك الله ، والسّفير جبرائيل. وفي الدّعاء مدلّا عليك فيما قصدت فيه إليك ، وهو من أدلّت المرأة وتدلّلت وهو جرأتها في تغنّج كأنّها مخالفة وليس بها خلاف ، والاسم الدّلال ، يقال تدلّل على غيره لم يخف منه بل يعدّ نفسه عزيزا عنده. وليعلم أنّ زيدا حينما طلّق زوجه لم يكن في قلبه كره لطلاقها بمعنى أن الطّلاق لم يقع بغير رضاه وعن عدم رغبة منه فيه ، بل عن طيب نفسه ولم يكن في قلبه أيّ ميل إليها ولا وحشة لفراقها. قال الله تعالى (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) فإنّ معنى القضاء هو الفراغ عن الشّيء على التمام والكمال بلا احتياج إليه بعد ذلك (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) أي في نكاح أزواج الأدعياء أي من يدعونهم أبناء (إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) إذا طلّقوهن باختيارهم بعد قضاء حاجتهم منهنّ ، فهذا التبرير علّة للتزويج (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي قضاؤه وقدره لا بدّ وأن يقع في الخارج وكان مكوّنا. وهذه هي العلّة في تزويج زيد وطلاقه بلا جهة موجبة له ، ونكاح الرّسول إيّاها بعد ذلك لمصالح مستورة مخفيّة علينا منها ما ذكر في الكريمة أي رفع البأس عن تزويج أزواج الأدعياء كما كان

٤٤٠