الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

طريق أعرف فأنزل الله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ) ، الآية يعني تلك الأمور الخمسة المسئول عنها علمها عندي واستأثرت به ولم أطلع عليه أحدا من خلقي. فالمقصود بهذه الكريمة نفي علم هذه الأمور الخمسة عمّن سواه. ويمكن أن يقال أن التحقيق في تعقّب الشريفة لما سبقها أنه لما قال سبحانه : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) وذكر سبحانه أنه كائن بقوله : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فكأنه قال قائل : متى يكون هذا اليوم كما أشرنا ، فأجاب الله بأن هذا العلم ممّا لا يحصل لغير الله تعالى ولكن هو كائن.

٣٤ ـ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ...) تقديم الظرف للحصر ، فإنّه متعلّق بالعلم ، أي هو يعلم وقت قيامها ولا يدري غيره (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في زمانه المقدّر له والمحل المعيّن له (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) من ذكر أو أنثى ، قبيح أو جميل ، سخيّ أو بخيل وغير ذلك من مقدّرات الحمل (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) أي قضى عليها بأن لا تعرف ما تكسب غدا من خير أو شرّ ولذا ربّما تعزم على شيء فتفعل خلافه (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) وتذكير (أيّ) لأنه أريد بالأرض المكان ويجوز أن يقال بأيّة أرض.

وروى القميّ عن الصّادق عليه‌السلام هذه الخمسة أشياء التي لم يطّلع عليها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، وهي من صفات الله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) فإنّه تعالى أكّد أن العلم بها مختص به بابتداء هذه الجملة واختتامه (خَبِيرٌ) عارف بكنه ذات الأشياء وبواطنها.

٤٠١
٤٠٢

سورة السجدة

مكيّة إلّا من الآية ١٨ إلى ٢٠ فمدنية وآياتها ٣٠ نزلت بعد المؤمنون.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣))

١ ـ (الم ...) قد مرّ ما في الحروف المقطّعة من تراجمها المسطورة.

٢ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ ...) أي هذا تنزيل الكتاب ، فتنزيل مرفوع محلّا خبر لمبتدأ محذوف ، ومعناه : هذه السّورة أو هذه الآيات كتاب منزّل. فتنزيل الكتاب من باب إضافة الصّفة إلى موصوفه (لا رَيْبَ فِيهِ) صفة للكتاب بعد صفة (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي كائن من عند رب العالمين أو متعلق بالتنزيل. وعلى الأوّل أيضا صفة. وعدم الريب فيه للمهتدين ، وإن كان قد ارتاب فيه المبطلون. والرّيب أقبح الشك والشكّ أعمّ منه موردا ، أو الرّيب هو الشك فيما ليس من شأنه أن يشكّ فيه لكثرة ظهوره ، كالشكّ

٤٠٣

في وجود الصانع تعالى أو توحيده ونحوهما أو لغيرها من الجهات وقيل بالأعمّ من هذا المورد.

٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي هل يقول أهل مكّة أن محمدا (ص) جاء بهذا القرآن من عند نفسه ويكذّبونه في قوله أنه من الله؟ والحاصل أنهم ينكرون كون الكتاب حقّا ومن عند رب العالمين ، فلهذا قال الله سبحانه تقريرا لحقيّته (بَلْ هُوَ الْحَقُ) يعني لم يكن الأمر كما يقولون بأن القرآن افتراء بل هو حقّ كما أنّ قول نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله صدق وصحيح ، وإن القرآن منزّل من عند الله على رسولنا محمد (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي في عصر الفترة وهو ما بين عصر عيسى عليه‌السلام وخاتم الأنبياء (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الترجّي منه تعالى بمعنى الثبوت ، أي حتّى يهتدوا أو ليهتدوا بتلك الأدلة الواضحة لو لم يسلكوا طريق الجحود والعناد. ثم إنّه تعالى أخذ في بيان صفات الكمال وذكر قدرته التامّة ليتنبه العباد ويميلوا من الضّلالة إلى سبيل الرشاد والهداية بقوله :

* * *

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦)

٤٠٤

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩))

٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أوجدهما وأنشأهما (وَما بَيْنَهُما) من الحيوانات والنّباتات والجمادات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) في مقدار من الزمان يصير إذا حدّد وعيّن ستّة أيام من أيام الدنيا. فإنه قبل خلقهما لم يكن شمس ولا قمر حتى يعيّن يوم وليلة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استقرّ واستولى عليه وهو أعظم المخلوقات ، أو المراد عالم الأمر والتّدبير وقد مرّ تفسيره في سورة الأعراف فلا بدّ للعباد أن يعبدوه ولا ينحرفوا عن طريقه تعالى ، فإنّه ليس في الدنيا ولا في العقبى ناصر ولا معين إلّا هو (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) حتى ينصركم ويشفع لكم (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) بمواعظ الله ونصائحه؟ والاستفهام للإنكار أي أنكم لا تتذكّرون ولا تتعظون ، وهذا يوجب التعجّب.

٥ إلى ٨ ـ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ...) أي يسبّب أمر الدنيا مدّة أيامها فينزله (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ) أي يرجع الأمر كلّه (إِلَيْهِ) من بعد وجودها إلى ما بعد فنائها (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) في الدّنيا (ذلِكَ) أي الذي يدبّر الأمر على النهج المذكور (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعلم ما غاب عن الخلق وما يشاهد ويحضر ، فيدبّر أمرهما على وفق الحكمة (الْعَزِيزُ) الغالب على أمره أو المنيع في ملكه (الرَّحِيمُ) بعباده في تدبير أمرهم معاشا ومعادا (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي أتقن وأحكم خلق كل شيء بحيث أعطاه ووفّر له ما يليق به طبق الحكمة والمصلحة ، وهذا هو معنى أحسن الخالقين

٤٠٥

الذي وصف الله تعالى نفسه المقدّسة به بقوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) فالقمّيّ قال : هو آدم وقد مرّ تفسيره وأظنّه في سورة البقرة (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ) أي ذرّيته من خلاصة وصفوة الطعام والشراب (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ماء ضعيف وهي النطفة التي هي في غاية الحقارة والمهانة ، وسمّيت سلالة لأنّها انسلّت من الصّلب أي انفصلت وخرجت منه. وقوله من ماء مهين عطف بيان على سلالة.

٩ ـ (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ ...) أي قوّاه وأتمّ تصويره بأن جعله بشرا تامّ الخلقة غير أنّه ما كان فيه روح (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) والروح هو العنصر البسيط واللطيف القدسيّ الصادر عن عالم الرّبوبيّة والإضافة إليه تعالى تشريفيّة كإضافة البيت إليه وإظهارا بأنه خلق عجيب وأنّ له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبيّة ولعله من أجل ذلك قيل : من عرف نفسه فقد عرف ربّه. والنّصارى يقولون إنّ عيسى روح الله فهو ابن الله ولكنّهم ما عرفوا بأن كلّ أحد روحه روح الله بقوله : ونفخ. فبهذا الاعتبار لا بد وأن يكون كل أحد روح الله وابنه فالاختصاص لماذا؟ وقد قالوا بما قالوا باعتبار روحه وجميع أعضائه روح الله فهذا افتراء وقول بالباطل ولا يصدر إلّا عن الجاهل (جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) عدل إلى الخطاب تنبيها على جسامة نعم الجوارح ، يعني جعل هذه الجوارح أو القوى المودعة فيها لرفع حوائجكم ولتسمعوا مواعظ الله في كتبه المنزلة ومواعظ أنبيائه ورسله لتتّعظوا بها ولتبصروا آياته الآفاقية والأنفسيّة ولتستبصروا بها وتؤمنوا بالله ورسوله عن بصيرة لا عن تقليد (وَالْأَفْئِدَةَ) لتعقلوا وتتدبّروا المسموعات والمبصرات والمعقولات. وتقديم السّمع في الذكر لتقدّمه المعنوي ، فإن فاقد السّمع فاقد لجميع الحظوظ المعنويّة بل ولكثير من الأمور الظّاهريّة المحتاجة إلى التعريف والتعليم بخلاف فاقد البصر فإنّه قابل لأن يعرف ويعلم المعنويات ، فكيف بالأمور الظاهرية نعم تعريفه لبعض الأمور الظاهرة كالألوان والمحاسن والجمال ونحوها مشكل أو ممتنع على ما قيل ، ولا سيّما في الأعمى المتولّد من أمّه أعمى. هذا بالنسبة إلى تقدّمه على الإبصار ، وأما وجه

٤٠٦

تقدمه على الافئدة فيمكن ان يكون لأنّ احتياج القلب إليه كثير حيث إن القلب له جهة سلطان على جميع الجوارح والقوى على ما في الرّوايات ، فهو الآمر لها والمستخدم لها في آن واحد ، فهي بتحريكه متحرّكة وبأمره مؤتمرة. وحيث بيّنا أن السّمع فائدته كثيرة فاحتياجه إليها قهرا كثير وأشدّ من باقي القوى. فالمحوج إليه من هذه الحيثيّة مقدّم على المحوج. فيحتمل أن يكون تقدّمه لفظا وذكرا من هذه الجهة ويمكن أن يقال في وجه التقديم أنه بلحاظ أن طريق ادراك القلب هو القوى الظاهرية غالبا وفي رأسها السّمع والبصر فهما السّبب لإدراكه الأشياء والسبب مقدّم رتبة ، ففي مرحلة اللفظ قدّما تبعا ووفقا لمقام الرتبة والله أعلم. وأما معنى فالقلب مقدّم على جميع القوى الظاهريّة والباطنية وعلى الجوارح كلّها ، فإنّ مقامه في بدن الإنسان الذي هو عالم صغير مقام السلطان في العالم الكبير ، فكما أن العالم الكبير يختلّ نظامه بفقد السلطان وكذلك يختلّ نظام بدن الإنسان بفقد الفؤاد ، كفقد السلطان بموته أو عزله. لكنّ فقد القلب بتغطيته بناء على ما في الحديث من وقوع نقطة سوداء في القلب إذا عصى صاحبه ، وكلّما ازداد العبد إثما تزيد النقطة وتكبر إلى أن تعمّ القلب بتمامه وتغطّيه فيصير أسود مظلما فتختل القوى طرا عن وظائفها المقرّرة وعمليّتها الطبيعيّة. وقد قال تعالى مشيرا إلى هذا : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) فينزل أشرف الموجودات من ذروة مقامه السّامي ، أي الانسانيّة ، إلى حضيض مرتبة البهيميّة بل إلى الأخس منها. وأما وجه جمع الأبصار والأفئدة فلعله للإشارة إلى كثرة أفراد نوعهما ، فإن مبصرات الإنسان أكثر بمراتب من مسموعاته لأنّه نوعا عيناه مفتوحتان غير وقت نومه وهو يبصر ما يبصره وفي كثير من تلك الأوقات لا يسمع شيئا ولا سيّما في أوقات وحدته والحاصل أن المدّعى أمر وجداني لا يحتاج إلى برهان غير الرجوع إلى الوجدان. وأما القلب فوظيفته الإدراك على ما برهن في محلّه ، وكلّما يسمعه الإنسان أو يبصره فالقلب يدركه طبق عمله ولا عكس ، لأنه

٤٠٧

كثيرا ما يدرك من الأمور المعنوية ما لا يكون من مقولة المحسوسات ، فيمكن أن يكون وجه جمعه رمزا وتنبيها على هذا ، أي كونه أكثر أفرادا من السّمع ، وهو جلّ وعلا أعلم بما قال ونسأله الإلهام بأسرار كتابه (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (ما) زائدة ، و (قليلا) صفة للمفعول ، أي : تشكرون شكرا قليلا. وفائدة زيادة (ما) هو التأكيد ، كما أن تقديم (قليلا) للتأكيد في قلة الشكر.

* * *

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

١٠ و ١١ ـ (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ...) أي غبنا فيها بالدّفن ، فإن كلّ شيء غلب عليه غيره حتّى يغيب فيه فقد ضلّ فيه ، أو بأن صرنا ترابا مخلوطا بترابها بحيث لا نتميّز عنه (إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يجدّد

٤٠٨

خلقنا ونبعث. والاستفهام إنكاريّ ، أي لا يكون ذلك أبدا (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) في كتاب التّوحيد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يعني البعث ، فسمّاه الله عزوجل لقاءه وهذا من باب تسمية الشيء باسم لازمه. وقوله (بَلْ هُمْ) الآية إضراب عن قولهم بإنكار البعث إلى ما هو أبلغ في كفرهم من الجحود والإلحاد والإنكار بكلّ ما يكون مما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من البعث والثواب والعقاب والصراط والميزان والحساب وغيرها من أحوال يوم القيامة وأهوال القبر وملك الموت ، ولذا خاطبهم الله سبحانه بقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) أي يقبض أرواحكم ويستوفي نفوسكم بحيث لا يبقي منها شيئا ولا يترك منكم أحدا (الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي فوّض إليه قبض أرواحكم وإحصاء آجالكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) للحساب والجزاء. وإسناد رجوع العباد إلى نفسه المقدّسة للتّعظيم والتفخيم.

١٢ ـ (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ ...) أي مطأطئي رؤوسهم من الذّل خجلا وندامة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في موقف القيامة عند عرض الأعمال ، وهو تعالى يتولّى حساب العباد بعضا منهم أو جميعا بنفسه أو بالتسبيب في محضره وهو مشرف على المحاسبين. ولعلّه يشير إلى هذا (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ)(رَبَّنا أَبْصَرْنا) أي قائلين ربّنا أبصرنا ما وعدتنا (وَسَمِعْنا) منك تصديق رسلك (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) إذ لم يبق لنا بعد هذا اليوم شكّ وشبهة بما شاهدناه.

١٣ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ...) أي ما يهتدى به إلى الإيمان والعمل الصالح بالقسر والإلجاء أو بالتوفيق ، ولكنّه لما كان مقتضى التكليف خلاف ذلك لأن المكلّف لا بدّ من أن يختار الإيمان باختياره ولا يسلك طريق الكفر التي هي غاية أمنيّة هوى نفسه فيستحق بذلك العذاب الشديد كما أشار بقوله عزوجل (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي ثبت قضائي

٤٠٩

وحقّق وسبق وعيدي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بسوء اختيارهم نسيان العاقبة وترك التفكّر فيها كما يشير إليه بقوله سبحانه :

١٤ ـ (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ ...) يعني نتيجة ترك التذكّر والتدبّر ونسيان لقاء هذا اليوم هو أن تذوقوا العذاب الأليم ، وقوله (لَأَمْلَأَنَ) جواب للقسم الذي استفيد من قوله تعالى (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) فإنّ القول من الله بمنزلة القسم منه تعالى (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي جازيناكم بنسيانكم أو تركناكم من رحمتنا (عَذابَ الْخُلْدِ) أي الدائم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي.

* * *

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))

١٥ ـ (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا ... خَرُّوا سُجَّداً ...) أي كبّوا ووقعوا على وجوههم خضوعا وخشية لله تعالى (وَسَبَّحُوا) أي نزّهوا ربّهم عمّا لا يليق به (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي متلبّسين به (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته.

١٦ ـ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ...) أي تتنحّى وتتباعد جنوبهم عن مضاجعهم وفرش نومهم واستراحتهم للتهجّد (خَوْفاً) من عذابه

٤١٠

(وَطَمَعاً) في رحمته (يُنْفِقُونَ) في طريق الخير. ووجه المدح في هذه الآية أن هؤلاء المؤمنين منقطعون لاشتغالهم بالصّلاة والدّعاء عن طيب المضجع وسائر اللذائذ الدّنيوية لتوجّههم إليه تعالى بكامل وجودهم ، فآمالهم مصروفة إليه واتّكالهم في كلّ الأمور عليه. ثم ذكر سبحانه جزاءهم بقوله :

١٧ ـ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ ...) أي لا يعلم أحد لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ما أعدّ الله لهم ، وللمتهجّدين والمنفقين في سبيل الخير (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) بيان لما أخفي. أي ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من صلاة ليلهم وإنفاق أموالهم. وقيل في وجه إخفاء الجزاء على عملهم أنّ الشيء كلّما كان عظيم القدر وجليل الخطر فالوصول إلى كنه ذاته أصعب إلّا بشرح طويل ، فإبهامه أبلغ. وثانيا أن ما تقرّبه العين غير متناه ، فإحاطة العلم بتفاصيله غير ممكن للبشر.

* * *

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها

٤١١

 إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

١٨ ـ (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ...) هذا استفهام يراد به التقدير ، أي لا يكون من هو مصدّق بالله على الحقيقة عارفا به وأنبيائه وعاملا بما أوجبه الله عليه وندبه إليه ، مثل من هو فاسق خارج عن طاعة الله ، مرتكب لمعاصي الله. ثم قال (لا يَسْتَوُونَ) لأنّ منزلة المؤمن هي درجات الجنان ومنزلة الفاسق دركات النيران ، ثم فسّر ذلك بقوله تعالى :

١٩ ـ (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً ...) أي جنات يأوون إليها. وقيل هي نوع خاص من الجنان. والنّزل ما يهيّأ للنازل أي الضيف من طعام وشراب وصلة ، تشريفا يعني أنّهم في حكم الأضياف (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جزاء لأعمالهم الصّالحة.

٢٠ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا ...) في هذا دلالة على أنّ المراد بالفاسق في صدر الكريمة هو الكافر ، فإن الفاسقين (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) وإنهم (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) والإعادة عبارة عن خلودهم فيها ، والخلود للكافرين المكذبين (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا) إهانة لهم وزيادة في غيظهم. والقميّ قال : إن جهنّم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاما ، فإذا بلغوا أسفلها زفرت بهم جهنم فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد فهذه حالهم.

٢١ ـ (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى ...) أي من مصائب القتل والأسر والقحط ، وروي أنه يكون في الرجعة والحاصل أن المراد من العذاب الأدنى هو الذي يصل إليهم في الدنيا الدنيّة ممّا ذكر (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أي قبل عذاب الآخرة وعن أبي جعفر عليه‌السلام : إن العذاب الأكبر هو خروج المهدي من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعجّل الله تعالى فرجه فإنّه الذي يستأصل الكفرة من آخرهم ويصب عليهم العذاب صبّا (لَعَلَّهُمْ

٤١٢

يَرْجِعُونَ) أي لعل من بقي منهم يتوبون. وقيل : فاخر الوليد بن عقبة عليّا عليه‌السلام يوم بدر فقال عليّ عليه‌السلام : اسكت إنّما أنت فاسق ، فأنزل الله تعالى تلك الآيات.

٢٢ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ ... إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ...) أي من كلّ آثم ومجرم. فكيف ممّن كان أظلم من كلّ ظالم؟ ثم إن قريش لمّا كذّبوا النبيّ الأكرم مع تلك الآيات الواضحة والبراهين الساطعة فقد اغتمّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك غمّا شديدا ؛ فالله تعالى تسلية للنبيّ ووعيدا لقومه نبّههم على قصّة موسى عليه‌السلام وتكذيب قومه ونسبة السّحر إليه فقال سبحانه :

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥))

٢٣ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ ...) أي لا تشكّ بلقاء موسى ربّه يوم القيامة أو من لقائك الكتاب أي القرآن ، أو الضمير راجع ابتداء إلى القرآن نحو (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أو راجع إلى موسى أي من لقائك موسى في الحياة الدنيا أي ليلة الأسراء (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي التوراة أو المراد نفس موسى كما أن ابن عبّاس صرّح برجوع الضمير إلى موسى في (لِقائِهِ) فكذلك هنا.

٤١٣

٢٤ ـ (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ...) أي أنه قد اهتدى من قوم موسى جماعة وفّقناهم لأن يكونوا قادة للدّعوة وحملة لها ، وقد كانوا (يَهْدُونَ) غيرهم من الناس إلى الإيمان (بِأَمْرِنا) توفيقنا وإرادتنا (لَمَّا صَبَرُوا) على ما كانوا يلقونه من الأذى (وَ) هؤلاء الأئمة (كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) لأنهم أمعنوا النظر بها فصدّقوها وآمنوا بها إيمانا راسخا.

٢٥ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) أي يميّز بين المحقّ والمبطل ويقضي بينهم فيعطي حكما فصلا يوم القيامة (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمور الدين.

* * *

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

٢٦ ـ (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ...) أي ألم يظهر لقريش ولم يتبيّن لهم (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) كثرة من أهلكناهم (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) يعني أهل مكة يمرّون في متاجرهم على ديارهم فهلّا يعتبرون؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) أي في ذلك الإهلاك عبرة لمن سمع سماع تدبّر واتّعاظ.

٤١٤

٢٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا) .. (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ ...) أي الأرض الخالية من النبات. والجرز التي جرز نباتها أي قطع وأزيل لعدم مجيء المطر فصارت يابسة. وقيل هي الأرض الخربة (زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) كالتّبن والأوراق والحشائش (وَأَنْفُسُهُمْ) كالحبوب والأثمار (أَفَلا يُبْصِرُونَ) تلك الأمور المحسوسة الواضحة فيستدلون بها على كمال قدرة خالقها.

٢٨ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى ... إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ...) أي في الوعد به وبإتيانه. فمتى يكون الفتح الذي تعدّون الناس به؟

٢٩ ـ (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ ...) أي يوم القيامة لا ينفعهم إيمانهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ولا يمهلون حتى يؤمنوا فقد سوّفوا وخسروا خسرانا مبينا.

٣٠ ـ (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ...) أي تكرّما (وَانْتَظِرْ) الغلبة عليهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الغلبة عليك. وقيل إن المراد بيوم الفتح هو زمان رجعة إمام العصر عجّل الله تعالى فرجه إلى آخر الآيات في ذلك الموضوع.

* * *

٤١٥
٤١٦

سورة الأحزاب

مدنية وآياتها ٧٢ نزلت بعد آل عمران.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣))

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ...) لعلّ أمره صلوات الله عليه بالتقوى أمرا بالمداومة ، وإلّا فهو صلوات الله عليه كان متّقيا. وهذا كما يقال للجالس اجلس إلى أن أجيئك ، وللسّاكت اسكت إلى كذا من الزمان ، وليس هذا من تحصيل الحاصل كما يتوهّم أو توهّم. توضيح ذلك أنّ النبيّ في كلّ آن من آناء عمره الشريف كان يزداد علمه ويرفع مقامه فكان له في كل لحظة تقوى متجددة. فقوله (اتَّقِ اللهَ) على هذا البيان ليس أمرا بما ليس فيه ، وإلى هذا أشار (ص) من استوى يوماه فهو مغبون ، وقوله ربّ زدني علما. ولعل هذه تكشف عن نكتة استغفاره في كل يوم

٤١٧

سبعين مرة ليتجدّد له (ص) مقام أسمى ممّا كان فيه. والحاصل أن النبي (ص) ما دام في الدّنيا لم يأمن من احتجابه وتوقّف رفعة مقامه ، كيف لا والأمور الدّنيوية شاغلة والآدميّ في الدنيا تارة مع الله وأخرى يقبل على ما لا بدّ منه وإن كان الله معه ، وإلى هذا أشار بقوله (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) والفرق أنه يوحى إلي يعني يرفع الحجاب عنّي وقت الوحي وأرى ما أنتم محجوبون عنه ثم أعود إليكم كأنّي منكم ، واحتاج إلى ما أنتم تحتاجون إليه. فالأمر بالتّقوى يوجب استدامة الحضور والإدمان على التّقوى لمزيد الرتبة (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السّلمي ، فإنّهم بعد واقعة أحد طلبوا من النبيّ (ص) الأمان وجاؤوا من مكة إلى المدينة ليتكلّموا وليتفاهموا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزلوا على رأس أهل الشقاق والنفاق عبد الله بن أبيّ وعبد الله ابن أبي سلّول فقام هؤلاء الثلاثة مع رؤساء كفرة قريش. والمراد بالشريفة (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) هؤلاء الثلاثة الذين قام معهم عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن سعد بن أبي سرج وطعمة بن أبيرق ، فهم الذين عبّر عنهم في الآية بالمنافقين ، فدخلوا على رسول الله فقالوا يا محمد ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومناة وقل إن لها شفاعة لمن عبدها ، وندعك وربّك. فشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر بإخراجهم من المدينة فنزلت الكريمة : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالمصالح والمفاسد (حَكِيماً) يحكم بما تقتضيه الحكمة ، والنّداء نداء تعظيم وتبجيل.

٢ ـ (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ...) أي القرآن ـ و (خَبِيراً) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بها إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.

٣ ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ...) أي قائما بتدبير أمورك حافظا لك ودافعا عنك.

* * *

٤١٨

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦))

٤ ـ (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ...) أي ما خلق أحدا وفي جوفه قلبان. وهذا ردّ لما زعمت العرب من أنّ اللبيب الأريب الحفيظ له قلبان. وكان أبو معمّر الفهري لبيبا حفّاظا يدّعي أنّ له قلبين يعقل ويشعر بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد (ص) وكانت قريش تسمّيه ذا القلبين إلى آخر قصّته. ويوم بدر هو الذي أفهمهم بأن له قلبا واحدا فهو تعالى ردّ عليه وعلى أمثاله وكذّبهم بالصّراحة. وهذا يفيد التزاما معنى آخر بأنّه لا ينتظم أمر الرجل الواحد ومعه قلبان ، فكيف ينتظم أمر هذا العالم الكبير وله آلهان معبودان مستقلّان؟ لا ، والله لا يمكن هذا ، تعالى الله عمّا يشركون علوّا كبيرا. مضافا إلى أن القلبين إن اتّحدا في الفعل فأحدهما

٤١٩

فضلة لا حاجة إليه ، وأن اختلفا فيه اتّصف الشخص بالضدّين في زمان واحد ، ويكون مؤمنا وكافرا مثلا (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) والظّهار قول الرجل لامرأته : (أنت عليّ كظهر أمّي) وكانت العرب في الجاهليّة تطلّق نساءها هكذا ، فجاء الإسلام ونهى عنه وأوجب الكفّارة على المظاهر (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) جمع دعيّ على الشذوذ لأن أفعلاء يجمع عليه الفاعل كالتقيّ والشقيّ لا المفعول كالدعيّ أي المدعو ابنا مجازا ، لكنه لتشبّهه بالفعيل بمعنى الفاعل جمع على أفعلاء. وقد نزلت الكريمة في زيد بن حارثة الكلبيّ إذ كانوا يسمّونه ابن محمد ، وذلك لما أسر واشتراه النبيّ (ص) وأعتقه فجاءه أبوه حارثة ليأخذه فأبى زيد أن يفارق النبيّ فقال أبوه اشهدوا يا معشر قريش أنه ليس بابني. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اشهدوا أنّه ابني. فكان من ذلك اليوم يدعى زيد بن محمد. والحاصل أن نفي القلبين وأمومة المظاهرة تمهيد لذلك ، أي كما لم يجعل قلبين في جوف واحد ولا الزّوجة أمّا ، لم يجعل الدعيّ ابنا لمن تبنّاه ، والغرض رفع قالة الناس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله حين تزوّج زينب بنت جحش بعد أن طلّقها زيد بن حارثة حين قالوا : إنه تزوج امرأة ابنه (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي هذه النسبة في قولكم (إنّ الدّعيّ ابن) قول أفواهيّ ليس له حقيقة ، لأن الابن الحقيقيّ من ولّدتموه ووجد من نطفكم لا من دعي أنّه ابن فلان (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) اي كل ما يقوله تعالى فهو الحق ولا بدّ من أن يتّبع (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي يرشد إلى طريق الحق.

٥ ـ (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ...) أي انسبوهم لآبائهم الذين ولّدوهم (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) فهو أعدل وأصدق عنده ، وإن لم تعرفوا آباءهم (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم إخوانكم في الإسلام (وَمَوالِيكُمْ) أولياؤكم فيه فقولوا للواحد منهم : يا أخي .. يا مولاي ولا إثم عليكم (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) من نسبة البنوّة إلى المتبنين قبل النهي أو لسبق اللسان

٤٢٠