الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

٢٦ ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي هو المالك لكلّ من فيهما ولنفس السّماوات والأرض (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون له طوعا وكرها في الحياة والممات والبعثة والخلقة وإن عصاه بعضهم في العبادة. وهذه الشريفة لبيان مظهر من مظاهر قدرته الكاملة أيضا.

٢٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ...) أي يخلقهم ابتداء (ثُمَّ يُعِيدُهُ) هم بعد إعدامهم وإفنائهم (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي الإعادة أسهل عليه من الإبداء قياسا ، على أصولكم ، وإلّا فهما سواء عليه تعالى. وهو تأكيد لما قبله (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الوصف الذي لا ينبغي أن يكون لغيره مثله من الوحدانية والألوهية والقدرة الكاملة والحكمة التامة (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كل ما فيهما يصفونه تعالى بذلك الوصف الأعلى نطقا ودلالة (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على كلّ مقدور الذي منه الإبداء والإعادة (الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله التي تصدر منه على طبق الحكمة ومقتضى المصلحة. وفي العيون عن الرّضا عليه‌السلام أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ عليه‌السلام : وأنت المثل الأعلى. وفي الزيارة الجامعة المعروفة : السّلام على أئمة الهدى ، إلى قوله : وورثة الأنبياء والمثل الأعلى.

٢٨ ـ (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) أي منتزعا من أنفسكم التي هي أقرب شيء منكم حتى يثبت أنّه لا يكون لله تعالى شريك. ثم بينّ المثل فقال (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي من مماليككم (مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) أي في الأموال والأرزاق والأسباب (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي هل أنتم وهؤلاء المماليك تتصرّفون فيها على السّويّة وبالمشاركة مع أنهم بشر مثلكم وأن الأموال معارة لكم (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي

٣٦١

هل تخافون من عبيدكم أن يشاركوكم في أموالكم كما تخافون من أحراركم وذوي قرابتكم في المال الذي يكون بينكم بالمشاركة وتخشون أن ينفردوا به؟ والاستفهام في الآية الكريمة من الظاهر والمقدّر للإنكار. قرابتكم في المال الذي يكون بينكم بالمشاركة فإذا لا تخافون من العبيد ولا ترضون بذلك فكيف ترضون بأن تشركوا بالله مماليكه في الألوهيّة؟ وكما أنّكم لا تشركون عبيدكم في أموالكم فلا بدّ من أن لا تشاركوا بالله الخالق القادر شركاء في العبادة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي كما فصّلناه وبيّنا لكم مسألة عدم جواز التشريك ، نفصّل الآيات والأدلة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي نبيّنها لأهل التدبّر والتعقّل ، وأمّا الجهلاء والظّلمة فهم بعداء عمّا قلناه من الآيات والأمثلة بل هم تابعون لأهوائهم وآرائهم السخيفة الباطلة بلا علم وبلا تعقل.

٢٩ ـ (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) بل حرف عطف وإضراب عمّا قبله يجعله في حكم المسكوت عنه. وحاصل الآية الشّريفة أنّه تعالى لعلّ يريد أن يقول : إنّنا نذكر الآيات ونبينّ الأمثلة للقوم المتدبّرين وأهل العلم والعقلاء ، وأمّا الجهلاء وأهل الأهواء الفاسدة فهم بعداء عن تلك الناحية كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جاهلين لا يكفيهم شيء ، فإن العالم إذا اتّبع هواه ردعه علمه (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي من يقدر على هدايته بعد ذلك (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي من ينجيهم من الضّلالة وحيرة الجهالة.

* * *

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

٣٦٢

لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))

٣٠ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ...) أي أقبل بقصدك أو بالعمل الخالص على دين الله الذي هو دين الإسلام بالاهتمام به (حَنِيفاً) أي مسلما ، أو المراد : أقبل بقلبك على ربّك لأجل دينك ، فإن ما يحرّك الإنسان للتوجه إلى ربّه هو دينه حيث إنّ غير المتدين لا شغل له مع الله. والتّعبير عن القلب بالوجه لأن القلب إذا توجّه إلى شيء تتبعه الجوارح وفي مقدّمها الوجه كما أنّه تتبعه القوى الباطنيّة أيضا. فإن القلب في عالم البدن الذي هو عالم صغير ، له السّلطان والسّيطرة ، كما أن في العالم الكبير ملكا له الأمر والملك على جميع أهله ، وإذا توجّه إلى ناحية أو أمر بشيء يطيعونه فكذلك القلب بالنسبة إلى القوى والجوارح. والحاصل أن الوجه يمكن أن يكون كناية عن القلب ، فالله تعالى خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتوجّه إليه بكلّ وجوده لأمر دينه مع جميع أمّته ، أو المراد أمّته. والنكنة في توجّه الخطاب إليه صلوات الله عليه إمّا تعظيمه وتفخيمه ، وإما لأن الأمر له به هو الأمر به للأمة فإنّه المبعوث بكل ما أمر به إليهم ، فالأمر به موجب لأمره للأمّة ... وحنيفا لغة : أي مائلا إليه ثابتا عليه (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) هذا يحتمل أن يكون بيانا للدّين الحنيف ، أي الزموا دين الله ، ودين الله هو الدين الذي شرّعه وأرسل رسوله به وهو دين الإسلام الذي يولد كلّ مولود عليه ويعبّر عنه بدين الفطرة ، لأن كلّ مولود يخلق عليه. وقيل معناه : اتّبع من الدّين ما دلّتك عليه فطرة الله وهي التوحيد. فإنّ الله خلق النّاس عليه حيث أخذ منهم العهد في ظهر آدم من الذّراري في عالم الذّر وسألهم : ألست بربّكم؟ فقالوا : بلى. وهذا البيان

٣٦٣

قريب لما قلناه ، فإن التوحيد إمّا هو نفس الدّين أو من أصول الدين ، فإنّ غير الموحّد ليس بمتديّن (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي لا ينبغي أن تغيّر تلك الفطرة ولا يقدر أحد أن يغيّر (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم المستوي الذي لا عوج فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فهم جهلة وغير متدبّرين ولذا لا يعرفونه حقّ المعرفة ولا يهتمّون بذلك الدّين القويم أيّ اهتمام.

٣١ ـ (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ ...) منيبين حال من ضمير (أقم) باعتبار أن الأمة تدخل في مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إن لم نقل بأنهم المخاطبون كما قلناه. وما نحن فيه من قبيل ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، الآية ... والمعنى : فأقيموا وجوهكم منيبين إليه ، أي راجعين إليه مرة بعد أخرى. ويمكن أن يكون من (ناب) إذا انقطع ، أي منقطعين إليه عن كلّ ما سواه ، ويحتمل أن يكون حالا من ناصب فطرة الله ، أي الزموا واستمرّوا على فطرة الله منيبين إليه (واتّقوه) تجنّبوا من عصيانه ومخالفته في أوامره سبحانه ونواهيه ولا تكونوا من المشركين به في الألوهية والعبادة.

٣٢ ـ (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...) بيان لما قبله من قوله من المشركين. وتفريق دينهم هو اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا مختلفة كلّ منها تشايع إماما أضلّها عن دينه الذي ارتضى له خالقه ومعبوده الفطريّ الحقيقي (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) فأهل كلّ ملّة بما عندهم من الدّين مسرورون راضون به حيث إنّهم يظنّون أنّهم على الحق ، وغيرهم على الباطل.

* * *

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا

٣٦٤

بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦))

٣٣ ـ (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ ...) أي حادثة شديدة وسوء حال (دَعَوْا رَبَّهُمْ) بتضرّع وخشوع (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه منقطعين عن غيره (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) أي أعطاهم من عنده رافعا لذلك الضرّ ومانعا لتلك الشدّة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي حين نجّاهم من الضر فإنّ جماعة منهم أشركوا بربّهم مقابلة لإحسانه بالكفران وجحد النعمة.

٣٤ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ...) اللّام هنا للعاقبة كما في قوله (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي أشركوا فكان عاقبة شركهم كفرهم (بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة الأمن والعافية والصّحة (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي انتفعوا بنعيم الدنيا كيف شئتم وعمّا قريب تظهر وتنكشف عاقبة كفركم. وذيل الشريفة تهديد للمشركين ، والالتفات إلى الخطاب للمبالغة.

٣٥ ـ (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً ...) هذا استفهام مستأنف ومتضمّن للإضراب ، أي : هل أرسلنا إليهم (إلى الكفرة) كتابا أو حجة يتسلّطون به على ما ذهبوا إليه (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي فذلك البرهان كأنه يتكلم بصحّة شركهم ويحتج لهم به. والحاصل أنهم لا يقدرون على تصحيح ذلك ولا يمكنهم إقامة سلطان عليه حتى يكون حجة لهم عند ربّهم على ما ذهبوا إليه من الجحد والشّرك.

٣٦ ـ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً ...) أي نعمة من صحة أو سعة أو

٣٦٥

عافية (فَرِحُوا بِها) بطروا بسببها ولا يشكرونها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدّة ومصيبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بشآمة معاصيهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) أي يفاجئهم اليأس عن رحمته لا يشكرونه على النعمة ولا صبر لهم على المحنة.

* * *

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩))

٣٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ...) أي يوسّع عليه (وَيَقْدِرُ) أي يقتّر عليه ويضيّق فلا بدّ لعباده أن يشكروه على كل حال في السراء والضرّاء لأن أزمة الأمور كلّها بيده ويفعل بالنسبة إلى عباده ما فيه صلاحهم طبق حكمته التامّة وقدرته الكاملة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إذاقتهم الرحمة وإصابتهم بالسيئة أو في بسط الرزق وتقتيره أو في المجموع (لَآياتٍ) دلائل عبرة للمؤمنين فإنّهم أهل الاعتبار.

٣٨ ـ (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ...) أي أعط يا محمد أقرباءك فرضهم من الخمس. وعن الصّادق عليه‌السلام : لمّا نزلت هذه الآية أعطى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة فدكا ، وفي نسخة وسلّمه إليها (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي حقهما من الخمس إن كانا من بني هاشم ، وإلّا فمن الزكاة

٣٦٦

الواجبة. والمسكين هو الذي لا يملك مؤنة سنته لا فعلا ولا بالقوّة أي تدريجا (ذلِكَ خَيْرٌ) أي إيتاء الحقوق للجماعة المذكورة خير من الإمساك (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي يطلبون رضاءه أو وجه التقرب إليه لا غيره من الأعواض والأغراض الأخر كقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى)(أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالنّعم الباقية.

٣٩ ـ (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً ...) أي زيادة محرّمة في المعاملة ، أو عطيّة يتوقع بها مزيد مكافأة ، أو هبة يطلب بها أكثر منها لا أنه تقصد القربة (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) أي : لتنموا أموالهم ، ويزيد في أموالهم أكلة الرّبا (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) لا يزكو عنده بل يمحقه ولا يثيب المكافئ ويذهب عنه البركة (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي مرضاته وقربه لا غيره (فَأُولئِكَ) أي هؤلاء الذين يؤدّون الزكاة المفروضة أو الصّدقة المندوبة لوجه الله (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ذوو المكافأة والمضاعفة من الثواب في الآجل ، والمال في العاجل ، كما يقال : موسر أي : ذو يسار. والحاصل أن هؤلاء هم الذين يضاعفون ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة. والجمع بين تلك الشريفة وأمثالها مما يدل على المضاعفة في الأعمال ، كقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ، التي تدل على عدم الزيادة ، إن هذه من باب العدل ، والإضعاف من قسم التفضّل. ثم إنّه تعالى بعد ذكر الأمر والنّهي في باب إيتاء الأموال وبيان المقبول منها من غيره ، جرّ الكلام إلى جانب دلائل التوحيد والقدرة فقال :

* * *

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ

٣٦٧

(٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

٤٠ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...) أي أوجدكم وأنشأكم بعد ما كنتم معدومين محضا (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) أعطاكم أنواع النعم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم الحشر الجزاء الأعمال (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ ...) الآية فإنّ الله تعالى في هذه الشريفة أثبت لوازم الألوهيّة لنفسه المقدسة ونفى عمّا أشرك به الملاحدة من قريش وكفرة العرب من الأصنام والأوثان وغيرها ، ثم بالغ في إنكاره وأكّد وحدانيّته جلّ وعلا بما يدلّ عليه البرهان يشهد عليه العيان والوجدان فاستنتج تقدّسه وتنزّهه عن إشراك المشركين وإلحاد الملحدين بقوله (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم إنّه سبحانه بيّن ما يترتّب على الشّرك وترك التوحيد من الآثار الفاسدة وأنواع المصائب والوقائع بقوله تعالى :

٤١ ـ (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) أمّا ظهور الفساد في البرّ فبمنع السماء أمطارها فيقع الجدب والقحط والغلاء والآفات في الزّرع وقلّة الثمرات وكثرة الأمراض والأوبئة وموت الفجأة وكثرة الحرق والحروب والهدم ونحوها ، وأمّا في البحر فبكثرة الطوفانات والفيضانات وثوران البحار

٣٦٨

بحيث يترتب على ذلك الخسارات والمضار الكثيرة من غرق السفن ونحوه أو قلة المياه لذلك وهلاك أسماكها وغيرها من ذوات الأرواح وفساد سائر نعمها التي فيها. ويكون ذلك ليذوقوا الشدّة في العاجل وليحشروا في الآجل إلى جهنّم وبئس المصير (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بسوء أفعالهم وأقوالهم.

وفي الكافي والقمّي عن الباقر عليه‌السلام ، قال : ذاك والله حين قالت الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي أنّه تعالى أفسد عليهم أسباب المنافع الدنيوية ليذيقهم فيقاسوا ويكابدوا بعض جزائهم في الدّنيا ويكون تمامه في الآخرة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) علّة لجزائهم العاجلة أي يرجعون عمّا هم عليه. ويحتمل أن تكون اللام للعاقبة.

٤٢ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ...) إن الله تعالى كرّر الأمر بسير الآفاقيّة تأكيدا وتذكيرا للاعتبار ، فإن في ذلك أخبار الأمم السالفة والإنسان يستبصر إذا شاهد كيف صنع بهم وبملوكهم العتاة الظالمين والقرون العاصية ، وكيف أهلكهم الله فصارت قصورهم قبورا ومحافلهم مقابرهم فإذا شوهدت تلك الأمور يتحقق ويعلم مصداق القول المذكور (لِيُذِيقَهُمْ) ، الآية ثم بيّن سبحانه أنّه فعل بهم ما فعل لسوء صنيعهم فقال : (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) فليعلم أن العذاب العاجل لم يختصّ بالمشركين فقط ، بل قد يقع على المعلن بالفسق والمخالفة والعصيان كما كان على أهل السّبت وغيرهم من الموحّدين العاصين ، ولكن الأغلب في عذاب الاستئصال يكون بسبب الشّرك.

٤٣ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ...) أي فانصب قلبك وتوجّه به إلى دينك الذي هو في غاية الاستقامة والعدل الذي ادّخرته لك. فكما أنك خاتم الأنبياء فكذا دينك وهو دين الإسلام خاتم الأديان ، حيث إنّه جامع لكل ما يحتاج إليه البشر إلى يوم يبعثون. والخطاب للنبيّ الأكرم لمحض التشريف وهو لا يختصّ بفرد دون فرد. فيا ليت كنّا متوجهين إلى فضيلة ما

٣٦٩

أمرنا وكلّفنا به فإن هذا الدين الذي أمرنا بالأخذ به والعمل على طبقه هو الذي كلّف به أشرف الأنبياء والمرسلين. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين. لكن أسفا وألف أسف لأنّنا ما قدرناه حق قدره وحفنا عليه ولفظناه وطرحناه وراء ظهورنا فخسرنا خسرانا مبينا (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) مردّ مصدر. والجار في قوله (مِنَ اللهِ) متعلق بيأتي. أي قبل مجيء يوم من عند الله الذي لا يقدر أحد أن يردّه لتحتّم الإتيان به وهو يوم القيامة (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يتصدّعون يعني يتفرّقون إلى الجنّة والنار.

٤٤ و ٤٥ ـ (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ...) أخذ تعالى في بيان فريق النار وفريق الجنّة بقوله (مَنْ كَفَرَ) إلخ يعني فريق النار هو الكفرة الملحدون وهم المعاقبون بكفرهم ، وأهل الجنّة من يعمل صالحا فيهيّئ ويسوّي منازل في الجنّة لنفسه. وفي المجمع عن الصّادق عليه‌السلام قال : إن العمل الصّالح ليسوق صاحبه إلى الجنة فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمه فراشه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) هذا الذيل علّة لما يترتب على الكفر من الوبال والنار المؤبّد ، وعلى العمل الصالح من تمهيد المنازل في الجنّة العالية والمخلّد فيها. وفي الكشاف أن هذا تقرير بعد التقرير على الطّرد والعكس.

* * *

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

٣٧٠

٤٦ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ ...) أي ومن أفعاله الدالة على معرفته وكمال قدرته هو إرسال رياح الرحمة ، فإن الرياح أربعة : الشمال والصّبا ، والجنوب ، وهذه رياح رحمة ، والدّبور وهذا ريح نقمة وعذاب. ومنه قوله عليه‌السلام والصّلاة : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ، أي اجعله نعمة ورحمة ولا تجعله عذابا أي ريح دبور ، بقرينة الجمع والإفراد. والرياح المبشّرة هي رياح الرّحمة ، وحين جريانها وتحرّكها بإذن ربّها كأنها تكون ناطقات بالبشارة بالخير ومطر الرّحمة ومنافع الزرع وإصلاح أحوال سائر الأشياء ، فإن الرياح لو لم تهب لظهرت العفونات فتتولّد الأوبئة والأمراض وغيرها ممّا يتولّد عن فساد الهواء (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي من المنافع التابعة. وهذا عطف على معنى (مُبَشِّراتٍ) أي ليبشركم وليذيقكم من رحمته التي هي الغيث المسبّب عنها ، أو الخصب التابع له ، أو الروح الحاصل بهبوبها. والتعبير بالإذاقة لأن الإذاقة تقال في القليل. ولمّا كان مطلق نعم الدّنيا وراحتها الفانية بالإضافة إلى نعم الآخرة ولذّاتها الباقية نزر قليل عبّر عنها سبحانه بالإذاقة رمزا إلى هذا (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) ولمّا أسند الفعل إلى الفلك عقّبه بأمره ، أي : الجري بأمره سبحانه وبإرادته (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في التجارات البحريّة تبتغون الخير من فضله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم فتوحّدون ربّكم. ثم خاطب نبيّه (ص) تسلية له فقال :

٤٧ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً ...) لم يكن لهم شغل غير ما تعمله أنت (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أتوا قومهم بدلائل على نبوّتهم ومن كذّبهم أصابهم البوار ومن آمن بهم كان لهم الانتصار (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي كفروا بآياتنا وجحدوها (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) بالحجة والبرهان ، أو في الرّجعة. ثم قال سبحانه مفسّرا لما أجمله في الكريمة المتقدّمة :

* * *

٣٧١

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١))

٤٨ و ٤٩ ـ (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً ...) أي من شواهد القدرة أنه يهيّء ويرسل الرياح من معادنها فتهجّ السحاب في الفضاء ويبسطه مسيرة يوم أو أكثر ، ثم يجريها إلى أيّة ناحية من نواحي الأرض شاء بأمره تعالى كما قال سبحانه (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي قطعا متفرّقة كما يشاهد حسّا (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي المطر يخرج من بينه (فَإِذا أَصابَ) ، الآية أي إذا نزل الودق على طائفة من عباد الله يفرحون بذلك ويبشّر بعضهم بعضا بنزوله (وَإِنْ كانُوا) كلمة (إِنْ) مخفّفة عن الثقيلة ، يعني أنّهم قبل نزول المطر كانوا قانطين آيسين من نزوله عليهم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله(مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) وتكرير من قبله للتّأكيد ، وقيل إنّ الأول (مِنْ قَبْلِ) إنزال المطر ، والثاني (مِنْ قَبْلِ) إرسال الرياح.

٥٠ ـ (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ ...) أي أثر الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ، كيف يحيي الأرض بما ذكر (بَعْدَ مَوْتِها) أي قبل

٣٧٢

فقدها المذكورات بفقد الغيث (إِنَّ ذلِكَ) أي في أثر المطر من النبات والخصب (لَمُحْيِ الْمَوْتى) يعني الذي يقدر على إحياء الأرض بعد موتها هو قادر على إحياء البشر بعد إفنائهم بالموت. وإنّما عبّر بقوله (لَمُحْيِ الْمَوْتى) باللام المؤكّدة وباسم الفاعل لأن الإنسان إذا قال إن الملك يعطيك لا يفيد ما يستفاد من قوله إنه لمعطيك ، لأن ما يفيد اسم الفاعل أنه متصف بالعطاء حين ما يقول القائل (معطيك) بخلاف قوله (يعطيك فإن المستفاد منه أنه سيتّصف به لأنه في حال الحاضر مباشر بالفعل أو كأنه مباشر من حيث العلم بتحقّق الفعل فيما يأتي من الزّمان ، كما في قوله إنّك ميّت الذي هو آكد من قوله : إنّك تموت ، والغرض تحقّق وقوع الإحياء بعد الإماتة بلا ريب.

٥١ ـ (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً ...) أي الدّبور الذي هو للعذاب ، وإذا هبّ على النبات أو الزرع كان ضارّا لأن الدّبور إما باردة غاية البرودة وإما حارة حرارة شديدة ، وتسمّى بالسّموم ، وفي كلتا الحالتين تضرّ بالنباتات وجميع الخضرويات حتى الأشجار الناعمة اللّطيفة فيفسدها جميعا في نفخة واحدة ، ولذا فرّع سبحانه على إرساله وهبوبه قوله (فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) أي يرون النبات والزرع اللّذين كانا من آثار رحمة الله أنه عرض لهما الاصفرار بعد الخضرة وهو علامة يبسهما وفسادهما. ويحتمل أن يكون مرجع الضّمير هو السّحاب الذي ذكر قبل هذه الآية فإن السّحاب إذا اصفّر لم يمطر ، والنتيجة هي النتيجة ، أي الفساد (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي لصاروا من بعد أن رأوه مصفّرا كافرين جاحدين لأنعم الله وهذا جواب سدّ مسدّ الجزاء. والحاصل أن الله تعالى ذمّهم بأنّهم إذا حبس عنهم المطر قنطوا ولم يستغفروا ، وإذا أمطروا فرحوا ولم يشكروا لعدم تدبّرهم وتفكّرهم في آياته ولسوء آرائهم ، فإن النظر السّويّ يحكم بأن يتوكّلوا على الله ويلتجئوا إليه بالاستغفار عند الاضطرار ، وأن يبادروا إلى الشكر عند النعمة وأن لا يفرطوا في الاستبشار .. ثم إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن أتمّ الحجة عليهم بأنواع الأدلة وأصناف الأمثلة ووعدهم وأوعد ولم يزدهم

٣٧٣

دعاؤه إلّا فرارا ونصحه إلّا كفرا وضلالا وإصرارا ، قال الله تعالى له : يا محمّد خلّهم وذرهم في ضلالتهم يخوضون فإنّك لا تقدر على هدايتهم فإن مثلهم مثل الموتى.

* * *

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))

٥٢ ـ (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ...) أي لا تستطيع إسماع موتى القلوب يعني الكفرة الذين سدت مشاعرهم عن استماع المواعظ والنصائح الحقّة فإنهم في حكم الموتى (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) أي ولا تقدر على إسماع من بهم صمم فإنّ حالهم كحالهم في عدم الانتفاع بالسماع (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي حين يبتعدون عن الاستماع فإسماعهم أشدّ استحالة لأن الأصمّ المقبل وإن لم يسمع الكلام لكن بسبب حركات الشفة واليد وإشارة الرأس والعين يمكن أن يستفيد شيئا ما ، بخلاف الأصمّ المدبر فإنه من محروم هذا المقدار من الاستفادة أيضا.

٥٣ ـ (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ ...) أي أنّ مثل الكفّار مثل العميان في عدم الاهتداء للطريق المقصود ، يعني يا محمد أنّك لا تهدي ولا تستطيع إرشاد عميان القلوب حيث إنهم أشدّ استحالة للهداية من عمي العيون ، فإن من عميت عينه يمكن هدايته إلى الطريق باللسان أو بأخذ يده لأنه يستمع لما يقال في مقام الهداية ويعطي يده إلى قائده ويطمئنّ إليه بخلاف الإنسان الجاحد العنود الذي لا يستمع نصح الناصح ولا دعوة الدّاعي إذا دعاه فلا يقدر على هدايته أحد إلّا الله ، فلذا خاطب الله تعالى

٣٧٤

نبيّه الأكرم (ص) بأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي الذي يستمع القول ويتلقاه ويتدبّر معناه (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) مسلّمون بما تأمرهم به وتنهاهم عنه حيث إنّهم يتّبعون سبيل الهداية والإرشاد. ثم إنه سبحانه عاد إلى ذكر البراهين الدالة على كمال القدرة والتوحيد لأنّهما الأهم فكرر أدلتهما على اختلافها بمناسبتها في كلّ مورد فذكر أوّلا ما هو الأساس في بدء خلق الإنسان بمقتضى قوله سبحانه : (خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) فقال عزّ من قائل :

* * *

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧))

٥٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ...) أي كنتم في بدء الإيجاد ضعفاء في حالة الطّفولية فإن الأطفال لا يقدرون على البطش والمشي وعلى الأخذ والإعطاء وسائر التصرّفات والأعمال حتى على تحريك اليد والرجل وفتح العين وشم الرياحين بالاختيار ، نعم يرى له بعض الحركات في بعض

٣٧٥

الأعضاء على سبيل الاتّفاق ، لكنها حركات تقلصية غير اختيارية مثل أنّه حينما يبكى بشدّة تتحرّك رجله أو يده بواسطة الاعتصار الذي يرد على الأعضاء فيحرّكها بلا اختيار ولا إرادة. والحاصل أن المولود في ابتداء إيجاده أضعف مواليد نوع الحيوانات وهو مثال الضعف كما أشرنا آنفا. أو المراد أنّه تعالى أوجده من أصل ضعيف وهي النّطفة لقوله تعالى : (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ضعيف ، فكأن الضعف صار أمرا ذاتيّا للإنسان. ثم ذكر مرتبة أخرى من مراتب ترقية الإنسان بقوله (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) حينما يصير الإنسان شابا ذا قوة وقدرة أو حين ولوج الروح بالبدن (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) فبعد ما يخلص تطوّر خلقه ويتمّ قوس الصّعود يجيء قوس النزول وهو الضعف والشّيب بعد القوة والشباب (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من الضّعف والقوة والشّيب والشّيبة (وَهُوَ الْعَلِيمُ) اي العالم بأحوال عباده ومصالحهم (الْقَدِيرُ) القادر على تغيير صفات العباد وهيآتهم من هيئة إلى هيئة ومن حالة إلى حالة على وجه تقتضيه الحكمة ويكون فيه المصلحة ، وذلك أدلّ شاهد على وجود الصّانع العالم القادر يفعل بعباده ما يشاء كيف يشاء.

٥٥ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ...) أي القيامة ، ولعلّ الألف واللام للعهد ، أي آخر ساعة من أيّام الدّنيا أو أوّل ساعة من أيّام القيامة ، وهي من الأسماء الغالبة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) أي يحلفون أنهم ما بقوا في القبور أو في الدّنيا أو في ما بين فنائها والبعث وهو زمان انقطاع عذابهم (غَيْرَ ساعَةٍ) فيستقصرون مدّة لبثهم بالنسبة إلى مدة عذاب الآخرة ، أو ينسونها ، أو لمّا كانوا في الدّنيا متنعّمين في طيب العيش رأوا أنّ بقاء الدنيا من الأيام والشهور كان قليلا في عينهم وبنظرهم وسهلا حيث إنّ الدنيا جنّة الكافر وسجن المؤمن ولذا استقلّوها (كَذلِكَ) أي مثل صرفهم وحلفهم وقولهم كذبا في الآخرة (كانُوا يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الصّدق ويعدلون عن قول الحق.

٥٦ و ٥٧ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ ...) إنّ الله تعالى أخير

٣٧٦

عن قول أهل العلم والإيمان بعد استماعهم الحلف الكاذب من المشركين بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، إلخ ، أي الذين هداهم الله بإقامة الحجج ونصب البراهين بحيث صارت موجبة لسلمهم وباعثة لكمال معرفتهم وتصديقهم لله ولرسوله وكل ما جاء به الرّسول صلوات الله عليه ولهذا نسبه إلى نفسه. ولعل المراد بهم الأنبياء والملائكة العالمون بأكثر الأمور ، والمؤمنون من الإنس ، أو الملائكة والمؤمنون جميعا. وفي الكافي عن الرّضا عليه‌السلام في الحديث الذي يصف فيه الإمامة والإمام قال : فقلّدها صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا عليه‌السلام بأمر الله عزوجل على رسم ما فرضه الله تعالى ، فصارت في ذرّيته الأصفياء الذين آتاهم الله تعالى العلم والإيمان بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، الآية (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) أي في اللوح المحفوظ. يعني أنه ثابت فيه مقدار لبثكم ، أو في علم الله وقضائه ، أو في القرآن من قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) والحاصل أن أهل العلم والإيمان يردّون على أهل الكفر والإلحاد بهذا القول ، أي لقد لبثتم (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وبعد ذلك يقولون (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) أي اليوم الذي كنتم تنكرونه والفاء جواب للشرط المحذوف وتقديره : ان كنتم منكرين للبعث والنشور (فَهذا) إلخ فانظروا حتى يتبين لكم بطلان إنكاركم (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقوعه لعدم النظر والتدبّر في ما جاء به نبيّكم (ص) فيأخذ الكفرة في الاعتذار عمّا فات ويطلبون الرجوع إلى الدّنيا لجبران ما مضى واستئناف العمل فلا يقبل منهم ، ويجيء النداء من قبل الرّب كلّا (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والشّرك بعد إتمام الحجّة عليهم (مَعْذِرَتُهُمْ) اعتذارهم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ولا يطلب منهم الإعتاب ولا ما يزيل آثار الجرم كالتوبة والرجوع إلى الدنيا للجبران أو العودة إلى الحقّ ، والحاصل أنّهم لا يستتابون فيتوبون. ويقال استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته ، فلا يؤذن لكم في الاسترضاء حتى أرضى عنهم ، ولا يطلب منهم العتبى والأخذ والرد في الكلام.

٣٧٧

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

٥٨ ـ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ ...) أي بيّنا لهم بحيث أغنيناهم في البيان (فِي هذَا الْقُرْآنِ) المنزل على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يدعوهم وينبّههم على التوحيد والإيمان بالبعث وإلى قول النبيّ (ص) (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من فرط عنادهم واسوداد قلوبهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي أصحاب الأباطيل والتّزوير.

٥٩ ـ (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ ...) أي كما طبع على قلوب هؤلاء الكفرة (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي الذين لا يعلمون شيئا من الحق ويعتقدون أن ما هو عقيدتهم من الضلالة والأباطيل هو الحق. ولا ريب أن الجاهل جهلا مركّبا لا يهتدي ولا يكون قابلا للهداية ، فكأنّه ختم وطبع على قلبه فلا يدرك الحق أبدا ولذا منع من ألطاف الحقّ عزوجل فتركه الله تعالى في تيه ضلالته والجهالة. والطبع كناية عن غاية قسوة القلب. ولما كان الجاحدون مصرّين على عدم استماع الحق والاهتداء ولا زالوا يؤذون أهل الإيمان بأقسام الأذايا فأمر الله تعالى نبيّه بالصّبر وبشّره بالنّصر تسلية له فقال :

٦٠ ـ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ...) أي اصبر على أذاهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) حين وعدك بالنصر وبإعلاء دينك فإن ذلك ثابت منجّز لا محالة (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي لا يحملنّك على الخفّة والضجر ولا

٣٧٨

تغضب من هؤلاء الذين هم أهل شكّ وضلالة ، فلا بد من أن تكون مجدّا ومجتهدا في دعوتك فإنك المنصور عليهم في نهاية الأمر كما وعدناك.

٣٧٩
٣٨٠