الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤))

٦١ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ ...) أي إذا سألت أهل مكة عن ذلك (لَيَقُولُنَّ اللهُ) خلق السماوات (وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) فيقرّون بأنه هو سبحانه الفاعل لذلك (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي إلى أين يصرفون عن توحيده تعالى مع إقرارهم بذلك بالفطرة؟

٦٢ ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ...) يوسّعه على من يشاء (وَيَقْدِرُ) يضيّق على من يشاء لحكمة تقتضيها المصلحة. وإنّما خصّ الرزق بالذّكر بعد ذكر الهجرة ، لئلا يتخلّفوا عنها خوف العيلة والحاجة.

٦٣ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ... الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) أي احمد الله على تمام نعمته وكمال قدرته أو على حفظك ومتابعيك من الضلالة وحيرة الجهالة ، وعلى ما وفقك للاعتراف بالتوحيد ، وعلى الإخلاص في العبادة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لا يتفكّرون بسبب تناقضاتهم حيث يقرّون بأنه تعالى خالق كل شيء ثم يشركون به الأصنام ويعبدونها ولا يتعقّلون بأنهم يفعلون عملا

٣٤١

يكذّب قولهم حيث إنهم في مقام الجواب عن سؤال خلقة السّموات والأرض وتسخير الشمس والقمر وإنزال الماء من السّماء قالوا هو الله ، فإذا كان الخالق والمنزّل هو الله فهو أحقّ بالعبادة لا الجماد الذي هو أخسّ الأشياء وأدناها. فيعلم أنهم ليسوا من أهل التدبّر والتفكّر كالأنعام بل هم أضل.

٦٤ ـ (ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ...) الفرق بين اللهو واللّعب أن المقبل على الباطل لاعب به ، والمعرض عن الحق لاه. والمعنى أنه كما اللهو واللّعب يزولان بسرعة فالحياة أيضا تزول بسرعة ، فيستمتع الإنسان فيها مدّة قليلة ثم تنصرم وتنقطع ويبقى وبالها كما أن الصّبيان يجتمعون على ما يلهى ويلعب به ويتبهّجون ويفرحون ساعة ثم يتفرّقون متعبين كأنّه لم يكن شيء مذكور ، فكذلك الدّنيا (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي هي دار الحياة الحقيقة لأنّها الدائمة التي لا زوال لها حيث إنه لا موت فيها. وفي لفظة الحيوان من المبالغة ما ليس في لفظة الحياة لبناء فعلان على الحركة والاضطراب اللازم للحياة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يعرفون أن الدنيا دار فناء وزوال ، وأن الآخرة دار بقاء لا فناء فيها لما آثروا الحياة الفانية على البقاء الدّائم الخالد ، لكن للأسف إنّهم لم يعلموا ولا يعلمون لأنهم ليسوا من أهل التدبّر والتفكر حتى يعلموا.

* * *

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ

٣٤٢

اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

٦٥ ـ (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ ...) أي دعوه في حالة من أخلص دينه له تعالى مع ما هم عليه من الشّرك والإلحاد ، وصاروا لا يذكرون إلّا الله سبحانه ولا يتوجّهون إلّا إليه لعلمهم بأنّه لا يكشف الشدائد سواه ولا ينجي من الغرق إلّا هو ، وكلمة (الدِّينَ) مفعول لمخلصين ، والجارّ متعلّق به (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي حينما خلّصهم الله تعالى من الهلاك ونجّاهم إلى البرّ ورأوا أنفسهم مأمونين من الهلاك عادوا إلى ما كانوا عليه من الإشراك معه تعالى في العبادة

٦٦ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ...) أي لكي يكفروا بنعمة الإنجاء (وَلِيَتَمَتَّعُوا) لكي ينتفعوا ويتلذّذوا بعكوفهم على أصنامهم. هذا بناء على أن اللّام بمعنى (كي) التعليليّة الداخلة على (أن) المصدريّة المضمرة وجوبا. وهذه يغلب استعمالها بعد اللام نحو جئتك لكي تكرمني ، ويمكن أن تكون لام أمر فيكون للتّهديد ولخذلانهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك العكوف على عبادة الأصنام والتّلذذ بها واجتماعهم عليها.

٦٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا ...) أي أهل مكة ألم يعلموا أنّا جعلنا مسكنهم وبلدهم (حَرَماً آمِناً) مصونا من النّهب والقتل والسّبي ومحروسا وممنوعا على ذؤبان العرب (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أي يختلسون ويؤخذون من أطراف مكّة في حين أن مكّة وأهلها مع قلّتهم وكثرة الأعراب في أمن وأمان من جميع ما يبتلى به الناس من الأسر والقتل والنهب (أَفَبِالْباطِلِ) أي أفبعد هذه النعمة العظمى التي تتنعّمون بها وبغيرها مما لا يقدر عليه إلّا الله تعالى ، يتمسّكون بالباطل وهو الصّنم والشيطان

٣٤٣

و (يُؤْمِنُونَ) به؟ وهل هذا من العدل والإنصاف (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) أبحكم الجاهليّة تجوّزون أن يستبدل شكر المنعم بالكفر به أم ببرهان العقل البشري الحصيف؟ لا هذا ولا ذاك ، بل هي طريقة الشيطان ومن يتّبعه.

٦٨ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ ...) أي لا أظلم منه (كَذِباً) حين ادّعى الشريك له (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) أي الرّسول أو الكتاب (لَمَّا جاءَهُ) حين جاءه فتلقّاه من غير تأمّل ولا توقّف ولا تروّ.

٦٩ ـ (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ...) أي جاهدوا في حقّنا ما يجب جهاده من النّفس والشيطان وحزبه (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) طرق السّير إلينا أو طرق الخير بزيادة اللّطف. وفي الحديث : من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) أي بالنّصر والإعانة. وعن الباقر عليه‌السلام : إن هذه الآية لآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأشياعهم. وفي ثواب الأعمال عن الصّادق عليه‌السلام : من قرأ سورة العنكبوت والرّوم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو والله من أهل الجنّة لا أستثني فيه أبدا ، ولا أخاف أن يكتب الله عليّ في يميني إثما ، وإنّ لهاتين السّورتين من الله لمكانا.

٣٤٤

سورة الرّوم

مكّية إلا الآية ١٧ فمدنية وآياتها ٦٠ نزلت بعد سورة الانشقاق.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

١ إلى ٧ ـ (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ...) وقد ذكرنا في سورة البقرة مفتتحات بعض السّور وبيانها في الجملة ، وقد قيل إن هذه الحروف لا يعلم تفسيرها إلّا من خوطب بها وليتهيّأ السامع لما بعدها حيث إن ما بعدها في الأغلب

٣٤٥

يكون إخبارا عن أمور ستأتي وهو إخبار بالغيب أو معجزة له تعالى. وقيل إن هذه الحروف كانت مقسما بها لكونها مبادئ لأسماء عظيمة ، فقيل إن الألف إشارة لاسم الله تعالى ، واللّام لاسم جبرائيل ، والميم إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. والمعنى أقسم بهذه الأسماء والحروف أن الرّوم تغلب بفارس والمسلمين. والتعبير بالماضي مع أنّ مغلوبيّتهم كانت بعد زمان نزول الآية لكونها محقّقة الوقوع. وقد تمت الغلبة عليهم (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي أقرب أرض العرب من أرض الروم كبلادكم وفلسطين ، أو المراد أقرب أرض الرّوم إلى فارس نحو كسكر أو الجزيرة فإنّهما من أقرب أراضي الشام إلى فارس فإنها كانت في تلك العصر من توابع أرض الرّوم. فالألف واللّام عوض عن المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى أرض عدوّهم (وهم) أي الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) انكسارهم (سَيَغْلِبُونَ) يعودون فينتصرون (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وبضع تدل على ما بين الثلاث إلى التسع سنين أو إلى العشر ، ثم يكون (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي قبل غلبتهم وبعدها. وهذه من الآيات الدالّة على أن القرآن من عند الله عزّ وعلا لأن فيه أنباء ما سيكون في المستقبل الذي لا يعلمه غيره سبحانه وتعالى. وقرئت الأفعال على البناء للمجهول وحينئذ ينعكس التفسير والله أعلم.

والحاصل أنّه ليس شيء منهما إلّا بقضائه وقدره عزّ وعلا. وفي الخرائج عن الزكيّ عليه‌السلام أنّه سئل عنه فقال : له الأمر من قبل أن يأمر به ، وله الأمر من بعد أن يأمر به ، يقضي بما يشاء (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي يوم غلبة الروم على الفرس يسرّ أهل الإيمان بإعانة الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإظهار صدق نبيّهم فيما أخبر به وبإرغام أنف أعدائه صلى‌الله‌عليه‌وآله من مشركي أهل مكّة ، أو يسرّوا لغلبة الروميّين على الفرس لأنهم كانوا نصارى وأهل كتاب ، والفرس كانوا مجوسا وما كانوا من أهل كتاب ولا أرسل إليهم نبيّ. فمن ناحية الاشتراك في الكتاب كانوا بغلبتهم فرحين مستبشرين كما أن المشركين صاروا حين غلبة الفرس على الرّوم فرحين بهذه المناسبة وقالوا إنّ الفرس مثلنا أميّون فهم منّا ونحن منهم

٣٤٦

ومن باب الصدفة وافق ذلك يوم نصر المؤمنين ببدر فنزل به جبرائيل عليه‌السلام وأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بغلبة الرّوم على الفرس ففرحوا بالنّصرين (بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي ينصر بمقتضى الحكمة ، هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر بخذلانه لمن يشاء (الرَّحِيمُ) العطوف بنصره من يشاء من عباده طبق حكمته وروي إن اليوم الذي يفرح فيه المؤمنون بنصر الله هو يوم غزا المسلمون فارس وافتتحوها ففرحوا بذلك. وأنّ ذلك (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) الوعد مصدر للفعل المقدّر وهو وعد ونصبه به وهو مؤكّد لنفسه حيث إن ما قبله في معنى الوعد ، وهذا نحو : له عليّ ألف درهم اعترافا. ومعناه : وعد الله ذلك ولا يخلف الله وعده حيث إن خلف الوعد عليه ممتنع لأن أله إلى الكذب والكذب محال في حقّه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) صحة وعده وامتناع الخلف عليه لجهلهم به تعالى. فالناس لا (يَعْلَمُونَ) إلّا (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي التمتّع بزخارفها والتنعّم بملاذها ومنافعها. ولا يعرفون منها إلّا ما يشاهدون ويعاينون بأعينهم الظاهرية. (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) التي هي الغرض الأصلي منها (هُمْ غافِلُونَ) وقوله ظاهرا من الحياة الدنيا يفيد معنى وهو أن للدّنيا ظاهرا وباطنا. أمّا الظاهر فهو الذي يعلمه الجهّال مما قد ذكرناه وأمّا الباطن فهو كونها مجازا وممرّا إلى الآخرة فيجب أن يتزوّد الإنسان منها للآخرة بالطاعات والأعمال الصالحة والتجهّز لها بتلك الأعمال ، و (هُمْ غافِلُونَ) أي لا تخطر ببالهم فيرون حاضر الدنيا ويتغافلون عن العقبى.

* * *

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي

٣٤٧

الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

٨ ـ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ...) أي في أمرها فإنها أقرب شيء إليهم وفيها ما في العالم الأكبر من عجائب الصّنع فلو كانوا يتفكّرون فيها لعلموا ولتحقق لهم أن قدرة مبدعها على إعادتها ، هي قدرته على إبداعها بل أسهل فلم يخلق السماوات والأرض (إِلَّا بِالْحَقِ) قيل معناه : إلّا للحق ، أي لاقامة الحق ومعناه للدلالة على الصّانع والتعريض للثواب ويحتمل أن يكون المعنى : إلّا لغرض صحيح وحكمة بليغة وهو الاستدلال بها على التوحيد بعد إثبات الصّانع بها والدلالة على قدرته الكاملة البديعة ، لا أن خلقتها باطل وعبث تعالى الله عن ذلك (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) تنتهي عنده ولا تبقى بعده. وهو عطف على (بِالْحَقِ) والمراد به هو يوم القيامة الّذي تفنى فيه السّماوات والأرض مع ما فيهما وما بينهما. وهذا نوع من التنبيه ، ونوع آخر من التّنبيه هو قوله سبحانه :

٩ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) الاستفهام للتقرير ، يعني لا بدّ من السير فيها لينظروا إلى مصارع عاد وثمود وأهل الأيكة وغيرها من آثار المدمّرين قبلهم حينما يسافرون للتجارة فيروا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هذا بيان لنتيجة سيرهم ليعتبروا بذلك حيث إنّهم كانوا أشدّ منهم من جميع الجهات ، وقد أشار تعالى إلى أنهم كانوا أشدّ (قُوَّةً وَأَثارُوا

٣٤٨

الْأَرْضَ) قلّبوا وجهها أي ظاهرها إلى باطنها وبالعكس للزّراعة وغرس الأشجار واستخراج المعادن واستنباط المياه. وتسمية الإثارة هنا عبّر بها عن تقليب الأرض وإثارتها (وَعَمَرُوها) ببناء الدّور وتشييد القصور وغيرها (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي المكّيون الذين يسكنون بواد غير ذي زرع مع كونهم فاقدين لأسباب العمارة. أو المعنى أن الذين قبلهم كانوا أكثر إعمارا من قريش (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكهم بلا إرسال رسل وبلا إتمام حجة بالبيّنات والبراهين وإظهار المعجزات على أياديهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث عملوا ما أدّى إلى تدميرهم علما منهم بموجبات التدمير والاستئصال بسبب جحدهم وكفرهم مع معرفتهم بصدق الرّسل وما جاؤوا به. وفي الآية تهكّمّ بأهل مكّة حيث كانوا مغترّين بدنياهم ، فالله تعالى بيّن أنهم أضعف من المخلوقين بمراتب لأن مدار أمر الدنيا على التبسّط في البلاد والتسلّط على العباد والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارات والمسيطرات. وهذه الأمور بحذافيرها مسلوبة عنهم لأنّهم كما قلنا أضعف الأمم وأقلّهم عدّة وعدّة.

١٠ ـ (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى ...) أي عملوا عملا كان نتيجته نار جهنم. وهي معنى السوأى وجاءت السّوأى مؤنّث (أسوء) الذي هو فعل تفضيل كحسنى وكبري (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) ويحتمل أن يكون (عاقِبَةَ) منصوبا خبر (كان) واسمه (السوأى) في محل الرفع كما في قوله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وكلمة (أَنْ) مفسّرة للخبر بجملته ، ويحتمل أن يكون (عاقِبَةَ) مرفوعا اسم كان و (السُّواى) في موضع النصب مفعولا ل (أَساؤُا) وجملة (أَنْ كَذَّبُوا) خبر كان. وبناء على الاحتمال الأول يمكن أن تكون جملة (أَنْ كَذَّبُوا) في مورد العلّة ، أي لأجل تكذيبهم بالآيات واستهزائهم بها.

* * *

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ

٣٤٩

إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

١١ ـ (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...) يخفى أن في الآية السابعة السابقة على هذه الكريمة أمر الله تعالى بالتفكّر في الأنفس حيث إنها أقرب للمتفكّر من غيرها فيحصل للإنسان مرآة من التفكّر في النفس فيرى بها ما يتجلّى في سائر المخلوقات ليتحقّق له بذلك أن القادر على إبداع هذه المخلوقات من العدم ، قادر على إعادتها بعد إفنائها. ثم كرّر هذا المعنى في هذه الآية بقوله (اللهُ يَبْدَؤُا) إلخ من باب تذكير النعمة وتبيين القدرة حيث إن الذكرى تنفع المؤمنين ، وتأكيدا لما في السابق. والمعنى أنّه تعالى يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء أمّا العدول من الغيبة إلى الخطاب فللمبالغة في المقصود ، وقرئ يرجعون بياء الغيبة.

١٢ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ...) أي يتحيّرون في أمرهم وييأسون من رحمة ربّهم فهم محزونون منكسرون صامتون.

١٣ ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ ...) أي ممّن أشركوهم بالله لم يكن لهم من يعينهم ويجيرهم من العذاب وشدائد يوم القيامة (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) جاحدين متبرّئين منهم.

٣٥٠

١٤ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ...) أي يتميّزون ويقسّمون فريق في الجنة وفريق في السّعير ، أصحاب اليمين في أعلى عليّين ، وأصحاب الشمال في أسفل سافلين وهو قوله تعالى المبيّن لما قبله.

١٥ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...) فهم في روضة يحبرون أي في جنة ذات أرض خضراء تتدفق فيها المياه ، يسرّون وتطفح وجوههم بالبشر والفرح. وقال القمّي : يكرمون ، والحبور أصله السرور. وفي وجه سرورهم أقوال : فعن أبي الدرداء ـ كما في مجمع البيان ـ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه ذكر الجنة وما فيها من النّعم ، وفي آخر القوم أعرابي فقال : يا رسول الله ، هل في الجنة سماع (أي غناء) قال (ص) : نعم يا أعرابي ، إنّ في الجنّة لنهرا حافتاه أبكار من كلّ بيضاء خوصانيّة يتغنّين بأصوات لم تسمع الخلائق مثلها قط ، وذلك أفضل نعم الجنّة. وقد قيل إن هذا المشهد من أعظم المظاهر الموجبة لسرور أهل الجنّة ، بحيث تتهلّل وجوههم له وتسرّ نفوسهم وتنتعش قلوبهم. وفي ذيل هذه الرواية أن أبا الدرداء سأل عن أنّ المغنّيات في الجنّة بأيّ شيء يتغنّين؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بالتسبيح. وفي بعض الروايات : بالتسبيح وليس بمضمار الشيطان. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : إن في الجنّة لشجرة تؤمر أن اسمعي صوتك عبادي الذين منعوا أنفسهم عن استماع الغناء في الدنيا طلبا لرضائي ، فيسمع منها صوت تسبيح وتهليل بكيفية ما سمع الخلائق مثلها أبدا ، فيلذّذون بنغمتها كمال اللّذة. جعلنا الله تعالى ممّن يحوز رضاه ويتنعّم بما أعدّه من السرور لعباده الصالحين في أخراه بمنّه وكرمه.

١٦ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي كفروا بنا وبوحدانيّتنا ، ولم يصدّقوا دلائلنا ، وكذّبوا (بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) بيوم الحشر والقيامة (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) محشورون في جهنّم لا يفارقون العذاب ولا يغيبون عنه. ولفظ (الإحضار) لعله لا يستعمل إلّا في ما يكرهه الإنسان ، إذ يقال : أحضر فلان مجلس القضاء ، إذا جيء به

٣٥١

مخفورا أو مطلوبا على الأقل إلى ما لا يؤثره ولا يحبه. ومنه : أحضروه إلى مجلس الحاكم ، وإلى حضرة الخليفة ، وإلى دار السلطان ، لمحاسبته على جرم ارتكبه ، أو لمحاكمته على فرية نسبت إليه.

* * *

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩))

١٧ و ١٨ ـ (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ...) سبحانه : أي تقديسا له عزّ وعلا. وقد ذكر هنا ما تدرك به النّجاة والفوز بالجنّة وما يكون سببا لنيلهما ، وهو تسبيحه تبارك وتعالى. والجملة واقعة خبرا إذ المراد : والأمر سبحان الله ... يعني : الأمر هو أن تسبّحوه وتنزّهوه عمّا لا يليق به حين تمسون : تدخلون في المساء ، وحين تصبحون : تدخلون في الصباح ، فإنّ ذكركم له بالتقديس في هذين الوقتين من أفضل العمل (وَلَهُ الْحَمْدُ) أي الثناء والمدح (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ممّن فيهما فإنه المستحق لمدح أهلهما لإنعامه عليهما ، فلا بدّ من أن يحمدوه (عَشِيًّا) حين يدخلون في العشية (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) تدخلون في الظهيرة وتقديم الظّرف أي الخبر على الحمد أي المبتدأ للحصر لأن غيره لا يستحق مدحا. وهذه الآية كسابقتها في كونها إخبارا ولكنها في معنى الأمر بالثناء عليه في خصوص هذه الأوقات لشرافتها وعظمتها عنده تعالى على غيرها من الأوقات واعلم أن ذكره تعالى حسن في كل الأحوال والأوقات ، وحمده والثناء عليه وتنزيهه عمّا لا يليق بجنابه وتمجيده وشكره واجبة كلّها في جميع الأوقات ، فالاختصاص لما ذا؟ والجواب : أن الإنسان ما دام في الدنيا لا

٣٥٢

يمكنه أن يصرف جميع أوقاته في أمور معاده بل هو محتاج إلى صرف مقدار منها في معاشه من تحصيل المأكول والمشروب والملبس والمسكن وغير ذلك ممّا يحتاج إليه البشر الذي هو مدنيّ الطّبع ، واحتياجه أكثر من الحيوانات الأخر فأشار الله إلى أوقات إذا أتى العبد بتسبيح الله تعالى فيها أدرك الأول والآخر والأوسط ، فكأنه لم يفتر في أوقاته كلّها ليلا ونهارا وكان ملازما للتسبيح والذكر على الدّوام كالملائكة الذين لا يفترون. ويظهر ممّا ذكرنا علة أخرى لاختياره تعالى هذه الأوقات مضافا إلى شرافتها وعظمها اللتين ذكرناهما ، أن في تلك الأوقات تظهر قدرته وتتجدّد فيها نعمته. وقيل إن الآيتين جامعتان للصّلوات الخمس : تمسون : صلاة المغرب والعشاء ، وتصبحون : صلاة الفجر ، وعشيّا : صلاة العصر ، وتظهرون : صلاة الظهر. ولا يخفى ما في تقديم وقت صلاة العصر على الظّهر فتأمّل.

١٩ ـ (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ...) في القمّي : يخرج المؤمن من الكافر ، وكالإنسان من النّطفة ، والدجاجة من البيضة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) الكافر من المؤمن ، والنطفة من الإنسان ، والبيضة من الطائر ، و (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يحييها بالنّبات بعد موتها باليبس (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي مثل هذا الإخراج تخرجون من قبوركم فلم تنكرون الحشر والنشر يوم القيامة؟ وفي الكافي عن الكاظم عليه‌السلام في قوله : (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، قال : ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث الله رجالا فيحييون العدل ، فتحيا الأرض لإحياء العدل ، ولإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحا. ثم إنه سبحانه تنبيها للعبيد على دلائل قدرته وبراهين توحيده يقول معدّدا لتلك الدلائل :

* * *

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ

٣٥٣

أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥))

٢٠ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) أي من آدم وأصله تراب. أو المراد أنكم مخلوقون من النّطفة وهي من الأغذية وهي من الأرض (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ إِذا) فجائيّة. وحاصل المعنى والله أعلم ثم إنه بعد الخلقة من التربة بغتة من غير أن تشعروا كنتم بشرا متفرّقين في الأرض ومتوطّنين فيها ، كقوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ..) فهلّا دلّكم هذا الأمر العجيب على أنه لا يقدر على ذلك غيره تعالى وهو المستحقّ للعبادة لا غيره؟ والشريفة عطف على ما تقدم ممّا دلّ العباد ونبهّهم على شواهد التوحيد ودلائل القدرة كإخراج الحيّ من الميّت وعكسه ، وإحياء الأرض بعد الإماتة. وهذه الخلقة محيّرة للعقول لأن التراب أبعد العناصر عن درجة الحياة من حيث طبعه وطبيعته ، فإن

٣٥٤

التراب طبعا بارد يابس ، والحياة حارّة رطبة. وكذلك من حيث لونه فإن التراب جسم كدر ، والرّوح التي هي مدار الحياة جسم نيّر ، والتراب ثقيل والرّوح خفيفة ، والتراب كثيف والرّوح لطيفة. ومن حيث السكون فإن التراب بعيد عن الحركة غاية البعد ، والحيوان متحرّك إلى جميع جهاته حسب طبيعته. فظهر أنّ التراب أبعد العناصر مادة عن قبول الحياة حيث بينهما تضادّ بخلاف الماء فإن فيه الصّفاء والرّطوبة والحركة لأنه جسم سيّال رطب طبعا. وكلّ صفاته على طبع الأرواح ملائمة لها. والنار أيضا قريبة إلى الحياة لأنها كالحركة الغريزيّة التي تولّد الحرارة الغريزيّة ، وهي منضجة جامعة مفرّقة ، وكذا الهواء أيضا ، فهو أقرب إلى الرّوح والحياة لخفّته وصفائه ولطافته. فهو جلّ وعلا خلق آدم من أبعد الأشياء عن مرتبة الحياة وجعله حيّا لإظهار كمال القدرة وغاية الحكمة وهو عليه‌السلام في أعلى المراتب من الأجسام والنبات والحيوان. وكيف لا يكون كذلك وهو المسبّح والحامد والمهلّل والمكبّر ، وقد شابه الملائكة في التسبيح والتحميد بل كان أعلى منهم مرتبة لأنه أعلم منهم. فهذه الخلقة أعلى الآيات والشواهد على ربوبيّته ووحدانيّته وقدرته وحكمته ، فاللهم عرّفنا نفسك ونبيّك ووليّك.

٢١ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ...) أي أبدع وأوجد لكم (زوجات) كانت مماثلة ومشاكلة لكم ومن جنسكم ، لأن الجنس إلى الجنس أميل وآنس ، ويمكن أن يكون المراد بكون الأزواج من أنفسكم هو حوّاء بناء على خلقها من ضلع آدم ، ثم خلقت النساء بعد ذلك من النّطف الخارجة من أصلاب الرّجال ، فهنّ مخلوقات من أنفس الرجال حدوثا وبقاء (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي لتستأنسوا بها وتميلوا إليها بحكم السنخية الحاصلة من اتّحاد الجنس والمماثلة ، كما أن الاختلاف في الجنس سبب للتنافر والتنازع (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي أحدث وأوجد بواسطة الزّواج بينكم وبين أزواجكم ، بل بين عشيرتكم وعشيرة الأزواج ببركة الزواج توادّا وتحابّا حتى لو كان بين العشيرتين قبل حدوث الزواج تخاصم وتنازع،

٣٥٥

فإنه يحصل التآلف بعد نعمة الزواج بمجرد حدوثه. والحاصل أن حصول التحابّ والتآلف بين الزوجين من غير معرفة ورحم بينهما أمر عجيب ، حيث يصير بينهما توادّ وتراحم لا نجدهما بين أيّ شخص وشخص آخر حتى بين الوالد والولد والأمّ الشفيقة وبنتها بهذه الكيفية المستمرة الدائمة. فهذه آية غريبة وهي أدلّ آية على القادر الحكيم والصانع العليم وإن قيل إن هذه المودّة تولّدت من ناحية الشهوة وهي تزول بزوالها ، فنقول : أوّلا هذه الشهوة من أين جاءت لولا أنّها وديعة أودعها الله سبحانه في أصلاب الرجال وأرحام النّساء بهذه الكيفية التي أفضت إلى المودّة والرحمة بينهما. فمن يقدر أن يخلق تلك الشهوة غيره تعالى؟ هذا ، وثانيا إنّا نرى أنّ الزوجة قد تخرج من محلّ الشهورة ومورد اللذّة بكبر أو مرض ، ثم يبقى قيام الزوج بها ناشئا عن الحب لها والرحمة بها ، وبالعكس. وليس ذلك إلّا بجعله سبحانه وإيداعهما المودّة المتبادلة. وهذا لا يتنافى مع ما يحدث من الشقاق بين الطبقة الدنيا وذوي النفوس الوضيعة مما ينشأ من ضعف في الأخلاق ونقص في التربية. الآية تشير إلى أن الواجب أن تسود بين الأزواج المودّة والحنان والرحمة والإحسان كيف لا وهم شركاء البأساء والنعماء والضراء والسراء؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي جعل الأزواج بهذه الكيفيّة المطبوعة آيات وشواهد لأهل التدبّر والتفكّر فيعلمون ما في ذلك من المصالح والحكم.

٢٢ ـ (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ ...) لمّا بينّ سبحانه الدلائل الأنفسيّة ذكر سبحانه وتعالى البراهين والشواهد الآفاقيّة ، وأظهرها خلق السّماوات والأرض وما فيهما من عجائب الصّنع وبدائع الخلقة نحو ما في السّماوات من الشمس والقمر وسائر الأنجم وجريانها في مجاريها المعيّنة على تناسق وتناظم خاصّ بكل واحد منها ، ونحو ما في الأرض من أنواع الجماد والنبات والحيوان على اختلافها جنسا ونوعا وصنفا مع ما فيها من إحكامها وإتقانها ومع اختلاف ألوانها وطعمها ورائحتها وخواصّها وآثارها

٣٥٦

المختلفة .. ووجه ما قلنا من كون السماوات والأرض أظهر الآيات لأن بعض الملاحدة كان يناقش في خلق البشر وغيره وأن البشر وأمثاله كان بسبب ما في العناصر من الكيفيّات التي تتركب منها الأشياء ، ولكن سها الملحد أنه لا يقدر أن يلقي هذه الشبهة فما بسبب امتزاج العناصر وجدت هذه الكائنات التي ليست من العناصر (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) أي من حيث اللغات فإن لكلّ صنف لغة إمّا بتعليم الله تعالى وإمّا بالهامه لهم ، من العربيّ والفارسيّ والتركيّ والزنجيّ والهنديّ والروسيّ وأمثالهم من أهل اللّغات ، وإمّا بإعطائهم القدرة على جعل اللغات ووضعها بكيفيّة تركيبها من الحروف الهجائيّة ومن حيث الأصوات وكيفية أدائها ، فإنه لا يوجد منطق يتماثل ويساوي من جميع الجهات منطقا آخر من الهمس والجهر ، والرخاوة والحدّة والفصاحة واللّكنة وكيفية النظم والأسلوب وغيرها من صفات النطق وأحوالها. وقال صاحب اللّباب بأن أصول اللغات اثنان وسبعون أصلا (وَأَلْوانِكُمْ) من الأبيض والأسود والأحمر والأصفر ، أو المراد اختلاف خلق الأعضاء والهيآت والأشكال على وجه يتمايز فيعرف كلّ شخص من الآخر ولولا ذلك التمايز والتّعارف سواء حصلا من ناحية الألوان أو من اختلاف الصّور والهيآت والأشكال وكان الأوادم متوافقون متماثلون متساوون في الأشكال والصّور من جميع الخصوصيات ، لصار موجبا للتجاهل والالتباس فتتعطل مصالح كثيرة وتقع مفاسد إلى ما لا نهاية له ويختلّ النظام العام كما لا يخفى على من له أدنى دربة فتبارك الله أحسن الخالقين ، والحمد لله على تلك النعم العظيمة. ثم إنه سبحانه جعل التمايز والتعارف بأمرين : للمبصر بالألوان ، وللأعمى باختلاف الألسنة والأصوات ، ومن كان بحكم الأعمى أيضا يعرف أن المتكلم وراء جدار أو مانع آخر من المشاهدة. وهذه الآيات الثلاث المذكورة في الشريفة المزبورة أدلّ دليل على تمام القدرة وكمال الحكمة من صانع حكيم ثم قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) فنبّه بقوله هذا بناء على قراءة فتح لام العالمين أن هذه الآية العظيمة من الآفاقيّة والأنفسيّة

٣٥٧

تدلّ جميع أهل العوالم من ذوي العقول على الصّانع الحكيم وعلى قدرته الكاملة ولا تختصّ بصنف دون صنف ولا بطائفة دون أخرى لأظهريّتها التامة وأوضحيّتها الباهرة العالميّة بخلاف ما قبلها وما بعدها من الآيات. ولهذا اختصّها بصنف خاصّ وطائفة معيّنة (كالقوم المتفكّرين ـ ولقوم يسمعون ، ولقوم يعقلون أو يعلمون وأمثالهم من أهل التّدبّر والتّأمّل) لكونها ليست بتلك المثابة من الوضوح والتبيّن.

٢٣ ـ (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) المنام مصدر كالنّوم ، وهو غشية ثقيلة تهجم على القلب فتبطل عمل الحواسّ وتضعف عمل بعض الجوارح كالقلب ، وتبطل عمل الجوارح الأخرى كما هو المحسوس المشاهد. وعرّفه بعض الأكابر بأنّه ريح تقدم من أغشية الدماغ فإذا وصلت إلى العين فترت ، وإذا وصلت إلى القلب نام. وحدّده الفقهاء بذهاب حاسّة البصر والسّمع وغياب إدراكهما عنهما والمعنى أنّ من الآيات الدّالة على قدرته الكاملة نومكم في بعض الليل ، وفي النّهار لاستراحة القوى النفسانية والحيوانيّة والطبيعيّة ، وطلب معاشكم في البعض الآخر منهما (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي لهم آذان واعية تسمع سماع تدبّر واستبصار.

٢٤ ـ (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ...) والبرق مصدر نور يلمع في السماء على أثر انفجار كهربائيّ في السحاب ، أي من استكاك يحصل ويحدث فيه (خَوْفاً) أي حال كونه مخوّفا ، لأنه حين حدوث البرق يحدث نوعا الرعد الذي هو صوت السّحاب حين استكاكه ، ويحدث من الرعد الشّديد نار تسقط من السماء بحيث تحرق الجبال فكيف بغيرها وهو الذي يسمّى بالصّاعقة.

فالبرق يصير مقدمة نوعا لسقوط الصّاعقة فلذا كان مخوّفا (وَطَمَعاً) أي مطمعا بحصول المطر الذي هو خير لأن فيه نفعا كثيرا. والحاصل أن البرق آية كبيرة حيث انه يحدث ويخرج من السحاب مع أنه ليس في

٣٥٨

السحاب إلا ماء وهواء ، وخروج النور وهو البرق ، والنّار وهو الصّاعقة من السّحاب الحامل للماء والهواء ، أمر عظيم وآية كبري تدلّ على اللطيف الخبير وقدرته الكاملة (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) عطف على قوله : يريكم ، أي : ومن آياته تنزيله الماء أي الغيث من سماء الأرض أي الفضاء المرتفع فوقها المنبسط عليها المحيط بها سواء قلنا بتكوّنه المياه في الفضاء وجذب السّحاب إياه ، أو قلنا بتكوّن الماء في الأرض وحمل السّحاب إياه من البحار وتصعّده به إلى الفضاء ونزوله منه بهذه الكيفية المشهودة بقدرته الكاملة. ونتيجة هذه الأمطار إحياء الأرض بإنباتها بعد موتها بجدبها ويبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في هذه الآيات السّماوية الآفاقية (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) شواهد ودلالات لرجال يستعملون عقولهم في الاجتهاد لمعرفة أسباب الحوادث وكيفية تكونها ليعرفوا كمال قدرة الصّانع وحكمته في كل حادثة.

٢٥ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ...) أي بلا دعامة تدعمهما ولا علاقة تتعلّق بهما بل بأمره سبحانه لهما بالقيام كقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ.) ومعنى القيام هو الثبات والدّوام. فيقال : الجدار قائم أي ثابت لا يزول عن مكانه. ويحتمل أن يكون المراد من قيام السّماء والأرض قيام أهلهما في عالم الكون والفساد أي في الدنيا. فإن أهل السماء والأرض لا يزالون فيها وأهل الأرض وإن تطرّق إليهم الموت لكنّهم نائمون في قبورهم وعالم القبر يحسب من الدّنيا كما برهن في محلّه بل هو أمر محسوس لا ريب فيه حتى يحتاج إلى اقامة برهان لأن القبر مكان من أمكنة الأرض والأموات نائمون فيه والأرواح في قبضة الله تعالى بمقتضى الكتاب والسّنة ، ومثل الأرواح مثل أرواح أصحاب الكهف عينا ، فهي في الأجساد إذا لم يطرأ عليها تفسّخ وتفرّق لأجزائها ، وإلّا تعلّقت بالأجسام البرزخيّة أو المثالية بناء على تجسّم الأعمال. ويؤيّد هذا الاحتمال ذيل الكريمة (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ

٣٥٩

الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) فأهل السّماوات والأرض ثابتون فيهما ولا يخرجون إلى غيرهما ما دام لم يدعكم الدّاعي ، فإذا دعاكم إذا تخرجون من الأرض أي من أجداثكم بغتة وبلا توقّف. والمراد بالدّعوة دعوة إسرافيل بالنفخة الأخيرة للحضور في المحشر لثواب الأعمال أو عقابها. وعن ابن عباس : يأمر الله سبحانه إسرافيل فينفخ في الصّور فيخرج الخلائق كلهم من قبورهم أحياء. وعبّر بالدّعاء إذ هو بمنزلة الدعاء وبمنزلة كن فيكون في السّرعة وامتناع الاعتذار بالبطء. ثم إن القيام في الآية إذا كان بمعنى الوقوف والثبوت أي وقوفهما واستقرارهما معلّقين بلا اعتمادهما على شيء ولا تعلّقهما بشيء من آياته الكبرى. فالآية ظاهرة على بطلان القول بالحركة الرّحويّة كما يقول بها بعض الفلاسفة من القدماء ، وإن كان بمعنى الانتصاب وارتفاعهما في الفضاء معلّقتين فإن ذلك يتلاءم مع القولين ويحتملهما. ثم إنّه تعالى بعد بيان الأدلة الدالة على التّوحيد الذي هو الأصل الأوّل ، وعلى الحشر والبعث الذي هو الأصل الآخر ، أشار بأنه المالك للعوالم الإمكانيّة بحذافيرها بقوله عزّ من قائل :

* * *

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ

٣٦٠