الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

 فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣))

١٩ و ٢٠ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ ...) قرئ بالتاء على تقدير القول ، أي : قل : أولم تروا. فالظاهر أنّ الخطاب لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمّته. وقرئ بالياء أيضا ويحتمل أن يكون المراد بضمير الجمع كفّار مكّة الذين أنكروا البعث وأقرّوا بأن الخالق هو الله ، فقال : أولم يتفكّروا فيعلموا كيف بدأ (اللهُ الْخَلْقَ) بعد العدم ثم يعيدهم ثانيا؟ ومن قدر على الإنشاء فهو على الإعادة أقدر (إِنَّ ذلِكَ) المذكور من الإبداء والإعادة (يَسِيرٌ) سهل على الله إذا اراده كان. ولا يخفى أن من الآية ١٨ (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) إلى الآية ٢٤ (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) احتمالين فيمكن أن تكون انشاءاته وإخباراته في إبراهيم وأمته ، ويمكن أن تكون في محمد وأمّته ، ونسأل الله أن يهدينا إلى سبيل الرشاد.

٢١ ـ (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ... وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ...) أي تردّون فيحاسبكم ويعذّب المستحقّ للعذاب ويرحم من يستحق الرحمة.

٢٢ ـ (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ...) أي لا يعجز الله عن إدراككم لو هربتم عن حكمه لو كنتم بشرا (فِي الْأَرْضِ) الواسعة أو (فِي السَّماءِ) التي هي أوسع من الأرض بمراتب كثيرة. والحاصل أن

٣٢١

الهرب من حكمه لا يفيدكم فإنكم إذا تحصّنتم في أعماق الأرض أو في القلاع المماسّة للسّماء لأخرجكم منها ليجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) مانع يمنعكم منه (وَلا نَصِيرٍ) ناصر يحرسكم ويدفع عنكم عذابه وبلاءه ممّا قضى به عليكم.

٢٣ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ ...) أي بدلائله الدالة على المعرفة والتوحيد أو كتبه (وَلِقائِهِ) أي البعث (يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) لإنكارهم البعث والجزاء. وقد جاء التّعبير بالماضي لتحقّقه ، ف (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع.

* * *

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

٣٢٢

٢٤ ـ (فَما كانَ جَوابَ ... إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ ...) هذا قول بعضهم. وقال آخرون : (أَوْ حَرِّقُوهُ) ونسبة كلّ واحد من الفعلين إلى جميعهم باعتبار رضاء الباقين حين قال البعض ، فكأنّ جميعهم قالوا بمقالة البعض. والحاصل أنهم بعد الاختلاف اتّفقوا على التحريق ولعلّ ترجيح التحريق لميل حكومة الوقت لذلك حقدا عليه ، حيث إن القتل ربما كان يخفى على أهل بعض البلدان بخلاف التحريق بتلك الكيفية المشهورة فيكون إعلانا عالميّا بأن كلّ من عمل إبراهيم وخالف فهذا جزاؤه ، فاشتهر الأمر في جميع البلدان بحيث كان المخالفون لطريقتهم الدينيّة قد عرفوا تكليفهم فاحتاطوا ليأمنوا من مخالفته وبأسه بعد ذلك.

ولكنّ الله تعالى قدّر خلاف تدبيرهم فصار الأمر طبق التقدير إرغاما لهم فأنتج تدبيرهم خلاف ما أمّلوا وراموا إذ (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) بعد ما رموه فيها بأن جعلها عليه بردا وسلاما (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إنجائه (لَآياتٍ) منها منعه من حرّها ، وسرعة إخمادها مع عظمها ، وجعله مكانها روضا ، وعدم تضرّره بالرّمي مع بعد المرمى عن المرميّ إليه وهي النار (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) والاختصاص بالمؤمنين فقط لأنهم أهل التفكّر والتدبّر وأصحاب الاعتبار.

٢٥ ـ (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ... مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ...) ثم إن إبراهيم عليه‌السلام بعد نجاته من النار قال لقومه : إنما اتخذتم الأوثان آلهة لتكونوا أهل دين واحدة وملّة واحدة فتتوادّون بينكم وتتواصلون فتكونون متّحدين في قبال أصحاب الحق ومذهب الصواب إذ ان الاتفاق على مذهب يكون سببا للمودّة بين المتفقين.

وهذه المودّة بينكم تبقى إلى حين الوفاة ، وبعدها تصير المودة عكس ما في الدّنيا كما حكاه الله تعالى بقوله (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) والباء إمّا زائدة إذا كان المراد بالكفر كفر جحود ، وإمّا بمعنى (من) إذا كان المراد به كفر براءة ، أي يتبرّأ بعضكم من بعض؟ وفي الكافي عن

٣٢٣

الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية : يعني يتبرّأ بعضكم من بعض. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : الكفر في هذه الآية البراءة ، يقول فيبرأ بعضكم من بعض ، إلى آخر الحديث (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي يقوم التلاعن والتّعادي بينكم ، أو بينكم وبين المعبودين من الأوثان كقوله تعالى : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مالكم أعوان يخلصونكم منها.

٢٦ ـ (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ...) أي صدّق لوط إبراهيم في رسالته من عند ربّه. وفي ما جاء به ، وكان لوط ابن خالته (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي قال إبراهيم للوط ولزوجته سارة التي كانت بنت عمّه وقد آمنت به. وقيل إنّ لوطا كان ابن أخته وأوّل من آمن به وقيل ابن أخيه وأمن به حينما رأى أنه خرج من النار سالما ، ولكنّ إيمانه بالله كان قبل ذلك ، ولذا قال الله تعالى : فآمن له ، وما قال فآمن لوط.

إنّي خارج من قومي الظالمين إلى حيث أمرني ربّي أي من (كوثى) وكانت نبوّته فيها وهي قرية من قرى سواد الكوفة وفيها بدأ أوّل أمره ، ثم هاجر منها إلى حرّان من أرض الشام ثم منها إلى فلسطين وكان معه في هجرته امرأته سارة (ع) ولوط (هُوَ الْعَزِيزُ) أي هو تعالى يمنعني من أعدائي (الْحَكِيمُ) الذي لا يأمرني إلّا بما فيه صلاحي. وبالجملة إنّ لإبراهيم هجرتين : الأولى من (كوثى) إلى حرّان ، والثانية من حرّان إلى الشام. ولذا قيل إنّ لكلّ نبيّ هجرة إلّا إبراهيم فإنه كان له هجرتان.

٢٧ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ...) في الكشّاف : إن إبراهيم حين الهجرة كان له من العمر خمس وسبعون سنة وفي تلك السنة وهبه الله تعالى إسماعيل من هاجر التي كانت خادمة سارة فوهبتها له عليه‌السلام ولمّا تمّ له من العمر مائة واثنتا عشرة أو عشرون سنة أعطاه الله إسحاق من سارة بنت عمه التي كانت عاقرا كما قال الله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) أي ولدا (وَيَعْقُوبَ) أي نافلة. والمراد بها هنا ابن الابن. ولم يذكر هنا إسماعيل لأن المقصود هنا بيان أنّ النبوّة بعد

٣٢٤

إبراهيم لأيّ شخص تنتقل ومن هو الوارث في مواريث الأنبياء ، فذكر إسحاق كان مقدّمة لتعيين النبيّ أو لتعيين الوارث في المواريث ، ولم يكن ذكر إسحاق في مقام بيان أولاد إبراهيم عليه‌السلام وشرحهم ولذا عقّب قوله : (وَوَهَبْنا) إلخ ... بقوله (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي ذرّية إسحاق أو يعقوب فإن كل نبيّ بعد إبراهيم كان منهما. وقد كثر الأنبياء وكانوا كلّهم من إسرائيل وبنيه عليهم‌السلام ، وهم ذرّية إبراهيم. وقد بدّل الله عزوجل جميع أحوال إبراهيم بأضدادها فبدّل الله عذابه بالنار بالبرد والسّلام ، وانقلبت وحدته بالكثرة حيث ملأ الدّنيا من ذرّيته وعوّضه عن أقاربه الضّالين المضلّين الذين من جملتهم عمّه آذر ، بأقارب هادين مهتدين ، وهم ذرّيّته الذين جعل فيهم النبوّة والكتاب. وكان إبراهيم عليه‌السلام في أوّل أمره قليل المال ، فأعطاه الله من المال حتى كان له من المواشي ما علم الله عدده حتى قيل إنّه كان له اثنا عشر ألف من الكلاب الحارسة لماشية مطوقة بأطواق ذهب خالص. أمّا الجاه والرفعة فالنبوّة واقترانه بالأنبياء في الصّلاة والسلام عليه معهم إلى يوم القيامة ، وقد توّج بتاج الخلّة وصار معروفا بشيخ الأنبياء وأولي العزم من المرسلين بعد أن كان مجهول الذكر عند قومه بحيث قال قائلهم : سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم. وهذا الكلام لا يقال إلّا في مجهول بين الناس. هذه جملة من مقاماته الدّنيويّة ، وأمّا الأخروية فقد قال الله تعالى في حقّه : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي أولي الدّرجات العليا مع المكمّلين في الصّلاح. وهذا الكلام أعظم مدح فيه من ربّ العزّة وقد يجمع الله لأقوام كرامة الدنيا والآخرة فهنيئا لهم ونسأله سبحانه أن يرزقنا خير الدنيا والآخرة. ثم إنّه سبحانه وتعالى لما كان في مقام شرح أحوال أنبيائه كما لاحظنا في مقامات عديدة سالفة ليكون النبيّ (ص) على بصيرة إذا سئل فيكون الجواب من معجزاته ، لذا بيّن في هذه السّورة أيضا جملا من أحوالهم مع أممهم تسلية له واعتبارا لأمّته فقال سبحانه :

* * *

٣٢٥

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠))

٢٨ ـ (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ...) إمّا عطف على إبراهيم ، أي : ولقد أرسلنا لوطا أو بتقدير : اذكر مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الفعلة الشّنعاء (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ) لفظة (مِنْ) زائدة داخلة على الفاعل لتأكيد عدم صدور هذا العمل عن أحد قبلهم من أهل الدنيا بأسرهم وهذا الكلام يؤكّد شناعة العمل وعظم حرمته عنده تعالى بحيث اجتنب عنه جميع الخلق. ثم إنّه تعالى يبيّن الفاحشة بقوله :

٢٩ ـ (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ...) أي تفعلون معهم الفعل الشنيع. والاستفهام إنكاريّ (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) تتركون السبيل المعتاد من مباشرة النساء المشتملة على المصلحة الّتي هي بقاء النوع وترغب فيها الطّباع خلافا لمباشرة غيرهنّ. هذا بقرينة قوله : لتأتون الرّجال وقيل إن المراد بقطع السبيل هو تعرّضهم للسّابلة بالفاحشة والفضيحة حتى انقطعت الطرق. والسّابلة هي الطّريق المسلوكة للأقوام المختلفة. أو المراد قطع سبيل النّسل ، أو باعتراض المارة بالقتل وأخذ المال (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ) أي المجلس ما دام أهله فيه (الْمُنْكَرَ) كالضّراط أو اللواط وكشف العورة ونحوها من المنكرات. وفي المجمع عن الرّضا عليه‌السلام : كانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة ولا حياء. والقمي قال :

٣٢٦

يضرط بعضهم على بعض. والحاصل لما رأى أن القوم لا يتناهون عن منكرهم بحيث يبقى ابتداع تلك الفاحشة في من بعدهم من أولادهم وذراريهم فإنّهم على دين آبائهم كما قال الجهلاء من أهل مكة : إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مقتدون. وهذا أمر طبيعيّ في البشر بل في مطلق الحيوان ، فكلّ على مسلكه الطّبيعيّ وعلى ديدن آبائه وأمّهاته يتعلم منهم ما يفعلون ، ولذلك نرى أن تربيتهم وتعليمهم لبعض التكاليف سواء كانت دينيّة أو غير دينيّة أمر صعب تركه كما نشاهد في البشر الذي هو أشرف الموجودات ، لا يخضع لتلك التكاليف الإلهية بل حتى يقتل الذي يقول بما هو خلاف طبعه ولو كان من الأنبياء والرّسل. وبالجملة هذا أمر واضح لا يحتاج في إثباته إلى برهان عند من يرجع إلى وجدانه. ولذا فإن لوطا لمّا آيس منهم أن يؤمنوا به وبما جاءهم به ، دعا عليهم فاستجاب الله دعاءه.

٣٠ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي ...) أي أعنّي (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بقبائح أعمالهم وسنّها في الناس.

* * *

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢))

٣١ ـ (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ ...) أي حين جاءته الملائكة لإنزال العذاب بقوم لوط (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قرية (سدوم) التي كانت بين القدس والكرك قرب جبال لبنان ، والتي كان يسكنها لوط وبعث إليها لهداية أهلها. وإنّما قالوا (هذِهِ) باسم الإشارة إلى القريب لأن

٣٢٧

سدوم كانت قريبة إلى قرية إبراهيم عليه‌السلام وسنهلكهم لأنهم ظالمون لأنفسهم ولغيرهم بما يرتكبون من آثام وكبائر.

٣٢ ـ (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ...) أي كيف تنزلون العذاب بها وفيها لوط سلام الله عليه؟ (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) نعرف من فيها وسيكون ناجيا إلّا امرأته فإنّها (مِنَ الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب مع من غبر من الكفرة الفجرة.

* * *

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

٣٣ ـ (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا ...) كلمة (أَنْ) زائدة ، زيدت للتأكيد. فلمّا جاءت الرسل لوطا (سِيءَ) أي اغتمّ بسببهم إذ جاؤا في صورة غلمان حسني المنظر أضيافا فخاف عليهم قومه (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي صدرا كناية عن فقد الطاقة. ولمّا رأوا فيه أثر الضّجر (قالُوا لا تَخَفْ) علينا من قومك (وَلا تَحْزَنْ) لأجلنا منهم إنّا رسل ربّك و (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ).

٣٤ ـ (إِنَّا مُنْزِلُونَ ... رِجْزاً مِنَ السَّماءِ ...) أي عذابا منها. وتسمية

٣٢٨

العذاب رجزا ورجسا لقلق المعذّب واضطرابه ، يقال ارتجز إذا ارتجس واضطراب.

٣٥ ـ (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً ...) والمراد بالآية إمّا حكايتهم الشائعة ، وإمّا آثار ديارهم الخربة ، أو الحجار السّجيليّة التي توجد بعض الأوقات فيها ، أو المياه السّوداء الباقية إلى الآن المنزلة مع الأحجار وكانت كالقطران (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) للمتدبّرين المتفكرين للإستبصار والإعتبار.

* * *

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧))

٣٦ ـ (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ...) يمكن أن يراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، أو أهل مدين الذي هو بلد بناه وسماه باسمه ، وهو على طريق الشام ، وشعيب بن بويب بن مدين ، وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه وهم أصحاب الأيكة. وعن قتادة أرسل شعيب مرتين ، مرة إلى مدين وأخرى إلى أصحاب الأيكة وقوله (أَخاهُمْ) لأن شعيبا كان منهم نسبا فأمرهم بعبادة الله تعالى والرجاء منه تعالى ثوابه يوم الآخرة أو الخوف منه ، فان الرجاء استعمل بمعنى الخوف (وَلا تَعْثَوْا) أي لا تسعوا بالفساد.

٣٧ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ...) أي الزلزلة أو صيحة جبرائيل

٣٢٩

الّتى صارت سببا للزلزلة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) صرعى على وجوههم أو على ركبهم ميّتين.

* * *

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

٣٨ ـ (وَعاداً وَثَمُودَ ...) عطف على شعيبا أو على ما قبله ، أو بتقدير اذكر ، أو أهلكنا جزاء على كفرهم (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي من جهتها عند مروركم بها يا أهل مكّة ، فإنّها آية في إهلاكهم فلم لا تعتبرون ولا تستبصرون ولم لا تنتبهون؟ (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي متمكّنين من النظر ولكن لم ينظروا ولم يتدبّروا لأن الشيطان اشرب في قلوبهم حبّ أعمالهم الباطلة.

٣٩ ـ (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) : أي أهلكناهم. وقدّم قارون لشرف

٣٣٠

نسبه (وَما كانُوا سابِقِينَ) أي فائتين أمرنا ، بل أدركهم وأفناهم كلّهم

٤٠ ـ (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ...) أي عذّبنا كلّ واحد بجرحه (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي ريحا عاصفا فيها حصباء كقوم لوط على قول (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كثمود ومدين (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وقومه وما كان الله تعالى (لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكهم بل كانوا (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإشراكهم وبالتّعريض للعذاب.

* * *

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣))

٤١ و ٤٢ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) : أي أصناما يلجأون إليها (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) أي في وهن ما اعتمدوه في دينهم شبّه الله تعالى حال الكفّار الذين اتخذوا غيره آلهة بحال العنكبوت في ما تنسجه في الوهن والضعف ، فانه لا بيت اوهن وأقلّ وقاية للحوادث والحرّ والبرد منه ، فكذا آلهة الكفرة من الأصنام والأوثان فإنها لا تقدر على دفع

٣٣١

شيء من الحوادث عن نفسها ، فكيف عن غيرها؟ فدينهم أوهن الأديان وأدناها (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أنّها مثلهم لندموا ورجعوا إلى الدّين الحق وإله الخلق (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في صنعه.

٤٣ ـ (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها ...) أي هذا المثل ونظائره نجيء به لتقريب ما هو بعيد عن الأفهام ولمعرفة قبح ما هم عليه من عبادة الأوثان وحسن معرفة الله وتوحيده (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) المتدبّرون في حقائق الأشياء على ما ينبغي ، فإن الأمثال والتشبيهات دلائل وطرق إلى المعاني المحتجبة لإبرازها وكشف أسرارها حيث إنّها بغير الأمثال لا تبرز ولا تظهر ولا تتصوّر من غير العالم والجهلة لا يصلون إلى فهمها ولذا كان جهلة قريش يستهزئون ويقولون إله محمّد يمثّل بالذباب وبالعنكبوت ، ويضحكون. ولذا قال تعالى : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ...) ثم إنّه تعالى أخذ في بيان ما هو دال على ألوهيّته المطلقة وأنّه سبحانه مستحق للعبادة بقوله عزوجل :

* * *

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ

٣٣٢

وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦))

٤٤ ـ (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ...) أي بغرض صحيح لا بالباطل لهوا ولعبا. فإن المقصود بالذات من خلقهما هو إفاضة الخير وإنزال الرحمة على الخلق أجمعين. منها إسكانهم فيهما على اختلاف أجناسهم وأنواعهم وأصنافهم وأفرادهم ، ومنها دلالتهما مع ما فيهما على ذاته المقدّسة وعلى أوصافه الكاملة كما أشار بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنّهم المنتفعون بها حيث إنّهم الراسخون في الإيمان وأهل الاعتبار.

٤٥ ـ (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ...) فإنّ قراءته إحياء له وإشاعة لما فيه من الأحكام والوعد والوعيد والقصص الاعتباريّة وغيرها ممّا يحصل به التقرب إليه تعالى بتلاوته وحفظ ألفاظه عن الزيادة والنقصان واستكشاف معانيه ولمصالح أخر هو أعلم بها (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فالقمّي نقل أن الإمام عليه‌السلام قال من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد عن الله عزوجل إلّا بعدا.

وفي رواية أخرى : فليست صلاته بشيء

وقيل : في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى) إلخ .. دلالة على أن فعل الصلاة لطف للمكلّف في ترك القبيح والمعاصي التي ينكرها العقل والنقل ، فإذا كان أثرها أنها تنهى عن القبيح تكون توقيفيّة وإلا فقد أتى المكلّف بها من قبل نفسه. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : من أحبّ أن يعلم أن صلاته قبلت أم لم تقبل فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر؟ فبقدر ما منعته قبلت منه.

وروي أن فتى من الأنصار كان يصلّي الصّلوات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويرتكب الفواحش. ووصف ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إن صلاته تنهاه يوما ما. فلم يلبث أن تاب (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) في القمّي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال : ذكر الله لأهل الصّلاة

٣٣٣

أكبر من ذكرهم إيّاه. ألا ترى أنّه يقول : اذكروني أذكركم؟ وعن الصادق عليه‌السلام في قول الله تعالى (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : ذكر الله عند ما أحلّ وحرّم. وعن ابن عبّاس : ولذكر الله إيّاكم برحمته أكبر من ذكركم إيّاه بطاعته. وهذه بناء على أنّ المراد بالذكر هو معناه المصدري أي التذكّر ويحتمل أن يكون بمعناه المصطلح أي التسبيح والتمجيد والتحميد وغيرها من الأذكار كما قد روي أن معاذ بن جبل قال : ما نعلم شيئا أفضل من ذكر الله. ما عمل آدميّ عملا أنجى من عذاب الله من ذكر الله حتى الجهاد ، لأنه تعالى قال : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وسئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أحبّ الأعمال عنده تعالى ، قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عزوجل. فإن ظاهر تلك الروايات أن المراد بالذكر هو ما اصطلح بينهم مما ذكرنا ولا سيّما بقرينة ما في بعضها من الاستدلال بقوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وفسر بالصّلاة أيضا في بعض الأقوال.

٤٦ ـ (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ ...) أي لا تتناقشوا مع اليهود والنصارى من بني نجران (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إلّا بالخصلة التي أحسن الخصال كمقابلة الخشونة باللّين والغضب بالحلم والمشاغبة بالنّصح. وفي هذه الآية دلالة على وجوب الدعوة إلى الله على أحسن الوجوه وألطفها واستعمال القول الجميل في التنبيه على آيات الله وحججه (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بنبذ الذمة أو قولهم بالولد أو الابتداء بالقتال (وَقُولُوا آمَنَّا) هذه الشريفة إلى آخرها لعلّها مفسّرة لمجادلة الأحسن وبيان لها من جهة الكيفيّة. وروي عن النبيّ (ص) أنه قال : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم ، وقولوا آمنّا بالله وبكتبه ورسله ، فإن قالوا باطلا لا تصدّقوهم وإن قالوا حقّا لا تكذّبوهم. وروي عن أبي سلمة أن اليهود كانوا يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها للمسلمين بالعربية ، فقال النبيّ (ص) لا تصدّقوا أهل الكتاب إلخ.

* * *

٣٣٤

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢))

٤٧ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ...) أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء السّابقين أنزلنا إليك القرآن مصدّقا للكتب المنزلة وموافقا لها في أصول دين الإسلام (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي علم الكتاب كابن سلام وأمثاله ، أو المراد من الموصول نفس الأنبياء الذين أرسل إليهم الكتاب لا الأمّة كما هو الظاهر (يُؤْمِنُونَ بِهِ)

٣٣٥

أي بالقرآن أو بالنبيّ لاطّلاعهم على نعوته وأوصافه (ص) في التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية ، ولذا أقرّوا به قبل بعثته بل قبل ولادته. وقال القميّ : هم آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين (وَمِنْ هؤُلاءِ) أي من العرب أو أهل مكّة أو ممن عاصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل الكتابين (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) بالنبيّ أو بالقرآن (وَما يَجْحَدُ) ينكر ويكفر (بِآياتِنا) مع ظهورها وقيام الحجّة عليها (إِلَّا الْكافِرُونَ) وقال القمي وما يجحد بأمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام (إِلَّا الْكافِرُونَ) أي المتوغلون في الكفر المصرّون عليه كأبي جهل وأمثاله من المشركين ، ومن اليهود نحو كعب بن الأشرف وأمثاله من المعاندين للدّين مع جزمهم بصدق القرآن والنبيّ وعلمهم بأن القرآن معجزة له (ص) كما أشار إليه بقوله :

٤٨ ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ...) أي قبل ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم والمعارف على يد أمّي لا يعرف ولم يعرف قبل هذا القرآن قراءة ولا تعلّم من أحد ، وهو بين أظهرهم خارق للعادة ودالّ على كونه معجزة (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي ما كنت تعرف الخط حتى تخطّه بيمينك ولو كنت تقرأ وتخطّ (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) الذين شأنهم الرّيب والباطل وهم كفرة مكّة بقولهم لعلّه جمعه من كتب الأولين والتقطه منها وهو يقرأه علينا وينسبه إلى إله السماء. ولما جاء به مع الأميّة فلا منطق لهم لهذا الاتّهام. وكذلك أهل الكتاب لوقعوا في الشك لو كان من أهل القراءة والخط حيث إنهم وجدوا أوصافه في كتبهم أنّه أمّي لا يعرف القراءة ولا الخط.

٤٩ ـ (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ ...) القرآن آيات ، أي : دلائل على التوحيد والرسالة ، بيّنات أي : واضحات ظاهرات (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) عن الصّادق عليه‌السلام : هم الأئمّة عليهم‌السلام ، وقال : نحن ، وإيّانا عنى. والحاصل أنهم هم الذين يحفظونه عن التحريف (وَما

٣٣٦

يَجْحَدُ بِآياتِنا) الواضحة (إِلَّا الظَّالِمُونَ) بالعناد والمكابرة ، وقيل هم مطلق الخارجين عن دائرة الحق والصّواب ، وقيل هم كفار اليهود.

٥٠ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ...) أي كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى ونحوها (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي بيده واختياره ينزلها كما يشاء وحسب مقتضياتها ومصالح عباده والأزمنة والأمكنة ، لا بيدي واختياري (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي أن وظيفتي هي الإنذار بما أعطيت من الآيات ، والتخويف بها من معصية الله وإظهار الحق من الباطل.

٥١ ـ (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ...) أي آية مغنية عمّا اقترحوه ، وهو القرآن الذي أنزلناه عليك (يُتْلى عَلَيْهِمْ) تدوم تلاوته عليهم فهو آية ثابتة لا تزول بمرور الدّهور وانقضاء الأيّام. بخلاف سائر الآيات (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في الكتاب المعجز المستمر (لَرَحْمَةً وَذِكْرى) أي نعمة وعظة.

وروي أن أناسا من المسلمين أتوا رسول الله (ص) بكتف كتب فيه بعض ما يقوله اليهود فقال : كفى بها ضلالة قوم أن يرغبوا عمّا جاء به نبيّهم إلى ما جاء به غير نبيّهم ، فنزلت الآية الآتية ، قل كفى إلخ ...

٥٢ ـ (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ...) أي من حيث الشهادة بصدقي ، وقد صدّقني بالمعجزات أو بالقرآن الذي شهد بنبوّتي فيما قال : محمّد رسول الله (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان والنيران برضا الرحمان.

* * *

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ

٣٣٧

وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

٥٣ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ...) أي استهزاء ، ويقولون أمطر علينا حجارة من السّماء (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) أي أن لكل عذاب ولكلّ قوم وقتا معيّنا ، ولولاه لجاءهم ما يستعجلونه (بَغْتَةً) عاجلا وفجأة بحيث لا يشعرون بإتيانه.

٥٤ ـ (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ...) قوله تعالى في الأوّل هو إخبار عنهم ، وفي الثاني تعجّبّ منهم ومتضمّن للاستفهام ، أي : أيستعجلونك به والحال (إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) يعني وإن لم يأتهم العذاب في الدنيا لمصالح كثيرة ، لكن عذاب جهنّم سيحيط بهم إحاطة لما عندهم من الكفر والإلحاد.

٥٥ ـ (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) إلخ ... أي النار تحيط بهم من جميع جوانبهم بحيث لا يبقى جزء منهم خارجا عن النار (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء أعمالكم وأفعالكم القبيحة. وهذا من باب إقامة السّبب مقام المسبب.

* * *

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

٣٣٨

الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠))

٥٦ ـ (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ ...) نزلت هذه الشريفة في جماعة من المسلمين ، من الصعاليك والمستضعفين كانوا بمكة يؤذيهم المشركون ، فأمروا بالهجرة إلى المدينة فقالوا كيف نخرج إليها وليس لنا بها دار ولا عقار؟ ومن يطعمنا ويسقينا فبيّن الله تعالى أنه لا عذر للعباد في ترك الطاعة فإنّ تعذّرت الطاعة في بعض البلاد عليهم ، فلا بدّ لهم من المهاجرة إلى غيرها. فيستفاد من الكريمة أن الاقامة في دار لا يمكن فيها العبادة والطاعة حرام والخروج منها واجب (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي فاعبدوني في ما يمكنكم من البلاد بعد الهجرة إليها. وفي الجوامع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب بها الجنّة وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلوات الله عليهما وعلى آلهما. ثم إنّه تعالى يخوّف المهاجرين بالموت حتى يسهّل عليهم المهاجرة. يعني إن كان حبّ الأهل والأولاد والوطن أو المصاحبة يمنعكم عن المهاجرة فإنه سيأتيكم يوم لا بدّ فيه من مفارقة هؤلاء لأنه :

٥٧ و ٥٨ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ...) أي في كلّ مكان وفي كلّ زمان ، سواء كان الشخص في وطنه أو في غيره ، وفي يوم شبابه أو هرمه فإنه سيموت هو وجميع الناس الآخرين (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي لا محالة أن رجوعكم وعودكم إلينا توفية للجزاء فلا تقيموا بدار الشّرك وتوجّهوا إلى دار الإيمان وكعبة الأمن والأمان أي المدينة المشرّفة زادها الله شرفا ، حتى تشتغلوا بفراغ البال لعبادة الله تعالى وهكذا ففي كلّ بلد لا يمكن إظهار شعائر الدّين والإيمان يجب النقل منه إلى بلد آخر يتمكن الإنسان فيه من

٣٣٩

العمل بوظائف دينه أي لننزلنّهم مكانا من الجنة أو لنثوينّهم من الإثواء أي الإقامة (غُرَفاً) أمكنة عالية رفيعة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تحت الغرف (خالِدِينَ فِيها) أي يكونون في الغرف إلى الأبد ، و (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي نعمت الجنة أجرا للعاملين. وحذف المخصوص بالمدح لدلالة الكلام السّابق عليه. ثم أخذه سبحانه في بيان العاملين بذكر أوصافهم فقال :

٥٩ ـ (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ...) أي صبروا على المشاقّ والمحن والأذى وينحصر توكّلهم عليه سبحانه. فلما نزلت الشريفة هذه عزموا على المهاجرة إلى المدينة ، ولمّا مشوا ووصلوا إلى أثناء الطريق عرضت لهم الوسوسة وغلبت عليهم قوّة حبّ الوطن وصعوبة الغربة وأنّا نروح إلى بلد لا يكون لنا فيها دار ولا أسباب معيشة ، فقصدوا الرجوع إلى مكة فنزلت الكريمة :

٦٠ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ...) القمّي قال : كان العرب يقتلون أولادهم مخافة الجوع. فقال الله تعالى (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بضمائركم. وفي المجمع عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بعض حيطان الأنصار فأخذ يأكل تمرا وقال هذه صبح رابعة لم أذق طعاما ، ولو شئت لدعوت ربّي فأعطاني مثل ما ملك كسرى وقيصر ولكن أريد أن أكون يوما جوعانا وآخر شبعانا. فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت مع قوم يخبئون رزق سنتهم لضعف اليقين؟ قال ابن عمر : فو الله ما برحنا حتّى نزلت : وكأيّن من دابّة (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) من ناحية عدم القدرة والطاقة على إيجاده ، بل الله تعالى هو الرزّاق الكريم لسائر مخلوقاته. وقد روي أن من المخلوقات التي تدخّر الرزق ثلاثة ، هي : الإنسان ، والنملة ، والفأر. وقيل إنّ العقعق يدّخر رزقه ولكنه ينسى مكانه.

* * *

٣٤٠