الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

باختيار الخلق ، وفي الإكمال عن القائم عليه‌السلام أنه سئل عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار الإمام لأنفسهم. قال : مصلح أم مفسد؟ قيل : مصلح. قال : هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد. قيل : بلى. قال : فهي العلة ، وأوردها لك ببرهان ينقاد له عقلك. ثم قال عليه‌السلام : أخبرني عن الرّسل الذين اصطفاهم الله عزوجل وأنزل عليهم الكتاب وأيّدهم بالوحي والعصمة إذ هم أعلام الأمم ، مثل موسى وعيسى هل يجوز مع وفور عقلهما ، إذ هما بالاختيار ، أن يقع خيرتهما على المنافق وهما يظنّان أنه مؤمن قيل : لا. قال : هذا موسى كليم الله ، مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي إليه ، اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربّه ولاستماع كلام ربّه عزوجل سبعين رجلا ممّن لا يشك في إيمانهم وإخلاصهم ، فوقع خيرته على المنافقين ، قال عزوجل : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) ، إلى قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ). فلمّا وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله عزوجل للنبوّة واقعا على الأفسد دون الأصلح ، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد ، علمنا أن الاختيار لا يجوز أن يقع إلّا ممّن يعلم ما تخفي الصدور وتكنّ الضمائر وتنصرف إليه السرائر ، وأنه لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لمّا أرادوا الصلاح.

وهكذا فإنه سبحانه يقيم الحجة على صحة اختياره بقوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) ، إذ يعلم ما تضمر الصدور وما تخفي النفوس من عداوة الرسول والمؤمنين ، ويعلم (ما يُعْلِنُونَ) ما يبرزونه ويظهرونه من الطعن في نبوّة النبيّ وتكذيب القرآن. فمن يكون هذا شأنه ينبغي أن يختار الأصلح ، لا من يعلم ظواهر الأشخاص دون بواطنهم. فكيف بمن لا يميّز الأصلح ، لا من يعلم ظواهر الأشخاص دون بواطنهم. فكيف بمن لا يميّز الأصلح من الأفسد؟ والحاصل أنه سبحانه وتعالى هو المتفرّد في الخلق وفي اختيار الأصلح لقيادة عباده وهداهم ، وهو منزّه عن الشريك والمنازع في

٣٠١

ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله من خلق واختيار وغيره ، لا إله إلّا هو العزيز الحكيم.

* * *

(وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣))

٧٠ ـ (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) أي أنه لا معبود بحقّ سواه ، و (لَهُ الْحَمْدُ) أي المدح والثّناء (فِي الْأُولى) أي في الدّنيا (وَلَهُ الْحُكْمُ) الأمر والنهي أو القضاء النافذ أو الحكم بالمغفرة والفضل لأهل الطاعة وبالشقاء والويل لأهل المعاصي ثم بعد ذلك يذكر التوحيد وقدرته بقوله سبحانه :

٧١ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ... عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً ...) أي دائما بأن يبقي الشمس وراء الأرض ساكنة (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) هل يقدر غير الله إله آخر أن يأتي بضياء لكم بإثبات الشمس قبالة الكرة الأرضيّة لتضيء الدنيا فتشتغلون بطلب المعاش (أَفَلا تَسْمَعُونَ) مواعظ الله وبيان آياته بأذن

٣٠٢

التدبّر والتفكّر لتعتبروا؟ والاستفهام تقريريّ ، أي من هذه العلامة التي هي من علائم القدرة لا بد وأن تعترفوا بكمال قدرته ووحدانيته وتنزيهه عمّا تقولون به من الشّرك.

٧٢ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ ... النَّهارَ ...) أي أخبروني عمّا إذا جعل النهار (سَرْمَداً) دائما بحبسها فوق الأرض ومنعها عن الحركة من السرد وهو المتابعة (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أيّ قادر يقدر على حركة الشمس سوى الله القادر المتعالي الذي بيده أزمّة أمور العوالم وما فيها وعليها بحذافيره وأسره؟ من (يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) تستريحون فيه من نصب العمل ومشاقّه (أَفَلا تُبْصِرُونَ) إمّا من البصيرة يعني : أفلا تتبصّرون؟ وإمّا من البصر بمعنى المشاهدة أي : أفلا تشاهدون ولا تنظرون تلك الآيات الظاهرة بعين التعقّل والتدبّر فتعلمون أنها من صنع مدبّر حكيم عليم؟

٧٣ ـ (وَمِنْ رَحْمَتِهِ ...) أي رحمته الواسعة (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) خلقهما لكم (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) لاستراحتكم في الليل والتذاذكم فيه من أتعاب الأشغال في النهار (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في النهار من الرزق الذي قرّره الله تعالى لكم بفضله وكرمه لا باستحقاقكم (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله تعالى أي لإرادة شكركم على نعمتيه : الليل والنهار لكثرة فوائدهما المذكورة وغيرها مما لم نذكره.

* * *

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

٣٠٣

٧٤ ـ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ ...) إنما كرّر هذه الآية بعينها أو بمضمونها تقريعا لهم بعد تقريع ، أو أن النداء الأول في الآية الأولى السابقة لتقرير إقرارهم على أنفسهم بالغي ولتقرير فساد رأيهم ، والثاني للتعجيز عن إقامة البرهان بحضرة الأشهاد وأنّه لم يكن لهم برهان.

٧٥ ـ (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ...) أي أخرجنا من بين أفراد كلّ أمة نبيّهم الذي أرسل إليهم يشهد عليهم بما كان منهم وبما كانوا عليه (فَقُلْنا) للأمم الذين لم يتّبعوا نبيّهم وكذّبوا ما جاءهم به من عند الله تعالى (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجتكم على صحة ما كنتم عليه (فَعَلِمُوا) بعد عجزهم عن الإتيان ببرهان على مدّعاهم (أَنَّ الْحَقَ) أي في الإلهيّة (لِلَّهِ) وحده (وَضَلَّ عَنْهُمْ) اي غاب وزهق (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الباطل واللّغو.

* * *

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً

٣٠٤

وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

٧٦ ـ (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى ...) لا يخفى أن الله تعالى افتتح هذه السّورة الشريفة ببيان قصّة موسى وفرعون حيث قال (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فأراد أن يختتمها بقصّة قارون وموسى وبيان حال قارون وكيفيّة هلاكه حتى يكون عبرة لأهل الدّنيا وأهل الكبر والنخوة فقال سبحانه (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) فنصّ القرآن يدل على أن قارون كان من قوم موسى عليه‌السلام وظاهره يدل على أنه كان ممّن آمن به. ولا يبعد حمل قوميّته على القرابة ، ولذا اختلفوا في كيفيّة القرابة فقيل كان ابن خالته وهذا القول منقول عن ابن عباس ومرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أو ابن عمّه (ع) لأن قارون كان ابن

٣٠٥

يصهر بن فاهث بن لاوى وموسى بن عمران بن فاهث بن لاوى من أولاد يعقوب (فَبَغى عَلَيْهِمْ) تكبّر وطلب الفضل والتفوّق عليهم بعد أن كان في زمان فقره واحتياجه متواضعا وخليقا ، وكان ممن آمن بموسى واختاره موسى في السبعين الذين اختارهم لميقاته فكان منهم وسمع كلامه تعالى وكان أقرأ بني إسرائيل في قراءة التوراة وأتقنهم. وقيل إنّ إيمانه كان ظاهريّا وفي الباطن كان كافرا كالسّامري ، فأراد سبحانه أن يختبره حتى يظهر كفره ونفاقه على الناس جميعا فأعطاه مالا وجاها عريضا فتطاول على بني إسرائيل وتكبّر بحيث خرج عن إطاعة موسى وأنكر ما جاء به واستطال عليهم بكثرة كنوزه كما قال جلّ اسمه (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) من الأموال المدّخرة (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) أي ما يفتح به الغلق بناء على كونها جمع مفتح بالكسر ، وأما بناء على كونها مفتح بالفتح فهو الخزانة. والأوّل هو الأنسب الأظهر ، وتذكير الضمير باعتبار بعض المستفاد من كلمة (مِنْ) والمراد مفاتيح الصناديق (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) تثقل عليهم وتعجز عن حملهم إياها وحفظهم لها. والعصبة : قيل هو العشرة كما قال تعالى في إخوة يوسف : ونحن عصبة ، وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم ، وقيل أربعون ، وقيل ستّون. ثم بيّن سبحانه أنه كان في قوم موسى عليه‌السلام من وعظ قارون بأمور ، أحدها قوله (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي لا تبطر بالنّعمة ولا يلهك المال عن الآخرة لأن من يعلم أنه سيفارق الدنيا لا يفرح بها. وثانيها قوله تعالى :

٧٧ ـ (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ ...) أي من الأموال ، فاطلب بها الآخرة بإنفاقها في سبل الخير الموصلة إليها. وثالثها : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) واعمل في الدنيا للآخرة ولا تنس أن تعمل لآخرتك ، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو الذي يعمله لآخرته. أو المراد لا تنس من هذه الأموال التي أعطاك الله إياها في الدنيا حظّ نفسك ، وخذ منها مقدارا تشتري به الجنّة ، ولا تتركها كلّها للورّاث حتى ثلثها الذي جعله الله لك فيجب أن تستفيد منه في أمر آخرتك فإن نصيب المرء من الدنيا ليس غير

٣٠٦

ما أنفقه في طاعة الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ، ولا بعد الدّنيا دار إلّا الجنة أو النار ، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشبيبة قبل الكبر ، ومن الحياة قبل الموت. والرابعة (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي أنفق إلى عباد الله بإزاء إحسان خالقهم إليك ، ويدخل فيه وجوه الخير والإعانات. والخامسة (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي لا تطلبه. والمراد من الفساد الظلم والاستطالة على الناس ، والجناية ، بل مطلق المعاصي والخيانات فهي فساد في الأرض ، والعلم عند الله تعالى. وفي مصباح الشريعة قال الصادق عليه‌السلام : فساد الظاهر من فساد الباطن ، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، ومن خان الله في السرّ هتك الله سرّه في العلانية ، وأعظم الفساد أن يرضى العبد بالغفلة عن الله تعالى ... وكانت هذه الخصال الخمس من أوصاف قارون وأحواله وأصلها يرجع إلى حبّ الدنيا ، ولذا قيل : إنه رأس كل خطيئة.

٧٨ ـ (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ...) اختلف في معناه ، فقيل : أراد إنما أعطيت هذا المال بفضل وعلم عندي ليسا موجودين عندكم ، يعني أنه قدّر هذا المال ثوابا من الله تعالى له لفضيلته على سائر بني إسرائيل كما أخبر سبحانه عن عقيدة هذا الفاسق بقوله : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) وقيل معناه : لرضاء الله عنّي ومعرفته باستحقاقي أعطاني هذا المال والجاه. وقيل معناه إن المال حصل لي على علم عندي بوجوه جمع المال من المكاسب والتجارات والزراعات وغيرها. وقيل علم عندي بصنعة الذهب وهو علم الكيمياء عن الكلبي. ثم إنه تعالى توبيخا على اغتراره بقوّته وكثرة أمواله وتخويفا له يقول : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) كشداد وعاد وثمود وأصحاب الرس (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) قال القمي : أي لا يسأل من كان قبلهم عن ذنوب هؤلاء المهلكين.

٣٠٧

٧٩ ـ (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ...) قال القمي : في الثياب المصبّغات يجرّها على الأرض ، وقيل على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيّه ، وقيل كيفيّات أخر في زينته ولا كثير فائدة في نقلها بل الأولى تركها لأنها متعارضة ولا طائل تحتها (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) تمنّوا مثله لا عينه حذرا من الحسد.

٨٠ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...) أي الخلّص من أصحاب موسى كيوشع وأصحابه (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) وهذه كلمة زجر عما هو غير مرضيّ. والشريفة تدلّنا على وظيفتنا المهمة وهي النهي عن المنكر والأمر بالمعروف وتدلّ على أنهما لا يختصّان بشريعة دون شريعة بل كانا واجبين في جميع الأديان والشرائع حيث نرى أن أرباب العلم وأصحاب التوحيد من أتباع موسى لمّا رأوا الناس تمنّوا مثل ما كان لقارون وعلموا أن فيه هلاكهم كما كان هلاك قارون فيه ، زجروهم عمّا تمنّوا من الدنيا الفانية المهلكة ونهوهم عن ذلك ودعوهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم دنيا وآخرة وهو ثواب الله الباقي ، وأمروهم بالحقيقة بتحصيله والأخذ به (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي لا ينالها غيرهم ، أو لا يوفّق لها وللعمل بهذه الكلمة التي ألقاها العلماء ، سوى الذين صبروا على الطاعات وعن المعاصي واستغنوا بقليل الدّنيا عن كثيرها.

٨١ ـ (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ ...) أي ابتلعته وداره وما فيها من كنوز وصناديق من الذهب والفضة ومختلف الجواهر القيّمة بأمرنا لئلّا يقول الناس بعد هلاكه إن موسى أهلكه ليرث ميراثه حيث إن موسى كان ابن عمّه فلذا لم يبق على وجه الأرض شيء من أمواله (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ) أي من أعوان يدفعون عنه العذاب. وفي العياشي عن الباقر عليه‌السلام قال : إن يونس عليه‌السلام لمّا آذاه قومه ، وساق الحديث إلى أن قال : فألقى نفسه فالتقمه الحوت فطاف به البحار السّبعة حتى صار إلى البحر المسجور ، وبه يعذّب قارون. فسمع قارون دوّيا فسأل الملك عن

٣٠٨

ذلك فأخبره الملك أنه يونس ، وأنّ الله حبسه في بطن الحوت. فقال له قارون : أتأذن لي أن أكلّمه؟ فأذن له ، فسأله عن موسى فأخبره أنه مات ، فبكى. ثم سأله عن هارون فأخبره أنّه مات ، فبكى وجزع جزعا شديدا. وسأله عن أخته كلثم وكانت مسمّاة له ، فأخبره أنها ماتت ، فبكى وجزع جزعا شديدا. قال فأوحى الله إلى الملك الموكّل به أن ارفع عنه العذاب بقية أيام الدنيا لرقّته على قرابته.

٨٢ ـ (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ ...) أي الذين كانوا يترجّون مكانة قارون ويأملون منزلته ورفيع جاهه قبل الخسف ، وكانوا يقولون يا ليت لنا مثل ما كان لقارون من الأموال والرفعة ، فبعد الخسف رجعوا من مقالتهم وكانوا متأثرين ومتأسفين على ما ترجّوه وأمّلوه ، وأقبلوا على الصّلاح والسّداد وزجروا القائلين بالمقالة قبل الخسف بقولهم (ويك إن الله) كلمة وي تستعمل في الزّجر ، ركبّ مع كاف الخطاب نحو ذلك اي أمنعك أيّها القائل عن مقالتك غير المرضيّة لله والباعثة على هلاك نفسك حيث إن الله تعالى ، (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي أن سعة الرزق وضيقه بيد قدرته وحسب ما تقتضيه الحكمة وتحكم المصلحة. ويستعمل في التعجّب أي موضوعة له على ما نقل عن أهل اللغة. أي أتعجّب من تلك المقالة وأنّ الله يبسط الرزق ، الآية .. وعن القمي : هي كلمة سريانيّة ، وقيل معاني أخر ، كقول البعض : وي كلمة يستعملها النّادم لإظهار ندامته : ولعل هذا المعنى أحسن المعاني وانسبها بالمقام والله أعلم. وتأويلات فيها والله تعالى اعلم بها.

* * *

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ

٣٠٩

 جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

٨٣ ـ (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ...) أي التي سمعت خبرها وبلغك وصفها (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا) غلبة وقهرا (وَلا فَساداً) بغيا وظلما. وفي المجمع عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه كان يمشي في الأسواق وهو وال يرشد الضالّ ويعين الضّعيف ويمرّ بالبقّال والبيّاع فيفتح عليه القرآن ويقرأ هذه الآية ، ويقول : نزلت في أهل العدل والتواضع من الولاة ، وأهل القدرة من سائر الناس ، وعنه عليه‌السلام أنّه قال لحفص بن غياث : يا حفص ما منزلة الدنيا من نفسي إلّا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها ، وكان يتلو له تلك الدار الآخرة إلى آخرها ، وجعل يبكي ويقول : ذهبت والله الأماني عند هذه الآية ، فاز والله الأبرار. تدري من هم؟ الذين لا يؤذون الذّر كفى بخشية الله علما ، وكفى بالأغرار بالله جهلا.

٨٤ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ... إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ...) أي مثل ما كانوا يعملون لا يزاد على قدر استحقاقهم في عقابهم ، بخلاف الزيادة في الفضل على الثواب المستحق فإنّه يكون تفضلا.

* * *

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا

٣١٠

تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

٨٥ ـ (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ...) أي أوجب تلاوته وتبليغه وامتثال ما فيه من الأحكام (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قيل لما نزل النبي (ص) الجحفة في سيره إلى المدينة مهاجرا ، اشتاق إلى مكة. فأتاه جبرائيل (ع) فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال : نعم. قال جبرائيل : فإنّ الله يقول : إنّ الذي فرض (الآية) فالمراد من (مَعادٍ) هو مكة ، والله تعالى يبشّر النبيّ (ص) برجوعه وعوده إليها يوم الفتح كما كان فيها. وتنكير (مَعادٍ) لعظم شأن مكة. وعند بعض الأعلام أن المعاد هو يوم البعث. وعن الباقر عليه‌السلام أنه ذكر عنده جابر فقال : رحم الله جابرا ، لقد بلغ من علمه أنه كان يعرف تأويل هذه الآية ، يعني الرّجعة (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) أي قل يا محمد إن ربّي لا يخفى عليه المهتدي وما يستوجبه (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي الضالّ الذي لا شك في ضلالته وفيما يستحقّه.

٨٦ ـ (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى ...) أي ما كنت يا محمّد ترجو فيما مضى أن يوحى الله إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ما ألقي إليك إلّا رحمة منه خصّك بها. ثم أمره بأمور أحدها (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) معينا لهم بمداراتهم والتحمّل عنهم والإجابة لطلبتهم. وهذا الخطاب وأمثاله وإن كان للنبيّ لكنّ المراد قومه. فقد روي عن ابن عباس أنّه كان يقول : القرآن كلّه إيّاك أعني واسمعي يا جارة. وعن القمي قال : المخاطبة للنبيّ (ص) والمعنى للناس. وثانيها قوله تعالى :

٣١١

٨٧ ـ (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ ...) أي لا يصرفك الميل إلى الكفرة عن قراءة آيات الله والعمل بها بعد نزولها إليك. ثالثها قوله سبحانه : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) إلى توحيده وعبادته. ورابعها قوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بمساعدتهم والرّضا بطريقتهم فإن من رضي بفعل قوم وعملهم فإنّه منهم. وخامسها قوله تعالى :

٨٨ ـ (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...) هذه النواهي والأوامر كان من المعلوم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يفعل منها شيئا ، ويفعل ما أمر به ، فما الفائدة فيها؟ والجواب ما قاله الصادق عليه‌السلام : أنّ الله بعث نبيّه بإياك أعني واسمعي يا جارة (إِلَّا وَجْهَهُ) الوجه ما يواجه الإنسان أو كل ذي وجه به ، والله سبحانه يواجه عباده حينما يخاطبهم بواسطة نبيّ أو وصيّ أو عقل كامل ، فهم وجه الله الذي يؤتى منه ، ولا يهلك من أطاعهم وأخذ طريق الحق منهم لأنه قد أطاع الله ، ومن تمسّك بهم نجا ومن تخلّف عنهم هلك (لَهُ الْحُكْمُ) أي القضاء النافذ في الخلق (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء بالحق والعدل.

* * *

٣١٢

سورة العنكبوت

مكية إلّا من آية ١ إلى ١١ فمدنية وآياتها ٦٩ نزلت بعد الروم.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤))

١ ـ (الم ...) أشرنا سابقا إلى تفسير الحروف المقطّعة فلا نعيده.

٢ ـ (أَحَسِبَ النَّاسُ ...) أي أظنّ الناس أن يقنع منهم و (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) فيهملوا ويخلّوا إذا قالوا إنّا مؤمنون فقط ، ويقتصر منهم على هذا المقدار ولا يمتحنون بما تظهر به حقيقة إيمانهم؟ هذا لا يكون. والاستفهام هنا استفهام إنكار وتوبيخ. وعن النبيّ صلّى الله

٣١٣

عليه وآله أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال : لا بد من فتنة تبتلى بها الأمّة بعد نبيّها ليتعيّن الصادق من الكاذب ، لأن الوحي قد انقطع وبقي السيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة.

٣ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي اختبرناهم ، فهي سنّة جارية قديمة في الأمم كلّها ولا تختص بأمّة دون أمّة (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أي ليميّزنّ الله الذين صدّقوا من الذين كذّبوا بالجزاء والمكافأة. والتعبير عن التمييز والجزاء بالعلم من باب إقامة السبب مقام مسبّبه ، حيث إن علمه تعالى بصدق طائفة في قولهم آمنّا ، وكذب أخرى ، صار سببا للتميّز في الجزاء والمكافأة ومن هذا الباب قوله تعالى في سورة الزمر (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) فإن أكله سبب لقضاء الحاجة فكنّى بذكره عنها. وفي المجمع عن أمير المؤمنين والصادق عليهما‌السلام أنهما قرءا بضمّ الياء وكسر اللّام فيهما من الاعلام ، أي : ليعرّفنهم الناس. ولعل التعبير بالماضي في صدقوا وبالفاعل في الكاذبين ، لأن اسم الفاعل يدلّ على الثبوت والاستمرار ، والفعل لا يدل عليهما حيث إنه لا يفهم من معنى الفعل التكرار ، مثلا يقال : فلان شرب الخمر ، وفلان شارب الخمر. فالفرق بين الصيغتين واضح. ولما كانت الآية وقت نزولها حكاية عن قوم قريبي العهد في الإسلام وعن جماعة مستديمة الكفر وبعيدة العهد به مستمرين عليه فلذا إنه تعالى عبّر عن الطائفة الأولى بالفعل الماضي وعن الثانية بالفاعل والله أعلم بقوله الشريف.

٤ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) هذا استفهام منقطع عمّا قبله وليست التي هي معادلة الهمزة. والمعنى : بل أحسب الذين يفعلون الكفر والقبائح (أَنْ يَسْبِقُونا) أن يفوتونا فوت السابق لغيره نحو ما في المخلوقين فلا نقدر على أخذهم والانتقام منهم وأن نجازيهم على مساويهم ، أو أن لا نستطيع إدراكهم ومعاقبتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس حكمهم هذا بأنهم يعجزوننا فلا نقدر عليهم يجب أن لا يتخيّلوا هذا فليس الإمهال يفضي إلى

٣١٤

الإهمال ، لأن التعجيل في العقوبة شغل من يخاف الفوت لا شغلنا ، فإنما نمهلهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب أليم.

* * *

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩))

٥ ـ (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ...) في القمي : من أحبّ لقاءه جاءه الأجل. وقيل من كان يأمل الثواب ، أي الوصول إلى ثوابه ، أو يخاف العاقبة من الموت والبعث والجزاء (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي الوقت الموقّت للقائه (لَآتٍ) أي لقادم ، فليسارع العبد الراجي إلى ما يوجب الثواب ويبعد من العقاب (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال عباده (الْعَلِيمُ) بأفعالهم.

٦ ـ (وَمَنْ جاهَدَ ...) جاهد : حارب أي من جاهد الشيطان بدفع وسوسته وإغوائه. ويحتمل من جاهد أعداء الدّين لإحيائه ، أو من جاهد نفسه التي هي أعدى أعدائه عن اللّذات والشهوات والمعاصي (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ)

٣١٥

لأن نفعه يرجع إليها (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فلا حاجة به إلى طاعتهم ولا تضرّه معصيتهم وإنّما كلّفهم لمنفعتهم.

٧ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا ... وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي ...) أي نجزيهم على أحسن عملهم بأحسن جزاء ، وبعد ذلك نجزيهم على أعمالهم الأخر التي دون العمل الأحسن طبق العمل الأحسن. مثلا : أحسن الأعمال هو التوحيد ، فجزاؤه يكون الأحسن إمّا مرتبة أو أكثر ، ثم نعطيهم مثل جزاء التوحيد على بقيّة أعمالهم التي دون التوحيد مرتبة وفضلا.

٨ و ٩ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ...) أي الإتيان لهما بالفعل الحسن أو ما هو في ذاته حسن مبالغة ، أو قلنا له : افعل بهما حسنا وإذا دعياك وألحّا عليك (لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي علم بإلهيّته عبّر عن نفيها بنفي العلم إشعارا بأن ما لا تعلم صحته لا يجوز اتّباعه وإن لم يعلم بطلانه فضلا عمّا علم بطلانه (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فأمر سبحانه بطاعة الوالدين في الواجبات حتما وفي المباحات ندبا ، ونهى عن طاعتهما في المحظورات. والصالحون من الناس ندخلهم يوم القيامة مع الصالحين.

* * *

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١))

٣١٦

١٠ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ... فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ ...) أي لدينه ، يعني لأخذه طريق الحق يؤذيه الكفرة (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) يعدّ ويحسب عذاب الناس من المشركين (كَعَذابِ اللهِ) أي عذاب الناس يصير صارفا له عن إيمانه كما أن عذاب الله صارف لأهل الإيمان عن الكفر (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) أي فتح وغنيمة (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) ولنا في الغنيمة مثلكم (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي يعلم الإخلاص والنفاق ويعلم الصدق والكذب.

١١ ـ (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي يعرف حقيقة ما في القلب لا باللّسان فقط (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ولا بدّ من تميّز الفريقين في الدّنيا حتى يظهر الحق من الباطل والصّادق من الكاذب ، فلذا يبتليهم بالبلايا والمحن فإن المرء ما لم يبتل بهما لا تعرف حقيقة جوهره فالبلاء هو المحكّ لاختباره كما أن بالمحكّ يعرف ويمتحن خالص الذّهب من المغشوش ، وبعد الاختبار يجازى الفريقان. والآية الشريفة تهديد للمنافقين بأن الله سبحانه يعلم ما تخفي صدورهم ، وهو ظاهر عند من يملك الجزاء فيجازيهم على ما تخفي صدورهم وعمّا قريب تحلّ الفضيحة العظمى بهم.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

١٢ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ...) أي قال الكافرون

٣١٧

للمؤمنين : كونوا على طريقتنا ، وإذا كان البعث والحساب والعقاب حقّا كما يقول محمّد فنحن نتحمّل ذنوبكم فنعذّب مرّتين مرّة بذنوبنا وأخرى بذنوبكم ، وهو سبحانه ردّهم وكذّبهم وبعد ذلك قال :

١٣ ـ (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً ...) أي أنّهم تضاعف أثقالهم بحملهم أثقال من تبعهم كما قال (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي وأثقالا أخر عمّن تسبّبوا له بالإضلال والحمل على المعصية من غير أن ينقص من أثقال تابعيهم شيء ، وبعد ذلك نسألهم بالتأكيد (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب والأباطيل والحيل لإضلال الناس.

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))

١٤ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) ثم إنّه تعالى لما بيّن أقسام الناس من المؤمنين والكافرين ، وذكر أقسام الكفرة وأنّ منهم الذين كانوا مصرّين على الكفر والإلحاد بحيث لم يقنعوا بكفرهم فقط بل قالوا للمؤمنين ما حكى هو تعالى بقوله : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) إلخ ... فأراد أن يذكر أن هذه السنّة السّيئة ما كانت مختصة بعصر النبيّ (ص) وأمّته ، بل هي جارية في الأمم السابقة أيضا ، وذكر أن من جملة المصرّين قوم نوح وكانوا أشدّ الأمم إصرارا على الكفر والإلحاد كما حكى الله قصتهم بقوله : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) فلم يؤمنوا به وأبوا أن يجيبوه ، إلّا ثمانين أو سبعين.

وعن محمد بن كعب أنه قال : عشر نفرات خمس نسوة وخمسة رجال.

٣١٨

والحاصل أن نوحا عليه‌السلام أرسل إلى قومه على رأس أربعين سنة من عمره الشريف فلبث فيهم تسعمئة وخمسين عاما وهو يدعوهم إلى الله فلا يجيبونه (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) فاستجاب الله دعاءه (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) لأنفسهم بإصرارهم على كفرهم. والطوفان هو بيان لكل شيء أطاف وأحاط بكثرته وغلبته من الماء الكثير أو الظلام أو أمثال ذلك.

١٥ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ...) أي أنجينا نوحا ومن ركب معه فيها. وقد أشرنا آنفا إلى عدّتهم. وعاش بعد هلاك القوم ونجاة من ركب السفينة ستّين عاما (وَجَعَلْناها) أي القصة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) يعتبرون بها فيتعظون. ومن جملة الأمم المصرّين على الكفر والإلحاد قوم إبراهيم عليه‌السلام على ما ذكر قصّتهم هو تعالى في كتابه فقال عزّ من قائل :

* * *

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨))

١٦ ـ (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ...) عطف على نوح. أي : أرسلنا إبراهيم. وقيل نصبه على تقدير اذكر ، أي : اذكر يا محمد قصة إبراهيم

٣١٩

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الاتّقاء والطاعة والعبادة خير لكم من شرككم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير من الشرّ والنفع من الضّرر.

١٧ ـ (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي غير الله (أَوْثاناً) جمادات تسمّونها أربابا (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) تكذبون كذبا في تسميتهم آلهة (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) لا يقدرون أن يرزقوكم شيئا ممّا تحتاجون إليه ليلا ونهارا. فما فائدة تلك الجمادات التي تنحتونها وتعبدونها وأنتم أشرف وأنبل منها؟ والأشرف أولى أن يكون معبودا ، أفلا تتدبّرون؟ (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ) العبادة ينبغي أن تختص بمن هو الرزاق ذو القوة والقدرة المتين وهو الله الذي لا إله إلّا هو (وَاشْكُرُوا لَهُ). فإن الشكر قيّد للنّعمة العاجلة وصيد للنّعمة الآجلة.

١٨ ـ (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ ...) يحتمل أن تكون الشريفة من جملة قصّة إبراهيم وتسلية له عليه‌السلام كما تقتضيه الآيات السابقة واللّاحقة بحكم السّياق. لكن عن القمّي أنه قال : انقطع خبر إبراهيم وخاطب الله أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا من المنقطع المعطوف. وأيّد هذا الكلام بقول بعض أرباب التفاسير أن ساق خبر إبراهيم لتسلية الرسول والتنفيس عنه بأن خليل الله كان مبتلى بما ابتلي به نبيّنا من شرك القوم وتكذيبهم ، وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه. ولذلك توسط مخاطبتهم بين طرفي قصته (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي كذبوا رسلهم ولم يضرّهم تكذيبهم وإنما ضرّوا أنفسهم. فكذا شركهم وتكذيبهم إيّاك يلحق ضرره بهم.

* * *

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ

٣٢٠