الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

سورة القصص

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

١ ـ (طسم) ... معناه كسائر الفواتح من السّور وقد تقدّم فلا نعيده.

٢ ـ (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ...) إشارة الى الآيات. فمعناه والله أعلم يحتمل

٢٦١

أن يكون الآيات المذكورة في هذه السورة (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) النازلة من اللّوح المحفوظ أو آيات الكتاب الذي وعد الله بإنزاله على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون معجزة باقية له. ويقوّي الأخير في النظر أنّ السرّ في اتّصافه بالمبين هو لا بدّ أن يكون لنكتة بيان ذلك. والمبين من أبان الشيء بمعنى أوضحه فهو بمعنى الموضح ، فوصف به الكتاب في كثير من الموارد رمز لأمر مهم وإلّا فكل كتاب موضح لقصد مؤلفه ومصنفه من حيث اشتماله على الحجج والبراهين على حسب استعداد المؤلّف ومراتب علمه ومعرفته.

فوصف هذا الكتاب به ليس فيه كثير فائدة فيصبح هذا التقييد شبيها بتوضيح الواضحات. وكتاب الله منزّه عن ذلك فلا بد من بيان الفارق ، وذلك أن هذا الكتاب محتو على مقاصد مهمّة وراء مقاصد المخلوقين في تآليفهم وكتبهم ، لأن الله تعالى أنزله على نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليكون بنفسه مثبتا لرسالته ومصدّقا لما يقول وليتحدّى الناس به ، من قوله أوّلا : أيّها الناس قولوا لا إله إلّا الله وغيره من الأحكام والشّرائع والإنذار والبشارة إلخ ... وكيف يكون هذا الكتاب بنفسه مثبتا لما ذكرناه لاشتماله مع قطع النظر على الفصاحة والبلاغة التي عجز فصحاء العرب أن يأتوا ولو بسورة من مثله ، ففيه أمور غريبة عجيبة كإخباره عن المغيبات التي لا يعلمها إلّا الله وكأحوال أنبياء السّلف وأممهم مع فراعنة عصورهم ، وكخلق السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما ومبدأ نشوء الإنسان وخلقه وغير ذلك من العلوم البديعة والمعارف الغريبة التي لم يكن يعرفها غيره تعالى ، إلّا من خوطب بهذا الكتاب وأنزل عليه. وتلك المقاصد الرفيعة السّامية لا بدّ أن تبقى إلى الأبد ، فالمثبت لها والموضح كذلك أبديّ كما أنه تعالى وعدنا بحفظه وإبقائه بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) فأين من هذا الإيضاح ورب الأرباب؟ إيضاح سائر الكتب ، واين التراب والحاصل أنه لا بد من ذكر وصف الابانة والإيضاح في كل ما يذكر فيه الكتاب الكريم حيث إنّه أبدى مثل الموصوف. وهذا البيان بناء على أن (الْمُبِينِ) من أبان

٢٦٢

بمعنى أوضح وأظهر ، وأما بناء على كونه من أبان بمعنى اتضح وظهر لأن أبان استعمل متعدّيا ولازما على ما هو المعروف في كثير من موارد باب الأفعال ، فالمبين معناه الواضح والظاهر والمتّضح. فعلى هذا فوصف الكتاب به في بادئ النظر مشكل ، لأن المراد بالواضح إن كان وضوحا بحسب الألفاظ فليس هذا له هذه الأهميّة حتى يكرر بهذا المقدار ويهتم به هذا الاهتمام فإن كثيرا من كتب أرباب الصّحف ورسائل أرباب المراسلات كان أوضح وأظهر من ظواهر ألفاظ القرآن بمراتب فليس هذا أمرا قابلا لأن يتصف كتاب الله به ، وإن كان لوضوح بحسب المعنى فالظاهر أنه ليس الأمر هكذا ، كيف وإن للقرآن بطونا لا يعرفها إلّا الله سبحانه ومن خوطب به ، هذا مع أن في القرآن آيات محكمات يمكن القول بوضوح معانيها إلى حدّ ظاهرا ، وأمّا آياته المتشابهة فليست معانيها ظاهرة بل هي بمقتضى الروايات لا بدّ من ردّ عملها إلى الله والرسول. وهذه أجوبة نقولها بعقولنا القاصرة وننسجها في تآليفنا وليست بأجوبة كافية شافية في كتاب إلهيّ أنزله الله من فوق سبع سماوات على نبيّه (ص) لهداية عامة البشر وليكون حجة على نبوّته وسلطانا على خصمائه ومعجزا باقيا لرسالته على دهر الدّهور. فهذا كتاب لا ترقى إليه أفكار ذوي الفكر ولا تناله عقول ذوي الألباب نحن إنّما نقول فيه من تفسيره عشرا من أعشار هذا البحر المتلاطم الزخّار من العلوم والمعارف وما نقوله ملتقطات من خزائن علمه تعالى ورشحات من فيوضاتهم عليهم الصلاة والسلام لا من عند أنفسنا وآرائنا. فالحق أن المبين في موارد توصيف الكتاب الكريم به معناه الموضح والمظهر بالبيان المتقدم من أبان بمعنى أوضح المتعدّي.

٣ ـ (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى ...) أي نبيّن لك بأمرنا جبرائيل نقل بعض قصص موسى (بِالْحَقِ) بالصّدق وبالحقيقة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) متعلّق ب (نَتْلُوا) أي لمن نعلم بأنهم يصدّقون ويعتقدون به فإنّهم الذين ينتفعون بالتلاوة حيث إنّهم أهل الفكر والتدبّر والاعتبار من القصص وأخبار السّلف.

٢٦٣

٤ ـ (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ...) أي فرقا ، أذلّ بعضهم بالاستبعاد والاستعمال في الأعمال الشاقة كطائفة بني إسرائيل ، وأعزّ الآخرين بإعطائهم المناصب الرفيعة والمقامات العالية السامية كالقبطيّين. والتفريق شأن الملوك وزعماء السياسة والاستبداد فإنهم يفرقون بين الأمّة والشعب ويجعلونها أحزابا ويتوسّلون به إلى نيل مقاصدهم معتمدين على قاعدة : فرّق تسد ، ولذا نهى الله تعالى عن التفرقة وقال (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يعني كونوا حزبا واحدا له تعالى ويؤيّد هذا التفسير قوله تعالى : (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً) أي بني إسرائيل (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) هذا بيان وتفسير للاستضعاف ، أي يقتل الأبناء لأنه أخبره الكاهن بأنّه يتولّد ولد من بني إسرائيل يزيل ملكك ويهلكك وقومك. وفي الكشاف أنه قتل تسعين ألفا من أولاد بني إسرائيل ذكورا وكان يخلّي النساء والبنات ويستخدمهنّ لحرمه ولنساء القبطيّين ، وهذا معنى الاستحياء. ونقل عن السّدي أنّ فرعون رأى في منامه أن نارا وجدت من ناحية بيت المقدس وأحرقت بيوت مصر والقبطيين وسلم منها بنو إسرائيل. فبعث إلى العلماء المعبّرين والكهنة وسألهم عن تعبير الرؤيا فقالوا سيظهر من هذا البلد رجل يكون إزالة ملكك وهلاك نفسك وقومك على يده ، فمن ذلك اليوم أخذ فيما فعل كما ذكر في الآية وأمر بتفريق نساء بني إسرائيل عن رجالهن واستخدم النسوان لنساء أهل القبط. فهو من المفسدين في الأرض.

٥ و ٦ ـ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ...) أي نتفضّل (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) بخلاصهم من بأسه في المآل. والجملة حال من (استضعف) أو حكاية حال ماضية (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) مقدّمين في الدّنيا والآخرة (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لملك فرعون وأمتعته وأمواله وأملاكه وكل شيء من الفرعونيّين (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) نقوّيهم ونشدّ أزرهم ونسلّطهم على أرض مصر ومكان سلطة فرعون وأرض الشام (وَنُرِيَ

٢٦٤

فِرْعَوْنَ وَهامانَ) (وزيره) (وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي من بني إسرائيل ما كانوا يخافون من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. وفي تفسير الكريمة (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) إلخ روايات كثيرة بأنّها جارية في آل بيت محمد صلّى الله عليه وعليهم أجمعين إلى يوم القيامة يبعث الله مهديّهم بعد جهدهم فيعزّهم ويذلّ أعداءهم وفي نهج البلاغة قال عليه‌السلام لتعطفنّ علينا الدّنيا بعد شماسها عطف الضّروس على ولدها ، وتلا عقيب ذلك : (وَنُرِيدُ) الآية ... والفرس الشموس هي المستعصية على راكبها ، والضّروس الناقة السيئة الخلق التي تعضّ من يحلبها ولا تعطف إلّا على ولدها.

* * *

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩))

٧ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ...) أي ألهمناها وقذفنا في قلبها ، ولم يكن بوحي نبوّة لكنها اطمأنّت إلى الإلهام (أَنْ أَرْضِعِيهِ) ما أمكنك إخفاء الولد وفي بعض الروايات لمّا ولد موسى وخرجت القابلة من عند أمّه قررت القابلة أن تخفيه فدخل جماعة من جواسيس فرعون بيت أم موسى غفلة

٢٦٥

فلفّته أخته في خرقة ووضعته في التنّور وخالة موسى كانت غافلة عن هذا الأمر فأشعلت النار في التنّور لاختباز الخبز فلما دخل الجواسيس البيت وتفحّصوا ما وجدوا في البيت غير تنّور مشتعل ولما خرجوا سألت أمّ موسى أخته أين الولد؟ فقالت في التنّور فلمّا دخلت عليه وجدته قاعدا يلعب وأطرافه مشتعلة فأخرجته سالما ، وعلموا أن هذا هو الموعود. والحاصل أن الله تعالى أوحى إليها بأنه (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) بأن أحسست باشتهار أمر الولد فخفت عليه الأخذ والقتل (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي النيل (وَلا تَخافِي) ضيعته وغرقه (وَلا تَحْزَنِي) على فراقه (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) سالما عمّا قريب (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) نعطيه منصب الرّسالة ورتبة النبوّة. والفرق بين الخوف والحزن أن الخوف هو الغمّ الذي يحصل للإنسان لأمر متوقّع ، والحزن هو الغم الذي يحصل للأمر الحاصل والواقع على الإنسان. وبالجملة فأرضعته ثلاثة أشهر ثم الحّ فرعون في طلب الصبيان فخافت عليه الجواسيس شديدا فوضعته في تابوت مطليّ داخله بالقار وأغلقته وألقته في البحر (أي النيل).

٨ ـ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ...) بتابوته ، فوضع بين يديه وفتح وأخرج منه موسى عليه‌السلام (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) والالتقاط إصابة الشيء من غير طلب والمراد بآل فرعون جواريه ، واللام في (لِيَكُونَ) لام العاقبة ومعناه : أنهم ما التقطوه إلّا ليكون لهم قرّة عين وراحة قلب ولكن انتهى هذا الالتقاط بالحزن لهم والعداوة عليهم كقول الشاعر : لدوا للموت وابنوا للخراب ، أي عاقبة الولادة الموت وعاقبة البناء الخراب فكأنّهما علّتان للعملين ، وهكذا ما نحن فيه فإن العمل تابع للنتيجة فإذا صارت النتيجة العداوة والحزن فكأنهما علّتان للالتقاط .. أمّا قصّة تهيئة أم موسى للصندوق ومن صنعه لها فذلك أنها لمّا أدركت وشعرت بأن فرعون مجدّ في طلب أبناء بني إسرائيل ذهبت إلى نجار من أهل القبط وطلبت منه أن يصنع لها صندوقا طوله خمسة أشبار في ثلاثة عرضا ، فلما صنعه لها النجّار ألحّ عليها بأن يعرف وجه طلبها منه هذا الصّندوق فأبت أن تقول له ، فاجتهد في ذلك فأظهرت

٢٦٦

له واقع الأمر خوفا من الكذب بأن لهما ولدا تريد أن تجعله فيه وتخفيه من فرعون. ومن المصادفات أن القبطيّ كان من أقارب فرعون وممّن اعتقد به ، فأعطاها الصّندوق وسار وراءها حتى يعرف بيتها فلما عرفه مشى إلى جواسيس فرعون ليعلمهم بالقضية ، فأمسك الله لسانه وجعل يشير بيده ، فضربوه وطردوه إذ لم يفهموا منه شيئا. فلمّا عاد الى دكانه انطلق لسانه ، فذهب مرة أخرى ليخبرهم فأخرسه الله تعالى فضربوه وطردوه حملا على السفاهة والجنون ، فعاد الى الدكان فردّ الله إليه لسانه ، فذهب مرّة ثالثة فأخذ الله بصره ولسانه فرجع إلى موضعه ودكانه بعد أن ضربه الجواسيس شديدا وطردوه فجعل بينه وبين الله عهدا إنّ ردّ عليه بصره ولسانه أن يتوب عن عمله فعلم الله منه الصّدق فردّ عليه بصره ولسانه فجاء إلى بيت أم موسى وقصّ عليها الأمر وآمن بموسى لأنه افتهم أن الأمر يدل على أن هذا هو المولود الذي وعد الكهنة بمجيئه ، وعلم أنه على الحق. وهذا الرجل هو الذي سمّي بحبيب النجار ، وهو المعروف بمؤمن آل فرعون ، ولعله كان أوّل من آمن بموسى لأنه آمن به وهو ابن ثلاثة أشهر على قول أو أقل ، وكان ثابتا في إيمانه وروي أنه كان لفرعون بنت ابتليت بالبرص ، وكان الكهنة أخبروها بأنه في يوم كذا من شهر كذا وسنة كذا يوجد حيوان في صورة إنسان صغير في النيل وزوال هذه العلّة يكون بريقه. وطابق اليوم يوم ما ألقت أمّ موسى الصّندوق في البحر والتقطه آل فرعون ، فلما أخرج موسى من التابوت ألهمت بنت فرعون أن هذا الصّبي هو الذي أخبر الكهنة به ، فعمدت إلى ريقه واستشفت به فدلكت أعضاءها به فبرئت من مرضها في الحال ، فألقيت محبّته في قلب فرعون وامرأته وجواريه وبالأخص في قلب البنت (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) قيل إنه من الخطأ لأنهم ما شعروا أنّه الذي يذهب بملكهم ويهلكهم إلى آخرهم.

٩ ـ (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ...) لمّا أراد فرعون قتله بعد أن حذّروه قالت آسية زوجته : لا تقتل

٢٦٧

الصّبي عسى أن يكون قرة عين لي ولك أي ضياء عيننا جميعا فإنه بسببه عوفيت بنتنا من علتها فانصرف فرعون عن قتله وما شعر بأنه قاتله فكيف يخلّي الإنسان الفطن سبيل قاتله بقول امرأة هو قرة عين لي ولك؟ وعقّبت قولها هذا بقولها الآخر حتى تيقّنت انصرافه. وزوجته هذه ما آمنت بفرعون قط وكان قلبها منوّرا بنور الايمان ، فهي مؤمنة بنبيّ زمانها وقد آمنت بعد ذلك بإله موسى وصدقته بما جاء به من عند ربه وذلك سبب قولها (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) حيث إن فيه مخايل الخير واليمن ودلائل النفع والبركة من برء برص ابنتك وارتضاعته من إبهامه والنور السّاطع من بين عينيه ، فإن هذه المؤمنة شعرت بنور إيمانها أن هذا المولود هو الموعود فلذا اهتمّت غاية الاهتمام في حفظه وحراسته وأيّدت ما ذكرت من قوليها بقولها (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي نتبنّاه فإن هذا الولد أهل لذلك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يحتمل أن يكون من تتمّة قول آسية سلام الله عليها. والضّمير البارز راجع إلى الناس أو إلى الملتقطين ، أي أنّهم بعد مدّة تمضي عليه لا يعرفون أنه هو الذي التقطوه من النيل وينسونه. أو هي ابتداء كلام من الله تعالى أي : هم لا يشعرون أنّه هو الذي ذهاب ملكهم على يديه أو هم على خطأ في التقاطه.

* * *

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ

٢٦٨

عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

١٠ ـ (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً ...) أي صار قلب أمّ موسى فارغا أي خاليا من الصّبر والعقل لدهشتها حينما سمعت أن الصّندوق وصل إلى يد فرعون ، فوقعت فيما تفرّ منه (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي أوشكت أن تقر وتعترف بأنه ابنها جزعا. و (إِنْ) مخففة ، يعني أنّها كان قريبا أن تظهر الأمر (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) أوثقناه وأحكمناه بالصّبر والثّبات. وجواب لو يدلّ عليه ما قبلها ، أي لتبدي (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من المصدّقات بوعدنا من قولنا (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) إلخ وفي الإكمال عن الباقر عليه‌السلام في رواية لبيان هذه القصّة قال : فلما خافت عليه الصّوت أوحى الله تعالى إليها أن اعملي التابوت ثم اجعليه فيه ثم أخرجيه ليلا فاطرحيه في نيل مصر. فوضعته في التابوت ثم دفعته في اليمّ فجعل يرجع إليها وجعلت تدفعه في الغمر وجاءت الريح فضربته فانطلقت به ، فلما رأته قد ذهب به الماء همّت أن تصيح يا ابناه ، فربط الله على قلبها.

١١ ـ (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ...) أي أن أمّ موسى قالت لأخته كلثم : امشي وراء الصندوق لتعرفي أثره وخبره. فاتّبعت أثره على ساحل البحر فوجدت أن آل فرعون التقطوه وأخرجوه من التابوت (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي فرأت أخاها من بعيد ، وقيل عن جانب كانت تنظر اليه كأنها لا تريده ولا تقصده (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يلتفتون أنها تقصّه وأنها جاءت وراءه لاستخبار حاله وأنّها أخته. وفي هذه الشريفة حذف واختصار ، وهذا من الإيجاز الدال على كمال البلاغة والفصاحة وعلى

٢٦٩

الإعجاز باللفظ القليل على المعاني الكثيرة كما لا يخفى على المتأمّل الفطن. وقد كرّر سبحانه هذا القول ، وهو عدم شعورهم بالأمور ، تنبيها على أنه لو كان فرعون آلها لكان يشعر بهذه الأمور فإذ لا يشعر لا يكون إلها.

١٢ و ١٣ ـ (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ ...) أي منعناه من أن يرتضع منهنّ (مِنْ قَبْلُ) قبل مجيء أمّه إلى عنده وأخذه حتى لا تتربّى أعضاؤه بلبن أهل الكفر والشّرك. وقيل إنه ما شرب ثمانية أيام لبنا حتى اضطربت آسية وقومها من ذلك ، وكان يمتصّ من إصبعه اللبن الطاهر وهم لا يشعرون بذلك. ولمّا أحسّت أخت موسى أنّ آسية في غاية الاضطراب للمرضعة تقرّبت منها وقالت (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أي يقومون بتربيته وجميع أموره (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) لا يقصّرون في أموره لأجلكم وهم مشفقون عليه؟ وروي أنها لمّا قالت (لَهُ ناصِحُونَ) قال هامان وزير فرعون للملازمين : خذوها إنّها لتعرفه وتعرف أهله. قالت إنما أردت : وهم للملك ناصحون ، فأطلقوها وأكرموها وطلبوا منها المرضعة فمشت إلى أمّ موسى وذكرت لها صورة الحال فقامتا ومشتا حتى وردتا على آسية فأعطتها الولد ، وكان موسى لا يقبل ثدي أيّة مرضعة ، فلما وقع في حجر أمّه ونظر إليها تعلّق بها وأخذ يرتضع منها ، ففرح فرعون وآسية ومن يلوذ بهما لكثرة تعلّقهم بالصبيّ. فسأل فرعون عن أمّ موسى وعن علة قبول الرضيع لثديها ، فقالت أنا امرأة حسنة الخلق ولبني في غاية الحلاوة ، وما من طفل إلّا ويقبل ثديي ويشرب لبني. فأكرمها وعظّمها لجلالتها حيث وجد من كلامها وحركاتها أنها جليلة عفيفة عقيلة. وقد فعلنا ذلك (لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) هي تعلم بأنّه حق وإلّا فالإنسان العاقل ما دام لا يعلم بأن وعد الله حق لا يلقي ولده في اليمّ ، ولكن كان علمها علم عقيدة أما بعد ردّ ولدها إليها ولا سيّما بعد وقوعه في المهلكة حصل لها علم مشاهدة وهو فوق علم العقيدة كما حقّق في محلّه.

* * *

٢٧٠

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧))

١٤ ـ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ...) أي غاية قوّته ونشوئه ونموّه ، وهو بلوغه إلى الثلاثين ، وعن ابن عباس إلى الأربعين سنة. ويصدّقه الحديث المشهور : لم يبعث نبيّ إلّا على رأس الأربعين وفي معاني الأخبار عن الصّادق عليه‌السلام في تفسير (أَشُدَّهُ) ثماني عشرة سنة (وَاسْتَوى) تمّ في استحكامه وبلغ الأربعين تمامه أو اعتدلت قامته وعقله. وقيل أشدّه هو بلوغه ثلاثين سنة ، والاستواء هو أن يبلغ الأربعين ، وفيه يكمل العقل. فإذا تمّ العقل يصير الإنسان قابلا لإفاضة الفيض من المبدأ الأعلى اي الإفاضة الخاصّة (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) اي النبوّة وعلما بالدّين وهذان هما الإفاضة الخاصّة التي لا ينالها إلا الأوحديّ من البشر (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما فعلنا مع موسى وأمّه من اللّطف والكرم والإحسان هكذا نجزي المحسنين من كلّ من يعمل عملا حسنا مرضيّا عندنا. وفي القمي عن الباقر عليه‌السلام في حديث قال : فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال ، وكان ينكر ما يتكلم به موسى من التوحيد حتى همّ به

٢٧١

فخرج موسى من عنده. وعنه عليه‌السلام على ما في الإكمال قال : وكانت بنو إسرائيل تطلب وتسأل عنه ، فعمي عليهم خبره ، فبلغ فرعون أنهم يطلبونه ويسألون عنه فأرسل إليهم وزاد عليهم في العذاب وفرّق بينهم ونهاهم عن الإخبارية وعن السؤال عنه. قال : فخرجت بنو إسرائيل ذات ليلة مقمرة إلى شيخ لهم عنده علم فقالوا كنا نستريح إلى الأحاديث فحتى متى نحن في هذا البلاء؟ قال : والله إنكم لا تزالون فيه حتى يجيء الله بغلام من ولد لاوى بن يعقوب اسمه موسى بن عمران ، غلام طوال جعد ، فبينا هم كذلك إذ اقبل موسى يسير على بغلة حتى وقف عليهم. فرفع الشيخ رأسه فعرفه بالصّفة فقال له : ما اسمك؟ قال : موسى. قال : ابن من؟ قال : ابن عمران. فوثب إليه الشيخ فأخذ بيده فقبّلها وثاروا إلى رجله فقبّلوها فعرفهم وعرفوه واتّخذ شيعته فمكث بعد ذلك ما شاء الله ثم خرج.

١٥ ـ (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ ...) أي المصر المعروف بمدينة فرعون (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) بين المغرب والعشاء ، أو يوم عيد لهم وهم مشغولون (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) ممن شايعه على دينه من بني إسرائيل (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) من مخالفيه ، أي القبطي. وعن الصّادق عليه‌السلام قال : ليهنئكم الاسم. قيل : وما الاسم؟ قال : الشّيعة ثم تلا هذه الآية (فَوَكَزَهُ مُوسى) ضربه بجمع كفّه أو دفعه بشدّة بحيث كان فيه إزهاق روحه ، لأنه عليه‌السلام كان قويّا ذا بطش شديد على ما في الرواية فقد قال عليه‌السلام : كان موسى قد أعطي بسطة في الجسم وشدّة في البطش ، وشاع أمره ، وذكر الناس بأن موسى قد قتل رجلا من آل فرعون. والحاصل أنه وكزه (فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) قال الرضا عليه‌السلام قضى عليه ، أي : على العدوّ بحكم الله تعالى. وقال هذا من عمل الشيطان قال عليه‌السلام : يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى من قتله.

٢٧٢

١٦ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ...) قال الرضا عليه‌السلام : يقول وضعت نفسي في غير موضعها بدخول هذه المدينة حتى ابتليت بما ابتليت به (فَاغْفِرْ لِي) يعني استرني من أعدائك لئلّا يظفروا بي فيقتلوني (فَغَفَرَ لَهُ) الآية.

١٧ ـ (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ...) من القوّة. أقول : وأيّ قوّة أقوى من أن يقتل رجلا من رجال تلك الأعصار ، وهم كانوا من الأقوياء على ما يذكر التاريخ من أحوالهم ، بوكزة واحدة؟ فينبغي أن يدعو صاحب تلك القوة أن يوفقه الله سبحانه لأن يصرفها في جهاد أعدائه لا أن يكون (ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أي معينا لهم.

* * *

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩))

١٨ ـ (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ ...) خائفا من أولياء الدّم من فرعون والقبطيّين ويترصّد الأخبار وما يقال فيه (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يستغيث به على الآخر (إِنَّكَ لَغَوِيٌ) ضالّ عن طريق الرشد ظاهر الغواية لكثرة مخاصمتك. والمراد هو الغواية في الأخلاق لا في الدين ، فإنه كان من بني إسرائيل وممّن آمن بموسى عليه‌السلام.

٢٧٣

١٩ ـ (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ ...) أي أن يأخذ القبطيّ ويدفعه عن الإسرائيلي بقوّة وشدة ، خاف القبطيّ وصاح من خوفه على نفسه لما سمع من قوّة موسى وقتله للقبطي بوكزة واحدة وقال (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) وقد ذهب كثير من المفسّرين إلى أن القائل هو الإسرائيليّ حيث ظنّ أنه أراد أن يبطش به لوصفه إيّاه بالغواية ، ولكن الظاهر هو الأول ويؤيّده أنه عقّب قوله بأن قال (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) وهذا القول لا ينبغي ولا يليق أن يصدر إلّا عن كافر أو منافق ، والحال أن الاسرائيلي كان من المؤمنين بموسى ومن المصدّقين له في دعواه وبكلّ ما جاء به من عند ربّ العالمين. والجبّار هو الذي يفعل ما يريد من الضّرب والقتل وسائر أقسام الظلم ولا يريد أن يكون من المصلحين بين الناس. فانتشر حديث قتله القبطي حتى بلغ فرعون فأمر بطلبه وقتله.

* * *

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١))

٢٠ ـ (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ...) المراد من الرجل هو مؤمن آل فرعون ، واسمه حبيب النجار ابن عمّ فرعون ، وقد أشرنا إليه سابقا في قصّة صنع الصّندوق. وقيل كان خازن فرعون مؤمنا بموسى قد كتم إيمانه ستمائة سنة وهو الذي قال الله عزوجل فيه (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) والحاصل أنه جاء الرجل من آخر البلد ومنتهاه في غاية السّرعة حتى لحق به فأخبره (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) ظاهر الآية

٢٧٤

يؤخذ منه أنه جاء بنفسه. وقيل إنه بعث من عنده رجلا.

٢١ ـ (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً ...) أي من مصر خائفا على نفسه ينتظر لحوق طالب ويلتفت يمنة ويسرة ، وسار نحو مدين التي لم تكن في سلطان فرعون ، وكان يدعو ربّه للنجاة من الكفرة والظّلمة.

* * *

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥))

٢٢ ـ (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ ...) أي نحو قرية شعيب (ع) وكان بينه وبين مدين ثلاثة أيام ، وعلى قول أصحّ ثمانية أيام ، ولم يكن له علم بالطريق إلّا توكّله على ربّه وحسن ظنّه به (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي الطريق المؤدّي إلى النجاة أو الذي فيه صلاحي. فألهمه الله أن يأخذ الطريق التي تؤدّي إلى مدين. وهذا القول نظير قول جدّه إبراهيم

٢٧٥

عليه‌السلام حيث قال : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) هكذا كان ديدنهم خلفا عن سلف صلوات الله عليهم أجمعين ، فإنّه تعالى أدّبهم هكذا بقوله تعالى : (جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا).

٢٣ ـ (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ...) أي وصل إليه وهو بئر لهم (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) أي على شفيره ، جماعة من أهل القرية يسقون مواشيهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) في مكان أسفل من مكانهم رأى (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) أي تمنعان أغنامهما عن الماء فسألهما (ما خَطْبُكُما؟) أي : لم تمنعان الأغنام عن شرب الماء؟ (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) أي ينصرف ويخلص جميع الرّعاة من السقي. وهو جمع راع. وكان غرضهما أننا نحن لا نسقي أغنامنا حتى يتخلى الرجال عن الماء ويذهبوا من حوله فنسقي أغنامنا من فضالة ما يبقى في المغيض أو نستسقي بأنفسنا لأغنامنا (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) كثير السّن لا يستطيع أن يسقي فيرسلنا اضطرارا فرحمهما ورقّ قلبه لهما.

٢٤ ـ (فَسَقى لَهُما ...) اي فروّى غنمهما وأصدرهما رحمة بهما (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) أي رجع إلى الشجرة التي كانت قريبة من البئر فجلس في ظلّها (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) كان عليه‌السلام شديد الجوع حيث إنه من يوم خرج من مصر إلى أن وصل مدين كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله على ما في نهج البلاغة. وقال مولانا أمير المؤمنين فيها : والله ما سأل الله عزوجل إلّا خبزا يأكله. فالمراد بالخير في الكريمة هو ما يسدّ جوعه والتعبير بلفظ الماضي لأن عادة الله تعالى جرت على إنزال رزق كلّ ذي حياة ، فكأنّه عليه‌السلام طلب منه تعالى إيصاله إليه ، وأما إنزاله فكان مسلّما عنده عليه‌السلام. ثم إن بنتي شعيب رجعتا الى أبيهما في ذلك اليوم في وقت أقرب من الأيام الأخر فسألهما الوجه في ذلك ، فأخبرتاه القضيّة إلى آخرها. فقال لإحداهما : اذهبي إليه فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا.

٢٧٦

٢٥ ـ (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما ...) وهي أكبرهما سنّا المسمّاة بالصّفورا (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) مستحيية وكانت تستر وجهها بكمّها ، أو المراد أنها تمشي عادلة عن الطريق ، وما اقتربت منه من الحياء فنادت وقالت (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي جزاء سقيك لنا. فقام موسى (ع) ومشى معها. وكانت تمشي قدّامه ، وكانت الريح تضرب ببعض ثيابها فتكشف عن بعض مواضع بدنها ، فقال : يا أمة الله كوني ورائي ودلّيني على الطريق إذا أنا أخطأته بكلام أو حصاة فإنّا قوم لا ينظرون إلى أدبار النساء (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي ما جري عليه من يوم ولادته إلى يوم فراره وتشرّفه بخدمة شعيب (ع) خوفا من فرعون ، علم شعيب أنّه من أهل بيت النبوّة فقال له : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي من فرعون وقومه حيث أنّه لا سلطان له على أرضنا ولسنا في مملكته ، فأمر بإحضار الطّعام ، فامتنع موسى عن الأكل ، فقال شعيب ولم لا تأكل؟ أولست بجائع؟ قال نعم جائع ، ولكن أخاف أن يكون عوضا عمّا فعلت من المعروف. قال شعيب عليه‌السلام : لا والله يا شابّ بل هذه عادتي وعادة آبائي أن نقري الضيف ونطعم الطعام. فشرع موسى حينئذ بتناول الطعام.

* * *

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ

٢٧٧

ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

٢٦ ـ (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ...) أي اتّخذه أجيرا لرعي أغنامنا (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي أحسن من تتّخذه أجيرا هو الرجل القويّ الأمين. وهذا الكلام تعريض بأنّ موسى ذو قوة وأمانة فهو أحقّ بالاستئجار. وعن ابن عباس أن شعيبا سأل البنت : من أين أحرزت أمانته وقوّته؟ فأجابته بأن حجرا كان على رأس البئر التي يستقى الماء منها وكان يرفعه عشرة أنفار وهو بمفرده رفعه. وكذلك كان للبئر دلو يحمله عشرة رجال أقوياء وهو وحده جرّه من البئر وحمله إلى الحوض وأفرغه فيه. وأمّا أمانته فذكرت له قضية المرافقة حين مجيئهما إلى البيت ، وأمره إيّاها بأن تمشي من ورائه بعد أن كانت أمامه إلخ ... فلما سمع المقالة زاد رغبة فيه عليه‌السلام ، بحيث أراد أن يزوّجه إحدى ابنتيه.

٢٧ ـ (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ ...) أي واحدة من هاتين وكانت هي الكبرى (صفوراء) (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) أن تكون أجيرا لي (ثَمانِيَ حِجَجٍ) ثماني سنين (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي أنت مخيّر في الإتمام ، فإتمامه من عندك تفضّل ، ولا إلزام من عندي عليك (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) أي أجور وأظلم بإلزامك بالعشرة أو بالمناقشة في استيفاء الأعمال وقال في المجمع وما أريد أن أشقّ عليك في هذه الثماني ، أي بالمناقشات الواردة عن أرباب الأغنام على الرعاة في كيفيّة الرّعي وكمّيته (إِنْ شاءَ اللهُ) للتبرّك (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي في حسن الصّحبة والوفاء بالعهد.

٢٨ ـ (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ...) أي الذي شارطتني عليه قد تمّ بيني وبينك لا نخرج عنه (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) يجوز أن يكون بيانا لما سبق من قوله

٢٧٨

ذلك بيني إلخ (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) بطلب الزيادة ، أو فلا أكون متعدّيا بترك الزيادة عليه. وهذا القول تقرير لأمر الخيار الذي قرّره له عليه‌السلام بين الزيادة على المدّة وعدمها (وَكِيلٌ) أي هو تعالى على ما نقول ونشارط شهيد. والوكيل هو الذي يفوّض إليه الأمر ، لكنّه لما استعمل في بعض المقامات موضع الشاهد كما فيما نحن فيه عدّي ب (على) والقرينة على ذلك حسن بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عمّن أتت من البنتين ، أيّهما قالت : إنّ أبي يدعوك؟ قال عليه‌السلام : التي تزوّج بها موسى. فسئل أيّ الأجلين قضى؟ قال : أوفاهما وأبعدهما عشر سنين. فسئل : دخل بهما قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال : قبل أن ينقضي. قيل فالرّجل يتزوج المرأة ويشترط لأبيها إجارة شهرين أيجوز ذلك؟ قال : إن موسى علم أنّه سيتّم له شرطه. قيل كيف : قال علم أنه سيبقى حتى يفي وفي الإكمال عن النبيّ صلوات الله عليه وآله أنّ يوشع بن نون وصيّ موسى (ع) عاش بعد موسى ثلاثين سنة وخرجت عليه صفوراء بنت شعيب زوجة موسى وقالت أنا أحقّ منك بالأمر فقاتلها فقتل مقاتليها وأحسن أسرها وهذه القضيّة وقع شبهها في الإسلام بعد رحلة النبيّ الأكرم صلوات الله عليه حيث إن عائشة بنت أبي بكر هيأت جيشا وسارت به إلى البصرة وفي طليعة الجيش كان طلحة والزّبير ، ثم حاربت وصيّ رسول الله عليّ بن أبي طالب سلام الله عليهما بقيادتها بنفسها. فقاتلها وقتل عليه‌السلام مقاتليها وأحسن أسرها احتراما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتبجيلا له.

وفي الأثر عنه صلوات الله عليه وآله بهذا المضمون كلّ ما وقع في الأمم السّالفة يقع في أمّتي حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة.

* * *

٢٧٩

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢))

٢٩ ـ (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ...) أي أتمّ ما كان عليه من الإيجار ، بل قضى أوفاهما وبقي عند شعيب عشرة أخرى فمضى من عمره أربعون سنة ، توجّه إلى مصر برخصة وإجازة من شعيب عليه‌السلام لزيارة أمّه وأخيه وأخته وسائر أقاربه. وعلى رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : توجّه إلى بيت المقدس (وَسارَ بِأَهْلِهِ) أي بامرأته. وفي الكشاف أنه جمع عند شعيب عصيّ جميع الأنبياء ، فأمر موسى أن يدخل البيت وأن يأخذ واحدة من تلك العصيّ ، فأخذ عصا آدم التي ورثها الأنبياء واحدا بعد واحد. فلما علم شعيب عليه‌السلام أنّها عصا آدم قال له : بدّلها وخذ غيرها. فدخل البيت ووضعها وأخذ غيرها. فلما خرج قال له هذه هي

٢٨٠