الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

يزنون الأمور بميزان العقل ، فإنهم هم (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) يعيثون فيها فسادا ويرتكبون المعاصي (وَلا يُصْلِحُونَ) ولا يدعون لإصلاح ولا لصلاح.

* * *

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩))

١٥٣ و ١٥٤ ـ (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ...) أي من الذين سحروا كثيرا حتّى أنهم لا يعقلون. أي أنت مجنون و (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) على فرض أنك لست بمسحور وكنت بشرا سويّا من جميع الجهات فأنت مثلنا بشر ولا مزيّة لك علينا حتى تكون أنت رسولا إلينا من عند الله كما تزعم. فإن كنت لا تدع دعواك الرّسالة (فَأْتِ بِآيَةٍ) تثبت دعواك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيها. فسألهم صالح : أيّ آية تريدون؟ فاقترحوا ناقة عشراء ، أي ذات حمل مضت عليها عشرة أشهر ، تخرج من هذا الجبل فتضع في الوقت حملها. فصار متفكرا ، فنزل عليه أمين الوحي وقال : صل ركعتين فادع الله تعالى لخروج الناقة. فلمّا فرغ فإذا الناقة قد طلعت فقال لهم :

١٥٥ ـ (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ ...) بعد ما أخرجها الله من الصخرة بدعائه

٢٠١

كما اقترحوها على ما سبق آنفا قال : هذه الناقة (لَها شِرْبٌ) أي شراب يوم تشرب فيه ماء كم جميعا (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ولكم نصيب من الماء يوما بعد يومها. وكانت عادتها في يومها أن تشرب الماء كلّه وتصبر إلى يوم نصيبها. وهذا التقسيم كان من صالح عليه‌السلام بإذن منه تعالى. والثاني من وصاياه لهم قوله :

١٥٦ ـ (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ...) لا بضرب ولا عقر ولا منع ماء ، وإذا لم تعملوا بوصيّتي (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) توصيف اليوم بالعظمة لعظم ما يحلّ فيه. وهذا أبلغ من توصيف العذاب الذي يقع فيه. إذا لم يسمعوا وعظه ولم يعملوا بنصحه وقصدوا قتلها.

١٥٧ ـ (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ...) أي ذبحوها بطريقة خاصة وظاهر العقر هو قطع قوائم الدوابّ وجاء بمعنى الحبس. وروي أن (مسطح) ألجأها إلى مضيق بحيث حبست ولم تقدر على الفرار ، فرماها بسهم على رجلها فسقطت فضربها (قيدار) أو (قدّار بن سالف) بالسيف فقتلها. وإسناد العقر إليهم جميعا مع أن المباشر واحد أو اثنان لرضاهم جميعا بذلك. ولذلك أخذوا بالعذاب كلّهم (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) حين معاينة العذاب.

١٥٨ و ١٥٩ ـ (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ ...) أي العذاب الموعود وهو صيحة جبرائيل (ع) التي خسفت بهم الأرض فابتلعتهم.

* * *

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ

٢٠٢

 الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥))

١٦٠ إلى ١٦٥ ـ (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ...) أتأتون الذّكران ... هذه هي القصة السادسة التي شرح سبحانه فيها عمل قوم لوط (ع) وتكذيبهم الأنبياء أي جميع أنبياء الله لأن من كذب نبيّا كذّب تمام الأنبياء. فإنّ لوطا بلّغ قومه ما بلّغ الأنبياء قبله مثل نوح وهود وصالح عليهم‌السلام فلم يقبلوا منه ، فوبّخهم على الأمر القبيح والعمل الشنيع فقال : اخترتم الذّكران من الناس وتركتم أزواجكم اللاتي خلقهنّ الله لكم؟.

١٦٦ ـ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ ...) أي متجاوزون عن حدود أحكام الله وشرائعه.

١٦٧ ـ (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ ...) أي لئن لم ترجع عمّا تقوله ، ولم تمتنع عن دعوتنا وتقبيح أعمالنا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) المبعدين والمنفّيين.

١٦٨ ـ (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ ...) أي المبغضين أشدّ البغض المبتعدين عنه الكارهين له.

١٦٩ إلى ١٧١ ـ (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ...) أي سلّمني من وباله

٢٠٣

وشؤمه. فلمّا آيس من أن يؤمنوا دعا عليهم وسأل نجاته ونجاة أهله وعائلته المؤمنة ، فاستجاب الله دعاءه عليهم ونجّى لوطا وأهله (إِلَّا عَجُوزاً) هي امرأة لوط (فِي الْغابِرِينَ) أي كانت باقية في البلد مع الذين لم يؤمنوا ولم تخرج معه (ع) فأهلكت معهم بما أهلكوا لرضاها بفعلهم وإعانتها لهم لأنها كانت على رأيهم.

١٧٢ الى ١٧٥ ـ (ثُمَّ دَمَّرْنَا ...) أي أهلكنا (الْآخَرِينَ) من قوم لوط (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) كان من الحجارة لأنه مطر عذاب ، والأمطار تستعمل في العذاب غالبا كما يستعمل الخسف (فَساءَ) ذلك المطر وكأن شؤما على (الْمُنْذَرِينَ) الذين أنذرهم لوط عليه‌السلام ، وفي ذلك آية من آيات الله الباهرات لمن كان عنده تبصر وتدبّر.

* * *

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤))

١٧٦ ـ (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ ...) هذه هي القصة السابعة التي أخبر فيها سبحانه عن أصحاب الأيكة الذين بعث إليهم شعيبا عليه‌السلام وما كانوا من قومه وكان شعيب عليه‌السلام أخا مدين ، وقد أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة ، وأصل الأيكة هو الشجر الملتفّ ، وهي غيضة بجنب

٢٠٤

مدين يسكنها قوم بعث إليهم شعيب.

١٧٧ إلى ١٨٠ ـ (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ...) أي أمرهم بأشياء أحدها قوله (أَلا تَتَّقُونَ) ومنها قوله أنه (رَسُولٌ أَمِينٌ) وأنه (لا يسأل أجرا) وأجره على الله كبقية الرّسل.

١٨١ إلى ١٨٣ ـ (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ...) أي أتمّوه ولا تكونوا من المنقصين منه في حقوق الناس بالتطفيف ، فإن عملهم كان النقص في الميزان. (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي الميزان العدل. وقيل إن القسطاس لفظ رومي بمعنى العدل وقيل إنّه عربي مأخوذ من القسط بمعنى السويّ والمعنى واحد (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ) لا تنقصوا شيئا من حقوقهم. وهو تأكيد في المعنى المقصود (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العثيّ : المبالغة في الفساد والكبر والفساد أي : لا تبالغوا في الكفر والكبرياء والفساد من القتل والأسر والضرب وقطع الطرق ونحوها في الأرض.

١٨٤ ـ (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ ...) أي الذي أنعم عليكم بنعمة الوجود كما أوجد الذين من قبلكم من آبائكم الأقدمين وغيرهم من الخلائق (وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) الجبلّة هي الخلقة ، أي ذوي الجبلّة ، فهو خالقكم وخالق من سبقكم.

* * *

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨))

٢٠٥

١٨٥ إلى ١٨٨ ـ (قالُوا ... وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ ...) كلمة (إِنْ) مخفّفة من الثقيلة ، والتقدير وإنّنا نظنك ، فلمّا نسبوه إلى الكذب والسّحر سألوه العذاب ليكون آية على صدق دعواه ، فشكاهم إلى الله العالم بعملهم.

* * *

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦))

١٨٩ إلى ١٩١ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ ...) أي العذاب الذي اقترحوه من قولهم (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) يعني قطعا منها ، فألجأتهم الحرارة الشديدة بحيث كادوا أن يموتوا منها إلى (الظُّلَّةِ) زعموا أنها قطعة غيم باردة فمشوا إليها جميعا واستراحوا من تلك الحرارة المهلكة ، المظلّة تمطر عليهم نارا فأحرقتهم وقال القميّ : بلغنا ، والله أعلم أنّه أصابهم حرّ وهم في بيوتهم فخرجوا يلتمسون الرّوح من قبل السّحابة التي بعث الله عزوجل فيها العذاب فلما غشيتهم أخذتهم الصّيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وسمّي هذا العذاب بعذاب يوم الظّلة بهذا الاعتبار. وقيل إن يوم الظلّة ويوم عظيم ها هنا واحد ، وذلك أنّه تعالى سلط عليهم سبعة أيام حرّا شديدا بحيث كادت الحرارة أن تهلكهم ، فكان بقربهم جبل فأمره الله أن يتحرّك من مكانه ويصعد إلى

٢٠٦

السّماء فوقف كالمظلّة وأجرى بقدرته الكاملة تحته الأنهار وأوجد فيه هواء باردا فاتّفق أن واحدا منهم طلع من بيته ورأى المظلّة وذهب إليها رجاء لتحصيل البرودة ، فلمّا وصل إليها ورأى المياه الباردة والأهوية الطيّبة شرب منها وتنفسّ ثم ذهب إلى أهله وجاء بهم إلى الظلّة فعلم بذلك أهل البلد فخرجوا جميعا إليها بحيث لم يبق في البلد واحد منهم فلما غشيهم الجبل جميعا وأحاط بهم وقع عليهم بأمر منه تعالى ، فما بقي منهم متنفس الا وقد شمله العذاب أي عذاب اليوم العظيم. وعن قتادة أن الله تعالى بعث شعيبا الى طائفتين ، أهل مدين ، وأصحاب الأيكة ، فأهل مدين أهلكوا بصيحة جبرائيل (ع) وأولئك بعذاب الظلّة.

١٩٢ و ١٩٣ ـ (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ...) أي القرآن المشتمل على هذه القصص وغيرها مرسل من عند الله ، وتقرير لحقيقة القصص ، وإشعار بإعجاز القرآن (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) أي نزل جبرائيل مصاحبا للقرآن ومتّصفا بكونه أمينا لأنّه أمين الله على وحيه ، وهذا الوصف يكشف عن سموّ مقامه وعلوّ مرتبته عنده تعالى ، وسمّاه روحا لأنه يحيي به الأرواح بما ينزل من البركات ، وقيل لأنه جسم روحاني أو لأنه يحيا به الدين.

١٩٤ ـ (عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ...) يعني لقّنه جبرائيل (ع) الكيفيّة المأمور بها بلا تغيير ولا تبديل وهو صلوات الله عليه وآله قد تلقّن القرآن منه كما نزل من الله تعالى فحفّظه صلوات الله عليه في قلبه الشريف وأثبته فيه كما نزل.

١٩٥ و ١٩٦ ـ (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ...) أي بيّن المعنى وواضحه ، والقول متعلق ب (نَزَلَ) وفي العلل أن الصّادق (ع) قال : ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا ولا وحيا إلّا بالعربية ، فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم وكان يقع في مسامع نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعربيّة ، فإذا كلم قومه به كلّمهم بالعربيّة فيقع في مسامع قومه بلسانهم. وما من أحد كان يخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأيّ لسان خاطبه ، إلّا وقع في

٢٠٧

مسامعه بالعربيّة فيترجم له جبرائيل كل ذلك تشريفا له من الله تعالى (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي ذكر القرآن أو معناه في كتب الأنبياء المتقدّمين.

* * *

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣))

١٩٧ ـ (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً ...) أي علامة لقريش على صحة القرآن وإعجازه ونبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم كابن سلام وغيره. والاستفهام إنكاري ، أي علمهم ببعثه في كتبهم خبر ثابت موجود. فلقريش أن يسألوهم حتى يتبيّن لهم الحق من أن القرآن كتاب إلهيّ ناطق بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعن ابن عبّاس أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا أرسلوا إلى يهود مكة (إلى علمائهم) وسألوهم عن محمد ونبوّته فأجابوهم بأنّا وجدنا في الكتب السّماوية مثل لغته واسمه ، وقرأنا أنّ وقت بعثه هذه الأزمنة. فإن الله تعالى شأنه احتج عليهم بقول علماء اليهود وشهادتهم أن محمّدا هذا هو النبيّ الموعود فقال تعالى : أو لم يكفهم شهادة علماء اليهود بنبوّتك وصحة دعواك ولم تكن هذه الآية مقنعة لهم. وقد كان السبب في إسلام الأوس والخزرج هو إخبار علماء اليهود بوجود ذكر القرآن

٢٠٨

وأوصاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبهم السّماوية. ثم إنّه تعالى أخبر عن رسوخ الكفر والجحود في قلوبهم بحيث لا ينفعهم نصح ناصح ولا يؤثّر فيهم وعظ واعظ ، فقال سبحانه :

١٩٨ و ١٩٩ ـ (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ...) أي لو نزّلنا القرآن على غير العرب (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي لم يكونوا يؤمنون بهذا القرآن ولو كان غير العرب يقرأه عليهم باللغة العربيّة في غاية الفصاحة وكمال البلاغة لفرط عنادهم وأنفة الجاهلية وحميّتها. وفي تفسير أهل بيت الرسالة عن الصّادق عليه‌السلام : لو أن القرآن نزّل على لغة العجم لم يكن العرب ليؤمنوا به ، ولكنّ لمّا نزل على لغة العرب آمن به العجم. وهذا دالّ على فضل العجم. والأعجمين جمع أعجم وهو الذي في لسانه عجمة أي لكنة ، أو من ليس في كلامه إفصاح سواء كان أصله من العرب أو العجم. ومثله الأعجميّ إلّا أن فيه زيادة تأكيد لزيادة ياء النسبة. ويطلق العرب على كلّ ذي صوت لا يفتهمون كلامه حتى أن لفظة أعجم يطلقونها على البهائم والطيور فيقال الحيوانات العجماء.

٢٠٠ ـ (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ...) أي كما أنزلناه بلغة عربيّة فصيحة لإتمام الحجة وانقطاع عذرهم بعدم افتهامهم ، كذلك أدخلنا معانيه وإعجازه في قلوبهم ، أي أرسلنا إليهم نبيا من أنفسهم كان أفصح منهم لسانا وأشرف منهم بيتا فقرأه عليهم على وجه أفصح وبيان أبلغ فأفهمهم غاية الإفهام وبيّن لهم بأكمل البيان وأتمّه بحيث ما بقي لهم عذر ثم لم يؤمنوا به عنادا واستكبارا لأنهم مجرمون يمرّ بقلوبهم مرورا.

٢٠١ إلى ٢٠٣ ـ (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ ...) فهؤلاء المجرمون لا يصدّقون به حتى يصيروا مع العذاب الذي وعدناهم به وجها لوجه (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) تبغتهم فتبهتهم ، أي تجيئهم فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يحسّون بوقوعه ولا يلتفتون لإتيانه لأنهم ينكرونه ولا يصدقون به. والجملة حاليّة مفسّرة ل (بَغْتَةً) وعندئذ يقولون : (هَلْ نَحْنُ

٢٠٩

مُنْظَرُونَ) أي هل لنا من نظرة : أي مهلة لنعود فنصدّق ونعمل عملا صالحا يرضي الله؟ وذلك بعد فوات الأوان ولكنهم يتحسّرون ويتأسّفون على ما فرّطوا حين كذّبوا النبيّ (ص) ورفضوا دعوته.

* * *

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))

٢٠٤ ـ (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ...) هذا توبيخ لهم بتهكّم. أي كيف يستعجله من إذا أنزل به سأل النّظرة؟

٢٠٥ إلى ٢٠٧ ـ (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ...) أي أخبرنا عن حالهم ، لو صيّرناهم ينتفعون ويعيشون متلذّذين بدنياهم زمانا طويلا (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) أتاهم عذابنا الذي وعدناهم به (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي لم يغن عنهم تمتّعهم المتطاول في دفع العذاب أو تخفيفه. وجواب الاستفهام محذوف ، وحاصل المعنى أنه هل ينفعهم تمتّعهم المتطاول ويغنيهم ويدفع عنهم العذاب؟ فالجواب أنه لا يدفع ، وما أغنى عنهم ذلك ، وهذا الاستفهام للتقرير.

٢١٠

٢٠٨ و ٢٠٩ ـ (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ...) أي لأهل القرية أنبياء منصوبون من قبل الله تعالى لإنذارهم إلزاما للحجة ، وبعد تكذيبهم لأنبيائهم نهلكهم بعد أن نمهلهم ، ونفعل معهم ذلك (ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي للتّذكير نرسل لهم الأنبياء ، ونحن لسنا من الظالمين. فنهلكهم غير ظالمين لهم بعد الإنذار والذكرى.

٢١٠ إلى ٢١٣ ـ (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ...) كلمة (ما) نافية ، والضّمير راجع إلى القرآن. والحاصل أن المشركين زعموا أن القرآن من قبيل ما يلقي به الشياطين على الكهنة فردّهم الله بهذه الكريمة. فما الشياطين بقادرين على ذلك (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أي لا يتيسّر ولا يسهّل أن يتنزّل الشياطين بالقرآن مع حيلولة الشهب والملائكة المانعين لصعودهم إلى السماء (وَما يَسْتَطِيعُونَ) لا يقدرون عليه لأن الله تعالى يحرس المعجزة عن أن يموّه بها المبطل فإنه إذا أراد أن يدل بها على صدق الصّادق أخلصها بمثل هذه الحراسة. فالشياطين أبعد ما يكون عن ذلك ، و (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي لمطرودون عن استماع كلام الملائكة وممنوعون عن استماع القرآن من السّماء فقد حيل بينهم وبين السّمع بالملائكة المأمورين بالحيلولة وبالشّهب ، وذلك لأنه مشروط بالمشاركة في صفات الذات وقبول فيضان الحق ، ولمّا كانت نفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة فلا سنخيّة بينهم وبين الملائكة ولا تناسب بينهما فلا يقدرون على الصّعود إلى السماء فالنتيجة أنهم محرومون وممنوعون عن السّمع. فزعم قريش أنّ القرآن من قبيل ما يلقي الشياطين إلى الكهنة والسّحرة باطل عاطل والآية الشريفة علة للجمل المنفية السّابقة عليها والتقدير : لأنّهم معزولون ثم إنّه تعالى حذّر نبيّه أن يشرك به وخاطبه ، لكن المراد به سائر المكلفين فقال (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ) وإنما أفرده بالخطاب ليعلم أن العظيم الشأن إذا أوعد فكيف حال من دونه ، وإذا حذّر الكبير فغيره أولى به ، والآيات التحذيرية ـ نوعا ـ من قبيل إيّاك أعني واسمعي يا جارة.

* * *

٢١١

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

٢١٤ ـ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ...) أي رهطك الأدنين ، وإنّما خصّهم بالذكر تنبيها على أنه لا يداهنهم لأجل القرابة فيقطع طمع الأجانب عن المداهنة في أمر الدّين. ثم إنّه سبحانه بعد الأمر بالإنذار يأمر نبيّه بحسن المعاشرة والتواضع لأهل الإيمان فقال عزّ اسمه :

٢١٥ ـ (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ ...) للمؤمنين : أي عاشرهم بالملاطفة وحسن السّيرة. وخفض الجناح مستعار من قولهم : خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحطّ وهنا كناية عن لين القول والعريكة وحسن الخلق. وسبب هذا وعلة الأمر بخفض الجناح يبيّنه قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) كلمة (مِنَ) للتّبيين ، فإنّ قوله تعالى لمن اتّبعك أعمّ من المتابعة في الدين. قال الصادق عليه‌السلام : التواضع مزرعة الخشوع والخشية والحياء وإنهنّ لا يتبين إلّا منها وفيها. ولا يسلم الشرف التامّ الحقيقيّ إلّا للمتواضع في ذات الله عزوجل.

٢١٦ ـ (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ...) فإذا امتنعوا عن طاعتك فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه من التوحيد وعدم الشّرك ـ ويعني بهم كفّار قريش الذين أمره بإنذارهم ـ إذا فعلوا ذلك فتبرأ منهم ومن عملهم.

٢١٧ ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ...) وقرئ فتوكّل وهذه الشريفة في مقام تسلية النبيّ الأكرم (ص) على فرض عصيان الأمة وعدم إطاعتهم لأوامره ونواهيه. ويستفاد منها ، والله أعلم ، أنه سبحانه يقول لنبيّه (ص) :

٢١٢

يا محمد لا بدّ وأن يكون توكّلك عليّ وأنا العزيز : أي القادر على قهر أعدائك ، الرّحيم أي القادر على نصر أوليائك والرّحمة بهم ، ونحن نكفيك شرّ من يعصيك فلا تضرّك معصية العاصين ولا عدم إطاعة الطاغين ففوّض أمرك إليّ وأنا كافيك وحسبك ونعم الحسيب :

٢١٨ إلى ٢٢٠ ـ (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ ...) هذه صفة بعد صفة ، أي توكّل على الذي يراك حين تقوم من مجلسك أو فراشك للتهجّد أو للصّلاة في أوقاتها ، ويرى (تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي تصرّفك وانتقالك في المصلّين بالقيام والركوع والسّجود والقعود حين تؤمّهم أو مطلقا ولو متفرّدا (إِنَّهُ) أي ربّك (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مرّ تفسيره.

* * *

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣))

٢٢١ و ٢٢٢ ـ (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ ...) لما بيّن أن القرآن لا يصحّ أن يكون ممّا تنزّل به الشياطين أكّد ذلك ببيان من تنزّل عليه فقال سبحانه وتعالى : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي كذاب مرتكب للذنب والمقصود منه رؤساء الكفار (منه) أي كل فاجر عامل بالمعاصي وهم الكهنة والسحرة فإن الشياطين يتنزّلون عليهم فيستمعون إلى ما يلقون إليهم.

٢٢٣ ـ (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ...) أي الأفاكون يلقون سمعهم إلى الشياطين فيتلقّون منهم ثم يضمّون إلى وسوستهم على حسب تخيّلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها لا ما يظنون ولا الواقع. كما في الحديث : الكلمة

٢١٣

يحفظها الجنيّ فيقرأها في أذن وليّه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة وإن الشياطين كانوا قبل الإسلام يصعدون إلى السّماء ويستمعون إلى الملأ الأعلى ويحفظون من الملائكة كلمة أو كلمتين ثم ينزلون إلى الأرض ويلقون إلى أوليائهم من الكهنة ، وكان الكهنة يزيدون عليها ما شاؤوا من تخيّلاتهم الفاسدة. لتتميم علمهم الناقص (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي الأفّاكون أكثرهم كاذبون أو أكثر الشياطين ، والظاهر هو الأوّل بقرينة قوله تنزّل على كل أفّاك أثيم ، والأفّاك هو الكذّاب وهو المتنزل عليه أي الكاهن ، والله أعلم بما قال.

* * *

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

٢٢٤ إلى ٢٢٦ ـ (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ...) ثم إنه تعالى لما أبطل زعم المشركين أنّ القرآن من قبيل ما يلقي به الشياطين على كهنتهم ، فأخذ في إبطال قولهم أنّ محمدا شاعر بأن الشعراء هم الذين يتّبعهم الضّالون المضلّون فذمّهم بمصاحيبهم ومتابعيهم ، حيث إن الإنسان يعرف بصحبه وجلسائه فلو كانوا من الشرفاء فهو يكشف عن أنه شريف وإذا كانوا من السفلة والأدنياء فهو كذلك ولعل المراد هو ابن الزبعرى وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهبيرة بن وهب المخزومي ومنافع بن عبد مناف وأمثالهم من الشعراء المشركين وكانوا سبعة وكلهم من قريش وقالوا نحن نقول مثل ما قال محمد فاجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم

٢١٤

ويروون عنهم فيهجون النبيّ وأصحابه بالشعر فذمّهم الله وأنزل فيهم الآية ، فالشعراء كذلك (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أي أنهم في كل مذهب يذهبون غير مبالين بما نطقوا به من غلوّ في مدح من لا يستحق المدح وذمّ من لا يستحق الذّم (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) إذ يعظون الناس ولا يتّعظون وينهون عن المنكر ولا ينتهون ويأمرون بالمعروف ولا يعملون قيل هم الذين غصبوا حق آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ولعنة الله على غاصبي حقوقهم وقد أعفى سبحانه من هذا الذّم للشعراء واستثنى (الَّذِينَ آمَنُوا) صدّقوا بدعوة النبيّ (ص) (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الأعمال ، وتعدّى عليهم الكافرون بذمّهم ف (انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) فقالوا الشعر انتصارا لأنفسهم ، وسيعلم الظالمون كيف ينتقم الله تعالى منهم حينما (يَنْقَلِبُونَ) يعودون إليه يوم الحشر والحساب.

* * *

٢١٥
٢١٦

سورة النمل

مكّية وهي ثلاث وتسعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)

١ ـ (طس ـ تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ ...) في ثواب الأعمال والمجمع عن الصّادق عليه‌السلام : من قرأ سور الطّواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله وفي جواره وكنفه ، ولم يصبه في الدّنيا بؤس أبدا ، وأعطي في الآخرة من الجنّة حتى يرضى وفوق رضاه ، وزوّجه الله من الحور العين. وزاد في المجمع : وأسكنه الله في جنّة عدن. وقد مرّ بيان (طس) وغيرها من الحروف المقطّعات والرموز ، وقلنا بأنها تماما أسماء لنبيّنا صلوات الله عليه وآله ، وهي أسماء رمزية تأتي في كلّ مقام بمناسبة لا يعلمها إلّا الله

٢١٧

والراسخون في العلم على ما صرّح في بعض الأدعية المنسوبة إلى مولانا عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما ؛ ولا ينافي ما قلناه ما قيل وما روي فيها من المعاني فإن للقرآن بطونا على ما في الروايات فيمكن حملها على تلك المعاني والبطون والله أعلم (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ) إشارة إلى آي السّورة (وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي مبيّن للحق من الباطل والكتاب هو اللوح أو القرآن.

٢ و ٣ ـ (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ...) هدى من الضّلالة إلى الحق ، وبشرى لهم بالثواب والجنة. وبشرى وهدى : مصدران بمعنى الفاعل ، أي هاد ومبشّر للمؤمنين. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يؤدونها في أوقاتها وبحدودها المشروعة من واجبات ومنافيات وغيرها ، والجملة صفة للمؤمنين (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) بتمامها وكمالها ، وهذه صفة بعد صفة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) صفة ثالثة ، والواو ربما احتملت فيها الحالية كما يحتمل العطف. ويلاحظ أن تغيير النظم وتكرار الضمير قد كانا إيذانا بإيقانهم وإيمانهم بيوم الحساب وبالجنّة والنار والثواب والعقاب.

٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ ...) تزيين الأعمال يكون إمّا بتخلية الشيطان حتى يزيّنها لهم كما صرّح به في الآية ٣٤ من هذه السورة (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) ، إلخ ... وإمّا بجعلها مشتهاة لطبائعهم محبوبة لأنفسهم (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي متحيّرون فيها لمن ضلّ الطريق ، لا يدركون ما يتبعها. والعمه هو التحيّر في الطريق أو الأمر مطلقا ، والتردد في الضّلال. وقيل معنى قوله زيّنا لهم إلخ : حرمناهم التوفيق عقوبة على كفرهم فتزيّنت أعمالهم في أعينهم وحليت في صدورهم فهم لا يشعرون بما يفعلون ولا يدركون أنّ أعمالهم وبال عليهم وهذا غاية العمه والضلالة أعاذنا الله منهما.

٥ ـ (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ ...) أي العذاب في الدنيا كالقتل والأسر والفدية عوضا عنهما كما في وقعة بدر بقرينة قوله تعالى : (وَهُمْ فِي

٢١٨

الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) فإنهم أشدّ الناس خسرانا لفوات المثوبة واستحقاق العقوبة ولاستبدالهم النار بالجنة.

٦ ـ (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ ...) أي لتلقّنه وتعطاه (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) من عند من هو ذو حكمة في أمره ولا يحتاج فيه إلى مشورة ولا إلى استخارة من غيره (عَلِيمٍ) ذي علم ؛ بمصالح خلقه .. ثم إنّه سبحانه أخذ في بيان بعض من علومه التي كانت من قسم القصص حيث إن علومه التي أودعها في القرآن ضروب منها القصص والأخبار التي وقعت للأنبياء السابقين وأممهم يذكرها فيه للاعتبار وتسلية النبيّ الأكرم بالنسبة إلى أذية قومه له حتى قال : ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت فإنّه تعالى قصّ على نبيّه الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله كيفيّة حال موسى عليه‌السلام من بعثه ومبعثه وإعطائه المعجز وإرساله إلى فرعون وملئه فقال سبحانه :

* * *

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢))

٢١٩

٧ ـ (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ ...) أي اذكر يا محمّد قصّة موسى بن عمران حين قال لامرأته ، وهي بنت شعيب عليه‌السلام ، حين ما أمر بدعوة فرعون فخرج مع أهله من عند شعيب متوجّهين إلى مصر فابتليت امرأته بالمخاض ، والقصّة قد ذكرناها قبلا فلا نعيدها (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أبصرت وأحسست نارا (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي خبر عن الطريق لأنهم ضلّوا ، والنار عادة تكون علامة على وجود ناس عندها يعرفون الأخبار كطلب الاهتداء إلى الطريق وغيره ممّا يعرض للمسافر التائه عن دربه كما أصابهم في ظلمة ذلك الليل البهيم. وقد خاطب أهله بالجمع مع أنه سبحانه كنّى عنهم بالأهل ، لأن الأهل تشمل العشيرة والجماعة فتتضمّن معنى الجمع ، ولذلك صحّ أن يخاطب أهله بضمير الجمع ، وهذا يقتضيه المقام ومقام النبوّة ذلك أن الأنبياء صلوات الله عليهم مهذّبو اللّسان متأدّبون بآداب الله ومتعلمون بتعليماته سبحانه ، ومأمورون بأن يعلّموا الناس ويربّوهم على تلك التعاليم الإلهية والتربية الربوبيّة عمليا لأن التعاليم العملية أهمّ وأولى من النظرية فقط كما في الرواية : كونوا دعاة إلى الله بغير ألسنتكم ، أي بأعمالكم ، والوجه واضح لا يحتاج إلى إقامة برهان عليه مزيدا على الرواية المذكورة. فالنتيجة أن المربّين بتربية الله تعالى عادتهم وديدنهم أن يدعوا الناس ويخاطبوهم بأحسن أسمائهم وبكيفيّة يحفظون فيها احتراماتهم ولو كان المخاطب من أهاليهم ولا سيّما إذا كانوا من أولاد الأنبياء ومن أهل بيت النبوّة والرسالة كما في المقام على ما أشرنا في صدر البيان. وفي رواياتنا أيضا الآمرة بأن تكلّم الناس وتدعوهم بما يحبّون من أسمائهم وكناهم لا بما يؤذيهم (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي بما يتضوّأ به من نار ذات شعلة ، وبعبارة أوجز : بشعلة مضيئة ، فإن القبس هو النار المقبوسة الملتهبة ، وقرئ بإضافة الشهاب وهي بيانيّة ، والقراءة المشهورة بغير الإضافة فالقبس بدل (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) لكي تستدفئون بها. والحاصل أن موسى خلّى أهله وتوجّه نحو النار.

٢٢٠