الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

 قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠))

٦٣ ـ (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ...) أي بالسّكينة والوقار والطاعة غير أشرين كما هو زيّ الجبابرة والمتكبرين ولا مرحين ولا متكبّرين ولا مفسدين ، أو حلماء علماء لا يجهلون وإن جهل عليهم (قالُوا سَلاماً) إذا خاطبهم الجهلة والحمقى بما يثقل عليهم أو بما يكرهونه قالوا في جوابهم سلاما ، أي سدادا من القول فلا يقابلونهم بمثل قولهم من الفحش والهجو والسخرية ، أو قولا يسلمون فيه من الإثم ومن أذاهم دليله قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قيل هذه صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس ، وليلهم خير ليل إذا خلوا فيما بينهم وبين ربّهم كما قال تعالى :

٦٤ ـ (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً ...) أي في الصّلاة ، وتخصيص البيتوتة لأن العبادة بالليل أحمز وأحسن لأنها أبعد عن الرّياء.

١٦١

٦٥ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ ... إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ...) أي لازما دائما لا ينفكّ عن أهله ، من الغرامة وهو ما يلزم أداؤه من المال ومنه الغريم لملازمته ، وصفوا بحسن السّيرة مع الخلق والاجتهاد في طاعة الحق وهم مع ذلك ووجلون خائفون من العذاب يدعون ربّهم صرفه عنهم غير معتدّين بأعمالهم.

٦٦ ـ (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً ...) أي بئس المقرّ والمقام جهنّم.

٦٧ ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ...) أي لم يجاوزوا الحدّ في النفقة ولم يضيّقوا فيها ، أو لم ينفقوا في المعاصي ولم يمنعوا الحقوق (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) فإن إنفاقهم كان بين الإقتار والإسراف (قَواماً) وسطا كما عن الصّادق عليه‌السلام ، وقال عليه‌السلام : أربعة لا يستجاب لهم دعوة ، رجل فاتح فاه جالس في بيته يقول يا ربّ ارزقني فيقول له ألم آمرك بالطلب؟ ورجل كانت له امرأة يدعو عليها يقول يا ربّ أرحني منها ، فيقول ألم أجعل أمرها بيدك؟ ورجل كان له مال فأفسده فيقول يا ربّ ارزقني ، فيقول ألم آمرك بالاقتصاد؟ ورجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة ، فيقول ألم آمرك بالشهادة؟ فمعنى القوام في المقام هو الاقتصاد وهو الوسط الذي بين الإسراف والإقتار. وعنه عليه‌السلام أنّه تلا هذه الآية فأخذ قبضة من الحصى وقبضها بيده فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثم قبض قبضة أخرى فأرخى كفّه كلّها ثم قال هذا الإسراف ، ثم أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال هذا القوام. فهو بأبي هو وأمّي علّم الآية للناس وفسّرها عملا بأوضح وأحسن عمل.

٦٨ ـ (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ ... يَلْقَ أَثاماً ...) أي يرى ويلاقي جزاء إثم. وقيل إن أثاما وغيّا الذي في قوله تعالى فسوف يلقون غيّا ، بئران عميقان غاية العمق في جهنّم. وروي أن أثاما واد من أودية جهنّم من صفر مذاب هو مقام من عبد غير الله ومن قتل النفس المحرمة والزّناة.

١٦٢

٦٩ ـ (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ ... وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ...) أي يقيم في العذاب أبدا ، ذليلا حقيرا في غاية الحقارة والذل أعاذنا الله من ذلك.

٧٠ ـ (إِلَّا مَنْ تابَ ... يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ...) في العيون عن الرّضا عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا كان يوم القيامة تجلّى الله عزوجل لعبده المؤمن فيقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر له لا يطلع الله على ذلك ملكا مقرّبا ولا نبيّا مرسلا ويستر عليه ما يكره أن يقف عليه أحد ، ثم يقول لسيئاته كوني حسنات. وفي رواية الأماني عن الباقر (ع) قريب من هذا المعنى وفي آخرها : هذا تأويل الآية وهي في المذنبين من شيعتنا خاصّة. والروايات بهذا المعنى كثيرة. وفي روضة الواعظين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من مجلس قوم يذكرون الله إلّا نادى مناد من السّماء قوموا فقد بدّل الله سيّئاتكم حسنات.

* * *

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦))

١٦٣

٧١ ـ (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً ...) التوبة هي ترك الذنوب والندم عليها ورجوع العبد بعد ذلك إليه تعالى ، ومتابا مصدر كالمرجع لفظا ومعنى ، أي يرجع إلى الله بذلك مرجعا مرضيّا دافعا للعقاب جالبا للثواب.

٧٢ ـ (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ...) أي لا يحضرون محاضر الباطل ، أو لا يقيمون شهادة الكذب. والقمي قال : الغناء ومجالس اللهو (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أصل اللغو هو الفعل الذي لا فائدة فيه ، ولهذا يقال للكلمة التي لا تفيد : لغو وليس المراد به القبيح حيث إنّ فعل السّاهي والنائم لغو وليس بحسن ولا قبيح (مَرُّوا كِراماً) أي معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه معهم ، ومن ذلك الإغضاء عن الفحشاء والصفح عن الذنوب.

٧٣ ـ (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ...) أي القرآن أو الوعظ (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) نفي للحال دون أصل الفعل ، اي لم يكبّوا عليها غير منتفعين بها كالصّم والعميان لا يسمعون ولا يبصرون ، بل يكبّون عليها واعين لها متبصّرين ما فيها. وعن الصادق عليه‌السلام قال : مستبصرين ليسوا بشاكّين.

٧٤ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ ... قُرَّةَ أَعْيُنٍ ...) بأن نراهم موفّقين مطيعين لك ، فإن المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة الله سرّ به قلبه وقرّت بهم عينه لما يرى من مساعدتهم له في الدّين وتوقّع لحوقهم به في الجنة ونجاتهم معه من النّار (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) في الجوامع عن الصّادق عليه‌السلام : إيّانا عنى. وفي رواية : هي فينا. والقميّ عن الصادق عليه‌السلام وقد قرئت عنده هذه الآية : قد سألوا الله عظيما أن يجعلهم للمتقين أئمّة. فقيل له : كيف هذا يا ابن رسول الله؟ قال : إنما أنزل الله واجعل لنا من المتقين إماما وبناء على ظاهره معناه : أي نقتدي بمن قبلنا من المتّقين بتوفيق منك فيقتدي المتّقون بنا من بعدنا.

١٦٤

٧٥ و ٧٦ ـ (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ ...) أي أعلى منازل أهل الجنة ومواضعها ، فإن الغرفة لغة العلّية وكلّ بناء عال فهو غرفة (بِما صَبَرُوا) أي الموصوفون بهذه الصّفات التسع التي مرّت في الآيات الكريمات السابقة ، يجزون الدرجات العالية الرفيعة بسبب صبرهم على الطاعات وقمع الشهوات وأذى الجهلة ومشاقّ الجهاد ، والفقر والمكاره في سبيله تعالى (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) يلقّون بالتشديد أي يعطون في الجنة ، وبتخفيف القاف أي يرون فيها ويدركون فيها التحية والسلام من الملائكة. والتحيّة كلّ قول يسرّ به الإنسان. والسّلام بشارة لهم بعظيم الثواب ، ويكون هؤلاء المؤمنون خالدين في هذا النعيم وفي أحسن مستقر وخير مقام.

* * *

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

٧٧ ـ (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي ...) أي ما يصنع بكم ، أو لا يكترث بكم ، أو ما يفعل. وسئل الباقر (ع) : كثرة القراءة أو كثرة الدعاء أيّهما أفضل؟ قال : كثرة الدعاء أفضل ، وقرأ هذه الآية. (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) بما أخبرتكم به حيث خالفتموه (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي لازما لكم جزاء تكذيبكم في الآخرة.

١٦٥
١٦٦

سورة الشعراء

مكية إلّا ١٩٧ ومن ٢٢٤ إلى آخر السورة وآياتها ٢٢٧.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦))

١ ـ (طسم ...) قد مرّ معنى الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السّور.

٢ ـ (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ...) قد أشار ب (تِلْكَ) إلى ما ليس بحاضر ، لكنّه متوقّع فهو كالحاضر لحضور المعنى في النفس. والتقدير : تلك الآيات الّتي وعدتم بها هي (آياتُ الْكِتابِ) أي القرآن (الْمُبِينِ) الذي يبيّن الحق من الباطل أو البيّن إعجازه.

١٦٧

٣ ـ (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ...) كلمة لعلّ هنا للإشفاق ، كأنّه قيل : أشفق على نفسك أن تقتلها. وأصل البخع إيصال السكّين إلى النخاع ، وهو عرق مستبطن في القفا. وهذا أقصى حدّ الذبح. ومعنى قوله سبحانه : (باخِعٌ نَفْسَكَ) أي قاتل ومهلك لها غمّا وحزنا (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) من أجل أن لا يكونوا مؤمنين أي من أجل أن قومك لا يؤمنون. فاللام مقدّر ، أي لئلّا يؤمنوا ، أو لامتناع إيمانهم ، أو بتقدير مضاف : خيفة أن لا يؤمنوا.

٤ ـ (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ...) أي علامة ملجئة إلى الإيمان أو إن نشأ إيمانهم ننزّل عليهم برهانا وحجة تلجئهم إلى الإيمان. (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ) فصارت أعناقهم لها خاشعة منقادة أو فيظلّ رؤساؤهم ومقدّموهم أو جماعاتهم لها منقادين. وقد جاء أنّ العنق بمعنى الرئيس أو الجماعة.

٥ و ٦ ـ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ...) أي القرآن (مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) بوحيه إلى نبيّه (ص) مجدّد تنزيله. والحاصل أنّه ما من آية أو سورة من القرآن إلّا كنّا ننزلها مجدّدا واحدة بعد واحدة (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) مصرّين على كفرهم وطغيانهم ولا يكتفون بالإعراض (فَقَدْ كَذَّبُوا) بالآيات القرآنية واستهزءوا بها (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي عمّا قريب يعلمون بأيّ شيء استهزؤا إذا مسّهم العذاب يوم القيامة ، أو في الدّنيا يوم بدر وإذا أذاقهم الله جزاء تكذيبهم وسخريّتهم تنكشف لهم حقيقة الأمور الموعودة فيعرفون صدقها فلا تنفعهم الندامة والحسرة حينئذ. ثم إنه تعالى على سبيل التذكير بنعمته يقول :

* * *

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ

١٦٨

زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩))

٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها ...) أي أولم ينظروا إلى عجائبها وغرائبها التي أودعها فيها الصانع الحكيم ، ولم يتدبّروا فيها ، ولا رآها بعين المعرفة أولئك الذين أنكروا البعث والحشر والحساب وكذّبوا بذلك بلا رويّة ولا شعور (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها) من بعد مواتها وجفافها (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) من كلّ صنف ممّا هو كثير النفع. وقد ذكر (كُلِ) للإحاطة بالأزواج التي خلقها ، وذكر (كَمْ) لكثرة تلك الأزواج.

٨ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ ...) أي إن في الآيات ، أو في كل واحد من الأزواج وإنباتها بهذه الكثرة (لَآيَةً) أي برهانا وحجة كاملة على أنّ منبتها قادر على أن يحيي الموتى ، وهو تام القدرة والحكمة مسبغ النعم والرحمة ، تعالى الله عما يشركون علوّا كبيرا كبيرا. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) هذه الجملة في مورد العلة لما ذكر قبلها من الإعراض والتكذيب المتضمّن للاستهزاء وعدم التدبّر في الآيات الآفاقيّة ، أي كلّ ذلك لأن أكثرهم ، لو لم يكن كلّهم ، غير مؤمنين أو غير مدركين حقيقة الإيمان لأنّ الإيمان لم يدخل في قلوبهم.

٩ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ...) أي أنه الغالب القادر على الانتقام من الفسقة الكفرة (الرَّحِيمُ) بالعباد حيث أمهلهم. ثم أنه سبحانه وتعالى بعد ذكر أحوال الكفار وتعداد نعمه أخذ في بيان أقاصيص الرّسل وما ورد عليهم من قومهم من المشاق ، تسلية لخاتم الرّسل وأشرفهم تحريضا له صلوات الله عليه وآله على الصّبر والترجي بنزول النصر ، فابتدأ بقصّة موسى (ع) وفرعون عصره الّتي هي أكبر قصّة من القصص القرآنيّة وأحسنها للاعتبار فقال عزّ وعلا :

* * *

١٦٩

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤))

١٠ و ١١ ـ (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى ...) أي أذكر يا محمد واتل عليهم الوقت الذي نادى فيه ربّك الذي خلقك رسوله موسى فقال يا موسى (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وبالكفر وتعذيب بني إسرائيل. وكان هذا النّداء في الوقت الّذي وصل موسى ونزل عند الشجرة وراى نورا لا معا أضاء تمام الوادي فنودي منها : إنّي أنا الله ربّ العالمين. فمن هنا بعث إلى فرعون وأمر كما في الآية الشريفة بإتيان قوم فرعون. وهذا بدل (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أو عطف بيان ، أي توجّه إليهم وقل لهم : (أَلا يَتَّقُونَ) الاستفهام تقريريّ أي لا بدّ من أن يخافوا من حلول سخطه ونزول عذابه عليهم. فلمّا أمر بذلك وعلم بإفراطهم في الظلم والاجتراء عليه تعالى :

١٢ و ١٣ و ١٤ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ ...) أي أخاف أن يكذّبوني بالرسالة ولا يقبلوا منّي قولي (وَيَضِيقُ صَدْرِي) من تكذيبهم لي ، وضيق القلب وانقباضه يصير سببا لتغيّر كلام من في لسانه رتّة وحبسة ولذا قال (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) ترتّب عدم انطلاق اللسان على ضيق صدره كما ترتب الضيق على تكذيبه برسالته فطلب موسى (ع) منه تعالى أن يبعث معه هارون بعد أن ذكر الأمور الدّاعية إلى ذلك فقال : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) ليعاونني كما يقال إذا نزلت بنا نازلة فنرسل إليك ، أي لتعيننا ، وإنّما طلب المعاونة حرصا على القيام بالطاعة ، فاستدعاء المعين عين التقبّل لا أنّه تعلّل وقال : اجعل أخي هارون نبيّا يعضدني في أمر الرّسالة فيقوى به قلبي وينوب منابي إذا اعترتني الرّتة في لساني. ثم أضاف موسى (ع)

١٧٠

قائلا : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) تبعة ذنب ، وهو القود. والمراد من الذنب قتل القبطي ، وتسميته بالذنب على زعمهم (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي يقتلوني قبل أداء الرسالة. فقال الله تعالى :

* * *

(قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧))

١٥ ـ (قالَ كَلَّا فَاذْهَبا ...) أي لا يكون كذلك ، ولن يقتلوك (فَاذْهَبا بِآياتِنا) العصا واليد البيضاء ، ولعل الجمع باعتبار تعدّد موارد استعمالهما لأنّهما في كل مرّة كانا يتشكّلان بصورة خاصة وكيفية جديدة متمايزة من الأخرى بحيث يتجلّيان في النظر كأنهما غير ما قبلهما. فهما بنفسهما كانا معجزة ، وتطوّرهما بأطوار مختلفة كان معجزة أخرى ، أو باعتبار نفس التعدد فقط لأنهما كلّما ظهرا كانا معجزة بلا شك ولو لم يكن لهما تطور أو مع ضميمة طلاقة لسانه وذهاب خوفه بعد المسألة (إِنَّا مَعَكُمْ) يعني موسى وهارون وخصمهما فرعون ولذلك جاء (مَعَكُمْ) بالجمع (مُسْتَمِعُونَ) أي سامعون ما يجري بينكم. والمستمع هنا بمعنى السّامع لأن الاستماع هو طلب السمع بالإصغاء إلى القول وذلك لا يجوز عليه سبحانه ، وإنّما أتى بهذه اللفظة لأنه أبلغ في الصفة وآكد.

١٦ و ١٧ ـ (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ...) أي نحن مبعوثون من عند من هو مربّيك وخالقك وخالق جميع العوالم الإمكانيّة ومربّيها وقد كلّفهما أن يقولا ذلك لفرعون حتى تأخذه الرعدة ويتزلزل قلبه لأنه كان قد قضى أربعمائة سنة يدّعي فيها الربوبية ويستعبد بني إسرائيل والقبطيين ، وكان بنو إسرائيل ثلاثمئة ألف نفر ، وما تجرّأ عليه أحد مثل ما

١٧١

تجرّأ عليه موسى. وقيل إن موسى وهارون كانا على باب قصره سنة كاملة ولا يتمكّنان من الدّخول عليه ، إلى أن دخل يوما على فرعون من خواصّه شخص فأخبره بأن رجلين قضيا سنة على باب الدار ويقولان إنا رسول ربّ العالمين إلى فرعون وقومه فأذن لهما في الدخول عليه ليمزح معهما ويسخر ويستهزئ بهما. فلمّا دخلا عليه تغيّر لونه إذ عرف فرعون موسى الذي قال : إنا رسول ربّ العالمين (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) خلّهم يذهبوا معنا إلى الشام ويتوطّنوا في فلسطين التي هي مسكن آبائهم. فقال فرعون لموسى بعد ما عرفه على سبيل الامتنان :

* * *

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))

١٨ و ١٩ ـ (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا ...) أي أو ما يجيء ببالك حينما كنت (وَلِيداً) طفلا قريب العهد بالولادة ونحن ربّيناك في حجر العطف والرحمة والتبنّي (وَلَبِثْتَ) بقيت (فِينا) بيننا (مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) أي مكثت وأقمت في بيتنا سنوات عديدة ـ قيل ثلاثين سنة وعلى رواية عن ابن عباس ثماني عشرة سنة كان موسى بينهم ويعيش معهم. وكان عمره اثنتا عشرة سنة حين قتل القبطي ، بعد مضيّ ثلاثين سنة توجّه إلى مدين وقيل بقي هناك عشرين سنة فرجع إلى مصر يدعوهم إلى طاعة ربّهم وطالت دعوته لهم ثلاثين سنة على ما في التفسير الكبير للقاشاني رحمه‌الله ، ولم ينفعهم

١٧٢

إنذاره بل أكمل فرعون عتابه فقال : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) أي مع أنك فعلت ما فعلت من قتل القبطي وكنّا قادرين على القود فخلّينا سبيلك وما تعرّضنا لك. وهذه الجمل من فرعون لموسى كانت بالحقيقة على سبيل المنّة عليه وتليينا له (ع) وتسكينا له (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بنعمتي عليك. فبعد ما عظّمه وعدّد عليه نعمه وبّخه. والقمّي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : لمّا بعث الله موسى إلى فرعون أتى بابه فاستأذن عليه فلم يأذن له ، فضرب بعصاه الباب فاصطكّت الأبواب مفتحة ، ثم دخل على فرعون فأخبره أنّي رسول ربّ العالمين وسأله أن يرسل معه بني إسرائيل ، فقال له فرعون كما حكى الله سبحانه وتعالى.

٢٠ ـ (قالَ فَعَلْتُها إِذاً ...) أي فعلتها حين فعلت (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قيل أنه عليه‌السلام أجاب فرعون على سبيل التورية وأراد الضّلال عن الطريق حين مجيئه من مدين إلى مصر فضلّ عن الطريق ودخل الليل وامرأته قد أصابها الطّلق ووجع الولادة وكانت الليلة مظلمة باردة ممطرة ، فاحتاج إلى النار فرأى نارّا فمشى إليها فلمّا اقترب منها نودي : يا موسى اخلع نعليك ... فظنّ فرعون أنه أراد الجهل والضّلال عن طريق الحق اعتذارا لأن الضلال عن طرق المدن لا يكون عذرا أو لا يصلح للقتل. ويؤيّد هذا التوجيه ما في العيون عن الرّضا عليه‌السلام أنه سئل عن ذلك لأن الأنبياء معصومون. فقال عليه‌السلام : قال : وأنا من الضّالين عن الطريق بوقوعي في مدينة من مدائنك. وقيل أراد : أنا من المخطئين أي ما تعمّدت قتله وكان قصدي خلاص الإسرائيلي لا قتل القبطي. هذا والأقوال الأخر لا ترجع إلى محصّل.

٢١ ـ (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ ... فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ...) أي نبوّة يتبعها الحكمة ، وهي معرفة التوراة وفهم الأحكام والعلم بالحدود. أو المراد بالحكم هو العلم ، أو التوراة ويلزمه العلم بها وبما فيها. ويحتمل أن تكون جملة (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) بيانا لما قبلها من الحكم.

١٧٣

٢٢ ـ (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ ...) قيل إنّه إنكار للمنّة أصلا فكأنّه قال : أو هذه الهمزة همزة توبيخ تلك نعمة تمنها عليّ بأن ربّيتني في حجرك مع أنك استعبدت قومي بني إسرائيل؟ هذه ليست بنعمة مهنأة حتى تمنّ بها عليّ بل هي نقمة في مقابل تلك التعذيبات التي لاقوها منك. أو المراد أن استعبادك لبني إسرائيل وذبح أولادهم وفتق بطون نسائهم صارت سببا لقذف أمّي ايّاي في اليمّ فلفظني اليمّ إلى قصرك وأخذتني لتتبنّاني فلا يكون لهذه التربية قدر عندي حتى تمنّ بها عليّ. ثم أخذ فرعون في بيان السؤال عن حقيقة المرسل وماهيته تهكّما أو استعلاما فقال :

* * *

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨))

٢٣ ـ (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ...) أي أيّ شيء هو من حيث الحقيقة والماهيّة ، فإن موسى وهارون قالا : إنّا رسول ربّ العالمين ، فقال فرعون : من أي جنس ربّكم الذي تدعوني الى عبادته؟ أمن ذهب أو من فضّة أو غيرهما من الأجناس؟ فإن فرعون وأتباعه من القبطيّين قبل أن يتحدّاهم بالألوهيّة ويدعوهم إلى طاعته كانوا عابدين للأصنام التي هي من الأجناس المختلفة. ولما كان ذهنه مشوبا بتلك الخرافات سأل ما سأل ، فأجابه موسى عليه‌السلام قائلا :

١٧٤

٢٤ ـ (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) عرّفه بأظهر صفاته وآثاره المتضمّنة لكمال قدرته التي يعجز عنها من سواه ، فهو ربّهما (وَما بَيْنَهُمَا) أي خالق جميع ذلك ومالكه (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) إذا كنتم تصدّقون وتتحقّقون الأمر لإزاحة الشك ولحصول العلم عن نظر واجتهاد. فإن الإيقان من اليقين الذي هو إزاحة الشك وتحقيق الأمر. وجاء بمعنى العلم الحاصل عن نظر أو استدلال. والحاصل أنه إن كنتم من أهل العلم والنظر والتحقيق فهذا ربّي. ولم يعتن موسى بما سأله حيث إنه تعالى ليس بجسم ، بل أجابه بصفاته الرّبوبية الدالّة على وحدانيّته.

٢٥ ـ (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ؟ ...) أي قال فرعون لوزرائه وأعوانه وخاطب حاشيته وأشراف قومه : ألا تسمعون مقالة موسى الذي سألته عن ماهية ربّه وحقيقته فذكر أفعاله. ومخاطبته هذه كانت في مقام التعجّب وفي مقام إفهامهم بأنه عجز عن الجواب.

٢٦ ـ (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ...) فأجاب موسى ثانيا برفق وهدوء تأكيدا للحجة مقرّرا أن الله تعالى هو ربّكم وربّ آبائكم السابقين ، فانتقل إلى ما هو الأظهر للناظر وأقرب إليه لأن كل إنسان يعتقد أن الله تعالى هو خالقه وربّه. فقال فرعون غيظا وتهكّما :

٢٧ ـ (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ...) لا يخفى أن تسمية فرعون لموسى رسولا كان من باب الاستهزاء والسخرية ، وبالخصوص مع التكرار حيث إنه لم يكن معتقدا بالإرسال ولا بالمرسل ولا بمن هو مرسل إلى الناس ، ولذلك وصفه بالجنون وأنه لا يجيب على ما يطابق السؤال. فلمّا سمع موسى منه هذه النسبة لم يعتن بقوله بل أكّد الحجة على مدّعاه فقال متمّما :

٢٨ ـ (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما ...) أي أن ربّي هو الربّ الذي يجري النيّرات من مشارقها إلى مغاربها على نظام مستقيم ووفق نسق واحد

١٧٥

لا يوجد فيها من يوم إيجادها مع جميع الكائنات تغيير ولا تبديل ، وبنتيجة هذا التنظيم تمّ إصلاح أمور العباد وتنظيمها على ما هو حقه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) إن كان لكم عقل تدبّر وتفكّر حتى تعلموا ما أقول لكم من الجواب. فلما طال الاحتجاج على فرعون ولم يقدر على ردّ واحد منها هدّد موسى بقوله :

* * *

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣))

٢٩ ـ (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي ...) أكّد وعيده بقوله (لَئِنِ) وبقوله (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) فعدل إلى التهديد بعد الانقطاع. وهكذا يكون ديدن المعاند المحجوج ، وهذا يكشف عن غاية العجز. والألف واللّام للعهد يعني أنت تعرف حال الذين في السجون. أجعلك مثلهم. فقد كان يلقي المقصر المستحق للسجن ، بحسب عقيدتهم وقانونهم ، في هوّة عميقة فردا حتى يموت ، ولا يخرج إلّا ميّتا. فهو أبلغ من لأسجنّنك. لمّا توعّده بالسّجن قال موسى (ع) :

٣٠ ـ (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ...) أي ولو أتيتك بشيء يدلّ على صدق دعواي ، يعني المعجزة فإنّها الجامعة بين إثبات المدّعى والدّلالة على وجود الصّانع الحكيم وقدرته الكاملة.

٣١ ـ (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ...) أي هات ما أدّعيته إن كنت صادقا في دعواك.

١٧٦

٣٢ ـ (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ...) أي ظهرت ثعبانيّته على فرعون وجميع جلسائه بحيث لم يشكّ أحد في أنه ثعبان لا أنّه كان شيئا شبيه الثعبان مثل الأشياء المزوّرة بالشعبذة والسحر ، فلم يبق أحد من الجلساء إلّا هرب ، ودخل على فرعون من الرّعب ما لم يملك نفسه فقال : يا موسى أنشدك بالله الذي أرسلك وبالرّضاع إلّا ما كففتها عنّي فأخذها موسى فصارت كما كانت عصا. وروي أنّ فرعون بعد مشاهدة تلك الآية قال : هل لك آية أخرى؟ قال : نعم.

٣٣ ـ (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ ...) أي أخرج يده من جيبه فأنارت الوادي من شدّة بياضها من غير برص أو علّة أخرى ولها شعاع كشعاع الشمس يذهب بالأبصار أن تعمّق الناظر في النظر (لِلنَّاظِرِينَ) وذكر هذه الكلمة يدل على كثرة النظّار إليها وذلك لأن بياضها لكثرة لمعانها وإشراقها كان مورد تعجّب وتحيّر ، فلذا خاف فرعون على مقامه ومكانته عند النّاس فلجأ إلى المكر وألقى الشبهة وقال :

* * *

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠))

١٧٧

٣٤ و ٣٥ ـ (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ...) أي متفوق فيه (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) أي من مصركم (بِسِحْرِهِ) ولمّا كان الزّمان علم السحر فيه رائجا فيه كثيرا ، أثّر هذا الكلام فيهم بحيث انصرفوا عمّا كانوا يريدونه من رجوعهم إلى إله موسى وطاعته (فَما ذا تَأْمُرُونَ) هذا القول منه يدل دلالة ظاهرة على أنّ سلطان المعجزة بهره حتّى أنزله عن أوج دعوى الرّبوبيّة إلى حضيض المشاورة مع مربوبيه ومخلوقيه على زعمه الكاذب ومن مقام (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) رماه الى أدنى المراتب وهو الاستمداد من عبدته في أمر موسى ، وأظهر من نفسه أنّي متّبع لرأيكم. وبهذا الكلام جذب قلوبهم إلى نفسه وأبعدهم عن موسى وأظهر استشعاره غلبة موسى واستيلاءه على ملكه. لكنّ قومه ما أدركوا وما افتهموا من قوله (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) الآية ، هذا الاستشعار وبيان عجز إلههم واستعانته بهم واحتياجه إليهم فعند ذكر هذه الكلمات اتّفقوا على جواب واحد :

٣٦ و ٣٧ ـ (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ ...) أي أخّر أمرهما لوقت اجتماع السّحرة (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أرسل إلى أنحاء مملكتك جميع خدمك (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) يجمعون السّحرة الحاذقين في صنعهم.

٣٨ ـ (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ...) أي لوقت معيّن ، وكان هو وقت الضّحى يوم الزّينة أي يوم عيدهم كما في سورة طه.

٣٩ ـ (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ...) أي قال للناس بعض خدمه بأمره ، ويحتمل أن يكون القائل هو فرعون مباشرة ، ولكنّه خلاف الظاهر. والحاصل أنّ القائل حثّهم على الاجتماع. ولعل الاستفهام تقريريّ معناه بادروا إليه.

٤٠ ـ (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ ...) أي نتّبعهم في دينهم (إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) يستشعر من الكريمة أنّ دين السّحرة كان على غير ما كان عليه فرعون وأتباعه. ومن الغريب أن من كان يدّعي الرّبوبية ، بل يعتبر نفسه

١٧٨

أعلى الأرباب ، نراه تارة يحتاج إلى قومه فيستشيرهم في أمر خصمه ولا يعرف تكليفه ولا كيف يتصرّف معه ، وأخرى يتديّن بدين غيره فيظهر أنه إمّا لا دين له أو انه مستقرّ على عقيدة. وهذا الربّ ، من حيث عجزه وعدم قدرته على دفع المضرّات عن نفسه مشابه للربّ الذي يقول فيه الشاعر :

وربّ يبول الثعلبان برأسه

الأذلّ من بالت عليه الثعالب

وقيل في الآية الشريفة : كأنّ المقصود الأصلي : أن لا تتّبعوا موسى ، وليس : أن لا تتّبعوا السحرة ، فساقوا الكلام مساق الكناية ، وهذا خلاف الظاهر.

* * *

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢))

٤١ ـ (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا ...) أي حين اجتمعوا سألوا فرعون قائلين (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) هل تعطينا أجرة على عملنا ، أو هل يكون لنا من ثواب عندك (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) إن انتصرنا بسحرنا على ما جاء به موسى من آيات ربّه؟

٤٢ ـ (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ...) أي : نعم أمنحكم أجر كثيرا ، ومضافا الى ذلك ألتزم لك بالقربى عندي إن غلبتم ؛ وقد قال ذلك لهم تأكيدا وإغراء.

* * *

١٧٩

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨))

٤٣ ـ (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ...) فبعد الاجتماع واكتمال المشاورات بين فرعون والسحرة قال موسى للسحرة : هاتوا ما عندكم من سحر وأظهروا للناس غاية ما تصنعون من الشعوذة. وبتقديم سحرهم على الآيات التي يحملها من ربّه أظهر موسى عليه‌السلام ضعف ما عندهم لأنه تحدّاهم واستصغر شأن ما عندهم.

٤٤ ـ (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ...) أي رموا حبالهم التي ارتمسوها في الزئبق وبعض الأدوية المعمولة لأهل هذا الفن المعصيّ المموّهة بالسّحر المجوّفة المملؤة بالزئبق التي خلّوها في الشمس فلما طلعت عليها وأثّرت فيها الحرارة تحركت جميعها كلّ واحدة إلى ناحية فخاف الناس بأجمعهم وصاحوا من الذّعر حيث سحروا أعينهم فكانوا يرون حيّات عظيمة وأفاعي كبيرة مهولة فأظهروا كمال قدرتهم وأتوا بأقصى ما يمكن أن يؤتى في السّحر. ولفرط اعتقادهم بسحرهم أقسموا وقالوا (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أكّدوا معتقدهم بالحلف ولام التأكيد وهذا الحلف من قسم عهد الجاهلية.

٤٥ ـ (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ...) أي تتبلّع (ما يَأْفِكُونَ) أي ما يقلبونه عن وجهه الطّبيعي بتمويههم وتزويرهم أي ما كانوا (يَأْفِكُونَ).

٤٦ ـ (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ...) أي خرّوا ساجدين. وإنّما عبّر عن

١٨٠