الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

٤٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ...) أي يسوقه برفق إلى حيث يريد (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) بين قطعه المتفرقة في الجوّ بضمّ بعضها إلى بعض فتصير قطعة واحدة (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) متراكما ومتراكبا بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) ترى المطر يخرج من فتوقه ومخارجه وفرجه ، جمع خلل كجبال جمع جبل (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ) أي من الغمام فإن كل ما علاك فهو سماء (مِنْ جِبالٍ) بيان من السّماء ، أي من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها وجمودها (فِيها مِنْ بَرَدٍ) من بيان للجبال والبرد هو الثلج ، والضمير راجع إلى السّماء ، وكلّ جسم شديد متحجّر عظيم يعبّر عنه بالجبل (فَيُصِيبُ بِهِ) بالبرد (مَنْ يَشاءُ) من يريد (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) يدفعه عنه (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي ضوء برقه (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) أبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة. وهذا أقوى برهان ودليل على كمال قدرته تعالى ، لأنّه يخرج النار المضيئة من السّحاب الذي يحمل المطر ، بل أشرب فيه المطر بحيث صار كالقطن الذي غمس في الماء.

٤٤ ـ (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ...) أي يصيّرهما بذهاب واحد ومجيء آخر متعاقبين بالنقصان والزيادة أو بتغيّر أحوالهما بالحرارة والبرودة والنور والظلمة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي فيما تقدّم ذكره من الأمور المذكورة اعتبار ودلالة على وجود الصّانع الحكيم القديم وعلى قدرته الكاملة ونفاذ مشيئته وتنزّهه عن كلّ حاجة لكل ذي بصيرة وعلم ومعرفة.

٤٥ ـ (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ ...) أي كلّ حيوان يدبّ على الأرض (مِنْ ماءٍ) تنكير الماء في هذه الآية لعلّه باعتبار الجنس مطلقا ، ولكن التعريف في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ) حيّ باعتبار الإشارة إلى ماء مخصوص ، كالنّطفة من باب التغليب ، أو الماء الذي خلقه الله في بدء أمر الخلقة على ما روي عن ابن عبّاس أنّ أول ما خلق الله جوهرة ، فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وصارت ماء ، ثم من ذلك الماء خلق النار ومنها الجن

١٢١

والهواء والنور ومنه خلق الملائكة ، والتراب ومنه خلق آدم وباقي الحيوانات. فأصل كل موجود هو الماء والكريمة لعلّها دالة على هذا بوسيلة أداة التعريف والله أعلم. والحاصل انّه لمّا استدلّ على التوحيد المستلزم لوجوده من الآثار العلويّة ، استدلّ في الكريمة بأنه خلق كلّ دابّة من ماء (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي) الآية من آثار العالم السفلي من الحيوانات وغيرها على وجود الصّانع وتوحيده وحكمته وقدرته التامة على ما فصّلها من قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) الى قوله : (يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ). وعن الباقرين عليهما‌السلام : ومنهم من يمشي على أكثر من ذلك وتذكير الضمير ولفظ (مِنْ) فيما ذكر لتغليب العقلاء كما لا يخفى (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) من حيوان وغيره على اختلاف الصّور والطبائع بمقتضى حكمته ومشيئته.

٤٦ ـ (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ ...) أي الآيات القرآنية التي هي مبيّنات لحقائق الأشياء بأنواع الدّلائل (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق للنّظر فيها والتدبّر لمعانيها (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) للطّريق الموصل إلى الجنّة ، وهو الإيمان المؤدّي إلى درك الحق والحقيقة.

* * *

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ

١٢٢

بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢))

٤٧ ـ (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ ...) روي أن منافقا ويهوديّا وقع بينهما تنازع في أرض ، فقال اليهودي : نذهب للحكومة عند نبيّكم محمد (ص) وجرّه المنافق الى كعب بن الأشرف ، وكان يقول إن محمدا يحيف علينا فنزل قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) بالامتناع عن قبول حكمه والاعراض عنه (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) بعد قولهم آمنّا بالله وبالرسول (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) وفي هذه الآية دلالة على أن القول المجرّد لا يكون إيمانا إذ لو كان لما صح النفي بعد الإثبات لأن هؤلاء القائلين يدّعون الإيمان وليسوا بمؤمنين في واقع الحال.

٤٨ ـ (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ...) أي إذا انتدبوا وسئلوا العودة لحكم الله وحكم رسوله (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) في شؤونهم الدّنيوية أو الأخروية ـ كقصة اليهودي وخصمه ـ (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) تجد أن بعضهم يمتنعون عن الإجابة ويميلون عن حكم الله وحكم رسوله (ص).

٤٩ ـ (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ...) أي إلى النبيّ (ص) منقادين خاضعين له لعلمهم بأنه (ص) يحكم لهم لا عليهم لأنّ الحقّ لهم.

٥٠ ـ (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي شك في نبوّتك أو نفاق ، وهذا استفهام يراد به التقرير لأنه أشدّ في مقام الذمّ والتوبيخ يعني : هذا أمر قد ظهر حتى لا يحتاج فيه إلى التنبيه (أَمِ ارْتابُوا) أم رأوا منه ما أوقعهم في اضطراب وقلق فلم يبق فيهم اعتماد ووثوق بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفعله (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي يخافون أن يجور الله عليهم والرّسول يظلمهم في الحكم لأنّه لا وجه في الامتناع عن المجيء إلّا أحد هذه الأوجه الثلاثة : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هذا إضراب من القسمين الأخيرين لتحقّق القسم الأول وثبوته فيهم يعني الكفر ، والمعنيّ بالإضراب

١٢٣

أنّه ما كان عدم مجيئهم للأمرين الأخيرين أن الرسول محلّ تهمة عندهم أو أن الله ورسوله أهل للجور والعدوان على أحد بل (أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أنفسهم وغيرهم من خصومهم. ثم إنّه تعالى بعد ما بيّن حال الكفرة والمنافقين بما يدل على ذمّهم وتوبيخهم ، أخذ في أوصاف المؤمنين وشرح حالهم بما يدلّ على كمال مدحهم ورفعة مقامهم ، فقال عزوجل :

٥١ ـ (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ...) ليعلم أن القراءة المشهورة : إنما كان بنصب القول خبرا لكان ، وفي المجمع عن عليّ عليه‌السلام أنه قرأ : قول المؤمنين بالرّفع ، فيصير اسم كان كما هو الظاهر ، وخبره جملة : أن يقولوا. والظاهر أن الحق مع عليّ عليه‌السلام حيث أنه ، بقرينة المقام ، يراد من الكريمة أن يحصر قول المؤمنين في قولهم : سمعنا وأطعنا في كل أمر إلهيّ وفي كل أحوالهم. بيان ذلك أنه إذا أمرهم الله سبحانه بالإقرار بوجود الصانع والخالق تعالى يقولون : سمعنا من رسولك وأطعناه ، وإذا أمروا بالشهادة بالوحدانية وبالرسالة وبالولاية يقولون : سمعنا وأطعنا ، وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبالصّيام وبالجهاد إلى آخر أحكامه تعالى سواء كان أمرا أو نهيا وأعم من أن يكون لهم أو عليهم ، ففي كل ما يرد عليهم وإليهم فلا كلام لهم ولا قول إلّا قول : سمعنا وأطعنا ، بخلاف الكفرة والمنافقين فإنهم إذا دعوا إلى الله ، أي إلى كتاب الله ورسوله ليحكم بينهم ، فإذا كان الحكم عليهم إذا فريق منهم معرضون ، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين لعلمهم بأن الحكم لهم.

٥٢ ـ (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) حكي أن بعض الملوك طلب من علماء عصره آية من كتاب الله يكفيه العمل بها عن غيرها من الآيات ، فاتفقوا على إرسال هذه الآية لأن الفوز والفلاح لا يحصلان إلّا بهذه الأمور الثلاثة المذكورة فيها : الإطاعة لله سبحانه ، وخشيته ، وتقواه :

* * *

١٢٤

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤))

٥٣ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ...) المنافقون حلفوا بالله حلفا غليظا وشديدا. وقوله : جهد أيمانهم ، مفعول للفعل المحذوف بتقدير : يجهدون بالأيمان جهدا ، فحذف الفعل وأقيم المصدر المضاف إلى المفعول مقامه كقوله : ضرب الرّقاب وهذا المصدر في حكم الحال كأنّه قيل جاهدين بأيمانهم أي أقسموا مجدّين ومجتهدين في حلفهم بحيث يزعمون أنهم (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالخروج عن ديارهم وأموالهم (لَيَخْرُجُنَ) هذا جواب لقوله : وأقسموا بالله (قُلْ لا تُقْسِمُوا) يا محمد قل لهؤلاء المنافقين الكافرين : لا تحلفوا على الكذب (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي : المطلوب منكم هي الإطاعة المعروفة المتداولة بين المؤمنين ، وهي الانقياد الخالص عن الشبهات لله تعالى ، أي لأوامره ونواهيه كطاعة الخلّص من عباد الله الذين طابق باطن أمرهم ظاهرهم لا اليمين على الطّاعة النفاقية المنكرة بحيث تكون القلوب خلاف الأفواه (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) هو عالم بسرائركم وأعمالكم ويدري أن قسمكم كذب محض فلا اعتماد على قولكم أبدا.

٥٤ ـ (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ...) أي قل لهم ذلك يا محمد (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) فإن تولّوا عن الطاعة وامتثال الأوامر والنواهي وأعرضوا عنها وراء ظهورهم (فَإِنَّما عَلَيْهِ) على الرسول (ما حُمِّلَ) من أداء الرّسالة وبيان التكاليف (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من المتابعة

١٢٥

والامتثال بالأعمال الصالحة (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) إلى الحق وتفوزوا فوزا عظيما (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد بلّغ ، فإن قبلتم فلكم وإلّا فعليكم وحكي أن فقراء المهاجرين بعد ما كانوا عشر سنين في مكة في غاية الخوف والشدّة هاجروا من مكّة إلى المدينة ونزلوا بدوا في منازل الأنصار إلى مدّة فاتّفق على محاربتهم كفار قريش وأكثر قبائل العرب المحالفين لهم وغير المحالفين من الذين كانوا في مكة ويثرب يرسلون إليهم رسائل ورسلا ويتهدّدونهم ويخوّفونهم. فمضت عليهم أزمنة وهم مضطربون غير مستريحين ، فقالوا يوما من أيّام اجتماعهم : هل يجيء علينا زمان السّلامة والعافية والأمن والأمان قاعدين في بيوتنا على فراغ بال ، فنزلت : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ) ، الآية ...

* * *

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

٥٥ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) أي ليجعلنّهم خلفاء بعد نبيّكم متصرّفين فيها (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي بني

١٢٦

إسرائيل بدل الجبابرة (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي الإسلام (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) ارتدّ أو كفر بهذه النعم بعد حصولهم (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون إلى أقبح الكفر حيث ارتدّوا بعد وضوح الأمر وكفروا تلك النّعم العظيمة ، وفي القمي : نزلت في القائم من آل محمّد عليهم‌السلام ، وعجّل الله تعالى فرجه.

٥٦ ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ...) أمر لمن كان يعقل ويتدبّر باتّباع أوامر الله تعالى ونواهيه بأمل نيل رحمته.

٥٧ ـ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ...) أي : لا تظننّ أن هؤلاء الكافرين يعجزون الله تعالى ويفوت قدرته إدراكهم وإهلاكهم ، فإنّهم في قبضته وتحت سلطانه ، وسيأخذهم إليه (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فهي مقرّهم وإليها مصيرهم لأنها مسكنهم.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ

١٢٧

لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

٥٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ...) أي ليطلب الإذن في الدخول عليكم المملكون من الرجال والنساء والصبيان الذين بلغوا الحلم (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) من الأحرار الذين يميّزون بين العورة وغيرها وصار لهم قابلية الاحتلام والتكليف يجب أن يستأذنوا للدخول عليكم (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي في الأوقات الثلاثة التي بيّنها الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه ، وهي : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) لأنه وقت القيام من المضاجع وتبديل لبس الليل بلبس النهار (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) أي للقيلولة (مِنَ الظَّهِيرَةِ) بيان الحين (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأنه وقت تبديل لبس اليقظة بلبس النوم وحين يأوي الرّجل إلى امرأته ويخلو بها (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي الأوقات الثلاثة هي ثلاث عورات لكم ، جمع عورة ، وإنّما سمّيت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان في هذه الأوقات غالبا يضع ثيابه وجلبابه فتبدو عورته حيث أنّه يختلّ تحفظهم وتستّره فيها. والعورة القبل والدّبر وكلّ شيء ستره الإنسان أنفة أو حياء فهو عورة ، ولذا سمّيت السّوأة عورة ، والنساء عورة. ومنه الحديث : المرأة عورة جعلها نفسها عورة لأنها إذا ظهرت يستحي منها كما يستحي من العورة إذا ظهرت وفي الحديث عورة المؤمن على المؤمن حرام ، ومعناه على ما ذكره الصادق (ع): أن يزل زلّة أو يتكلم بشيء يعاب عليه فيحفظه ليعيره به يوما وفي خبر آخر : هي إذاعة سرّه أو أن ذلك يكون حين يخلو مع زوجته في تلك الأوقات وهي عورة وبهذه المناسبة كنّى عن الأوقات بالعورة لأنها ظروف للعورة والله أعلم. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) أي بعد هذه الأوقات في ترك

١٢٨

الاستئذان (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) ظاهر هذه الجملة أن المماليك يطوفون على الموالي ، ولكن ، قوله سبحانه (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) يدل على أنّ الفريقين كل واحد يحتاج إلى الآخر ويطوف الموالي أيضا على العبيد لا المماليك يطوفون عليهم فقط ، فإن الخادم إذا غاب عن المخدوم وكان المخدوم محتاجا إلى خادمه فلا بدّ من أن يطلبه ويطوف عليه ، فلا يستغني كل واحد عن الآخر. وهذه الجملة استئناف لبيان العذر المرخّص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة على ما يستفاد من طوافون بعض على بعض ، هؤلاء للخدمة وهؤلاء للاستخدام. فلو كلّفوا بالاستئذان في تمام الأوقات لكان حرجا على المماليك بل على الموالي.

٥٩ ـ (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ ...) أي أطفالكم أيّها الأحرار ، فإنّ بلوغ الأحرار يوجب رفع الحكم المذكور في تخصيص الاستئذان بالأوقات الثلاثة بخلاف بلوغ المماليك فإنّ الحكم معه باق في التخصيص للاحتياج إلى الخدمة والاستخدام (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي الذين بلغوا قبلهم من الأحرار (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي نحو هذا التبيين والتوضيح الذي سبق ، يبيّن ويوضح الله لكم دلائل الحق ، وآياته : أحكام شرعه ووعده ووعيده على الإتيان بها أو الإعراض عنها (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عالم بمصالح عباده وكل ما يفعله ويصنعه يكون على وجه الحكمة. وكرّر هذه الجملة للمبالغة والتأكيد في أمر الاستئذان في الأوقات الثلاثة بالنسبة إلى المماليك وأطفال الأحرار الذين لم يبلغوا الحلم لكنهم مميّزين. وأما الأحرار وأطفالهم الذين بلغوا الحلم فليس لاستئذانهم وقت خاص بل مطلقا.

٦٠ ـ (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ ...) أي المسنّات (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لا يرغبن في الأزواج والتناسل وغيرهما من حظوظ الجنسيّة ولا يطمعن فيها لكبرهنّ (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ) أي بأس أو ذنب (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) ولعلّ المراد بعض ثيابهن كالخمار أو الجلباب الذي يكون فوقه أو هما معا. وفي المجمع عن الصّادقين يضعن من ثيابهن. والإتيان بمن للإشارة الى انه

١٢٩

ليس لهن ان يكشفن عورتهن (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي غير قاصدات بوضع ثيابهن إظهار زينتهنّ ومحاسنهنّ ، والتبرّج هو كشف المرأة للرّجل بإظهار محاسنها (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) أي لا يضعن الثياب مطلقا (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالهنّ للرّجال (عَلِيمٌ) بمقصودهن معهم.

* * *

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ

١٣٠

 لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

٦١ ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ...) كان أهل المدينة قبل إسلامهم معتزلين الأعمى والأعرج والمريض ولا يأكلون معهم في مجامعهم ومجتمعاتهم ، وكانوا يعزلون لهم طعامهم على ناحية ويرون في مؤاكلتهم جناحا وهؤلاء الأصناف هم أيضا كانوا لا يأكلون معهم ويقولون : لعلّهم يتأذّون إذا أكلنا معهم. فلمّا قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سألوه عن ذلك فأنزل الله عزوجل : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي جناح ووزر (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي بيوت عائلتكم وأهلكم فيدخل فيها بيوت الأولاد كما في الأخبار (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) جمع مفتح وهو ما يفتح به ، أي وكّلتم بحفظه من بستان ونحوه لغيركم أو بيوت مماليككم (أَوْ صَدِيقِكُمْ) هو اسم جنس ويطلق على الواحد والكثير ولعلّ المراد هو الصّديق الحقيقي الذي ربما كان كبريتا أحمر في جميع الأزمنة ولا سيما في عصرنا هذا. روي أنّ الربيع بن خثيم كان له صديق فذهب إلى دار الربيع وهو غير موجود في الدار وكان فيها طعام فأكله وراح ، فجاء الربيع فأخبرته جاريته بذلك فانبسط بحيث قال إن كنت صادقة فأنت حرة. قال بعض أهل الحقيقة لو جاءك صديقك وقال أعطني من مالك وأنت قلت في جوابه كم تريد فلست قابلا للصّداقة لأن السؤال غلط إن كنت صديقا لله ، بل لا بد من أن تحضر جميع ما عندك حتى يأخذ بمقدار كفايته ونعم ما قال.

١٣١

وروي عن الصّادق عليه‌السلام أنّه قال : أيدخل أحدكم يده إلى كمّ صاحبه أو جيبه فيأخذ منه؟ قالوا : لا ، قال : فلستم بإخوان وعن ابن عبّاس أنّ الصّداقة أقوى من النسب لأنّ أهل النار يستغيثون بأصدقائهم ولا يستغيثون بآبائهم وأمّهاتهم ويقولون : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) عن الصّادق (ع) قال : بإذن وبغير إذن (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي على أهلها الذين هم منكم وعن الصّادق (ع) هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ، ثم يردّون عليه فهو سلامكم على أنفسكم فإن فاعل السّبب فاعل للمسبّب أيضا (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) مشروعة من لدنه (مُبارَكَةً) لأنها دعاء مؤمن لمؤمن بالسلامة ويرجى بها من الله تعالى زيادة الخير (طَيِّبَةً) أي طيب الرزق وطيب النفس بالتواصل والثواب. ومنه قوله عليه‌السلام سلّم على أهل بيتك يكثر خير بيتك (كَذلِكَ) أي كما أنّ الله تعالى بيّن السّلام (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) يظهر لكم وينزل آيات أحكامه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) معالم دينكم ومصالحها ومنافعها التي ترجع وتعود إليكم.

٦٢ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي الكاملون في الإيمان بقرينة الحصر (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) من صميم القلب (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أي مع الرّسول على عمل جامع يأمر بجمع الناس واجتماعهم فيه. فوصف الأمر بالجامع مجاز للمبالغة كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورات وصلاة الاستسقاء فأولئك (لَمْ يَذْهَبُوا) من عنده صلوات الله عليه وآله (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) لمهامّهم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) هذا تفويض للأمر إليه صلوات الله عليه وآله (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) بعد الاستئذان فانه ولو لعذر قصور ، لأن تقديم أمر الدنيا على مهمّ الدين ليس بخال عن شوائب الخلل (غَفُورٌ) لقصور عباده وتفريطهم. ويحتمل أن يكون الاستغفار لعدم الاستئذان من بعض الناس ، والله أعلم.

١٣٢

٦٣ ـ (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ...) أي لا تسمّوه باسمه عند ندائه كما تدعون بعضكم بعضا. قولوا : يا رسول الله ، يا نبيّ الله بتعظيم وتواضع وخفض صوت (يَتَسَلَّلُونَ) أي يخرجون عن الجماعة بخفية (لِواذاً) مصدر بمعنى الفاعل ، أي ملاوذين ، وهي حال عن ضمير يتسللون ، أي هم يلوذ أحدهم بمن يؤذن ويستر نفسه به عند الخروج عن الجماعة ومن عنده صلوات الله عليه وآله حتى لا يروه فينطلق وينصرف (يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) يعصون أمره (فِتْنَةٌ) أي بلية في الدّنيا و (عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

٦٤ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ ...) أي اعلموا أن له تعالى ما في السماوات والأرض ملكا خاصا به (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من النفاق أو الإخلاص (بِما عَمِلُوا) من خير وشر والباقي مرّ تفسيره.

١٣٣
١٣٤

سورة الفرقان

مكيّة : إلّا الآيات : ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))

١ ـ (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ...) أي تكاثر وتزايد ، أو تقدّس ، أو دامت بركاته على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (لِيَكُونَ) العبد أو الفرقان (لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) للجنّ والإنس منذرا ومخوّفا من العذاب. ولا يخفى أن إضافة الإنذار إلى القرآن بعيدة ، لأن الإنذار والمنذر

١٣٥

من صفة الفاعل ، وقد يوصف به القرآن مجازا ، وحمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن أولى ، بل قيل واجب.

٢ ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ ...) أي كما زعم الوثنية والثنوية (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي فهيّأه لما يصلح له في الدّين والدّنيا ، أو قدّر له أجلا مسمّى. والقمّي عن الرّضا عليه‌السلام قال : تدري ما التقدير؟ قيل : لا ، قال : هو وضع الحدود من الآجال والأرزاق والبقاء والفناء.

٣ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ...) أي أنه مع قدرته هذه وملكه هذا قد جعل الكافرون لأنفسهم أربابا غيره سبحانه وتعالى ، مع أن أربابهم التي صنعوها (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) لأنهم عاجزون عن ذلك ، فالله تعالى وحده هو الخالق البارئ ، وهم أيضا (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فلا يجلبون لها خيرا ولا يدفعون عنها شرّا (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) فليس بيدهم شيء بل هم راضخون لمشيئة الله سبحانه وتعالى.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

٤ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ ...) أي قالوا : ليس القرآن

١٣٦

غير كذب قد ألّفه محمد (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) من أهل الكتاب مما في كتبهم. وهذا القول نظير قولهم : إنّما يعلّمه بشر كما مرّ في سورة النحل (فَقَدْ جاؤُ) أي فعلوا (ظُلْماً) تعدّيا وتجاوزا عن حدود الشرع (وَزُوراً) بهتانا بالنسبة إلى قوم آخرين لأنهم ما فعلوه.

٥ ـ (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ...) أي ما سطره المتقدّمون (اكْتَتَبَها) كتبها بنفسه أو استكتبها حيث إنّه صلوات الله عليه لا يعرف الكتابة والخط (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) تقرأ عليه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي طرفي النّهار ليحفظها. والقول قول النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة وتابعيه من المشركين.

٦ ـ (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) : أي يعلم الغيب والحاصل أن الكتاب الذي أعجزكم عن آخركم بفصاحته ، وتضمن مصالح العباد في المعاش والمعاد واشتمل على الإخبار عن المغيّبات مستقبلة ومستدبرة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلّا علّام الغيوب والأسرار ، كيف يجعلونه أساطير الأولين؟ (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ولذا لا يعاجلكم بالعقوبة على أقوالكم وأعمالكم بما تستحقّونه مع كمال قدرته أن يصبّ عليكم العذاب صبّا.

* * *

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي

١٣٧

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠))

٧ ـ (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ...) أي الزاعم أنه رسول ، وفيه تهكّم (يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما نأكل (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) لطلب المعاش كما نمشي له ، زعموا أنّه إن صحّ دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا ، زعما منهم أنه يجب أن يكون الرّسول ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيّش. ثم نزلوا عن ذلك فقالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) يصدقه في دعواه على مرأى منّا ومنظر. ثم نزلوا عن ذلك فقالوا :

٨ ـ (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ...) أي يطرح ويقذف إليه من السّماء مال كثير يستغني به عن التردّد في الأسواق لطلب معاشه غفلة وجهلا منهم أن تردّده ومشيه في الأسواق لهداية الناس وإنذارهم. ثم نزلوا عن ذلك فقالوا : (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) أي بستان (يَأْكُلُ مِنْها) من محصولها ويعيش بذلك ويرتزق كالدّهاقين والمياسير (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي ما تتبعون إلّا من سحر فغلب على عقله ، وضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوا.

٩ ـ (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ...) أي انظر بعين البصيرة حتّى ترى كيف قالوا فيك الأقوال النادرة وماثلوك بالمسحور ، ووصفوك بالمملى عليه والمفتري (فَضَلُّوا) عن الطّرق الموصلة إلى معرفة خواص أنبيائه وتميّزهم عمّن سواهم وعموا عن الفرق بين النبيّ والمتنبّئ (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إلى القدح في نبوّتك أو إلى الرشد والهدى ، أو إلى ولاية عليّ عليه‌السلام كما عن الباقر عليه‌السلام.

١٠ ـ (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ ...) أي تقدّس الذي إن شاء (جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) ممّا قالوا فيك (جَنَّاتٍ تَجْرِي) الآية بيان لقوله خيرا

١٣٨

من ذلك (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) مساكن رفيعة ومنازل عالية.

* * *

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩))

١١ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ...) أي أتوا بأعجب من تكذيبك وهو

١٣٩

تكذيبهم بالسّاعة التي هي يوم القيامة وقد هيّأنا لمن كذّب بها (سَعِيراً) نارا شديدة الاستعار قوية الاشتعال.

١٢ ـ (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) القمّي قال : من مسيرة سنة (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) أي صوت غليانا منها ، ومن أهلها (زَفِيراً) أي صوتا خاصا من جوفهم. وقيل انهما وصفان للنار ، أي يسمع منها غليان من فرط غيظها وصوت من جوفها كصوت الغضبان أعاذنا الله منها.

١٣ و ١٤ ـ (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً ...) أي يرمون بهم في أمكنة ضيّقة منها (مُقَرَّنِينَ) مقيّدين بالأغلال بأن قرنت أيديهم إلى أعناقهم (دَعَوْا هُنالِكَ) في ذلك المكان الضيّق (ثُبُوراً) أي هلاكا وفناء بأن يقولون : وا ثبوراه ، فيقال لهم من عند الربّ تعالى (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) لأن عذابكم أنواع كثيرة وفي كل نوع تموتون وتهلكون ثم تعودون وتحيون ولا موت أبديا لكم ولا فناء دائميّا ، بل كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب الذي لا ينتهي.

١٥ ـ (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ ...) أي المذكور من الوعيد وبيان صفة السعير (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) أضيف إليه تنبيها على الخلود فيها للمؤمنين جزاء على إيمانهم.

١٦ ـ (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) : أي كان ما يشاء المؤمنون موعودا واجبا عليه تعالى إنجازه بحيث لهم حق السؤال والمطالبة بذلك.

١٧ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ ...) أي يوم القيامة نجمعهم مع معبوداتهم ونحاسبهم على ما عملوه ، ونقول لهم : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي) حيث أخلّوا بالنظر في آياتنا وأعرضوا عن أنبيائنا وهو استفهام تقريع وتبكيت للعبدة (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ)؟

١٨ ـ (قالُوا سُبْحانَكَ ...) أي قال المؤمنون : أنت منزّه من ان لا تعلم واقع

١٤٠