الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

والنّسب يكونون من أرباب الفضيلة والجاه (وَالسَّعَةِ) في المال والثروة (أَنْ يُؤْتُوا) قال الذين يفسرون الائتلاء بمعنى الحلف : إن كلمة (لا) هنا محذوفة أي : أن لا يؤتوا ، ويقولون إن (لا) تحذف كثيرا في اليمين ، قال الله : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرّوا ، ومعناه : أن لا تبرّوا. وقال الشاعر امرؤ القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي

أي : لا أبرح قاعدا. وبالجملة إذا جعلت (لا) محذوفة فالمعنيان يقعان متقاربين في المراد من الآية حيث إن المراد في الآية الأمر بإعطاء هؤلاء المذكورين (أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) في الجوامع قيل : نزلت في جماعة من الصّحابة حلفوا ألّا يتصدّقوا على من تكلّم بشيء من الإفك ولا يواسوهم (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أمرهم الله أن يعفوا ما صدر عن الآفكين الآثمين وليصرفوا أنفسهم عن الانتقام منهم وليغمضوا عن عملهم السّيء ، فالتفت عن الغيبة إلى الخطاب وقال تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) هذا ترغيب وتحريض على العفو والإغماض ، أي إذا فعلتم كان غفران الله ورحمته شاملين لكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإنه تعالى يحب أن يكون عبده شبيها به في العفو والتجاوز عن تقصير المقصّرين والإغماض عمّن أساء إليهم. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لم يقبل عذر المتنصّل الذي تبرّأ من الجناية عند شخص كاذبا كان أو صادقا فلا يرد عليّ حوضي يوم القيامة. وقال (ص): أفضل أخلاق المسلمين العفو. وقال (ص): ينادي مناد يوم القيامة : ألا من كان له أجر على الله فليقم فلا يقوم إلّا أهل العفو : فمن عفا وأصلح فأجره على الله. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يكون العبد ذا فضل حتّى يصل من قطعه ، ويعفو عمّن ظلمه ، ويعطي من حرمه. وفي الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائز ، نعم يجوز إذا كانت داعية للخير أو

١٠١

غير داعية للشر ، لا إذا كانت صادفة عنه. ثم إنّه تعالى تأكيدا للمقام وتهديدا أو تخويفا للعباد على القذف والإفك يقول :

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)

٢٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ :) أي العفائف (الْغافِلاتِ) عن الفواحش التي نسبت إليهنّ (الْمُؤْمِناتِ) بالله ورسوله (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) هذه الكريمة وعيد عامّ لكلّ قاذف ورام للعفائف بالفواحش ما لم يتب. والمراد باللّعن الدّنيوي ابتلاؤهم بعقوبة الحدّ والجلد وردّ الشهادة وكونهم مطرودين ، واللّعن الأخروي هو بعدهم عن رحمة الله وقربهم إلى غضبه وأنواع عقوباته العظيمة الكاشفة عن عظم الذنب كما أشار إليه بقوله سبحانه (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

٢٤ ـ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ...) بإنطاق الله إيّاها ليعترفوا بما صدر عنها من الأقوال والأعمال ، ويمكن أن تكون شهادة الجوارح على الإنسان من قبيل صدور الصّوت عن بعض صنائع اليوم كالمسجّلات ومجالس

١٠٢

الأصوات بالنسبة إلى ما صدر عن اللسان ، وأما الأعمال والأفعال الصادرة عن الجوارح الأخر فتمكن إراءتها لشخص الإنسان ولغيره من أهل المحشر يوم تبلى السّرائر كما يرونها في تلفزيونات ، فنعوذ بالله من فضائح يوم القيامة اللهمّ لا تفضحنا فيها.

٢٥ ـ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ...) أي جزاءهم المستحق (وَيَعْلَمُونَ) علما وجدانيا لمعاينتهم في ذلك اليوم حقائق الأمور وواقعها على ما هي عليه (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي هو الثابت بذاته والظاهر بألوهيّته. وقيل التقدير : ذو الحق المبين أي ظاهرة عدالته في ذلك اليوم على جميع الخلائق ، فينتقم للمظلومين من الظالمين ، ويعطي المحسن والمسيء جزاءهما بلا زيادة أو نقيصة على مراتبهم. فمن كان هذا شأنه ينبغي أن يتّقى منه ويجتنب من زواجره ونواهيه وتتّبع أوامره. ولا يخفى أن الآيات الواردة في باب الإفك أغلظ آيات نزلت في الكتاب تهديدا وتخويفا للآفكين. ولو أن أحدا يقلّب جميع الآيات القرآنية التي نزلت في العصاة وفي تخويفهم وتهديدهم لما وجد آية أغلظ مما ورد في باب الإفك فإنّها مشحونة بوعيد شديد وعقاب بليغ وزجر عنيف واستعظام لارتكاب الإفك واستفظاع للإقدام عليه على طرق مختلفة وأساليب متفاوتة بحيث كل واحد منها يكفي في باب الزجر والوعيد ، كما أنه جعل القاذف ملعونا في الدّنيا والآخرة. واستفاد بعضهم من هذه أن القاذف أسوأ حالا من الكافر ، لأن الكافر تقبل توبته ، في حين أنّه يؤخذ من هذه الكريمة أن القاذف لا تقبل منه التوبة ، وليس هذا إلّا لعظم أمر الإفك مطلقا ، وبالأخص في مورد النزول للاهتمام بحريم سيّد البشر وخاتم الرسل. والحاصل أن الغرض من فرط المبالغة في المقام هو إظهار علوّ منزلة سيّد الأنبياء والرسل ، فمن أراد أن يطّلع على علو شأن سيد ولد آدم فليتأمّل في الآيات النازلة في باب القذف. واعلم أنّ الله تعالى برّأ ثلاثة نفر بثلاثة أشياء : برّأ يوسف عليه‌السلام بلسان شاهد (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) وبرّأ مريم عليها‌السلام

١٠٣

بإنطاق ولدها (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) إلخ وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام تعظيما للنّبي (ص). ثم إنّه تعالى أخذ في بيان ذمّ أهل الفسق والفجور ومدح أهل الصّلاح والتقوى فقال سبحانه وتعالى :

٢٦ ـ (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ ...) أي الكلمات الخبيثة للخبيثين من الرجال والنساء يعني : ينبغي أن تصدر عنهم أو تنسب إليهم (وَالْخَبِيثُونَ) من الناس معدّون أن تنسب إليهم (لِلْخَبِيثاتِ) أي الكلمات السّيئة الخبيثة التي لا ينبغي للطيبين (وَالطَّيِّباتُ) من الأقوال معدّة (لِلطَّيِّبِينَ) من الناس (وَالطَّيِّبُونَ) منهم (لِلطَّيِّباتِ) منها فإن طباع كلّ من الفريقين مائلة إلى ما يناسبها. وفي المثل : كلّ أناء يترشّح بما فيه. وقيل إن المراد بالشريفة : أن النسوة الخبيثات للرّجال الخبثاء وأن النسوة الطاهرات للرجال الطاهرين وهكذا العكس وقيل : إن هذه الكريمة بمعنى قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) الآية ، فالجنسيّة سبب للألفة ، والسنخيّة موجبة للجذب والانجذاب ، وهذا أمر قهريّ طبيعيّ غير قابل للإنكار (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) ذيل الآية دليل ظاهره على أن المعنى الثاني هو المراد من الآية أي ممّا يقال فيهم ، وقيل : إن الإشارة راجعة إلى النبيّ (ص) وصفوان وعائشة ، أو راجعة إلى أهل بيت الرسالة ، والمراد بالموصول هو الإفك (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي رزق لا نقص فيه ولا تعب لأنه كثير دائم.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ

١٠٤

وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١))

٢٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) : أي لا ينبغي لكم الدخول في بيوت يسكنها غيركم (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي تستأذنوا ، من الاستئناس بمعنى الاستعلام ، فإن المستأذن مستعلم للحال. وفي المجمع أن رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أستأذن على أمّي؟ قال : نعم قال : إنّها ليس لها خادم غيري أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال أتحبّ أن تراها

١٠٥

عريانة؟ قال لا قال : فاستأذن عليها. (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) بالتحيّة الإسلاميّة كقوله السّلام عليكم. والحاصل أن من أراد أن يدخل على أحد في داره فلا بدّ له أن يستأذن أوّلا ، فإن أذن له في الدّخول يدخل ويسلّم على أهله بقوله : السّلام عليكم ، لا بالتحيّة الجاهلية كقولهم : صباح الخير ونحوه مما كانت تحيّتهم به. وفي الفقيه عنه (ع): إنّما الإذن على البيوت ، ليس على الدّار إذن (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الاستئذان والتّسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة وبتحيّة الجاهلية. وغاية الاستئذان (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تذكرون مواعظ الله لتتأدّبوا بآدابه وأوامره ونواهيه ولتتعلّموها فتعملوا على طبقها.

٢٨ ـ (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً ...) يأذن لكم (فَلا تَدْخُلُوها) لأنه ربما كان فيها ما لا يجوز أن تطّلعوا عليه (حَتَّى يَأْذَنَ) ربّ البيت في ذلك. هذا إذا كان باب البيت مغلقا ، وأما إذا كان مفتوحا فالدخول بلا استئذان ولا محذور فيه لأن صاحبه بالفتح أباح النظر إلى ما فيه (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي الرجوع بلا إلحاح أطهر لكم من الوقوف على الباب وأنفع لكم في دينكم ودنياكم وأقرب إلى أن تصيروا أزكياء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بها.

٢٩ ـ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ...) كالرّبط والحوانيت فيجوز لكم الدخول فيها بغير استئذان كما هو المتعارف (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي للاستمتاع بها كالتحفظ من الحر والبرد والإيواء للنساء والرجال ، والجلوس فيها للمعاملة أو غيرها من الاستفادات والتمتع. وعن الصّادق عليه‌السلام : هي الحمّامات والخانات والأرحية تدخلها بغير إذن ، ولعلّ التمثيل بها ليس من جهة الحصر بل من باب مجرّد المثال (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي هو تعالى عالم بنيّاتكم عند دخولكم مدخلا لفساد أو تطلّع على عورة أو لأمر دينيّ أو دنيوي مباح ، سواء أظهرتم أو أخفيتم. وليعلم أن مناسبة آية الاستئذان مع ما قبلها ، أنه تعالى لما بيّن

١٠٦

عظم إثم الزنى والقذف أكّده بالنهي عن الدّخول في بيوت الناس إلّا بعد استئذان من صاحبها حتى يكون الدّخول أبعد من التّهمة وأقرب إلى العصمة ثم أخذ في بيان حكم نظر الحلال والحرام من المؤمنين والمؤمنات ، وحكم بالغضّ لتحصيل العصمة والبراءة عن التهمة ، فقال سبحانه :

٣٠ ـ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ...) عمّا يكون محرّما أي لا يتطلعوا إلى النساء فإن النظر بريد الزنى نعوذ بالله تعالى منه. (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) من النظر المحرّم وعن الصادق عليه‌السلام : حفظها هنا خاصة سترها (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي أطهر وأنفع لهم لما فيه من نفي التهمة والبعد عن الريبة (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي بما يصدر عن أبصارهم وفروجهم وجميع جوارحهم فاجعلوه نصب أعينكم في كل حال واحذروه في جميع الأمور فإنه يراكم هو تعالى وقبيله من الحفظة والكرام الكاتبين من حيث لا ترونه

٣١ ـ (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ...) عمّن لا يحلّ لهنّ النظر إليه (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) عمّن لا يحلّ لهنّ. والقميّ عن الصّادق عليه‌السلام : كل آية في القرآن في ذكر الفروج فهي من الزنى إلّا هذه الآية فإنها من النّظر ، فلا يحلّ لرجل مؤمن أن ينظر الى فرج أخيه ولا يحل للمرأة ان تنظر إلى فرج أختها. وعبادة بن صامت روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : أنتم تضمنون عنّي ستّة أشياء أضمّن لكم الجنّة : الأوّل إذا حدّثتم حدّثوا صدقا ، والثاني إذا وعدتم أوفوا بعهدكم ، والثالث إذا استؤمنتم بشيء فأدّوه ، والرابع احفظوا فروجكم من الحرام ، والخامس غضّوا أبصاركم عن الحرام ، والسّادس لا تمدوا أيديكم إلى أكل الحرام ، فحينئذ أنا أضمن لكم الجنّة. قال أمير المؤمنين (ع) : قال رسول الله (ص) النظر إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس. وروي أن عبد الله بن أم مكتوم جاء إلى رسول الله وكان (ص) في بيت فاطمة فاستأذن رسول الله فأذن له في الدخول فخرجت فاطمة عليها‌السلام فلما ذهب ابن أم مكتوم قال (ص) لما ذا خرجت ، فإنه أعمى؟ فقالت يا أبة نعم لكني لست بعمياء وإن كان لا يراني فإني أراه.

١٠٧

قال تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ). قال (ص) : الحمد لله الّذي أراني في أهل بيتي ما سرّني. وقضيّة الشابّ الأنصاري والنظر إلى المرأة التي أقبلت وقناعها خلف أذنها وكان صدرها ووجهها مكشوفين والشابّ لا يزال يمشي خلفها حتى وقع رأسه إلى الحائط معروفة ، فنزلت الشريفة (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) أي لا يظهرن مواضع الزينة لغير المحرم ومن هو في حكمه ولم يرد نفس الزينة فإنه يحلّ النظر إليها ، بل أريد مواضعها على ما قيل. وقيل إن المراد نفس الزينة لأن النظر إليها يلازم النظر إلى مواضعها أو يخطر إلى القلوب مواضعها حين يراها وهي لابسة إياها فيا له من شرع أكّد بهذه المرتبة وبالغ بتلك المبالغة في حفظ نواميس المؤمنين ونسائهم (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام قال : الزينة الظاهرة الكحل والخاتم ، وفي رواية أخرى عن الباقر عليه‌السلام زاد السّوار وخضاب الكف ، وقيل الضمير راجع الى مواضع الزينة لا نفسها أي إلا المقدار الذي لا يمكن إخفاؤه كالوجه والكفّين وظهر القدمين فإن في اخفائها حرجا على النوع كما لا يخفى. وعن الصّادق (ع) أنه سئل ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما ، قال : الوجه والكفّان والقدمان. وعنه عليه‌السلام : لا بأس بالنظر إلى رؤوس أهل تهامة (ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز) والأعراب وأهل السّواد والعلوج من كفّار العجم ، وبعض يطلقه على الكافر مطلقا لأنهم إذا نهوا لا ينتهون. قال : والمجنونة والمغلوب على عقلها لا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما لم يتعمّد ذلك ، ولعل المراد من التعمّد هو النظر بالشّهوة وإلا فإذا كان النظر عن نسيان أو سهو أو خطأ ، فإلى غيرها أيضا لا بأس. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : يا علي النظرة الأولى لك والثانية عليك (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) الخمر جمع خمار وهو الذي تستر المرأة به رأسها ورقبتها. والآية الشريفة يؤخذ منها أنه لا بدّ منه بل وان يكون طويلا بحيث يستر ويغطّى به الصّدر أيضا فإن قوله تعالى : (عَلى جُيُوبِهِنَ) متعلّق ب (لْيَضْرِبْنَ) الذي بمعنى ليسترن وفي التبديل

١٠٨

بلفظ الضرب لا تخفى المبالغة في كيفية الإلقاء وكمّية السّتر بحيث تستر وتغطي خمرهنّ إضافة على الرأس والرقبة جيوبهن ، مع أن وضع الخمر في الجاهلية كان لسترهما فقط والجيوب جمع الجيب وهو من القميص موضع الشقّ الذي فيه طول قدّام الصّدر أحد طرفيه الأعلى يصل الى المنحر والآخر إلى السّرة أو قريبا منها. وقيل هو طوق القميص ، وقيل إن الجيب هو الصّدر هنا ، والحاصل أنّه تعالى أمر النساء المؤمنات بستر الجيوب مبالغة تأكيدا بالتبديل الذي أشرنا إليه بل صرّحنا به وباللّام الداخلة على الفعل تحصيلا للعفّة وتكميلا لعصمة نساء الأمة الإسلاميّة ، ولكن ، وا أسفا وألف أسف إن كان الأسف يجدي على نسوة المسلمين الاسميّة الكاسيات العاريات المثقّفات الكاشفات اللواتي لا يعرفن العفة ولا يدركن معنى العصمة ، بل يعددنهما من الموهومات وخرافات العصور القديمة ، فعلى إسلامهن السّلام (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) كرّره مقدّمة لبيان من يحلّ له الإبداء ومن لا يحلّ ، وسابقا لبيان ما يجوز إظهاره وما لا يجوز من الزينة. ومن يحلّ هم الذين استثناهم الله تعالى بقوله (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) إلى قوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) الآية ، والمراد بقوله (أَوْ نِسائِهِنَ) يعني المؤمنات فلا يتجرّدن للكافرات ، وفي التبيان أن غير المسلمات مطلقا في حكم الرّجال غير المحارم. وقيل إن الأمة إذا كانت مملوكة لا بأس أن تتجرّد السيّدة المالكة لها عندها ولو كانت كافرة لقوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) وهذا عام يشمل الكافرة والمسلمة بل قيل يشمل العبيد أيضا (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) والمراد بالتابعين هم الذين يتبعون الناس ويدخلون معهم البيوت لفضل طعام أو ما يحتاجون إليه ، ولا حاجة لهم إلى النساء لهرم أو بله أو جنون وأمثالهم ممن لا يعرفون من أمرهن شيئا أو ينصرفون عنهنّ كالشيوخ الفانية والعجائز المزمنة لمرض أو كبر سنّ. (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) الطّفل اسم جنس ، وهو إذا وقع موضع الجمع واتّصف بالجمع يراد منه الجمع ، والمعنى في الشريفة أن الطّفل إذا كان بحيث لم يعرف العورة ولم يميّزها لقلّة سنّه وعدم بلوغه حدّ

١٠٩

الشهوة وعدم قدرته على الوطء فلا بأس بتجرّد النساء عنده. والطفل هو الولد من يوم يولد إلى يوم بلوغه والحنيفيّة على أن الّخصيّ والمجبوب والعنّين في حكم الرجال الأجانب لأنّهم يميلون إلى مباشرتهن ومقاربتهن إلّا أنهم غير قادرين عليها ولكنهم يتمتعون بباقي التمتّعات منهنّ وعليه الإماميّة فلا يحل لهنّ التجرد عندهم ولا بدّ من التحفظ عنهم (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَ) على الأرض حين المشي روي أنه قبل نزول الآية كانت عادة النّساء أن يضربن بأرجلهنّ حين مشيهنّ على الأرض لتسمع قعقعة الخلخال فيها فنهاهنّ عن ذلك. لأن المرأة التي تضرب برجلها حين المشي ليظهر خلخالها تلفت نظر الرجل الذي يغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال ويصير ذلك داعيا له زائدا على الدّاعي الطّبيعي في مشاهدتهنّ. وقد علّل سبحانه بأن قال : (لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) فنبّه به على أن الذي لأجله نهى عنه أن تعلم زينتهنّ من الحليّ وغيره. فاذا كان الصوت الدّالّ على الزينة منهيّا عنه ، فإظهار الزينة ومواضعها أولى بالمنع ، وإذا كانت المرأة ممنوعة أن ترفع صوت خلخالها لوقوعها في الفتنة ، فرفع صوتها بالكلام للأجانب أولى بالنهي إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة ، وإذا كان المناط والملاك في النهي في تلك الموارد هو وقوع الفتنة فالنظر إلى وجهها بالشهوة أقرب إلى الفتنة فالنهي عنه أولى وأشد (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) عن التقصير والخطر الذي لا يكاد أحدكم يخلو منه ، أو مما فعلتم في الجاهلية سيّما في الكفّ عن الشهوات (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تفوزون بسعادة الدارين.

* * *

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ

١١٠

فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))

٣٢ ـ (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ ...) أيامى جمع أيّم وهو العزب ذكرا كان أو أنثى ، بكرا أو ثيّبا. أحد مفعولي (أَنْكِحُوا) محذوف تقديره : وأنكحوا رجالكم الأيامى الذين هم بلا زوجات من نسائكم ، أو نساءكم الأيامى أي بلا أزواج من رجالكم ، وأنكحوا الصّالحين من عبادكم إماءكم الصّالحات ، أو الصّالحات من إمائكم عبادكم الصّالحين ، لأن الأيامى يشمل الرجال والنّساء ، والصّالحين يشتمل عليهما أيضا. والخطاب لأولياء العقد ، وخصّ الصّالحين لترغيبهم في الصلاح فان العبيد والإماء إذا علموا بأن الصّلاح شرط لاهتمام مواليهم في زواجهم فيهتمّون في تحصيله طبعا ، ولما يتوهّم بأن عدم القدرة على حقوق الزواج كالإنفاق والإسكان وغيرهما من المصارف مانع عن النكاح ، فرفع هذا التوهّم بقوله (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا تخافوا من الفقر فتتركوا الزواج ، فإنه تعالى قادر على إغنائكم من خزائنه بكرمه وفضله ، يرزق عباده صباحا ومساء يرزقهم الواجب عليه بإيجابه على نفسه كما قال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ومضافا إلى قوله (ع): اطلبوا الغناء في هذه الآية ، فإنه يؤخذ من هذا الحديث الشريف أن الزواج هو بنفسه سبب من أسباب سعة العيش ورفاهيّته فكيف يخاف الإنسان مما هو سبب رزقه ، ومضافا إلى

١١١

أحاديث أخر وآيات أخريات كقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) ، ومن الأحاديث : التمس الرزق في النكاح. وقيل إن واحدا شكا من الفقر عنده عليه‌السلام فقال : عليك بالباءة (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أفضاله كثيرة السعة لأن قدرته غير محدودة لا تتناهى فكذلك نعمه وأفضاله على العباد ، وهو يعلم ما تقتضيه حكمته فيبسط الرزق على وفق الحكمة والحاصل أنه من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنّه بالله ، نعم لا بدّ وأن يعلم الإنسان أن النكاح لا يكون علة تامّة لغناء المتزوج ، فإن مشيئة الله لها الدّخل في أمور العباد وأنه تعالى لا يرفع يده عمّا فيه صلاح عبده فيرى إن كان صلاح العبد في الغنى أغناه وإلّا فلا ، نعم إذا أراد أن يغني عبده قد يجعل سببه التزويج في بعض الموارد لأن المدار جعله سبب الغنى بمعنى أنه علّق سعة رزقه على تزويجه. ويستفاد من الآيات والروايات أن للتزويج دخلا في الرزق أكثر من سائر الأسباب والمقتضيات الأخر. ولكن ربّما يتزوج الإنسان ولا يرى له الأثر في رزقه فذلك أن المشيئة لا تقتضيه إذ ليس الغناء له بصلاح بل صلاحه في استعفافه واجتهاده في إطفاء ثائرة شهوته كما أشار بقوله :

٣٣ ـ (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ...) أي لا بدّ من الجهد في تحصيل العفة وقمع الشهوة (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) لأسبابه المؤدّية له ، من المهر والنفقة (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي من إحسانه وكرمه ، فإنّ الأمور مرتهنة بأوقاتها ، وربما يتوهّم أن بين الآية الأولى وهذه تناقضا حيث إنه أمر فيها بالنكاح وفي هذه أمر بالتقاعد عنه والصّبر ، وأجابوا بمحامل لا تخلو كلها من الخدش ، والأولى حمل السّابقة على عموم النهي عن تركه مخافة الفقر اللّاحق كما دلّ عليه حديث مخافة العيلة الذي أشرنا إليه لا بعنوان الحديث بل في طيّ قولنا ، وحمل الأخيرة على الأمر بالاستعفاف في خصوص الفقر الحاضر المانع عن الزواج كما هو الظاهر من قوله تعالى (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي لا يجدون أسبابه بالفعل ولا يستطيعون الزواج لفقرهم العاجل ، والسابقة تنظر الى الآجل

١١٢

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) أي يطلبون المكاتبة ، وهو قول السّيد لعبده كاتبتك على كذا من المال تؤدّيه دفعتين أو ثلاثا ، فإذا أدّيت ذلك المعلوم فأنت حر ، ويقول العبد : قبلت والمراد بالموصول هو العبد الطالب من مولاه المكاتبة (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي من مماليككم عبدا كان أو أمة (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي مالا أو عملا يكتسب به أو حرفة ، وقيل دينا ومالا كما عن الصّادق عليه‌السلام. وقيل صلاحا أو أمانة وقدرة على أداء مال الكتابة (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أمر للسّادة بإعطائهم شيئا من أموالهم ومثله حطّ شيء ممّا التزموا به حتى يتحرّروا سريعا (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) أي إمائكم ، البغاء هو الزّنى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) تعفّفا إذ لا يتصوّر الإكراه إلّا عند إرادة التحصّن ، فلذا شرط الإكراه به ، فإن الإكراه عند عدم التحصّن محال ، لأنه من تحصيل الحاصل كما لا يخفى. فهذه فائدة الاشتراط فلا يلزم من عدم المفهوم في المقام لغوية القيد (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) علة للاكراه ، وفي القمي : كانت العرب وقريش يشترون الإماء والجواري ويضعون عليهم الضرائب الثقيلة ويقولون اذهبوا وازنوا واكتسبوا ، فنهاهم الله عن ذلك (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمكرهات لا للمكرهين لان الوزر عليهم وفي القمي : لا يؤاخذهن الله بذلك إذا أكرهن عليه. أقول : ويؤيّد هذا التفسير

قول النبيّ (ص): رفع عن أمّتي تسعة ، وعدّ منها الاستكراه على الشيء.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ ...) أي ظاهرات في الأحكام والحدود في هذه السّورة (وَمَثَلاً) قصّة وخبرا من أخبار من كان قبلكم ، لتعتبروا بها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي منعا وزجرا وبشارة ، والتخصيص لأنهم المعتبرون بها. والحاصل أنهم هم أهل الوعظ والنصح.

* * *

١١٣

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))

٣٥ ـ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) عرّف النور بأنه الظاهر بنفسه والمظهر لغيره. فالله سبحانه ظاهر بذاته مظهر للسماوات والأرض بما فيهما. وقيل أصل الظّهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم. فهو تعالى موجود بذاته وموجد لما عداه. ويمكن أن يقال : إن النور هو الهادي في الظلمات المعنوية والظاهرية ، وإن الله سبحانه بما أنه الهادي لأهل السّماوات وأهل الأرض إلى طريق الحق ويهديهم لمصالحهم وخيرهم ، لذا أطلق على ذاته المقدّسة أنه نور السّماوات والأرض وفي التوحيد عن الرّضا عليه‌السلام : هاد لأهل السماوات هاد لأهل الأرض. وفي رواية البرقي

١١٤

في تفسير الكريمة : هدى من في السّماوات وهدى من في الأرض ، أو منوّر السّماوات بالنجوم والكواكب وكذلك الأرض منوّرة بالشمس والقمر والنجوم ، أو مزيّن السماوات بها وبالملائكة والأرض بالأنبياء والرّسل والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) أي كوّة غير نافذة يوضع عليها المصباح أو يوضع فيها (فِيها مِصْباحٌ) سراج (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) في قنديل زجاجيّ (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) تضيء كأنّها الزّهرة في لمعانها وتلألؤها (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) كثيرة المنافع (زَيْتُونَةٍ) بدل من الشجرة. والحاصل أن المصباح الذي لا بد له من دهن حتى يوقد ويضيء مأخوذ دهنه من شجرة زيتون (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي ليست الشجرة في مكان لا يصيبها الشمس إلّا أوّل شروقها فقط في تمام اليوم ، أو حين غروبها فقط ، بل في مكان من الأمكنة التي تصيبها الشمس في تمام النهار. ووجه التخصيص أن شجرة الزيتون إذا كانت في المكان الذي وصف فإن زيتها يصير أصفى وأدوم وأحسن من كلّ الجهات المرغوب فيها. أو المراد بقوله تعالى أنّ منبتها الشام وهي وسط العمارة لا شرقها ولا غربها ، وزيتونها أجود لأنّها ليست في مضحى الشمس دائما فتحرقها ولا في مقناة لا تصيبها أبدا أو بمقدار كاف فلا ينضج ، ثم إنه تعالى وصفه بوصف آخر ليوضح صفاءها ولطافتها فقال : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) اي قبل أن تمسّه النار لفرط صفائه وكثير لطافته (نُورٌ عَلى نُورٍ) متضاعف صفاؤه حيث انضمّ إلى نور المصباح صفاء الزيت ولمعان الزّجاجة التي وضع المصباح فيها فأحاطت به لحفظ نور المصباح عن الخمود بالأرياح والنفخ وغيرهما من الموانع فصار المجموع كأنه نور على نور. ثم أنه لا بد في التشبيه من المشبّه والمشبّه به ، فالمشبّه في الآية هو النور وقد فسرناه بتفاسير تبعا لأكثر المفسّرين ، والأحسن منها لعلّه كان ما في بعض الرّوايات من أن المراد بالنّور هو الهداية وآياته تعالى البيّنات ، وهذا التفسير قول جمهور المتكلّمين. والمعنى أن هداية الله بلغت في الجلاء والظّهور إلى أقصى الغاية بمنزلة المشكاة التي تكون فيها الزجاجة. وقلنا بأن

١١٥

المشكاة هو القنديل ، والكوّة أي الخرق في الحائط الذي جعل فيه الزجاجة الصّافية ، وفي الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء والجودة في كلّ الجهات. فان قيل لم شبّه بذلك وقد علم أن ضوء الشمس أبلغ وأقوى من ذلك بكثير؟ قلنا إنّه سبحانه أراد أن يشبّه هدايته بالضوء الكامل الذي يلوح في وسط الظّلمة وهو ضوء المشكاة التي المصباح فيها والتي كأنها الكوكب الدّري. ولمّا كان الغالب على أوهام الخلق الشبهات التي هي كالظّلمات ، فهدايته تعالى فيها كالضوء الكامل في وسط الظّلمات. وهذا المعنى المقصود ما كان يحصل من التشبيه بضوء الشمس حيث أن ضوء الشمس إذا ظهر امتلأ العالم من النور فلا يبقى ظلام حتى تكون الشمس فيه تلوح ، فتكون الهداية بين ظلمات الأوهام والشكوك مثلها. فهذا المثل والتشبيه أليق بما نحن فيه (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) يرشده إلى هداه ويبيّنه له حتى ينجيه من الضلالة والغواية بلطفه وعنايته ، أو يهديه الله لنوره أي إلى إيمانه (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) تقريبا للمعقولات إلى المحسوسات للأفهام ، وتسهيلا للمرام (عَلِيمٌ) كثير العلم فيضع الأشياء في مواضعها.

٣٦ ـ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ...) الجارّ متعلق بما قبله وهو المشكاة أي : مثل نوره تعالى وهو الهداية في قلوب أهلها كمشكاة في بيوت أذن الله ، أو يتعلق بيوقد ، أي : إيقاده في بيوت (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) بتعظيمها من تلاوة كتابه فيها ، أو ذكر أسمائه الحسنى فيها ، أو تطهيرها. وهل المراد بها المساجد أو بيوت الأنبياء ، أو أعمّ منها كبيوت الأوصياء فيها أقوال. ففي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام : هي بيوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن الباقر عليه‌السلام هي بيوت الأنبياء والرسل والحكماء وأئمة الهدى. وفي رواية : وبيت عليّ عليه‌السلام منها. ويؤخذ من بعض الروايات أن المقصود من البيوت هو الأئمة عليهم‌السلام بأنفسهم. في

١١٦

الكافي عن الباقر عليه‌السلام (بقرينة رواية قبل هذه) أن قتادة قال له : والله لقد جلست بين يدي فقهاء وقدّامهم فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. فقال له : أتدري أين أنت؟ بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ، الآية ، فأنت ثمّة ونحن أولئك. فقال له قتادة : صدقت والله ، جعلني الله فداك ، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين ل (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) يحتمل أن يكون قوله ليسبّح بيانا لما في قوله من (يُذْكَرَ) وقال ابن عباس : كلّ تسبيح في القرآن صلاة ، فعلى هذا معناه : يصلّي له فيها (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) غدوّ مصدر ، وإطلاقه على أوقات الصّبح شائع في الكلمات ولذا قرنه بالآصال : جمع أصيل مستحسن ، مضافا إلى أنه استعمل جمع غداة ، فالاقتران أحسن والجمع بينهما على القاعدة معناه أنه يصلّى له أو يذكر فيها بالغدايا والعشايا ، أي أوائل طلوع الشمس وأواخر النهار ، أو أعم : من أوائل الطلوع وبين الفجر والطلوع وأواخر اليوم إلى العتمة.

٣٧ ـ (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ...) أي يسبح له فيها رجال لا تشغلهم (تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ) لا شراء ولا بيع (عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ) أي إقامة الصّلاة. وجيء بالتاء عوضا عن الواو لأن أصله (إقوام) فحذف الواو وعوّض عنه بالتاء. وهنا حذف لإقامة المضاف إليه مقامه. وقيل إن كان المراد بالبيع مطلق المعاوضة فذكره بعد التجارة من باب ذكر العام بعد الخاص للمبالغة ، وإن كان المراد به معناه الحقيقي فإفراده بالذكر لكونه أهمّ القسمين من التجارة لأن الربح يتحقق بالبيع ، وبالشراء يتوقع ويترقب. ولا يخفى أن الله تعالى في توصيف الرجال وعدّ قدرة شيء من الأشياء أن يمنعهم عن ذكر الله اختصّ التجارة والبيع بالذكر. ولعل وجهه انهما أعظم الأشغال الدّنيويّة ، فإذا كانا لا يمنعانهم عن الذكر فباقي الأشغال أولى. وقال صاحب كشف الأسرار : إن ظاهر هؤلاء الرجال مع الخلق ، ولكن باطنهم في شهود الحق وصفاته وقوله تعالى (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) الآية إشارة

١١٧

إلى هذا المقام ونعم ما قيل. ومن أوصافهم أنهم (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي تضطرب فيه القلوب والأبصار من الهول أو تتغير أحوالها فتتيقّن القلوب بعد الشك وتبصر الأبصار بعد العمى وهو يوم القيامة.

٣٨ ـ (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ...) قيل متعلق بيسبّح ، وقيل بيخافون ، أي يعطيهم أحسن جزائهم (وَيَزِيدَهُمْ) على ذلك (مِنْ فَضْلِهِ) أشياء لم يعدهم على أعمالهم ولا تخطر ببالهم (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) هذا تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة وسعة الإحسان.

* * *

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ...) أي التي يعملونها ويعتقدون أنها طاعات كشعاع بأرض بياض مستوية (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) يظنّه العطشان ماء (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) حتّى إذا انتهى إليه رأى أرضا لا ماء فيها ، وهو قوله : (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) ، أي مما حسب وقدّر فكذلك الكافر يحسب ما قدّم من عمله من عند نفسه بلا متابعته للنبيّ (ص) نافعا وأن عليه ثوابا وليس له ثواب ولا أجر (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) عند جزائه

١١٨

محاسبا إيّاه (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أعطاه جزاء عمله تماما بلا نقيصة (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يمنعه حساب بعض عن محاسبة الآخر. وسئل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام كيف يحاسبهم الله في حالة واحدة. فقال كما يرزقهم في حالة واحدة.

٤٠ ـ (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ...) عطف على قوله : كسراب ، أي أن أعمالهم في خلوّها عن نور الحق مثل ظلمات في بحر عميق منسوب إلى اللّج وهو معظم الماء (يَغْشاهُ مَوْجٌ) أي من فوق الموج موج (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) من فوق الموج الثاني سحاب حجب نور الكواكب (ظُلُماتٌ) أي هذه ظلمات متراكمة (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فالواقع في تلك الظلمات المتراكمة إذا أراد أن يلاحظ يده فأخرجها إلى مقابل عينيه لم يقارب أن يراها لشدّة الظلمة (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) من لم يقدّر له الهداية ولم يوفّق له أسبابها (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) وهو في ظلمة الباطل دائما.

* * *

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣)

١١٩

 يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦))

٤١ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ...) أي ينزّهه عمّا لا يليق به أهل السّماوات من الرّوحانييّن وأهل الأرض من الإنس والجن بألسنتهم من الحال والمقال. و (مَنْ) لتغليب العقلاء (وَالطَّيْرُ) عطف على (مَنْ) والتخصيص لما فيها من الحجّة الواضحة على وجود الصّانع وكمال قدرته ، ولذا قيّدها بقوله : (صَافَّاتٍ) أي باسطات أجنحتهنّ وواقفات في الجوّ. وحيث إنّ الأجرام السّفلية بطبعها ميّالة إلى المركز ، فوقوفهنّ في الهواء وإلهامهنّ البسط والقبض عند كونهنّ مصطفّات الأجنحة في الجوّ برهان قاطع وحجّة ساطعة على كمال قدرة الصّانع ولطف تدبيره الجامع. فالطّيور تسبّح بلسان الحال وبنفس وجودها بهذه الكيفية والحالة أو المراد أنها تنطق بألسنتها بالتسبيح ؛ ولا مانع من الجمع ، كما أن من العقلاء من يسبّح بلسانه كالمؤمن ، وبدلالة وجوده وأحواله كالكافر (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) والظاهر من الكريمة أن الضمير في (عَلِمَ) لكلّ ، ومعناه أن جميع ذلك من المسبّحين ، وقد علموا صلوات أنفسهم وتسبيحهم ، وهم يؤدّونها في وقتها ، أو هو راجع إلى الله ، وهو تعالى قد علم صلاته ودعاءه إلى توحيده وتسبيحه. وقيل أنّ الصلاة للإنسان والتسبيح لكلّ شيء.

٤٢ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي على الحقيقة لا يشاركه فيه أحد (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع.

١٢٠