آراؤنا في أصول الفقه - ج ١

السيّد تقي الطباطبائي القمّي

آراؤنا في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد تقي الطباطبائي القمّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات المحلّاتي ( المفيد )
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

غير مقدور وعلى جميع التقادير الطلب فعلي والاختلاف في المطلوب فالنتيجة ان القيد وان كان قابلا لأن يرجع الى الهيئة لكن لا بد من ارجاعه الى المادة للتقريب المذكور.

واجيب عن هذا التقريب كما في كلام سيدنا الاستاد بأن المراد من الطلب ان كان هو الحب والشوق النفساني يتم هذا التقريب لكن الكلام في المقام في الوجوب الذي يعتبره المولى فان تحقق الوجوب تابع لملاكه وتحقق مقتضيه فان كان ملاكه فعليا وموجودا بالفعل يتحقق الوجوب بالفعل واما اذا لم يكن ذا ملاك بالفعل فلا يعقل تحققه وان شئت قلت : جعل الحكم بلا ملاك يكون من اللغو ولا يعقل صدور اللغو عن الحكيم وهذا على مسلك كون الاحكام تابعة للمصالح في أنفسها واضح اذ مع عدم الملاك لا يمكن تحققه وأما على القول بكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها فأيضا الأمر كذلك اذ مع عدم المقتضي في الفعل أو مع وجود المقتضي لكن مقرونا بالمانع لا يمكن أن يوجد الحكم فعلى كلا التقديرين لا يمكن تحقق الحكم من قبل المولى الاعلى نحو التعليق والاشتراط.

اذا عرفت ما تقدم نقول : الذي يختلج بالبال أن يقال انه على القول بكون الاحكام تابعة للملاكات في أنفسها لا يمكن تحقق الوجوب قبل او ان المصلحة اذ المفروض انها تابعة للملاك في أنفسها فلو فرض عدم الملاك لا يعقل أن يوجد لكن هذا المسلك مردود والحق ان الأحكام تابعة للملاك الموجود في متعلقاتها على مذهب العدلية.

فنقول : لا نرى مانعا من تعلق الوجوب بالفعل الى المقيد وبعبارة اخرى : الذي لا يمكن تعلق الحكم بفعل بلا ملاك وأما تعلقه بالفعل الى عمل مقيد بقيد ومعلق على أمر فلا نرى فيه مانعا وبعبارة اخرى : ايجاب الحج بعد الاستطاعة يمكن تحققه على نحوين : احدهما : على نحو الوجوب المشروط بحيث يكون تحققه متوقفا

١٤١

على الاستطاعة في الخارج. ثانيهما : أن يتعلق الوجوب بالحج بعد الاستطاعة المحققة بحسب الطبع ، والنتيجة واحدة وبعبارة واضحة : أي مانع في تعلق الايجاب الفعلي بالحج الواقع بعد الاستطاعة وكيف لا يعقل والحال ان متعلق الوجوب ذو ملاك ملزم ، نعم لا اشكال في أن المستفاد من قوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) الوجوب المشروط ، فتارة نقول : ان المستفاد من الدليل قد يكون وجوبا مشروطا وقد يكون معلقا ، واخرى نقول : انه لا يمكن ـ كما يدعيه سيدنا الاستاد ـ فالنتيجة التفصيل بأن نقول ان الاحكام اذا كانت تابعة للملاكات في أنفسها لا يمكن تحقق الايجاب بلا مصلحة واما ان قلنا بكونها تابعة للملاكات في متعلقاتها كما هو الحق فلا مانع ثبوتا من رجوع القيد الى المادة كما انه لا مانع من رجوعه الى الهيئة وأما في مقام الاثبات فالمتبع الظهور العرفي فلاحظ.

ثم انه لو شك في أن القيد راجع الى الهيئة أو أنه راجع الى المادة فهل يكون وجه لتقديم احد الأمرين على الآخر ربما يقال بترجيح رجوع القيد الى المادة بتقريب ان المستفاد من الهيئة عموم شمولي والمستفاد من المادة عموم بدلي وحيث ان عموم العام تنجيزي وقابل لأن يكون بيانا لاطلاق المادة واطلاق المادة تعليقي اي يتحقق الاطلاق عند عدم البيان وبكلمة اخرى : تحقق الاطلاق في طرف المادة معلق على عدم العموم الشمولي في طرف الهيئة ولا عكس فالترجيح في طرف عموم العام الشمولي الثابت في طرف الهيئة.

ويرد عليه : ان تقديم احد الدليلين على الآخر باقوائية الدلالة والظهور والمفروض ان العموم الشمولي فى طرف الهيئة مستفاد من الاطلاق ومقدمات الحكمة فلا ترجيح لاحد الطرفين على الآخر والكلام فيما يكون كلا الامرين مستفادين من مقدمات الحكمة فنقول : استدل على تقديم جانب تقييد المادة بتقريبين :

١٤٢

التقريب الاول : ان اطلاق مفاد الهيئة شمولي واطلاق مفاد المادة بدلي فلو دار الأمر بين رفع اليد عن الشمول وبين رفع اليد عن البدل يكون الترجيح في الثاني. ويرد عليه : اولا انه لا وجه للترجيح بعد استناد كل من الأمرين الى مقدمات الحكمة والاطلاق غاية الأمر تكون النتيجة تارة الشمول واخرى البدل.

وثانيا : ان الاطلاق البدلي ايضا فيه الشمول والسريان اذ المستفاد من الدليل الترخيص في اختيار كل فرد من الأفراد مثلا لو قال المولى «اكرم عالما» وتمت مقدمات الحكمة يستفاد من كلامه أمر ان : احدهما : كفاية اكرام عالم واحد من العلماء ، ثانيهما : الترخيص في اختيار أي فرد من افراد العالم فالشمول ثابت في كل من الطرفين.

وعن الميرزا النائيني قدس‌سره الاستدلال على تقديم العموم الشمولي على البدلي بوجوه ثلاثة : الوجه الاول : ان العموم الشمولي ينحل الى أحكام عديدة فلو قال المولى «يحل البيع» ينحل هذا الجعل الى جعل الحلية لكل بيع فرض في الخارج وأما الاطلاق البدلي فالمجعول من قبل المولى حكم واحد مترتب على صرف الوجود كما لو قال اكرم عالما وان شئت قلت : لو رجع القيد الى مفاد العام الشمولي يوجب تقليل حكم المولى وجعله وأما لو رجع الى المادة يوجب تضييق دائرة المجعول فيقدم العموم الشمولي على البدلي.

ويرد عليه : اولا ان هذا الوجه لا يرجع الى محصل اذا لتقديم متوقف على أقوائية الظهور والمفروض التساوي بين المقامين من هذه الجهة ، وثانيا : المجعول من قبل المولى في العام البدلي ايضا متعدد لأن الاطلاق يستلزم التساوي بين افراد الطبيعة ويستفاد منه الترخيص في اختيار اي فرد من الأفراد.

الوجه الثاني : ان تمامية الاطلاق في طرف الاطلاق الشمولي يتوقف على مقدمات ثلاث : الاولى كون المولى في مقام البيان ، الثانية ثبوت الحكم للطبيعة

١٤٣

الجامعة ، الثالثة عدم ما يصلح للقرينية ، وأما في الاطلاق البدلي فيتوقف على مقدمة رابعة وهي تساوي الأقدام وعدم تفاوت بين الأفراد ومع العموم الشمولي لا يحرز عدم التفاوت وبعبارة اخرى : العام الشمولي يكون قابلا للبيان.

وفيه اولا : ان التساوي بين الأفراد يتحقق بالمقدمات الثلاث ولا يحتاج الى مقدمة رابعة ، وثانيا : كيف يمكن أن يكون الاطلاق الشمولي قابلا للبيان والحال ان كل واحد من الدليلين مانع عن تمامية الاطلاق في الطرف الآخر.

الوجه الثالث : ان تحقق الاطلاق البدلي يتوقف على عدم دليل على وجود المانع في بعض الأفراد والاطلاق الشمولي قابل لبيان المانع ولو توقف عدم كونه مانعا على الاطلاق البدلي يلزم الدور.

وفيه : انه لا يتوقف الاطلاق الا على مقدمات ثلاث فلا فرق بين الاطلاق الشمولي والبدلي من هذه الناحية.

وأفاد سيدنا الاستاد في المقام بأنا لو أغمضنا النظر عما قلناه والتزمنا بتقدم الاطلاق الشمولي على البدلي فانما نلتزم فيما يكون التنافي بين الدليلين بالذات كما لو ورد دليل على وجوب اكرام العالم كقوله اكرم عالما ودليل آخر دل على حرمة اكرام الفاسق كقوله «لا تكرم الفاسق» فانه يقع التعارض بين الدليلين في العالم الفاسق حيث يدل احد الدليلين على حرمة اكرامه والدليل الآخر على جوازه فربما يقال بتقدم العموم الشمولي على البدلي ، وأما المقام فلا يكون داخلا تحت تلك الكبرى اذ لا تنافي بين اطلاق كل واحد من الاطلاقين مع الآخر ، وبعبارة اخرى : اذا قال المولى اكرم زيدا لا يكون تناف بين الاطلاق المستفاد من الهيئة والاطلاق المستفاد من المادة وانما التنافي ناش من العلم الاجمالي الخارجي بأن احد الاطلاقين مقيد والعلم الاجمالي الخارجي لا يقتضي تقدم أقوى الدليلين على الآخر وبعبارة اخرى : التقدم متوقف على التعارض والتنافي بين الدليلين وأما العلم

١٤٤

بكون احد الأمرين مقيدا فلا يوجب التقدم والتأخر فالنتيجة هو الاجمال فيما يكون المقيد متصلا والتساقط فيما يكون المقيد منفصلا حيث ان احد الظهورين ساقط عن الاعتبار وحيث لا يتميز فيسقط كلاهما ، فلو علمنا من الخارج انه اما يكون وجوب اكرام زيد مقيدا بمجيء يوم الجمعة واما يكون القيام الواجب مقيدا بوقوعه في يوم الجمعة لا وجه لتقديم احد الاطلاقين على الآخر لأن التقديم من باب كون المقدم قرينة على الآخر ومن الظاهر ان العلم الاجمالي الخارجي لا يوجب أقوائية احد الدليلين وكونه قرينة على الآخر فلاحظ.

التقريب الثاني : لاثبات رجوع القيد الى المادة عند الشك والدوران : ان القيد لو رجع الى الهيئة تكون المادة مقيدة ايضا بلا كلام ، مثلا اذا قال المولى ان استطعت فحج وقيد وجوب الحج بالاستطاعة تصير المادة مقيدة فان المطلوب الحج الواقع بعد الاستطاعة وأما لو رجع القيد الى المادة فلا يلزم تقييد الهيئة اذ يمكن ايجاب الحج المقيد بالاستطاعة قبل الاستطاعة هذا من ناحية ومن ناحية اخرى لو دار الأمر بين رفع اليد عن اطلاق واحد وبين رفع اليد عن الاكثر فلا وجه لرفع اليد عن الاطلاق فيما زاد على القدر المعلوم ، وان شئت قلت : اذا دار الأمر بين الاقل والاكثر يقتصر على الأقل ويبقى الزائد على حاله وعلى هذا الاساس لا فرق بين كون القرينة على التقييد متصلة وبين كونها منفصلة لأن المفروض العلم بالتقييد بمقدار والشك في الزائد ومقتضى الاطلاق عدمه على كلا التقديرين مثلا لو دل دليل على وجوب عتق الرقبة وعلمنا بكونها مقيدة بالايمان ولكن نشك في تقيدها بالعدالة فلا مانع عن اجراء مقدمات الحكمة بالنسبة الى الزائد.

وقال سيدنا الاستاد في هذا المقام ان المراد من تقييد المادة لو كان عدم وجوبها قبل وجود القيد كان التقريب المذكور تاما لأنه لا اشكال في عدم تعلق الوجوب بالمادة قبل وجود القيد وبعبارة واضحة : اذا كان القيد راجعا الى الهيئة

١٤٥

لا تجب المادة قبل تحقق القيد واما ان لم يكن كذلك بأن قلنا ان المراد من تقييد الهيئة فرض وجود القيد اعم من كونه اختياريا أو غير اختياري كما لو جعل المولى الاستطاعة قيدا لوجوب الحج وكما لو جعل المولى نزول المطر قيدا له وقلنا ان المراد بقيد المادة تقيدها به بلا فرق بين كون القيد اختياريا وغير اختياري كما لو جعلت الصلاة مقيدة بالطهارة وكما لو جعلت الصلاة مقيدة بالقبلة فتكون النسبة بين المقامين عموما من وجه اذ يمكن أن يكون الهيئة مقيدة ولا تكون المادة مقيدة كالاستطاعة بالنسبة الى الحج فانه لو لا الاستطاعة لا يجب الحج وأما بعد الاستطاعة فيجب ولو مع عدم الاستطاعة ويمكن أن يكون القيد قيدا للمادة ولا يكون قيدا للهيئة كالطهارة فانها شرط للصلاة ولا تكون شرطا لوجوبها. ويمكن اجتماعهما كالوقت فانه قيد للهيئة وايضا يكون قيدا للمادة كما هو ظاهر.

فانقدح بما ذكرنا ان لحاظ احد القيدين يغاير لحاظ الآخر وكل منهما يحتاج الى مئونة وان شئت قلت : لا يكون الأمر دائرا بين الأقل والاكثر بل الأمر دائر بين المتباينين وعلى هذا الاساس ، نقول تارة تكون القرينة متصلة واخرى تكون منفصلة ، أما في الصورة الاولى فلا ينعقد الاطلاق لا للهيئة ولا للمادة لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية وأما في الصورة الثانية فبالعلم الاجمالي يتحقق التعارض بين الاطلاقين تعارضا بالعرض فلا بد من اعمال حيلة.

هذا تمام الكلام في مقتضى الاصل اللفظي وأما لو وصلت النوبة الى الأصل العملي فمقتضى البراءة عدم تحقق الوجوب اذ مع احتمال تقيد الوجوب يكون مقتضى اصالة البراءة عدمه مع الشك كما ان مقتضى البراءة عند دوران الأمر بين الاقل والاكثر البراءة عن الأكثر فلا تكون المادة مقيدة ، فالنتيجة انه مع عدم تحقق القيد في الخارج لا الزام من قبل المولى وأما على فرض تحقق القيد في الخارج فلا اشكال في توجه الالزام لكن يكتفى في مقام العمل والامتثال بالاقل

١٤٦

والله العالم بحقائق الامور.

فالمتحصل مما تقدم ان الوجوب قد يكون مطلقا وقد يكون مشروطا ، وصاحب الفصول قدس‌سره ، بعد ما قسم الوجوب الى القسمين المذكورين وبعد تقسيم الواجب الى الواجب المطلق والمشروط قسم الواجب المطلق الى منجز ومعلق ، والمراد بالاول ما يكون الواجب كالوجوب حاليا والثاني ما يكون الواجب استقباليا فان كان الواجب مقيدا بامر متأخر من الزمان أو الزماني يكون الواجب معلقا وان لم يكن كذلك يكون الواجب منجزا وانكر الشيخ الانصاري وقال انا لا نعقل الا قسمين هما الواجب المشروط والواجب المطلق.

ولا يخفى ان الشيخ قدس‌سره لا يرى جواز رجوع القيد الى الهيئة فلا يكون الوجوب مقيدا عنده والقيد دائما يرجع الى المادة ففي الحقيقة هو منكر للوجوب المشروط فالشيخ يرى ان الوجوب دائما حالي وأما الواجب فربما يكون حاليا وربما يكون استقباليا وان شئت قلت : الشيخ يسلم ما ادعاه صاحب الفصول من كون الواجب قد يكون استقباليا غاية الأمر صاحب الفصول يسميه معلقا والشيخ يسميه مشروطا.

وقال سيدنا الاستاد : ان ما افاده صاحب الفصول يرجع في الحقيقة الى الوجوب المشروط بالشرط المتأخر غاية الأمر ربما يكون الواجب حاليا واخرى يكون استقباليا ، وبعبارة واضحة : الوجوب المشروط ربما يكون مشروطا بالشرط المتقدم واخرى بالشرط المقارن وثالثة بالشرط المتأخر فالواجب المعلق عند صاحب الفصول من أقسام الواجب المطلق وعلى الجملة المشروط نفس الوجوب لا الواجب.

ويختلج بالبال أن يقال لا وجه لارجاع كلام الفصول الى الوجوب المشروط فان الشرط في الوجوب المشروط دخيل في تحقق الوجوب ولولاه لا يكون

١٤٧

مقتض للوجوب والحال انه يمكن في مقام الثبوت تمامية ملاك الوجوب وعدم ارتباطه بالزمان المتأخر وبعبارة واضحة : يمكن تصوير الوجوب الفعلي وعدم اناطته بالمتأخر وتمامية الملاك في العمل بحيث لو كان جر الزمان ممكنا لكان واجبا على المكلف واذا لم يبق الى ذلك الزمان يفوت كما لو مات قبل حلول ذلك الزمان.

وبكلمة اخرى : في الوجوب المشروط لو مات المكلف قبل ذلك الزمان المتأخر لم يفت منه شيء وأما في الواجب المعلق لو مات يفوت منه وانما لا يجب عليه لعدم قدرته على جر الزمان فلاحظ.

وذكرت لعدم امكان الواجب المعلق وجوه : الوجه الاول : ان الارادة لا يمكن ان تتعلق بأمر متأخر ولا فرق فيما ذكر بين الارادة التكوينية والارادة التشريعية فان الارادة التكوينية تستلزم التحريك والتحريك يستلزم الحركة فلا تنفك الحركة عن الارادة فكذلك الارادة التشريعية لا تنفك عن الايجاب وهو غير منفك عن حركة العبد خارجا فاذا لم تكن حركة العبد ممكنة لتأخر زمان الواجب لا يمكن تحقق الايجاب فالوجوب المعلق أمر غير ممكن.

واورد عليه في الكفاية بأن الارادة عبارة عن الشوق المؤكد المحرك للعضلات فان كان المراد فعليا تتحقق الحركة نحو المراد وان لم يكن فعليا وله مقدمات تتحقق الحركة نحو تلك القدمات وان لم يكن فعليا ولم تكن له مقدمات يتحقق الشوق ولا تتحقق الارادة مضافا الى أنه لا يمكن تعلق البعث نحو الأمر الحالي ، وبعبارة اخرى : البعث متعلق نحو الأمر المتأخر اذ البعث لايجاد الداعي في نفس العبد نحو الفعل فلا بد من أن يتصور الفعل وما يترتب على فعله وتركه من المثوبة والعقوبة فانبعاث العبد متأخر عن البعث ولا فرق في هذا التأخر بين الزمان الطويل والقصير.

١٤٨

اقول : الصحيح في الجواب ان يقال : ان الشوق الى شيء يمكن تحققه حتى بالنسبة الى الأمور غير الممكنة كالشوق الى الطيران وأما الارادة فهي لا تنفك عن التحريك في الأفعال الاختيارية ولكن لا تتعلق الارادة بفعل الغير ولا يعقل ان تتعلق وانما يتعلق بفعل الغير الاعتبار المولوي بأن يوجب فعلا على العبد ولا مانع من تعلق الايجاب بالأمر الاستقبالي كما لا مانع عن تعلقه بالأمر الحالي ولا فرق في هذه الجهة بين الاحكام التكليفية والوضعية ولذا نرى يمكن اعتبار الملكية لزيد ولكن المملوك استقبالي كما لو آجر داره من زيد وملك المنافع الآتية ويمكن أن تكون الملكية والمملوك كلاهما استقباليان ولكن اعتبار الملكية حالي.

الوجه الثاني : ان القول بالواجب المعلق يتوقف على الالتزام بالشرط المتأخر وحيث ان الشرط المتأخر غير معقول يكون الوجوب المعلق ايضا غير معقول.

وفيه : انه لا مانع عن الشرط المتأخر وتقدم ان تصوير الشرط المتأخر بمكان من الامكان بلا فرق فيه بين كونه شرطا للهيئة او كونه شرطا للمادة والالتزام باستحالة الشرط المتأخر يستلزم استحالة تعلق التكاليف بالمركبات كالصلاة والصيام ونحوهما فان تعلق الأمر بالصلاة يتوقف على بقاء المكلف بالمقدار الذي يأتي بها وهو كما ترى.

الوجه الثالث : ان التكليف مشروط بالقدرة ومع عدم قدرة المكلف على المأمور به كما هو المفروض قبل مجيء الزمان المتأخر لا يعقل تحقق التكليف.

وفيه : ان القدرة المعتبرة في توجه التكليف القدرة على الواجب في زمانه لا في زمان الوجوب ، ثم ان الالتزام بالواجب المعلق يترتب عليه ان وجوب المقدمات على المكلف قبل زمان الواجب على طبق القاعدة ، مثلا الحج زمانه الموسم فان قلنا بأن وجوب الحج قبل الموسم على نحو المعلق يجب على

١٤٩

المكلف القيام بالمقدمات كبقية الواجبات وايضا يجب على المكلف في ليلة شهر رمضان الاتيان بغسل الجنابة أو الحيض حيث ان الوجوب فعلي والواجب استقبالي فتجب مقدماته وايضا يدفع الاشكال عن وجوب التعلم قبل زمان الواجب بعين التقريب والملاك ولو لا الالتزام بالواجب المعلق يشكل الالتزام بالوجوب بتقريب ان وجوب المقدمة شرعيا كان ام عقليا يترشح عن وجوب ذي المقدمة وبعبارة اخرى : ان وجوب المقدمة معلول لوجوب ذي المقدمة ولا يمكن تقدم المعلول على علته. وأجاب سيدنا الاستاد عن البيان المذكور بجوابين : احدهما : انه يمكن للمولى أن يأمر بالمقدمة قبل زمان الوجوب بالوجوب النفسي لكن لا لأجل ملاك في نفسها بل لأجل الملاك في ذي المقدمة فلا يتعين طريق الوصول الى المقصود بالالتزام بالواجب المعلق.

ثانيهما : انه يكفي للزوم الاتيان بالمقدمة حكم العقل بتقريب ان العقل يلزم المكلف بالاتيان بالمقدمة كى يحفظ الملاك الملزم في ظرفه.

ويرد عليه : انه لا وجه للالتزام بحكم العقل بوجوب الاتيان فان وظيفة العبد الاطاعة والامتثال بحكم العقل وأما التحفظ على الملاك الملزم في ظرفه فباي دليل يمكن اثبات وجوبه على العبد بحكم العقل ، نعم ربما يكون روح الحكم محرزا ولا يمكن للمولى ابرازه كما لو كان المولى نائما ووقع ابنه في معرض الهلاك والعبد يقدر على انقاذه فالظاهر انه يلزم عليه وأما الزائد على هذا المقدار فلا دليل عليه ، فعلى هذا نقول : ان استفيد من الدليل كون الوجوب فعليا فلا اشكال في وجوب مقدمات الواجب ولو بحكم العقل وأما ان لم يكن كذلك بل المستفاد من الدليل كون الوجوب غير فعلي فان قام دليل على وجوب الاتيان بالمقدمة فهو ، وإلّا فللمناقشة في الوجوب مجال واسع.

اذا عرفت ما تقدم نقول : المتبع ظهور الدليل فلو دل الدليل على كون الوجوب فعليا

١٥٠

والواجب استقباليا يجب على العبد الاتيان بالمقدمات من باب وجوب المقدمة ولو عقلا عند وجوب ذيها وأما لو دل الدليل على كون الوجوب مشروطا كدليل وجوب الظهر عند الزوال فقبل تحقق الشرط لو قام دليل على وجوب المقدمة يؤخذ به وإلّا فلا مقتضي للاتيان بالمقدمة وان علم المكلف بفوت الملاك والواجب ، بفوت المقدمة فان وظيفة العبد الامتثال لأوامر المولى والانزجار عن نواهيه لا أزيد من هذا المقدار فالنتيجة : التفصيل بين الواجب المعلق والواجب المشروط بالالتزام بوجوب المقدمة في الاول وعدم وجوبها في الثاني.

وقال سيدنا الاستاد في هذا المقام : انه لا فرق بين المقامين وقال لو قلنا بعدم امكان الوجوب التعليقي أو قلنا بامكانه ولكن لم يساعده الدليل في مقام الاثبات وفرضنا أن الملاك الملزم يفوت في ظرفه مع عدم حفظ القدرة فلا يمكن الالتزام بوجوب المقدمة من ناحية وجوب ذيها فباي طريق وتقريب يمكن الاستدلال على الوجوب وأفاد بأنه قبل بيان المدعى نقدم امرين :

الأمر الأول : ان ما اشتهر بين القوم بأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا لا خطابا تام ، فلو اضطر الإنسان من قبل نفسه الى محرم لا يصح خطابه ولكن يصح عقابه في نظر العقل ، فلو ألقى نفسه من شاهق لا يخاطب بعد الالقاء لكون الخطاب لغوا ولكن لا ينافي أن يعاقب لأنه باختياره يصدر عنه القبيح والحرام ، وصفوة القول انه لا نرى مانعا عن العقاب في مفروض الكلام ، وأما الخطاب فهو لغو صرف فانقدح بما ذكر بطلان قول من يروم عدم المنافاة حتى من ناحية الخطاب ومن يروم المنافاة حتى من حيث العقاب فان كلا القولين فاسدان.

الأمر الثاني : انه لا فرق في حكم العقل بين مخالفة التكليف الفعلي وبين تفويت الملاك الملزم وبلا فرق بين أن يكون عدم ايجاب المولى من ناحية قصور فى نفس المولى كما لو كان نائما وغرق ولده ولا يمكنه أن يوجب الانقاذ على العبد وبين أن

١٥١

يكون سقوط التكليف من ناحية القصور في العبد بأن يعلم انه لو لم يأت بالمقدمة لا يمكنه الاتيان بالواجب في ظرفه ففي كلا الموردين يجب القيام بالأمر على العبد بحكم العقل وبعد ذلك الكلام يقع في مقامين :

المقام الأول : في غير التعلم من بقية المقدمات ، المقام الثاني في التعلم اما المقام الأول فيقع الكلام فيه تارة في مقام الثبوت واخرى في مقام الاثبات أما الكلام في مقام الثبوت فيتصور على اقسام :

القسم الأول : أن يكون الملاك تاما ولا تكون القدرة دخيلة فيه أي في الملاك وذلك كحفظ بيضة الاسلام أو حفظ نفس محترمة فان العبد لو علم بأنه لو لم يحفظ قدرته لما تمكن من اتيان الواجب في ظرفه يجب عليه بحكم العقل أن يحفظ قدرته كى لا يفوت الملاك الملزم ومن هذا القبيل انه لو لم يكن التكليف فعليا من باب عدم دخول الوقت فلو فرض العلم بأن الملاك تام في الوقت ويفوت بترك المقدمة يجب التحفظ على القدرة وان شئت قلت : عدم الاتيان بالمقدمة يرجع الى تعجيز المولى عن الايجاب.

ويرد عليه : ان الأمر الأول من الأمرين اللذين قدمهما تام وانما الأشكال في الأمر الثاني فان المولى لو أمكنه أن يلزم العبد بحفظ القدرة ولم يلزم لا وجه لالزام العقل بالحفظ وبعبارة اخرى اللازم على العبد بحكم العقل الامتثال لدفع الضرر المحتمل ومع عدم الزام من قبل المولى مع الامكان لا وجه للعقاب كى يلزم العقل بالحفظ لدفعه فان المفروض انه يمكن للمولى أن يأمر العبد بالحفظ ولم يأمره به ولا يقاس المقام بما كان المولى عاجزا عن الالزام كما لو كان نائما وكان ابنه في معرض الهلاك فان العقلاء لا يرون العبد معذورا عن القيام فبين المقامين الفارق موجود فالنتيجة ان العقل لا يحكم بلزوم حفظ القدرة كى لا تفوت المصلحة الملزمة في وقتها ، ولو سلمنا وقلنا ان العقل حاكم بلزوم التحفظ فهل يمكن استكشاف

١٥٢

الحكم الشرعي بوجوب التحفظ أو لا يمكن؟ الحق انه لا مجال للاستكشاف وذلك لأن حكم الشرع لغو فان المفروض ان العقل يحكم باستحقاق العقوبة ومع هذا الحكم العقلي لا تصل النوبة الى حكم الشرع وان شئت قلت : حكم العقل في المقام بلزوم الحفظ كحكمه بوجوب الاطاعة وقبح المعصية.

وصفوة القول : ان الحكم العقلي فى المقام واقع في سلسلة المعلول لا فى سلسلة علة الحكم بل لنا أن نقول حتى في سلسلة العلة لا يستكشف الحكم الشرعي فانه لا دليل على اثباته وبعبارة واضحة : تارة يدرك العقل الملاك التام بلا مزاحم والمولى لا يكون قادرا على الأمر أو النهي واخرى يمكنه ولا مانع له لكن باختياره لا يأمر ولا ينهى أما في الصورة الاولى فلا اشكال في الزام العقل بمقتضى حكم العقلاء وأما في الصورة الثانية ، فلا وجه لالزام العقل اذ المفروض ان الأمر ممكن للمولى ولا يأمر ، وبعبارة واضحة : الواجب على العبد بحكم العقل اطاعة المولى والاطاعة فرع الأمر فما دام لا أمر للمولى لا تصل النوبة الى مقام الاطاعة وعلى الجملة في استكشاف الحكم الشرعي من العقل ، نقول أولا كيف يمكن للعقل درك الملاك التام بلا تزاحم كى يكشف به حكم الشرع ومع فرض امكانه لا وجه لاستكشافه كما ذكرنا.

فانقدح بما ذكرنا : عدم تمامية ما أفاده في القسم الاول ، ثم قال : وأما القسم الثاني وهو ما تكون القدرة دخيلة في الملاك فهو على اقسام : الأول : أن تكون القدرة المطلقة شرطا في تحقق الملاك وحكم هذا القسم حكم القسم الأول بلا فرق الا من ناحية ان القدرة دخيلة في المقام ولا تكون دخيلة هناك الثاني : أن تكون القدرة بعد حصول شرط الوجوب دخيلة وفي هذا القسم لا يكون حفظ القدرة واجبا قبل حصول الشرط وأما بعد حصول الشرط فيجب.

الثالث : أن تكون القدرة حين زمان الواجب دخيلة في الملاك وفي هذا القسم

١٥٣

لا يجب حفظ القدرة حتى بعد حصول الشرط بل اذ احضر زمان الواجب وكان قادرا يجب عليه القيام بالعمل كما هو ظاهر ومما ذكرنا ظهر ان حكم العقل يختص بالأخيرين وبكلمة واضحة : لا حكم للعقل الا مع وجود الأمر والالزام وإلّا فلا ، هذا تمام الكلام في المقام الاول.

وأما المقام الثاني : فقد افاد سيدنا الاستاد تفصيلا فمن أراد الوقوف على ما أفاده فليراجع كلامه والظاهر انه لا فرق بين التعلم وبقية المقدمات فيما هو المهم والكلام فيه هو الكلام في غيره نعم يستفاد من بعض النصوص ان الحكم الالهي لو فات بواسطة جهالة العبد يخاصمه الله يوم القيامة لاحظ ما رواه مسعدة بن زياد قال : سمعت جعفر بن محمد عليه‌السلام وقد سئل عن قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فقال : ان الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالما فان قال : نعم قال : أفلا عملت بما علمت وان قال : كنت جاهلا قال له : أفلا تعلمت حتى تعمل فيخصمه وذلك الحجة البالغة لله عزوجل في خلقه (١).

ولكن الظاهر انه لا ترتبط هذه الطائفة من النصوص بالمقام فان المستفاد من النصوص المذكورة ان فوت الواجب اذا استند الى جهالة العبد يؤاخذ بها يوم القيامة ولا يستفاد من هذه الروايات وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان الواجب.

ومن تلك التقسيمات تقسيم الواجب الى النفسي والغيري : فان الواجب اذا كان وجوبه لأجل نفسه يكون واجبا نفسيا وان كان وجوبه لأجل الوصول الى واجب آخر يكون واجبا غيريا ، وليعلم انه اذا قلنا بأن المقدمة واجبة شرعا بالملازمة تجب جميع المقدمات بالوجوب الشرعي ويكون وجوبها غيريا كما هو ظاهر وأما ان لم نقل بوجوبها شرعا لعدم المقتضي فالظاهر انه لا مصداق للواجب الغيري وأما تعلق الأمر بالمقدمة في بعض الأحيان كقوله تعالى «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا

__________________

(١) جامع الاحاديث ، ج ١ ص ٩٤ ، حديث : ٢٥

١٥٤

وُجُوهَكُمْ» الآية (١) فيكون الأمر ارشادا الى الشرطية فلا موضوع لهذا البحث وان شئت قلت : الواجب الغيري لا مصداق له ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا يمكن تعلق الوجوب الغيري بفعل فلو دار أمر واجب بين كونه نفسيا او غيريا يحمل على النفسي لأن الوجوب الغيري معلق على وجوب الواجب النفسي ومقتضى الأصل اللفظي عدم كونه معلقا ومشروطا هذا مقتضى الأصل اللفظى وأما لو وصلت النوبة الى الأصل العملي ففي المقام تتصور صور :

الصورة الاولى : ما اذا علم المكلف بوجوب عمل عليه وتردد أمره بين كون وجوبه نفسيا أو غيريا ولكن يعلم بأنه اذا كان غيريا لا يكون ذو المقدمة واجبا عليه فلا مانع من اجراء البراءة عن الوجوب النفسي فان مرجع الشك المذكور الى الشك في الوجوب النفسي للفعل المذكور ومقتضاه البراءة.

الصورة الثانية : أن يعلم المكلف بوجوب شيء عليه تفصيلا بالفعل ولكن لا يعلم ان وجوبه غيري أو نفسي ، كما لو علم بكون الوضوء واجبا عليه ولكن لا يعلم بأن الصلاة مع الوضوء واجبة عليه أم لا ففي مثله لا اشكال في عدم جريان اصالة البراءة عن وجوب الوضوء وذلك لا للعلم بكون الوضوء واجبا على كل تقدير ـ كما في عبارة سيدنا الاستاد ـ بل للعلم بأن ترك الوضوء يوجب العقاب اذ تركه ترك للواجب النفسي قطعا غاية الأمر ان الواجب اذا كان نفس الوضوء ، فالوضوء مصداق لذلك الواجب وان كان الواجب الصلاة مع الوضوء فالواجب الصلاة ، فعلى كلا التقديرين يترك الواجب فلا مجال لجريان الاصل فيه وأما جريان الأصل في الصلاة فالظاهر انه لا مانع منه فان العلم الاجمالي انما يكون منجزا اذا تعارض الاصول الجارية في الاطراف وأما مع عدم التعارض كما في المقام فمقتضى الأصل عدم وجوبها والمفروض عدم التعارض فيجري الأصل في بعض

__________________

(١) المائدة / ٤

١٥٥

الاطراف دون الآخر ، ولتوضيح المدعى نقول : تارة يكون الأمر دائرا بين الاقل والأكثر غير الارتباطيين كما لو علم بكونه مديونا لزيد ولا يدري مقدار دينه فلا اشكال في الانحلال وهذا انحلال حقيقي اذ لا يرتبط حكم الاقل بالأكثر واخرى يعلم اجمالا بوجوب أحد الأمرين اي الاقل والأكثر الارتباطيين كما لو علم بأن الصلاة لها عشرة أجزاء قطعا ويشك في الجزء الحادي عشر ففي مثله لا يعقل الانحلال الحقيقي اذ الانحلال الحقيقي ينافي الارتباطية.

وان شئت قلت : العلم الاجمالي متعلق بالماهية المرددة بين الاطلاق والتقييد ولا يعقل فيه الانحلال اذ قوامه بالترديد المذكور فتحقق الانحلال فيه يستلزم الخلف.

وأما في المقام فأفاد سيدنا الاستاد بأن الوجه في عدم التنجيز ان المكلف يعلم بوجوب الوضوء عليه غاية الأمر لا يدري انه واجب لنفسه أو لغيره ففرق بين المقامين بتقريب ان الاقل هناك لا يعلم بكونه واجبا تفصيلا غاية الأمر حيث ان الأصل لا يجري فيه لا مانع من جريان الأصل في الأكثر وأما في المقام فيعلم المكلف بكون الاقل واجبا بالتفصيل ويشك في وجوب الصلاة فيجري الأصل ففي كلا المقامين يجري الأصل في الأكثر لكن لا بملاك واحد بل بملاكين.

ويرد عليه : ان المقدمة غير واجبة بالوجوب الشرعي وعلى تقدير الالتزام بالوجوب الشرعي لا فرق بين المقامين لأن الاقل هناك ايضا واجب بالوجوب الشرعي لوحدة الملاك مضافا الى أن ترك الواجب المقدمي لا يوجب العقاب بل الميزان في العقاب ترك الواجب النفسي ، فالحق أن يقال انه لا فرق بين المقامين فان الاقل تركه يوجب العقاب بلا اشكال ولا كلام في كلا المقامين فعدم جريان البراءة من هذه الناحية ، وصفوة القول ان الأمر دائر بين كون الوجوب متعلقا بالوضوء نفسا وبين تعلقه بالصلاة المقيدة بالوضوء ، فالوضوء الاقل لا بشرط والأكثر الصلاة مع الوضوء وهناك الاقل عشرة أجزاء من الصلاة مطلق والأكثر المركب منها والجزء الحادى عشر ، فلا فرق بين المقامين والحق في كلا المقامين

١٥٦

عدم جريان البراءة الشرعية وجريان البراءة العقلية ، أما وجه عدم جريان البراءة الشرعية فلعدم انحلال العلم الاجمالي الى العلم التفصيلي والشك البدوي.

وأما جريان البراءة العقلية فلتمامية البيان بالنسبة الى الاقل وعدم تماميته بالنسبة الى الأكثر ، وعلى الجملة الالتزام بجريان البراءة الشرعية عن الاقل يتوقف على القول بالوجوب الضمني بأن يقال لا اشكال في أن الاقل واجب اما بالوجوب النفسي واما بالوجوب الضمني وأما الأكثر فوجوبه مشكوك فيه فلا تعارض بين الاصلين وهذا التقريب غير تام ، فان الوجوب الضمني لا يتصور بل الوجوب متعلق بالمجموع من حيث المجموع وعلى هذا يقع التعارض بين الأصل الجاري في كل من الطرفين مع الأصل الجاري في الطرف الآخر ويتساقطان ، نعم لا مانع من جريان البراءة العقلية وبكلمة واضحة : كل من الطرفين قابل في حد نفسه لجريان البراءة الشرعية فيه فيتحقق التعارض ويتساقطان ، وأما البراءة العقلية فلا تجري بالنسبة الى الاقل لتمامية البيان واما بالنسبة الى الأكثر فتجري لعدم تمامية البيان في الأكثر وعلى الجملة لا اشكال في تمامية البيان في طرف الاقل وأما بالنسبة الى الأكثر فالبيان بالنسبة الى العقاب غير تام فيؤخذ بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الصورة الثالثة : أن يعلم المكلف بوجوب امرين كالصلاة والوضوء مثلا ويشك في اشتراط الصلاة وعدمه وأما من بقية الجهات فلا فرق بين الواجبين اي من بقية الجهات متساويان اطلاقا واشتراطا ، فعن الميرزا قدس‌سره : ان البراءة تجري من تقيد الصلاة بالوضوء ، وأورد عليه سيدنا الاستاد : بأن البراءة الجارية عن التقييد تعارضها البراءة عن وجوب الوضوء بالوجوب النفسي فلا مناص عن الاحتياط بمقتضى تنجيز العلم الاجمالي والظاهر ان ما أفاده الميرزا تام وذلك لأنه لا اشكال في لزوم الاتيان بالوضوء فلا يكون العقاب على تركه عقابا بلا بيان فلا تجري فيه البراءة وأما بالنسبة الى تقيد الصلاة بالوضوء فلا مانع من جريان

١٥٧

البراءة.

الصورة الرابعة : ما اذا علم المكلف بوجوب كل من الفعلين وشك في اشتراط احدهما بالآخر مع عدم العلم بالتماثل بينهما في الاطلاق والاشتراط كما لو علم بوجوب الصلاة في الوقت وشك في اشتراط الوضوء بالوقت من حيث الشك في أن وجوبه نفسي أو غيري فعلى الاول غير مشروط وعلى الثاني مشروط به لكونه تابعا لوجوب ذي المقدمة.

فنقول : لو شك المكلف في أن الوضوء امر به قبل الوقت بالوجوب النفسي او امر به بالوجوب الغيري بعد زمان الواجب وهي الصلاة ففي هذه الصورة لا مجرى للبراءة اذ يعلم اجمالا بأنه اما يجب عليه الوضوء قبل الوقت أو تجب الصلاة مع الوضوء بعد الوقت ومقتضى تنجز العلم الاجمالي أن يحتاط بأن يأتي بالوضوء قبل الوقت ويأتي بالصلاة مع الوضوء بعد الوقت فان العلم الاجمالي في التدريجيات منجز ايضا على ما هو المقرر عندهم.

ثم انه لا اشكال فى ان ترك الواجب النفسي يوجب العقاب وأما الواجب الغيرى فلا عقاب عليه الا من حيث ترك الواجب النفسي كما انه لا اشكال في ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي ووقع الكلام بين القوم في موردين :

المورد الأول : في أن الثواب للمطيع من باب التفضل أو من باب الاستحقاق والحق ان اعطاء الثواب للمطيع تفضل من الله وليس للعبد على الله حق بحيث يلزم الظلم لو لم يتفضل عليه ثم ان الاتيان بالواجب الغيري اذا كان بقصد الانقياد والامتثال والاطاعة لأمر المولى فلا اشكال في قابليته لأن يتفضل عليه من قبل المولى وهذا ظاهر واضح.

المورد الثاني : في أن الاتيان بالواجب الغيري هل يقتضي استحقاق الثواب كالاتيان بالواجب النفسي أم لا؟ أفاد في الكفاية بأن الاتيان بالمقدمات بقصد التوسل

١٥٨

بها الى الواجب يوجب ويقتضي أن يكون الثواب أكثر بمقتضى ما ورد في بعض الأخبار «أن افضل الاعمال أحمزها» (١) وأما المقدمة بما هي فلا توجب الثواب فان كل عمل له ثواب واحد وعقاب كذلك ولا يتعدد الثواب بلحاظ المقدمة هذا ما افاده في الكفاية.

والحق ان يقال : ان الاتيان بالمقدمة بقصد الانقياد والاطاعة للمولى والتوسل بها الى ذيها يقتضي التفضل بحكم العقل ولذا لو أتى المكلف بالمقدمة بهذا العنوان ولم يقدر على الاتيان بذيها يستحق المثوبة فلا تشترط المثوبة باتيان العمل ، وأما الحديث المشار اليه في كلامه فلا اعتبار بسنده مضافا الى النقاش في مضمونه فلاحظ.

ثم : انه قد وقع الكلام بين القوم في الطهارات الثلاث من وجهين :

احدهما : انه كيف يثاب عليها مع انها واجبات غيرية وهذا الاشكال مدفوع بما تقدم حيث قلنا ان الواجب الغيرى اذا أتى به بداعي التقرب يكون الآتي به مستحقا للثواب بحكم العقل كالآتي بالواجب النفسي بلا فرق.

ثانيهما : انها واجبات غيرية ومع ذلك لا يسقط الأمر بها الا مع الاتيان بها بقصد القربة فوقع الاشكال في أن ما هو المقتضي لقربيتها والحال ان الأمر الغيري لا يكون قربيا مضافا الى أن الامر الغيري انما يدعو الى ما يكون مقدمة والمفروض انها بما انها عبادة تكون مقدمة اضف الى جميع ذلك انه قد ثبت في محله انه لا أمر من قبل المولى بالنسبة الى المقدمة بل لا بد من الاتيان بها بحكم العقل.

وأجاب عن الاشكال المذكور صاحب الكفاية بأن المصحح لعبادية الطهارات الثلاث الأمر الاستحبابي المتعلق بها نفسا وبعبارة اخرى الطهارات الثلاث مستحبات تعبدية في حد نفسها مع قطع النظر عن كونها مقدمة لواجب وأورد عليه الميرزا

__________________

(١) بحار الانوار ، ج ٧٠ ص ٢٣٧

١٥٩

النائينى بوجوه :

الوجه الاول : انه انما يتم هذا الجواب على تقدير صحته بالنسبة الى الوضوء والغسل حيث نرى كونهما محبوبا نفسيا وأما بالنسبة الى التيمم فلا فانه لا يكون مطلوبا نفسيا. ويرد عليه : انه يستفاد من جملة من النصوص انه احد الطهورين فيترتب عليه ما يترتب على الوضوء والغسل بلا فرق :

منها : ما رواه حماد بن عثمان قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل لا يجد الماء ، أيتيمم لكل صلاة؟ فقال : لا هو بمنزلة الماء (١).

الوجه الثاني : ان الطهارات الثلاث بعد تعلق الأمر الغيري بها متصفة بالوجوب فلا يمكن بقائها على الاستحباب بل لا بد من اندكاك احد الحكمين في الآخر فالنتيجة كونها واجبة والمفروض ان الوجوب غيري فكيف يمكن كونها واجبا تعبديا والحال ان الوجوب الغيري لا يقتضي القربية.

وفيه : ان المقام نظير تعلق النذر بالفعل المستحب فانه لا اشكال في وجوبه القربي بعد تعلق النذر اذ المفروض تعلق الوجوب بالفعل العبادي فالالزام من ناحية النذر والقربية من ناحيته الأمر الاستحبابي القربي ولا محذور فيه مضافا الى أن الامر الغيري ان تعلق بالفعل مقيدا بقصد الأمر يكون المتعلق لاحد الامرين غير متعلق الآخر بل نقول لا مجال لهذا الاشكال مطلقا اذ المفروض ان الامر الغيري متعلق بما يكون عبادة ففي المرتبة السابقة قد فرض الاستحباب والامر الغيري يتعلق بما يكون مستحبا والمستحب بما هو مستحب يصير واجبا اضف الى ذلك انه قد حقق في محله ان المقدمة لا تكون واجبة شرعا بل وجوبها عقلي.

الوجه الثالث : انه كثيرا ما يتفق ان المكلف غافل عن الامر النفسي ومع

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٢٠ ، من أبواب التيمم الحديث : ٣ ولاحظ الوسائل ، الباب ٢٣ من ابواب التيمم

١٦٠