آراؤنا في أصول الفقه - ج ١

السيّد تقي الطباطبائي القمّي

آراؤنا في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد تقي الطباطبائي القمّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات المحلّاتي ( المفيد )
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

قلت : الاطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بين القيود فيمكن أن يكون التقييد محالا ، وأما الاطلاق فلا يكون كذلك ، مثلا لو تعلق غرض المولى باكرام العالم بما هو عالم لا يمكن تقييد الموضوع بخصوص العالم الفاسق ، وأما لو علق الحكم على اكرام مطلق العالم بحيث يدخل الفاسق كالعادل تحت الاطلاق فلا مانع منه هذا ولكن الظاهر ان أخذ قصد الأمر في المتعلق ولو بنحو الاطلاق ورفض القيود لا يمكن وذلك لأن الأمر لو تعلق بالمقيد لا تكون ذات الصلاة مأمورا بها ، فلا مجال لقصد أمرها ، فأخذ قصد الأمر في المتعلق منحصر في تعدد الأمر كما سبق. وربما يقال كما عن الميرزا النائيني قدس‌سره انه لا يمكن أخذ الداعي القربي في متعلق الأمر وذلك ، لأن الداعي علة للارادة ومقدم عليها بالرتبة كما أن الارادة علة للفعل ومقدمة عليه بالرتبة ، فلو تعلقت الارادة بالداعي يلزم تقدم الشيء على نفسه بمرتبتين وهو محال ، هذا بالنسبة الى الداعي والارادة الخارجية وقس عليها الارادة التشريعية المولوية فانها تابعة للارادة الخارجية فلا يمكن أخذ الداعي القربي في المتعلق.

ويرد عليه : اولا النقض بالأمر الثاني الذي هو قائل بالجواز فيه والحال ان حكم العقل غير قابل للتخصيص.

وثانيا : ان هذا التقريب انما يتم فيما لو تعلق الارادة الناشية عن الداعي بذلك الداعي ، وأما لو لم يكن كذلك بان تتعلق ارادة بالداعي وارادة أخرى ناشية من الداعي متعلقة بالفعل فلا يلزم تقدم الشيء على نفسه ، وبتقريب اوضح ان الارادة المتأخرة عن الداعي غير الارادة المتقدمة عليه فان المولى يأمر العبد أن يريد الداعي القربى والعبد في مقام الامتثال يقصد الداعي القربي بالارادة فيريد الصلاة فيصلي ، ولعمري هذا واضح ظاهر.

فتحصل مما تقدم ان المولى لو كان في مقام البيان ولم يبين لزوم قصد القربة

١٠١

في مقام الامتثال ولو بالأمر الثاني أو الأخبار نحكم بكون الواجب توصليا ولو تنزلنا عن جميع ما تقدم نقول يمكن للمولى الوصول الى مقصوده بأن يقيد المأمور به بعدم الاتيان به بغير الدواعي القربية.

ان قلت : يلزم تحقق الامتثال فيما يؤتى بلا داع والعبادة مقومة بالقربة.

قلت : اولا لا يمكن تحقق الفعل الارادي بلا داع وهذا مجرد فرض وخيال.

وثانيا : يمكن تقييده ايضا بعدم الاتيان بلا داع فيرتفع الاشكال المذكور.

وربما يقال : ان مقتضي القاعدة الأولية الاتيان بالفعل بالداعي القربي وبعبارة اخرى : الاصل الاولي يقتضي التعبدية إلّا أن يقوم دليل على خلافه.

وذكرت في هذا المقام وجوه : الوجه الاول : ان الغرض من الأمر والبعث تحريك العبد نحو الفعل وحيث يحتمل ان الغرض لا يحصل إلّا فيما يؤتى بالعمل بالداعي القربي يجب قصد القربة كى يحصل غرض المولى.

ويرد عليه : اولا ان وظيفة العبد الاتيان بما امر به وليس اللازم عليه تحصيل غرض المولى ، فالميزان الاتيان بالمأمور به لا أزيد عن ذلك وثانيا : انه يلزم لو قصد القربة بأن أتى بالعمل لأجل كونه محبوبا للمولى لا يحصل الامتثال اذ يمكن أن يكون غرض المولى قائما بخصوص قصد الأمر.

وثالثا : ان غرض المولى من الأمر والتحريك اتمام الحجة على العبد وسد باب العدم من ناحية المولى ، وهذا يحصل بالأمر والتحريك والتشريع ، ولذا نرى ان غرض المولى حاصل في الأوامر التى يوجهها الى الكفار والعصاة ، فالغرض من الأمر اتمام الحجة وسد باب العدم من ناحيته وقطع عذر العبد.

لكن لا اشكال في ان غرض المولى من الأمر حصول الفعل المأمور به في الخارج.

وبعبارة اخرى : الداعي للأمر تحقق الفعل في الخارج فما دام لم يحصل

١٠٢

ذلك الداعي لا يسقط الأمر.

الوجه الثاني : قوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا)(١) بتقريب : ان المستفاد من الآية الشريفة ان الغاية من كل أمر عبادة الله فالاصل الأولي بمقتضى الآية الشريفة كون الواجب بل كل امر تعبديا.

والجواب : ان الضمير في الآية المباركة يرجع الى اهل الكتاب والمشركين والمقصود من الآية انهم مأمورون بعبادة الله وأن لا يشركوا به شيئا لا انهم لم يأمروا الا بالعبادة ، فالآية الشريفة اجنبية عن المقام بالكلية.

مضافا : الى أنه يلزم على التقريب المذكور في الاستدلال التخصيص الأكثر المستهجن اذ لا اشكال في أن اكثر الواجبات الالهية توصلية ، كرد السلام وصلة الرحم والإنفاق على واجب النفقة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر الى غيرها من الواجبات فتأمل.

الوجه الثالث : ما ورد في جملة من النصوص ، من أن العمل بالنية والاعمال بالنيات (٢) بتقريب : ان المستفاد من هذه الروايات ان الأثر المترتب على العمل مربوط بالنية ، فان العامل ان نوى في عمله الدار الآخرة والقرب من ساحة قدس الرب يترتب عليه ذلك الأثر ، وان نوى في عمله الدار الدنيا تكون نتيجة عمله نتيجة دنيوية ولا ترتبط النصوص المشار اليها بالمقام ، فالمتحصل عن جميع ما تقدم انه ليس في المقام ما يدل على التعبدية بل كما قلنا مقتضى الأصل اللفظي كون الواجب توصليا عند الشك في التوصلية والتعبدية هذا تمام الكلام في المقام الأول.

وأما الكلام في المقام الثاني وهو مقتضى الأصل العملي ، فنقول : قال في

__________________

(١) البينة / ٥

(٢) الوسائل ، الباب ٥ ، من ابواب مقدمة العبادات.

١٠٣

الكفاية لا مجال لجريان البراءة في المقام ، والمرجع اصالة الاشتغال وان فرض ، ان المرجع اصل البراءة فيما دار الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

والوجه فيه : ان الشك في الخروج عن العهدة اذ الشك في حصول الغرض فالوجوب المتعلق بالفعل قطعي والخروج عن التكليف مشكوك فيه ، والمرجع فيه أصل الاشتغال.

نعم لو كان المشكوك فيه الأمور التي يغفل عنها العامة يلزم على المولى التنبيه بالأخبار وأما مع عدم الأخبار بدخلها في الغرض فلا يلزم الاتيان بها وبعبارة اخرى : البراءة انما تجري فيما يكون الوضع فيه قابلا وأما فيما لا يمكن الوضع فلا مجال للرفع بالبراءة.

ان قلت : الجزئية والشرطية من الأمور الواقعية ولا تنالهما يد الجعل فكيف تجري البراءة في رفعهما قلت : الجزئية والشرطية تنزعان من الأمر بالكل والمشروط والأمر بالكل أمر جائز فلا يقاس المقام بذلك الباب.

ويرد عليه : اولا ان المكلف غير ملزم بتحصيل غرض المولى بل الواجب عليه الاتيان بما وجب عليه من قبل المولى ، وعليه نقول ، لو التزمنا بجواز أخذ قصد الأمر في المتعلق يكون المقام كبقية موارد الشك والدوران بين الاقل والأكثر الارتباطيين ولا مانع عن الأخذ بالبراءة ، وان قلنا بعدم امكان اخذ قصد الأمر في المتعلق لا بالأمر الأول ولا بالأمر الثاني كما عليه صاحب الكفاية نقول : نسلم عدم جريان البراءة عن الأكثر اذ يختص جريانها بمورد يمكن الوضع وأما لو لم يكن الوضع ممكنا فلا مجال للرفع لكن لا مانع عن جريان البراءة العقلية بالنسبة الى الأكثر ، بتقريب ان البيان تام بالنسبة الى الاقل ، وبعبارة أخرى نقطع انه لو لم نأت بالاقل نعاقب وأما بالنسبة الى الاكثر فلا يتم البيان فالعقاب على تركه عقاب بلا بيان وهو قبيح ، بمقتضى قاعدة قبح عقاب من لا يتم له البيان ، ولا يخفى انه لا مجال للبراءة الشرعية حتى على القول بجواز اخذ قصد الأمر في المتعلق بالنسبة الى من ينكر الوجوب

١٠٤

الضمني كما اخترنا هذا المسلك ، وقلنا انه لا دليل على الوجوب الضمني اذ على هذا المسلك يكون الأمر دائرا بين المتباينين ولا مجال للقول بأن الاقل واجب على كل حال فان الوجوب لو كان متعلقا بالأكثر لا يكون الاقل واجبا فلا مجال للبراءة الشرعية ، وأما البراءة العقلية بالنسبة الى الأكثر فلها مجال واسع هذا اولا.

ويرد عليه ثانيا : انه لو التزم بالاشتغال لأجل الشك في حصول الغرض يلزم عليه الالتزام بالاشتغال في مطلق موارد الشك بين الاقل والأكثر الارتباطيين لأن البراءة الشرعية وان كانت تجري بالنسبة الى الأكثر ولا تجري بالنسبة الى الاقل للعلم بوجوب الاقل على كل تقدير على القول بالوجوب الضمني لكن لا يترتب على البراءة عن الأكثر حصول الغرض بالأقل الاعلى القول بالمثبت نعم لو قامت امارة على عدم وجوب الأكثر يثبت لازمه وهو حصول الغرض بالأقل وأما الأصل العملى فلا يثبت لازمه كما هو المقرر في محله فيجب عليه الالتزام بالاشتغال على نحو العموم.

وثالثا : يرد عليه انه سلمنا لزوم الخروج عن عهدة الغرض وقلنا بوجوب تحصيله ، لكن نقول : انما يجب ذلك لاحتمال العقاب والعقاب انما يجوز في صورة تمامية البيان وأما مع عدمه فلا يجوز وحيث ان البيان غير تام بالنسبة الى تعلق الغرض بالأكثر لا يكون العقاب جائزا.

فنقول تعلق الفرض بالاقل وعدم تحققه بالإخلال به قطعي ، وأما تعلق الغرض بالأكثر فغير معلوم فالعقاب عليه عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان فلا يجب بحكم العقل الاتيان به وبعبارة واضحة : يمكن للمولى أن يبين ولو بأن يخبر بأن غرضي قائم بالأكثر ، وان شئت قلت ان المولى اذا لم يكن قادرا على البيان كما لو كان نائما والقي ولده في البحر يجب على العبد انقاذه لأن روح الحكم موجود واما مع امكان البيان ولو على نحو الأخبار فلو لم يخبر ولم يبين لم يكن العقاب جائزا.

١٠٥

فالمتحصل مما ذكرنا ان مقتضى الاطلاق والأصل اللفظي وايضا مقتضى الأصل العملي عند الدوران بين التعبدية والتوصلية كون الواجب توصليا والله العالم بحقائق الأشياء.

الجهة الخامسة : فيما دار الأمر بين كون الوجوب نفسيا أو غيريا :

اذا دار أمر واجب بين كونه نفسيا أو غيريا كما لو أمر المولى بالوضوء ولم يعلم انه شرط للصلاة أو واجب بالوجوب المستقل فمقتضى الأصل اللفظي انه واجب وجوبا نفسيا ، وذلك لأن الظاهر من الأمر والبعث المولوية ولا يناسب الشرطية وبعبارة اخرى : اذا كان شرطا يكون الأمر المتعلق به ارشاديا والأمر ظاهر في المولوية فيكون الوجوب نفسيا لا غيريا.

ويمكن اثبات المدعي بطريق آخر وهو اطلاق مادة الواجب الذي يحتمل كون الوضوء شرطا له ، بأن نقول : مقتضي اطلاق وجوب الصلاة وجوبها بلا قيد الوضوء ومع اطلاق مادة الواجب وعدم تقيدها بقيد كالوضوء مثلا يثبت ان الصلاة واجبة بالوجوب النفسي هذا بالنسبة الى ما يقتضيه الأصل اللفظي.

واما من حيث الأصل العملي ، فاذا شك في كون الوجوب نفسيا أو غيريا فمرجعه الى الشك في وجوبه وعدمه في نفسه وبعبارة اخرى مع فعلية الواجب الأخر الذي يحتمل كون المشكوك فيه قيدا ، لا اشكال في لزوم الاتيان به على كل تقدير كما هو ظاهر.

وأما مع عدم فعلية ذلك الواجب يكون مقتضى القاعدة عدم الوجوب ، فالبراءة شرعا وعقلا تقتضي عدم الوجوب.

وأما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير فائضا يقع البحث تارة في مقتضى الأصل اللفظي ، واخرى في مقتضى الأصل العملي فيقع البحث في مقامين :

أما المقام الأول : فنقول المسالك فى الوجوب التخييري مختلفة فربما يقال

١٠٦

ان الواجب ما يختاره المكلف من الفعلين أو الأفعال ، وربما يقال ان الوجوب التخييري وجوب كل واحد من الأطراف غاية الأمر يسقط الوجوب باتيان احد الامرين أو الأمور ومرجع هذا القول الى الالتزام بوجوب كل واحد من الاطراف في ظرف ترك الاطراف الأخر.

وربما يقال : ان الواجب التخييري هو الجامع بين الأمرين أو الأمور والظاهر ان مقتضى الأصل اللفظي هو الوجوب التعييني على جميع المسالك.

أما على المسلك الاول فحيث يشك في كون الاختيار دخيلا في وجوبه وعدمه فيكون مقتضى الاطلاق تحقق الوجوب ، وبعبارة اخرى يشك في ارتباط وجوب الفعل بالارادة والاختيار ومقتضى الاطلاق عدم تقيد الوجوب بالاختيار.

وأما على المسلك الثاني فائضا مقتضى الاطلاق كذلك لأن لازم الاطلاق وجوب الفعل الكذائي بلا فرق بين الاتيان بعمل آخر وعدمه.

وأما على المسلك الثالث فأيضا الأمر كذلك لأن مقتضى الاطلاق وعدم ذكر العدل لزوم الفعل الخاص وعدم البديل له فالنتيجة ان مقتضى الأصل اللفظي التعيين هذا بالنسبة الى الأصل اللفظي.

وأما المقام الثاني ، فالحق أن يقال ان مقتضاه البراءة على جميع التقادير.

أما على المسلك الأول فيشك في وجوب غير ما اختاره المكلف ومقتضى حديث الرفع عدم وجوبه وأما على المسلك الثاني فمرجع الشك الى الشك في وجوب الأخر مع الاتيان باحد الامرين ومقتضى البراءة عدمه وعلى المسك الثالث يشك في أن الواجب خصوص الحصة الخاصة أو الجامع ومقتضى البراءة عدم وجوب المقيد.

وأما لو دار الأمر بين كون الوجوب عينيا او كفائيا ، فمقتضى الأصل اللفظي كونه عينيا على جميع المسالك ايضا ، وربما يقال بأن الوجوب الكفائي عبارة

١٠٧

عن تعلق الوجوب الى الكل وسقوطه عن البعض باتيان البعض الآخر وربما يقال : انه عبارة عن كونه واجبا على بعض في فرض عدم الاتيان من الباقي ، وربما يقال بأن الواجب واجب على الجامع.

أما على المسلك الأول فحيث ان مقتضى الاطلاق عدم السقوط بعمل البعض فالوجوب عيني ، وأما على المسلك الثاني فمقتضى الاطلاق ثبوت الحكم ولو مع اتيان الآخر به ومقتضى الاطلاق على المسلك الثالث كون الفعل واجبا على المكلف بلا عدل فالوجوب عيني على جميع التقادير.

وأما مقتضى الأصل العملي ، فهي البراءة على جميع التقادير ، اذ يشك في تعلق الوجوب بالمكلف على تقدير الاتيان به من الآخر فيحكم بعدمه كما انه لو شك في الوجوب على تقدير تحققه من الغير ولو بعد ذلك تكون البراءة محكمة والنتيجة البراءة كما انه شك على المسلك الثالث في تعلق الوجوب بخصوص المكلف يكون مقتضى البراءة عدم تعلقه بخصوصه.

الجهة السادسة : في الأمر الواقع عقيب الحظر :

اعلم انه وقع الخلاف بين القائلين بكون الصيغة ظاهرة في الوجوب ، في أنه لو وقع الأمر عقيب الحظر أو توهمه هل تكون ظاهرة في الاباحة أو تكون ظاهرة في الوجوب أو تكون تابعة لما قبل النهي.

ولا يبعد أن يقال : انه لا أثر لموارد الاستعمال ، ومن ناحية اخرى ان اصالة الحقيقة لا تكون أصلا تعبديا كما زعم السيد بل أصل عقلائي ويجري فيما يشك في كون المراد المعنى الحقيقي أو المجازي.

اذا عرفت ذلك نقول : لا اشكال في اختلاف الظهور العرفي مع وجود القرينة على الخلاف أو وجود ما يصلح للقرينية ، فنقول : لو وقع الأمر عقيب الحظر

١٠٨

أو توهمه كما في قوله تعالى (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١) لا يكون ظاهرا في الوجوب ولا في الاباحة ولا في غيرهما ، نعم لا اشكال في عدم احتمال الحرمة بل لا يبعد أن يكون الكلام مجملا لو لا وجود قرينة معينة ، لكن لا اشكال في أنه لو كان متعلقه العبادة يتردد الأمر بين الوجوب والاستحباب اذ لا يعقل أن تكون العبادة مباحة أو مكروهة بالمعنى الاخص فعلى مسلك سيدنا الاستاد لا بد من الالتزام بالوجوب اذ على مسلكه يكون الوجوب مستفادا من حكم العقل ولا فرق في هذه الجهة بين الموارد.

نعم على ما سلكناه من كون الصيغة ظاهرة في الوجوب بلحاظ الاطلاق يكون الكلام مجملا لاحتفاف الكلام بما يكون مانعا عن الأخذ بالاطلاق وبعبارة اخرى لا تكون مقدمات الاطلاق تامة ، فعلى هذا لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب تجري البراءة عن الوجوب ، وأما لو دار الأمر بين الاحكام الأربعة من الوجوب والاستحباب والكراهة والاباحة فالظاهر انه لا مانع عن جريان البراءة عن الأحكام الاقتضائية بناء على عدم اختصاص البراءة بخصوص الحكم الالزامي.

الجهة السابعة : في أن الأمر بشيء هل يقتضي المرة أو التكرار أو لا يقتضي شيئا؟ الحق ان صيغة الأمر لا تدل الاعلى طلب أصل الطبيعة ولا تدل لا على المرة ولا على التكرار وذلك لأن المادة موضوعة للماهية بلا خصوصية وبلا لحاظ قيد فيها فلا اقتضاء في المادة للدلالة على المرة والتكرار.

وأما الهيئة فهي موضوعة لابراز الاعتبار النفساني ، فالنتيجة انه لا مقتضي لارادة أحد الأمرين لا فى المادة ولا في الهيئة بل لا بد من قيام دليل آخر على أحدهما ، وصفوة القول : انه لو لا الدليل الخارجي على لزوم التعدد في الأفراد العرضية والطولية لا يستفاد من الصيغة بمادتها وهيئتها الا نفس الطبيعة بلا تقيدها بقيد.

__________________

(١) المائدة / ٢

١٠٩

فالنتيجة : ان الامتثال في باب الأوامر يحصل بوجود الطبيعة في الخارج بلا قيد. نعم فرق بين الأفراد العرضية والطولية فان مقتضى الإطلاق جواز الامتثال في الأفراد العرضية ولو في ضمن المتعدد فيجوز امتثال أمر المولى باكرام العالم باكرام علماء متعددين في عرض واحد وأما بالنسبة الى الأفراد الطولية فلا مجال لهذا التقريب اذ المفروض تحقق الامتثال بالفرد الاول فلا موضوع للامتثال بعد الامتثال الاول.

نعم قد وقع الكلام في أنه يجوز تبديل الامتثال بالامتثال؟ والحق انه لا مجال للامتثال بعد تحققه بلا فرق بين بقاء الغرض وعدم بقائه ، لأن وظيفة العبد بحكم العقل خروجه عن التكليف والمفروض الاتيان بما تعلق به التكليف وبعد الاتيان بالواجب لا موضوع للامتثال ، وبعبارة اخرى : تحصيل غرض المولى ليس وظيفة للعبد وانما وظيفته الخروج عن عهدة التكليف ، فالنتيجة انه لو تمت مقدمات الاطلاق يحكم بكفاية الاتيان بما تعلق به الوجوب بلا قيد.

هذا بالنسبة الى الأصل اللفظي وأما الأصل العملي فهو ايضا يقتضي عدم وجوب الزائد ، فان البراءة تنفي القيود المحتملة كما هو المقرر هذا كله بالنسبة الى الأمر.

وأما النهى ، فالظاهر بحسب الفهم العرفي تعدده بحسب تعدد الموضوع فاذا قال المولى «يحرم الخمر» يفهم عرفا ان كل خمر يحرم شربه ويمكن تقريب المدعى بوجه آخر وهو انه اذا لم تقيد الطبيعة بخصوصية من الخصوصيات يلزم الاجتناب عن جميع أفرادها ، وبعبارة اخرى : المستفاد من النهي الاجتناب عن شرب الخمر مثلا ولا يصدق الاجتناب على الاطلاق إلّا بالاجتناب عن جميع الأفراد ويمكن الاستدلال على المدعى ايضا بوجه آخر ، وهو انه لا اشكال في أن العبد لا يرتكب جميع الأفراد المنهية ولا ريب انه تارك لجملة منها ، فلو كان المطلوب من النهي والغرض من التحريم ترك بعض الأفراد لكان الغرض حاصلا بلا التوسل

١١٠

بالنهي ، فيعلم ان الغرض والمقصد من النهي الزجر عن جميع الأفراد.

الجهة الثامنة : في أن صيغة الأمر هل تقتضي الفور أو التراخي أو لا تقتضي شيئا من الأمرين الحق أن يقال : ان الصيغة لا تقتضي الفور ولا التراخى فان صيغة الأمر مركبة من المادة والهيئة ، أما المادة فهي موضوعة للطبيعة بلا تقيدها بقيد من القيود كما سبق ، وأما الهيئة فتدل على أن المولى في مقام بيان ابراز اعتباره النفساني وهو اعتبار الفعل في ذمة المكلف فلا مقتضي لأحد الأمرين بل مقتضى الاطلاق اللفظي ان تمت مقدمات الحكمة عدم تقيد المطلوب بشيء من الأمرين فان مقتضى الاطلاق عدم تقيد الواجب بالفورية كما ان مقتضاه عدم دلالة الصيغة على وجوب التراخي ولا على جوازه ، كما ان مقتضى الأصل العملي البراءة عن القيد الزائد هذا بالنسبة الى ما هو المستفاد من الصيغة مادة وهيئة.

وربما يستفاد من الدليل الخارجي وجوب الفور والذي ذكروا في مقام الاستدلال آيتان ، الاولى قوله تعالى («فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(١) بتقريب ان الوصول الى الخيرات بالاستباق الى اسبابها فيجب الاستباق الى الواجبات ويمكن أن يراد من الخيرات الأفعال والأمور الخيرية في مقابل الأفعال التي لا تكون خيرا ، فعلى كلا التقديرين يكون الاستباق الى الواجبات واجبا وهذا هو المطلوب وتكون النتيجة ان الفور واجب ، فلو عصى في الزمان الاول يجب الفور في الزمان الثاني وهكذا اذ يصدق عنوان الخير على الواجب فيجب الاستباق اليه.

ويرد عليه : اولا ان الاستباق بمعنى المسابقة أي تجب المسابقة على المكلفين في الأمور الخيرية فتكون الآية اجنبية عن المقام فان الكلام في وجوب الفور والبدار لا في وجوب السبقة الى بقية المكلفين فلا ترتبط الآية بها نحن بصدده.

وثانيا : يلزم تخصيص الأكثر المستهجن اذ جميع الافعال المستحبة خارجة

__________________

(١) البقرة / ١٤٨ والمائدة / ٤٨

١١١

كما ان جميع الواجبات الموسعة خارجة ، كما أن جميع الواجبات المضيقة التي لها وقت معين خارجة فيبقى تحت الآية الواجب الذي يكون مطلوبا فورا ففورا كصلاة الآيات عند الزلزلة وعلى الجملة لا يترتب على الآية الشريفة المدعى لأنه لا اشكال في عدم وجوب المبادرة الى المستحبات كما لا يجب الفور في الواجبات الموسعة والمضيقة.

فالنتيجة : ان الآية لا تكون مرتبطة بالمقام بل الظاهر منها الارشاد الى الاستباق الى الخيرات بلحاظ أن في التأخير آفات وان شئت قلت المستفاد من الآية ان الأمور الواجبة أو المستحبة التي يتوجه التكليف بها الى الجميع يلزم الاستباق اليها كى لا تفوت فالنتيجة ان الآية الشريفة لا تصلح لاثبات المدعى.

الثانية : قوله تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(١) بتقريب ان المسارعة الى المغفرة من الرب الاتيان بالخيرات فتجب المسارعة الى الواجبات.

ويرد عليه : انه لا اشكال في عدم وجوب المسارعة الى المستحبات وايضا لا تجب المسارعة الى الواجبات الموسعة وايضا لا تجب بل لا يجوز المسارعة الى الواجب المضيق مضافا الى أنه لا يبعد أن تكون الآية الشريفة ناظرة الى وجوب التوبة كما عن بعض فلا ترتبط الآية بالمقام وقد ذكرنا في رسالة التوبة عدم وجوب التوبة مولويا بل لا يبعد أن يستفاد من الآية الارشاد الى المسارعة كى لا يفوت ذلك الخير.

الجهة التاسعة :

في الأجزاء ، ويقع الكلام في هذه الجهة من نواحي عديدة :

الناحية الأولى : في أن بحث الأجزاء عقلي أو لفظي؟

__________________

(١) آل عمران / ١٣٣

١١٢

أفاد سيدنا الاستاد في أول بحث الأجزاء انه لا صلة لهذا البحث بعالم الألفاظ بل بحث الأجزاء من الابحاث العقلية كبحث مقدمة الواجب وبحث الضد وامثالهما والسر فيه ان الحاكم بالأجزاء وعدمه هو العقل فيكون البحث عقليا والذي يختلج بالبال أن يقال لا بد من التفصيل فان الحاكم باجزاء كل مأمور به عن أمره هو العقل ولذا اشتهر فيما بين القوم ان انطباق المأمور به على المأتى به طبعي واجزائه عنه عقلي وأما اجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي وكذلك اجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الأمر الواقعي وعدمه فيمكن أن يكون بالدليل اللفظي كما انه يمكن أن يكون بالاجماع كما انه يمكن أن يكون بالعقل احيانا.

ولذا نرى ان الفقهاء يستدلون على الأجزاء في باب الصلاة عند فقدان الجزء أو الشرط غير الخمسة بدليل لا تعاد فعليه لا بد من التفصيل.

نعم لا اشكال في أن الاتيان بالمأمور به يكون مجزيا عن ذلك الأمر بحكم العقل.

الناحية الثانية :في أن المراد من وجه في عنوان المسألة حيث يقولون الاتيان بالمأمور به على وجهه هو النهج الذي يكون معتبرا أعم من أن يكون دليل الاعتبار الشرع أو العقل وان شئت قلت لا وجه لتخصيص الوجه بالمعتبر الشرعي.

الناحية الثالثة : ان الاقتضاء الوارد في العنوان بقولهم هل يقتضي الاتيان يراد به العلية والتأثير لا الدلالة والكشف ولذا ينسب الى الاتيان لا الى الصيغة ، وبعبارة اخرى الاتيان الخارجي بالمأمور به يكون علة لسقوط الأمر.

ان قلت : الأمر علة للاتيان فكيف يمكن أن يكون الاتيان علة لسقوط الأمر اذ مرجعه الى التناقض فانه كيف يمكن أن يكون المعلول علة لعدم علته.

قلت : اولا ان الأمر بوجوده الخارجي لا يكون علة للاتيان بل الأمر بوجوده

١١٣

العلمي يؤثر في الاتيان ولذا نرى في كثير من الموارد ان الأمر موجود ولا يترتب عليه الاتيان كما لو جهل المكلف به وربما يتحقق الاتيان ولا أمر في الخارج كما لو تخيل المكلف وجوده.

وثانيا : انه يمكن أن يقال ان الأمر بحدوثه يؤثر في الاتيان والاتيان يؤثر في عدمه بقاء فلا تناقض لاختلاف الزمان وثالثا : يمكن أن يقال ان الاتيان يوجب حصول الغرض ومع تحقق الغرض لا مجال لبقاء الأمر فان الأمر يحدث ويبقى بالملاك.

وان شئت قلت : ان امد الحكم بحصول الغرض منه وإلّا يلزم الخلف أو عدم امكان الامتثال فلاحظ ، بل يمكن أن يقال ان المولى لو أمر يفعل فاما يمكن امتثال امره واما لا يمكن أما مع عدم الامكان فلا مجال لحكم العقل بالامتثال اذ المفروض كونه محالا وأما مع امكان امتثاله فيحكم العقل بالاجزاء بعد تحقق الامتثال اذ مع تحقق الامتثال يكون بقاء الأمر خلفا ومحالا وعليه لو فرض عدم غرض في أمر المولى يحصل الامتثال ويتحقق الاجزاء بل الامتثال يحصل بانطباق المأمور به على المأتي به وان كان الغرض باقيا كما تقدم سابقا.

فالنتيجة : انه لا يرتبط هذا البحث بمقام الدلالة بل بحكم العقل هذا بالنسبة الى اجزاء كل مأمور به عن أمره ، وأما في بحث اجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهرى عن الواقعي فيمكن أن يكون البحث لفظيا اذ يبحث في ذلك البحث في أنه هل لنا دليل على الاجزاء أم لا ، مثلا دليل لا تعاد يدل على الاجزاء وقس عليه قاعدة الفراغ أو التجاوز على القول بها.

نعم لو دل دليل على كون العمل الاضطراري وافيا بتمام الغرض يكون الحاكم بالاجزاء هو العقل اذ بعد تحقق الغرض لا مجال لبقاء الأمر كما تقدم.

الناحية الرابعة : ان الاجزاء عبارة عن الكفاية وليس فيه اصطلاح

١١٤

خاص بل المراد منه ذلك المعني اللغوي ، غاية الامر الاختلاف في متعلقه فتارة يضاف بالنسبة الى الاعادة والقضاء واخرى بالنسبة الى القضاء فقط والمرجع دلالة الدليل وهذا ظاهر.

الناحية الخامسة : ان الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار واضح ، فان البحث في تلك المسألة في تشخيص المأمور به والبحث في هذه المسألة في الكفاية بعد تشخيص المأمور به فلا ارتباط بين المقامين كما انه لا علاقة بين هذا البحث ومسألة تبعية القضاء للاداء فان البحث هناك في أن الأمر بالاداء هل يدل على وجوب القضاء على نحو تعدد المطلوب أو لا؟ والبحث في هذه المسألة في أن الاتيان بالمأمور به هل يقتضي الأجزاء عن القضاء أم لا فالبحث هناك في الثبوت وفي المقام في السقوط.

اذا عرفت ما تقدم نقول : يقع البحث تارة في اجزاء الاتيان بكل مأمور به عن أمره ، وأخرى يقع البحث في أجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي فيقع الكلام في مقامين :

أما المقام الأول فنقول : لا اشكال في الأجزاء اذ المولى اذا أمر بشيء فلا بد من لحاظ غرض مترتب على ذلك الفعل وبعد الاتيان به اما يحصل ذلك الغرض واما لا يحصل ، أما على الأول فاما يسقط الأمر بسقوط الغرض واما لا يسقط أما على الأول فهو المطلوب ، وأما على الثاني فيلزم بقاء المعلول بلا علة وأما ان قلنا بأن الغرض لا يحصل فيلزم الخلف اذ فرض الاتيان بما يكون وافيا به ، بل يمكن أن يقال بالأجزاء بتقريب آخر وهو ان البعث نحو فعل عبارة عن جعل ذمة المكلف مشغولة بالعمل فاذا أتى المكلف بالعمل فاما تفرغ ذمته واما لا تفرغ.

أما على الاول فلا مجال لعدم الاجزاء وبعبارة اخرى المدعى سقوط الامر ، وأما على الثاني فلا يحصل الامتثال ولو باتيان العمل مرات عديدة اذ حكم الامثال

١١٥

واحد فلا بد من الالتزام بعدم امكان الامتثال فالقول بامكان الامتثال يلازم مع القول بالاجزاء بالاتيان بأول فرد من الطبيعة.

ثم انه بعد فرض تحقق الامتثال هل يكون مجال لتبديل الامتثال بالامتثال الآخر ام لا؟ الظاهر انه لا مجال له فان الامتثال يوجب سقوط الأمر ومع سقوطه لا مجال للامتثال ولا موضوع له ، فلو فرض قيام دليل على جوازه فلا بد من حمله على خلاف ظاهره بل لا بد من حمله على الاستحباب كما في الصلاة المعادة جماعة.

وأما المقام الثاني فتارة يقع الكلام في اجزاء العمل الاضطرارى عن الأمر الواقعي واخرى في اجزاء المأمور به بالأمر الظاهرى عن الامر الواقعي أما المقام الأول فنقول تتصور للعمل الاضطراري صور :

الصورة الاولى : أن يكون العمل الاضطراري وافيا بتمام الغرض ويكون الاضطرار كالسفر موضوعا للحكم ، وبعبارة اخرى كما ان المكلف ينقسم أي قسمين الى الحاضر والمسافر كذلك يكون المكلف منقسما الى المضطر والمختار ففي هذه الصورة يجوز البدار بلا اشكال لأن المفروض عدم الفرق بين عمل المضطر وعمل المختار.

ان قلت : عليه يجوز للمكلف تعجيز نفسه كما أنه يجوز له السفر. قلت : لا يلزم ذلك اذ يمكن أن يكون المستفاد من الدليل ان الموضوع العجز العارض بلا اختيار.

الصورة الثانية : أن يكون العمل الاضطراري مشتملا على مقدار من الملاك مع عدم امكان استيفاء الباقي لكن الباقي بمقدار لا يلزم تداركه وحكم هذه الصورة حكم الصورة الاولى.

الصورة الثالثة : هي الصورة بعينها ولكن المقدار الباقي يلزم تداركه ففي

١١٦

هذه الصورة لا اشكال في الاجزاء ولكن لا يجوز البدار اذ المفروض لزوم تدارك ذلك المقدار والمفروض عدم امكان تداركه بعد الاتيان بالعمل الاضطراري فلا يجوز البدار الا في صورة استيعاب العذر لتمام الوقت. نعم يجوز البدار عند احتمال بقاء العذر الى آخر الوقت بالاستصحاب الاستقبالي.

الصورة الرابعة : ما يكون الباقي بمقدار يلزم تداركه ويمكن تداركه وفي هذه الصورة هل يجوز البدار بأن يقال : المكلف مختار بين أن يصلي صلاته مع التيمم في اول الوقت ويصلي مع الوضوء في آخره وبين أن ينتظر ارتفاع العذر ويصلي مع الوضوء بعد ارتفاع العذر؟ اختار صاحب الكفاية هذا القول ، وأورد عليه سيدنا الاستاد بأنه غير معقول بدعوى : ان المقام داخل في التخيير بين الأقل والاكثر وهو محال.

ويرد عليه : انه لا نرى مانعا منه ، فان التخيير بين الاقل والاكثر انما يكون محالا لأجل انه اذا وجد الاقل يحصل الامتثال فلا مجال للاتيان بالباقي ، وأما في المقام فقد فرض بقاء الملاك الملزم ولا يحصل إلّا بالاتيان بالعمل الاختياري فلا مجال لقياس احد المقامين على الآخر وعليه لا مانع من أن المولى يأمر بالجامع بين الأمرين ويكون المكلف مختارا بينهما ، وبعبارة اخرى لا وجه لالزام خصوص الاختياري لأن المفروض حصول الغرض باحد نحوين فلا وجه لترجيح احدهما على الآخر.

نعم هذا ما يتصور في مقام الثبوت ولا دليل عليه في مقام الاثبات فان المستفاد من دليل التيمم ان المكلف اذا لم يجد الماء بين المبدأ والمنتهى يتيمم ، فاذا كان المكلف واجدا للماء ولو في آخر الوقت لا يشمله دليل التيمم فاذا بادر اليه بمقتضى الاستصحاب أو اعتقاد بقاء العذر وفي آخر الوقت انكشف الخلاف تجب عليه الصلاة مع الطهارة المائية اذ ينكشف عدم كونه مكلفا بذلك العمل

١١٧

الذي أتى به وبعبارة اخرى ينكشف كونه لغوا.

وصفوة القول : ان المستفاد من دليل الاضطرار عدم امكان العمل الاختياري ولا يصدق هذا العنوان الا مع استيعاب العذر لتمام الوقت فلا يجوز البدار كما أنه لا يكون مجزيا إلّا أن يقوم دليل خاص يدل على الاجزاء في مورده.

وبكلمة اخرى ان دليل الاضطرار لا يشمل إلّا صورة استيعاب العذر تمام الوقت فلا يجوز البدار ولا يجزى في صورة عدم الاستيعاب لانتفاء الموضوع وأما مع الاستيعاب فيصدق موضوع الاضطرار ويجب البدل الاضطراري فعلى هذا نقول لو بادر واتى بالعمل الاضطراري في صورة عدم الاستيعاب لا يكون مجزيا عن الواقع ، وان شئت قلت مقتضى الاصل اللفظي عدم الاجزاء بالنسبة الى الاعادة وأما مقتضى الاصل العملي فهي البراءة اذ لو وصلت النوبة الى الشك في الوجوب وعدمه يكون المرجع البراءة عنه هذا حكمه بالنسبة الى الاعادة.

وأما بالنسبة الى القضاء فيمكن أن يقال أن مقتضى الاصل اللفظي عدم وجوبه فان المولى لو كان في مقام البيان وبين وظيفة العاجز ولم يوجب القضاء يستفاد من الاطلاق المقامي عدم وجوب القضاء وبعبارة اخرى يفهم من قوله تعالى في آية التيمم ان وظيفة الفاقد التيمم فلا يجب عليه إلّا الاتيان بالعمل الاضطراري في مورد تحقق موضوعه ، هذا تمام الكلام بالنسبة الى الأصل اللفظي وأما الأصل العملي فائضا مقتضاه عدم وجوب القضاء اذ يشك في وجوبه والمرجع اصالة البراءة فلاحظ.

بقي شيء وهو ان ادلة الواجبات الاضطرارية كقوله تعالى في آية التيمم بحسب الفهم العرفي لا تشمل الاضطرار الاختياري بل تختص بالاضطرار غير الاختياري فلا يجوز للمكلف اراقة ماء غسله أو وضوئه فلو عجز نفسه لا يشمله دليل حكم الاضطرار.

نعم في باب الصلاة قد علم من الشرع انها لا تسقط بحال فلو أراق ماء الوضوء أو الغسل يجب عليه التيمم ومع ذلك يعاقب لتفويته المصلحة الملزمة وأما فيما لم

١١٨

يقم عليه دليل بالخصوص فلا يجب عليه العمل الاضطراري.

وأما المقام الثاني وهو اجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي ، فأفاد صاحب الكفاية تفصيلا وهذا لفظه «والتحقيق ان ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية ، بل واستصحابهما في وجه قوي ، ونحوها بالنسبة الى كل ما اشترط ، بالطهارة أو الحلية يجزي ، فان دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط ، وانه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة اليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل ، وهذا بخلاف ما كان منها بلسان انه ما هو الشرط واقعا ، كما هو لسان الامارات ، فلا يجزي ، فان دليل حجيته حيث كان بلسان انه واجد لما هو شرطه الواقعي ، فبارتفاع الجهل ينكشف انه لم يكن كذلك ، بل كان لشرطه فاقدا» هذا كلامه.

والنتيجة ، بحسب مرامه التفصيل ، فيما كان مفاده جعل الحكم فيكون مجزيا لتحقق الموضوع كالحلية والطهارة وأمثالهما ، وأما ما كان بلسان الكشف والامارية عما في الواقع فلا يكون مجزيا اذ المفروض انكشاف الخلاف.

ويرد عليه اولا : انه لا فرق بين الموردين إلّا بحسب اللفظ ، وان شئت قلت : الفرق بين المقامين بحسب مقام الاثبات وأما بحسب مقام الثبوت فلا فرق بينهما اذ لا معنى لجعل الحجية إلّا جعل الحكم ، وبكلمة اخرى كما انه لا مجال لجعل الجزئية والشرطية وأمثالهما كذلك لا مجال لجعل الحجية والامارية والمعذرية والمنجزية.

وبعبارة واضحة : الحجية والامارية كالشرطية وأمثالها امور انتزاعية عقلية ولا تنالها يد الجعل فلا مناص إلّا أن يجعل الشارع الحكم الشرعي وعليه لا وجه للتفصيل.

لكن الحق أن يفصل بين الحجية والمعذرية والمنجزية وبين الطريقية والكاشفية ،

١١٩

بأن يقال : ان القسم الأول غير قابل للجعل فان التعذير والتنجيز غير قابلين للجعل كما ان الحجية كذلك ، وأما الطريقية والكاشفية فلا مانع من جعلهما فانه بعد جعل المولى الطريقية للامارة تكون الامارة كالعلم في نظر العقل ففي صورة التطابق مع الواقع تكون منجزة للواقع وفي صورة المخالفة تكون معذرة كما ان العلم كذلك فلا تغفل.

وثانيا ما أفاده من الحكومة في القسم الأول وان مفاده التصرف في الموضوع فلا ينكشف الخلاف ، يرد فيه ان الحكومة على نحوين احدهما : الحكومة الواقعية ، ثانيهما الحكومة الظاهرية أما القسم الأول من الحكومة فهو يوجب التوسعة والتضييق واقعا ، فقوله عليه‌السلام لا ربا بين الوالد والولد ، يوجب تخصيص الحكم واختصاص الحرمة بغير الذي يقع بين الوالد والولد وقس عليه بقية موارد الحكومة الواقعية فانه لا مجال فيها لكشف الخلاف.

وأما القسم الثاني من الحكومة كالأحكام الظاهرية فلا تكون الحكومة مغيرة للواقع بل الواقع محفوظ ، وقد تعرضنا لوجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، في محله وقلنا انه لا تنافي بينهما وملخص الكلام ان الحكم الشرعي من الاعتبارات والاعتبار خفيف المئونة ولا تضاد بين الحكم الواقعي والظاهري بل التضاد اما يتحقق في مبدأ الحكمين واما يتحقق في ناحية المنتهى ، مثلا الفعل الواجب محبوب للمولى فلا يعقل أن لا يكون محبوبا لاستحالة اجتماع النقيضين فلا يمكن أن يكون فعل واحد واجبا ومباحا في زمان واحد ، وايضا يشكل في ناحية المنتهى اذ لو كان الفعل واجبا ومباحا أو واجبا وحراما لا يمكن للعبد الجمع بينهما فان مقتضى الوجوب الاتيان ومقتضى الحرمة عدم الاتيان ومقتضى الاباحة عدم الاقتضاء فالمحذور من ناحية المبدأ والمنتهى وأما مع قطع النظر عن المحذورين فلا يكون محذور بين الحكمين والمحذور ان المذكور ان لا مجال لهما فى الاحكام الظاهرية بالنسبة الى

١٢٠