الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

قال أبو محمد : قالوا حكم عليّ الرجال في دين الله تعالى ، والله عزوجل قد حرم ذلك بقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [سورة الأنعام : ٥٧].

وبقوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) [سورة الشورى : ١٠].

قال أبو محمد : ما حكم عليّ رضي الله عنه قطّ رجلا في دين الله ، وحاشاه من ذلك ، وإنما حكّم كلام الله عزوجل كما افترض الله تعالى عليه ، وإنما اتفق القوم كلهم إذ رفعت المصاحف على الرماح ، وتداعوا إلى ما فيها على الحكم بما أنزل الله عزوجل في القرآن ، وهذا هو الحق الذي لا يحل لأحد غيره لأن الله تعالى يقول : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة النساء : ٥٩].

فإنما حكم علي رضي الله عنه أبا موسى وعمرا رضي الله عنهما ليكون كل واحد منهما مدليا بحجة من قومه ، وليكونا متخاصمين عن الطائفتين ثم حاكمين لمن أوجب القرآن الحكم له ، وإذ من المحال الممتنع الذي لا يمكن أن يفهم لغط العسكرين أو أن يتكلم جميع أهل العسكر بحجتهم ، فصح يقينا لا محيد عنه صواب علي في تحكيم الحكمين والرجوع إلى ما أوجبه القرآن ، وهذا الذي لا يجوز غيره ، ولكن أسلاف الخوارج كانوا أعرابا قرءوا القرآن قبل أن يتفقوا في السنة الثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء ، لا من أصحاب ابن مسعود ، ولا أصحاب عمر ، ولا أصحاب علي ، ولا أصحاب عائشة ، ولا أصحاب أبي موسى ، ولا أصحاب معاذ بن جبل ، ولا أصحاب أبي الدرداء ، ولا أصحاب سلمان ، ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضا عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها ، فظهر ضعف القوم ، وقوة جهلهم ، وأنهم أنكروا ما قام البرهان الذي أوردنا بأنه حق ، ولو لم يكن من جهلهم ، إلا قرب عهدهم بخبر الأنصار يوم السقيفة ، وإذعانهم رضي الله عنهم مع جميع المهاجرين لوجوب الأمر في قريش دون الأنصار وغيرهم ، وأن عهدهم بذلك قريب منذ خمسة وعشرين عاما وأشهر ، وجمهورهم أدرك ذلك بسنّة ، وثبت عند جميعهم كثبات أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا فرق ، لأن الذين نقلوا إليهم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقلوا إليهم القرآن ، والشرائع ، فدانوا بكل ذلك هم بأعيانهم لا زيادة فيهم ولا نقص ، نقلوا إليهم خبر السقيفة ، ورجوع الأنصار إلى أن الأمر لا يكون إلا في قريش ، وهم يقرون ويقرءون قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [سورة الحديد : ١٠].

٨١

وقوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) [سورة الفتح : ٢٩].

وقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) [سورة الفتح : ١٨].

ثم أعماهم الشيطان وأضلهم الله تعالى على علم ، فحلوا بيعة مثل علي ، وأعرضوا عن مثل سعيد بن زيد ، وسعيد وابن عمر ، وغيرهم ممن أنفق من قبل الفتح وقاتل ، وأعرضوا عن سائر الصحابة الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا ، ووعدهم الله الحسنى ، وتركوا من يقرون بأن الله تعالى عزوجل علم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم ، ورضي عنهم ، وبايعوا الله وتركوا جميع الصحابة ، وهم الأشداء على الكفار ، الرحماء بينهم ، الركع السجد المبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، المثنى عليهم في التوراة والإنجيل من عند الله عزوجل ، الذين غاظ الله بهم الكفار المقطوع على أن باطنهم في الخير كظاهرهم ، لأن الله عزوجل شهد بذلك فلم يبايعوا أحدا منهم ، وبايعوا شبث بن ربعي مؤذن سجاح أيام ادعت النبوة بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى تداركه الله عزوجل فقر عنهم ، وتبين له ضلالهم فلم يقع اختيارهم إلا على عبد الله بن وهب الراسبي أعرابي بوال على عقبيه لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه ولا شهد الله له بخير ، فمن أضل ممن هذه سيرته واختياره ولكن حق لمن كان أحد أئمته ذو الخويصرة الذي بلغ ضعف عقله ، وقلة دينه إلى تجويره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حكمه والاستدراك عليه ، ورأى نفسه أورع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا وهو يقرّ أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه وبه اهتدى وبه عرف الدين ، ولولاه لكان حمارا أو أضل ، ونعوذ بالله من الخذلان.

وأما الطائفة المصوبة للقاعدين فإن من لم يلح له الحق منهم فإنما يكلم حتى يبين له الحق ، فيلزمه المصير إليه ، فنقول وبالله تعالى التوفيق : إنه قد صح ووجب فرض الإمامة بما ذكرنا قبل في إيجاب الإمامة وإذ هي فرض فلا يجوز تضييع الفرض ، وإذ ذلك كذلك فالمبادرة إلى تقديم إمام عند موت الإمام فرض واجب ، وقد ذكرنا وجوب الائتمام بالإمام ، فإذ هذا كله كما ذكرنا ، فإذ مات عثمان رضي الله عنه وهو الإمام ففرض إقامة إمام يأتم به الناس لئلا يبقوا بلا إمام ، فإذ بادر علي فبايعه واحد من المسلمين فصاعدا فهو إمام قائم ففرض طاعته لا سيما ولم تتقدم بيعته بيعة ، ولم ينازعه الإمامة أحد جملة ، فهذا أوضح وأوجب في وجوب إمامته وصحة بيعته ولزوم

٨٢

إمرته للمؤمنين ، فهو الإمام بحقّ ، وما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه شيء يوجب نقض بيعته ، وما ظهر منه قط إلا العدل ، والجد والبر ، والتقوى والخير ، كما لو سبقت بيعة طلحة ، أو الزبير ، أو سعد ، أو سعيد ، أو من يستحق الإمامة لكانت أيضا بيعة حق لازمة لعلي ولغيره ، ولا فرق ، فعلي مصيب في الدعاء إلى نفسه وإلى الدخول تحت إمامته وهذا برهان لا محيد عنه ، وأما أم المؤمنين ، والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن كان معهم ، فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ، ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا جددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه ، بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن ، فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها ، أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافا عليه ولا نقضا لبيعته ، ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا ما لا يشك فيه أحد لأحد ولا ينكره أحد ، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلما ، ولم يكن نهوض عليّ إلى البصرة لقتالهم لكن موافقا لهم على ذلك ليقوى بهم وتجتمع الكلمة على قتلة عثمان رضي الله عنه ، وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا ، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم فبيتوا عسكر طلحة والزبير ، وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم ، فردعوا حتى خالطوا عسكر علي ، فدفع أهله عن أنفسهم ، وكل طائفة تظن ولا تشك أن الأخرى بدأتها بالقتال فاختلط الأمر اختلاطا لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه ، والفسقة من قتلة عثمان ـ لعنهم الله ـ لا يفترون من شب الحرب وإضرامها ، فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ، ومقصدها ، مدافعة عن نفسها ، ورجع الزبير وترك الحرب بحالها وأتى طلحة سهم عائر وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط ، فصادف جرحا في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانصرف ومات من وقته رضي الله عنه ، وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع ، على أقل من يوم من البصرة ، فهكذا كان الأمر.

وكذلك كان قتل عثمان رضي الله عنه إنما حاصره المصريون ومن لف لفهم يريدونه على إسلام مروان إليهم ، وهو رضي الله عنه يأبى من ذلك ، ويعلم أنه إن أسلمه قتل دون تثبت ، فهم على ذلك ، وجماعات من الصحابة فيهم الحسن ، والحسين ، أبناء علي ، وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، وأبو هريرة وعبد الله بن عمر ، في نحو سبعمائة من الصحابة وغيرهم معه في الدار يحمونه ، وينفتلون إلى القتال فيردعهم تثبتا إلى أن تسوروا عليه من خوخة في دار ابن حزم الأنصاري جاره غيلة فقتلوه ، ولا خبر من ذلك عند أحد.

٨٣

لعن الله من قتله ، والراضين بقتله ، فما رضي أحد منهم قط بقتله ، ولا علموا أنه يراد قتله ، لأنه لم يأت منه شيء يبيح الدم الحرام ، وأما قول من قال إنه رضي الله عنه أقام مطروحا على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحث ، وإفك موضوع ، وتوليد من لا حياء في وجهه ، بل قتل عشية ودفن من ليلته رضي الله عنه ، شهد دفنه طائفة من الصحابة وهم جبير بن مطعم وأبو الجهم بن حذيفة وعبد الله بن الزبير ومكرم بن سياد وجماعة غيرهم ، هذا ما لا يتمارى فيه أحد ممن له علم بالأخبار ، ولقد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برمي أجساد قتلى الكفار من قريش يوم بدر في القليب ، وألقى التراب عليهم وهم شر خلق الله تعالى ، وأمر عليه‌السلام أن يحفر أخاديد لقتلى يهود قريظة ، وهم شر من وارته الأرض ، فمواراة المؤمن والكافر فرض على المسلمين ، فكيف يجوز لذي حياء في وجهه أن ينسب إلى علي وهو الإمام ومن بالمدينة من الصحابة أنهم تركوا رجلا ميتا ملقى بين أظهرهم على مزبلة ثلاثة أيام لا يوارونه ولا يبالى مؤمنا كان أو كافرا أو فاسقا؟ ولكن الله يأبى إلا أن يفضح الكذابين بألسنتهم ولو فعل هذا علي لكانت جرحة فيه لأنه لا يخلو أن يكون عثمان كافرا ، أو فاسقا أو مؤمنا ، فإن كان كافرا أو فاسقا عنده ، فقد كان فرضا على عليّ أن يفسخ أحكامه في المسلمين ، فإذ لم يفعل فقد صح أنه كان مؤمنا عنده ، فكيف يجوز أن ينسب ذو حياء إلى علي أنه ترك مؤمنا مطروحا ميتا على مزبلة لا يأمر بمواراته؟ أم كيف يجوز أن يظن به أنه أنفذ أحكام كافر أو فاسق على أهل الإسلام؟ ما أحد أسوأ ثناء على علي من هؤلاء الكذبة الفجرة.

قال أبو محمد : ومن البرهان على صحة ما قلناه أنّ من الجهل الفاضح أن يظن ظان أن عليا رضي الله عنه بلغ من التناقض في أحكامه واتباع الهوى في دينه والجهل أن يترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ، وأسامة بن زيد ، وزيد بن ثابت ، وحسان بن ثابت ، ورافع بن خديج ، ومحمد بن مسلمة ، وكعب بن مالك وسائر الصحابة الذين لم يبايعوه فلا يجبرهم عليها وهم معه في المدينة وغيرها ، نعم والخوارج وهم يصبحون في نواحي المسجد بأعلى أصواتهم بحضرته ، وهو على المنبر في مسجد الكوفة : لا حكم إلا لله ، لا حكم إلا لله ، فيقول لهم رضي الله عنه : لكم علينا ثلاث لا نمنعكم المساجد ، ولا نمنعكم حقكم من الفيء ، ولا نبدؤكم بقتال. ولم يبدأهم بحرب حتى قتلوا عبد الله به خباب ثم لم يقاتلهم بعد ذلك حتى دعاهم إلى أن يسلموا إليه قتلة عبد الله بن خباب فلما قالوا كلنا قتله ، قاتلهم حينئذ ، ثم يظن به مع هذا كله أنه يقاتل أهل الجمل لامتناعهم من بيعته ، هذا إفك ظاهر ، وجنون مختلق وكذب بحت بلا شك.

٨٤

قال أبو محمد : وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام ، وهو الإمام الواجبة طاعته ، فعليّ المصيب في هذا ، ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان ، والكلام فيه من ولد عثمان ، وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطب بذلك ، كما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت ، وهو أخو المقتول وقال له : كبر كبر ، وروي : «الكبر الكبر» (١) ، فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة ابني مسعود ، وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه ، فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه ، وأضاف في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط ، فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لهم أجرا واحدا وللمصيب أجرين. ولا عجب أعجب ممن يجيز الاجتهاد في الدماء وفي الفروج والأبشار والأموال والشرائع التي يدان الله بها من تحريم وتحليل وإيجاب ، ويعذر المخطئين في ذلك ويرى ذلك مباحا لليث وأبي حنيفة ، والثوري ، ومالك والشافعي ، وأحمد وداود وإسحاق وأبي ثور وغيرهم كزفر وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والحسن بن زياد ، وابن القاسم وأشهب ، وابن الماجشون ، والمزني وغيرهم ، فواحد من هؤلاء يبيح دم هذا الإنسان ، وآخر منهم يحرمه كمن حارب ولم يقتل ، أو عمل عمل قوم لوط وغير هذا كثير ، وواحد منهم يبيح هذا الفرج وآخر منهم يحرمه كبكر أنكحها أبوها وهي بالغة عاقلة بغير إذنها ولا رضاها ، وغير هذا كثير ، وكذلك في الشرائع والأموال والأبشار ، وهكذا فعلت المعتزلة بشيوخهم كواصل وعمرو وسائر شيوخهم وفقهائهم ، وهكذا فعلت الخوارج بفقهائهم ومفتيهم ثم يضيقون ذلك على من له الصحبة والفضل ، والعلم والتقدم والاجتهاد كمعاوية وعمرو ومن معهما من الصحابة رضي الله عنهم ، وإنما اجتهدوا في مسائل دماء كالتي اجتهد فيها المفتون ، وفي المفتين من يرى قتل الساحر وفيهم من لا يراه ، وفيهم من يرى قتل الحر بالعبد ،

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في الأدب باب ٨٩ ، والديات باب ٢٢. ومسلم في القسامة حديث ١ و ٢. وأبو داود في الديات باب ٨. والترمذي في الديات باب ٢٢. والنسائي في القسامة باب ٤ و ٥. وأحمد في المسند (٤ / ٢ ، ٣).

٨٥

وفيهم من لا يراه ، وفيهم من يرى قتل المؤمن بالكافر ، وفيهم من لا يراه.

فأي فرق بين هذه الاجتهادات واجتهاد معاوية وعمرو وغيرهما ، لو لا الجهل والعمى والتخليط بغير علم؟

وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان متأولا وليس ذلك بمؤثر في عدالته وفضله ، ولا بموجب له فسقا بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير ، فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته ، وأنه صاحب الحق وأن له أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ، وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مأجورون أجرا واحدا. وأيضا فالحديث الشريف الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أخبر عن مارقة تمرق بين طائفتين من أمته يقتلها أولى الطائفتين بالحق ، (١) فمرقت تلك المارقة وهم الخوارج بين أصحاب علي وأصحاب معاوية فقتلهم علي وأصحابه فصح أنهم أولى الطائفتين بالحق ، وأيضا الخبر الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقتل عمارا الفئة الباغية» (٢).

قال أبو محمد : المجتهد المخطئ إذا قاتل على ما يرى أنه الحق قاصدا إلى الله تعالى بنيته غير عالم بأنه مخطئ فهو فئة باغية ، وإن كان مأجورا ولا حد عليه إذا ترك القتال ولا قود ، وأما إذا قاتل وهو يدري أنه مخطئ فهذا محارب تلزمه حدود المحاربة والقود ، وهذا يفسق ويخرج لا المجتهد المخطئ ، وبيان ذلك قول الله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) إلى قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [سورة الحجرات : ١٠].

فهذا نص قولنا دون تكلف تأويل ولا زوال عن موجب ظاهر الآية ، وقد سماهم الله عزوجل مؤمنين باغين بعضهم إخوة بعض في حين تقاتلهم ، وأهل العدل المبغي عليهم والمأمورين بالإصلاح بينهم ، وبينهم ، ولم يصفهم الله عزوجل بفسق من أجل ذلك التقاتل ولا بنقص إيمان ، وإنما هم مخطئون فقط باغون ولا يريد واحد منهم قتل الآخر ،

__________________

(١) رواه مسلم في الزكاة حديث ١٥١ و ١٥٢ ، وأبو داود في السنّة باب ١٢.

(٢) لفظ الحديث : «ويح عمّار تقتله الفئة الباغية» رواه من طرق متعددة : البخاري في الصلاة باب ٦٣. ومسلم في الفتن حديث ٧٠ و ٧٢ و ٧٣. والترمذي في المناقب باب ٣٤. وأحمد في المسند (٢ / ١٦١ ، ١٦٤ ، ٢٠٦ ، ٣ / ٥ ، ٢٢ ، ٢٨ ، ٩١ ، ٤ / ١٩٧ ، ١٩٩ ، ٥ / ٢١٥ ، ٣٠٦ ، ٣٠٧ ، ٦ / ٢٨٩ ، ٣٠٠ ، ٣١١ ، ٣١٥).

٨٦

وعمار رضي الله عنه قتله أبو الغادية يسار بن سبيع السلمي ، شهد بيعة الرضوان ، فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه ، وأنزل السكينة عليه ورضي عنه ، فأبو الغادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطئ فيه باغ عليه مأجور أجرا واحدا ، وليس هذا كقتلة عثمان رضي الله عنه لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله لأنه لم يقتل أحدا ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا زنا بعد إحصان ولا ارتد فيسوغ لمحاربه تأويل ، بل هم فساق محاربون سافكون دما حراما عمدا بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان فهم فساق ملعونون.

قال أبو محمد : فإذ قد بطل هذا الأمر وصح أن عليا هو صاحب الحق ، فالأحاديث التي فيها التزام البيوت وترك القتال إنما هي بلا شك فيمن لم يلح له يقين الحق أين هو ، وهكذا نقول فإذا تبين الحق فقتال الفئة الباغية فرض بنص القرآن ، وكذلك إن كانتا معا باغيتين فقتالهما واجب لأن كلام الله عزوجل لا يعارض كلام نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كله من عند الله عزوجل ، قال الله عزوجل : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم : ٣ ، ٤].

وقال عزوجل : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء : ٨٢] فصح يقينا أن كل ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو وحي من عند الله عزوجل ، وإذ هو كذلك فليس شيء مما عند الله تعالى مختلفا والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : فلم يبق إلا الكلام على الوجوه التي اعترض بها من رأى قتال علي رضي الله عنه.

قال أبو محمد : فنقول وبالله تعالى التوفيق :

أما قولهم إن أخذ القود واجب من قتلة عثمان رضي الله عنه والمحاربين لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الساعين في الأرض بالفساد ، والهاتكين حرمة الإسلام والحرم والإمامة والهجرة والخلافة والصحبة والسابقة فنعم.

وما خالفهم قط علي في ذلك ولا في البراءة منهم ، ولكنهم كانوا عددا ضخما جما لا طاقة له عليهم ، فقد سقط عن علي رضي الله عنه ما لا يستطيع عليه ، كما سقط عنه وعن كل مسلم ما عجز عنه من قيام بالصلاة والصوم والحج ولا فرق ، قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [سورة البقرة : ٢٨٦] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (١). ولو أن معاوية بايع عليا لقوي به على أخذ الحق

__________________

(١) رواه مسلم في الحج حديث ٤١٢. والنسائي في المناسك باب ١. وابن ماجة في المقدمة باب ١. وأحمد في المسند (٢ / ١٩٦ ، ٢٤٧ ، ٢٥٨ ، ٣١٣ ، ٣٥٥ ، ٤٢٨ ، ٤٤٨ ، ٤٥٧ ،

٨٧

من قتلة عثمان ، فصح أن الاختلاف هو الذي أضعف يد علي عن إنفاذ الحق عليهم ، ولو لا ذلك لأنفذ الحق عليهم كما أنفذوه على قتلة عبد الله بن خباب إذ قدر على مطالبة قتلته.

وأما تأسي معاوية في امتناعه من بيعة علي بتأخر علي عن بيعة أبي بكر فليس في الخطأ أسوة ، وعلي قد استقال ورجع وبايع بعد يسير فلو فعل معاوية مثل ذلك لأصاب ولبايع حينئذ بلا شك كل من امتنع من الصحابة من البيعة من أجل الفرقة ، وأما تقارب ما بين علي وطلحة والزبير وسعد فنعم ، ولكن من سبقت بيعته وهو من أهل الاستحقاق للخلافة فهو الإمام الواجبة طاعته فيما أمر به من طاعة الله عزوجل ، سواء كان هنالك من هو مثله أو أفضل منه أو لم يكن كما سبقت بيعة عثمان قبله فوجبت طاعته وإمامته على علي وغيره.

ولو بويع هنالك حينئذ وقت الشورى علي أو طلحة أو الزبير ، أو عبد الرحمن أو سعد لكان الإمام ، وللزمت عثمان طاعته ، وكذلك إذ قتل عثمان رضي الله عنه ، فلو بدر طلحة أو الزبير أو سعد أو ابن عمر فبويع لكان هو الإمام ولوجبت طاعته على علي ، فصح أن عليا هو صاحب الحق والإمام المفترضة طاعته وغيره ، كما إذ بدر علي وجبت طاعته ولا فرق ومعاوية مخطئ مأجور مجتهد ، وقد يخفى الصواب على الصاحب العالم فيما هو أبين وأوضح من هذا الأمر من أحكام الدين فربما رجع إذا استبان له ، وربما لم يستبن له حتى يموت عليه ، وما توفيقنا إلا بالله عزوجل وهو المسئول العصمة والهداية لا إله إلا هو.

قال أبو محمد : فطلب علي حقه فقاتل عليه وقد كان له تركه ليجمع كلمة المسلمين كما فعل الحسن ابنه رضي الله عنهما فكان له بذلك فضل عظيم قد تقدم به إنذار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : «ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من أمتي» (١) فغبطه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك.

ومن ترك حقه رغبة في حقن دماء المسلمين فقد أتى من الفضل بما لا وراء بعده ومن قاتل عليه ولو أنه فلس فحقه طلب ، ولا لوم عليه ، بل هو مصيب في ذلك ، وبالله تعالى التوفيق.

__________________

٤٨٢ ، ٤٩٥ ، ٥٠٨).

(١) رواه البخاري في الصلح باب ٩ ، وفضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب ٢٠ ، والفتن باب ٢٢ ، والمناقب باب ٢٥. وأبو داود في السنّة باب ١٢ ، والمهدي باب ٨. والترمذي في المناقب باب ٣٠. والنسائي في الجمعة باب ٢٧.

٨٨

الكلام في إمامة المفضول

قال أبو محمد : ذهبت طوائف من الخوارج ، وطوائف من المعتزلة ، وطوائف من المرجئة ، منهم محمد بن الطيّب الباقلاني ، ومن اتبعه ، وجميع الرافضة من الشيعة إلى أنه لا يجوز إمامة من يوجد في الناس أفضل منه. وذهبت طائفة من الخوارج وطائفة من المعتزلة ، وطائفة من المرجئة ، وجميع الزيدية من الشيعة ، وجميع أهل السنة إلى أن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه.

قال أبو محمد : وأمّا الرافضة فقالوا إن الإمام واحد معروف بعينه في العالم على ما ذكرنا من أقوالهم التي تقدّم إفسادنا لها ، والحمد لله رب العالمين.

وما نعلم لمن قال إنّ الإمامة لا تجوز إلّا لأفضل من يوجد حجّة أصلا لا من قرآن ولا من سنة ، ولا من إجماع ، ولا من صحة عقل ولا من قياس ، ولا قول صاحب ، وما كان هكذا فهو أحق قول بالاطراح. وقد قال أبو بكر رضي الله عنه يوم السقيفة : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين يعني أبا عبيدة وعمر ، وأبو بكر أفضل منهما بلا شك ، فما قال أحد من المسلمين إنه قال من ذلك بما لا يحل في الدين ، ودعت الأنصار إلى بيعة سعد بن عبادة ، وفي المسلمين عدد كثير كلهم أفضل منه بلا شك ـ فصحّ بما ذكرنا إجماع جميع الصحابة رضي الله عنهم على جواز إمامة المفضول ، ثم عهد عمر رضي الله عنه إلى ستة رجال ولا بدّ أن لبعضهم على بعض فضلا. وقد أجمع أهل الإسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإمام الواجبة طاعته ، وفي هذا إطباق منهم على جواز إمامة المفضول. ثم مات علي رضي الله عنه فبويع الحسن ثم سلم الأمر إلى معاوية ، وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل فكلهم أوّلهم عن آخرهم بايع معاوية ، ورأى إمامته ، وهذا إجماع متيقن بعد إجماع على جواز إمامة من غيره أفضل منه بيقين لا شك فيه ، إلى أن حدث من لا وزن له عند الله تعالى فخرقوا الإجماع بآرائهم الفاسدة بلا دليل ، ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : والعجب كله كيف يجتمع قول الباقلاني أنه لا تجوز الإمامة لمن غيره من الناس أفضل منه ، وهو قد جوّز النبوة والرسالة لمن غيره من الناس أفضل منه ، فإنه صرّح فيما ذكره عنه صاحبه أبو جعفر السمناني (١) الأعمى قاضي الموصل

__________________

(١) هو أبو جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد السمناني الحنفي. حدث عن نصر المرجي

٨٩

بأنه جائز أن يكون في الأمة من هو أفضل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حين بعث إلى أن مات.

قال أبو محمد : وما في خذلان الله عزوجل أحمق من هاتين القضيتين لا سيما إذا اقترنتا ، والحمد لله على السلامة.

فإن قال قائل : كيف تحتجون هنا بقول الأنصار رضي الله عنهم في دعائهم إلى سعد بن عبادة وهو عندكم خطأ وخلاف للنص من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وكيف تحتجون في هذا أيضا بقول أبي بكر : رضيت لكم أحد هذين ، وخلافة أبي بكر رضي الله عنه عندكم نص من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن أين له أن يترك ما نصّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

قلنا وبالله تعالى التوفيق : إن فعل الأنصار رضي الله عنهم انتظم حكمين ، أحدهما : تقديم من ليس قرشيا ، وهذا خطأ قد خالفهم فيه المهاجرون فسقطت هذه القضية.

والثاني : جواز تقديم من غيره أفضل منه ، وهذا صواب وافقهم عليه أبو بكر وغيره ، فصار إجماعا فقامت به الحجة ، وليس خطأ من أخطأ في قول وخالفه فيه من أصاب الحق بموجب ألّا يحتجّ بصوابه الذي وافقه فيه أهل الحق ، وهذا ما لا خلاف فيه وبالله تعالى التوفيق.

وأمّا أمر أبي بكر فإن الحق كان له بالنص ، وللمرء أن يترك حقّه إذا رأى في تركه إصلاح ذات بين المسلمين ، ولا فرق بين عطية أعطاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنسانا من المسلمين فكان للمعطى أن يعطي غيره ما أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبين منزلة صيّرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإنسان فكان له أن يتجافى عنها لغيره إذ لم يمنعه من ذلك نصّ ولا إجماع وبالله تعالى التوفيق.

__________________

وعلي بن عمر الحربي وأبي الحسن الدار قطني وجماعة. ولازم الباقلاني حتى برع في علم الكلام. قال الخطيب : كتبت عنه ، وكان صدوقا فاضلا حنفيّا يعتقد مذهب الأشعري ، وله تصانيف. وقد ذكره ابن حزم فقال : هو أبو جعفر السمناني المكفوف ، هو أكبر أصحاب أبي بكر الباقلاني ومقدّم الأشعرية في وقتنا ، ومن مقالته قال : من سمى الله جسما من أجل أنه حامل لصفاته في ذاته فقد أصاب المعنى ، وأخطأ في التسمية فقط. ثم أخذ ابن حزم يشنّع على السمناني وذكر عنه تجويز الردّة على الرسول بعد أداء الرسالة. توفي أبو جعفر بالموصل سنة ٤٤٤ ه‍ ، وله ثلاث وثمانون سنة. انظر ترجمته في تاريخ بغداد (١ / ٣٥٥) والوافي بالوفيات (٢ / ٦٥) وسير أعلام النبلاء (١٧ / ٦٥١) واللباب لابن الأثير (٢ / ١٤١) والجواهر المضية (٢ / ٢١) وغيرها.

٩٠

قال أبو محمد : وبرهان صحة قول من قال بأن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه وبطلان قول من خالف ذلك : أنه لا سبيل إلى أن يعرف الأفضل إلّا بنص أو إجماع أو معجزة تظهر ، فالمعجزة ممتنعة هاهنا بلا خلاف ، وكذلك الإجماع وكذلك النص.

وبرهان آخر : وهو أن الذي كلفوا به من معرفة جهة الأفضل ممتنع محال لأن قريشا مفترقون في البلاد من أقصى السند إلى أقصى الأندلس ، إلى أقصى اليمن ، وصحارى البربر إلى أقصى أرمينية وأذربيجان وخراسان فما بين ذلك من البلاد ، فمعرفة أسمائهم ممتنع ، فكيف معرفة أحوالهم؟ فكيف معرفة أفضلهم؟.

وبرهان آخر : وهو أنا بالحسّ والمشاهدة ندري أنه لا يدري أحد فضل إنسان على غيره ممن بعد الصحابة رضي الله عنهم إلّا بالظنّ ، والحكم بالظن لا يحل. قال الله تعالى ذامّا لقوم : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [سورة الجائية : ٣٢].

وقال تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [سورة الزخرف : ٢٠].

وقال تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [سورة الذاريات : ١٠].

وقال تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) [سورة النجم : ٢٣ ، ٢٤].

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إيّاكم والظنّ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث» (١).

وأيضا : فإننا وجدنا الناس يتباينون في الفضائل ، فيكون الواحد أزهد ، ويكون الآخر أورع ، ويكون الآخر أسوس ، ويكون الرابع أشجع ، ويكون الخامس أعلم ، وقد يكونون متقاربين في التفاضل لا يبين التفاوت بينهم ، فبطل معرفة الأفضل ، وصحّ أنّ هذا القول فاسد ، وتكليف ما لا يطاق ، وإلزام ما لا يستطاع ، وهذا باطل لا يحل ، والحمد لله رب العالمين.

ثم قد وجدنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قلّد النواحي ، وصيّر فيها تنفيذ جميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم بلا شك أفضل منهم ، فاستعمل على أعمال اليمن معاذ بن جبل ، وأبا موسى ، وخالد بن سعيد ، وعلى عمان : عمرو بن العاص ،

__________________

(١) رواه عن أبي هريرة البخاري في الوصايا باب ٨ ، والنكاح باب ٤٥ ، والفرائض باب ٢ ، والأدب باب ٥٧ و ٥٨. ومسلم في البر والصلة والآداب حديث ٢٨. والترمذي في البر والصلة باب ٥٦. ومالك في حسن الخلق حديث ١٥. وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٥ ، ٢٨٧ ، ٣١٢ ، ٤٦٥ ، ٤٧٠ ، ٤٨٢ ، ٤٩٢ ، ٥٠٤ ، ٥١٧ ، ٥٣٩).

٩١

وعلى نجران أبا سفيان ، وعلى مكة عتّاب بن أسيد ، وعلى الطائف : عثمان بن أبي العاص ، وعلى البحرين : العلاء بن الحضرمي. ولا خلاف في أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليّا وطلحة والزبير وعمّار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبا عبيدة ، وابن مسعود وبلالا ، وأبا ذرّ أفضل ممن ذكرنا ـ فصح يقينا أنّ الصفات التي تستحقّ بها الإمامة والخلافة ليس منها التقدّم في الفضل.

وأيضا : فإنّ الفضائل كثيرة جدّا ، منها الورع ، والزهد ، والعلم ، والشجاعة ، والسخاء ، والحلم ، والعفة ، والصّبر ، والصرامة ، وغير ذلك ، ولا يوجد أحد يبين في جميعها ، بل يكون بائنا في بعضها ومتأخّرا في بعضها ، ففي أيّها يراعي الفضل من لا يجيز إمامة المفضول؟!

فإن اقتصر على بعضها كان مدّعيا بلا دليل ، وإن عم جميعها كلف ما لا سبيل إلى وجوده أبدا في أحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذ لا شك في ذلك ، فقد صح القول في إمامة المفضول ، وبطل قول من قال غير ذلك ، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وذكر الباقلانيّ في شروط الإمامة أنها أحد عشر شرطا وهذا أيضا دعوى بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل ، فوجب أن ينظر في شروط الإمامة التي لا تجوز الإمامة لغير من هي فيه. فوجدناها أن يكون صليبه من قريش لإخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن الإمامة فيهم (١).

وأن يكون بالغا مميزا لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع القلم عن ثلاثة» (٢). فذكر الصبي حتى يحتلم ، والمجنون حتى يفيق. وأن يكون رجلا ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة» (٣).

__________________

(١) رواه بلفظ : «الأئمة من قريش» الإمام أحمد في المسند (٣ / ١٢٩ ، ١٨٣ ، ٤ / ٤٢١).

(٢) تمام الحديث : «رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يكبر ، وعن المجنون حتى يعقل» روي من حديث علي وعائشة. رواه البخاري في الطلاق باب ١١ ، والحدود باب ٢٢. وأبو داود في الحدود باب ١٧. والترمذي في الحدود باب ١. والنسائي في الطلاق باب ٢١. وابن ماجة في الطلاق باب ١٥. والدارمي في الحدود باب ١. وأحمد في المسند (١ / ١١٦ ، ١١٨ ، ١٤٠ ، ١٥٥ ، ١٥٨ ، ٦ / ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٤٤).

(٣) رواه من حديث أبي بكرة البخاري في المغازي باب ٨٢ ، والفتن باب ١٨. والترمذي في الفتن باب ٧٥. والنسائي في القضاة باب ٨. بلفظ : «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة». ورواه بلفظ : «أسندوا» الإمام أحمد في المسند (٥ / ٣٨ ، ٤٧).

٩٢

وأن يكون مسلما ، لأن الله تعالى يقول : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [سورة النساء : ١٤١].

والخلافة أعظم السبل ، ولأمره تعالى بإصغار أهل الكتاب ، وأخذهم بأداء الجزية ، وقتل من لم يؤمن من أهل الكتاب حتى يسلموا.

وأن يكون منفّذا لأمره ، عالما بما يلزمه من فرائض الدين ، متّقيا لله تعالى بالجملة ، غير معلن بالفساد في الأرض لقول الله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة : ٢].

لأنّ من قدّم من لا يتّقي الله عزوجل ، ولا في شيء من الأشياء ، أو معلنا بالفساد في الأرض غير مأمون ، أو من لا ينفّذ أمرا ، أو من لا يدري شيئا من دينه ، فقد أعان على الإثم والعدوان ، ولم يعن على البرّ والتقوى وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» (١).

وقال عليه‌السلام : «يا أبا ذر إنّك ضعيف فلا تأمرّنّ على اثنين ، ولا تولّينّ مال يتيم» (٢) وقال تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) [سورة البقرة : ٢٨٢].

فصحّ أنّ السفيه والضعيف ومن لا يقدر على شيء فلا بدّ له من ولي ، ومن لا بدّ له من ولي فلا يجوز أن يكون وليا للمسلمين. فصح أن ولاية من لا يستكمل هذه الشروط الثمانية باطل لا يجوز ، ولا ينعقد أصلا.

ثم يستحبّ أن يكون عالما بما يخصه من أمور الدين ، من العبادات والسياسة والأحكام ، مؤدّيا للفرائض كلها لا يخل بشيء منها ، مجتنبا لجميع الكبائر سرّا وجهرا ، مستترا بالصغائر إن كانت منه.

فهذه أربع صفات يكره أن يلي الأمر من لم ينتظمها ، فإن ولي فولايته صحيحة ونكرهها ، وطاعته فيما أطاع الله فيه واجبة ، ومنعه مما لم يطع الله فيه واجب. والغاية المأمولة فيه : أن يكون رفيقا بالنّاس غير ضعيف ، شديدا في إنكار المنكر من غير

__________________

(١) رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة باب ٢٠ ، والبيوع باب ٦٠ ، والصلح باب ٥. ومسلم في الأقضية حديث ١٧ ، ١٨. وأبو داود في السنّة باب ٥. وابن ماجة في المقدمة باب ٢. وأحمد في المسند (٢ / ١٤٦).

(٢) رواه مسلم في الإمارة حديث ١٧ ، وأبو داود في الوصايا باب ٤.

٩٣

عنف ، ولا يجاوز للواجب ، متيقظا غير غافل ، شجاع النفس غير مانع للمال في حقه ، ولا مبذرا له في غير حقه.

ويجمع هذا كله : أن يكون الإمام قائما بأحكام القرآن ، وسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فهذا يجمع كل فضيلة.

قال أبو محمد : ولا يضر الإمام أن كون في خلقه عيب ، كالأعمى والأصم والأجدع ، والأجذم ، والأحدب ، والذي لا يدان له ، ولا رجلان ، ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ، ولو أنه ابن مائة عام ، ومن يعرض له الصّرع ثم يفيق ، ومن بويع إثر بلوغه الحلم وهو مستوف لشروط الإمامة ، فكل هؤلاء إمامتهم جائزة إذ لم يمنع منها نص قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا نظر ، ولا دليل أصلا.

فلا يجوز التوارث في الإمامة لأنه لم يوجب ذلك أيضا نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا دليل ، بل قال تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [سورة النساء : ١٣٥].

فمن قام بالقسط فقد أدّى ما أمر به ، ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز لمن لم يبلغ حاشا الروافض فإنهم أجازوا كلا الأمرين ، ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة ، وبالله تعالى نتأيّد.

٩٤

الكلام في عقد الإمامة بما ذا يصح

قال أبو محمد : ذهب قوم إلى أن الإمامة لا تصح إلّا بإجماع فضلاء الأمة في أقطار البلاد.

وذهب آخرون إلى أن الإمامة إنما تصح بعقد أهل حضرة الإمام والموضع الذي فيه قرار (١) الأئمة.

وذهب أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي إلى أن الإمامة لا تصح بأقل من عقد خمسة رجال ، ولم يختلفوا في أن عقد الإمامة يصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يحاب بذلك بهوى ، وقد ذكرنا فساد قول الروافض وقول الكيسانية ، ومن ادّعى إمامة رجل بعينه ، وأنبأنا أن كل ذلك دعاوى لا يعجز عنها ذو لسان ، إذا لم يتق الله ولا استحيا من الناس ، إذ لا دليل على شيء منها.

قال أبو محمد : أمّا من قال إنّ الإمامة لا تصحّ إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد فباطل لأنه تكليف ما لا يطاق وما ليس في الوسع ، وما هو أعظم الحرج ، والله تعالى لا يكلف نفسا إلّا وسعها. وقال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج : ٧٨].

قال أبو محمد : ولا حرج ولا تعجيز أكثر من تعرف إجماع فضلاء من في المولتان والمنصورة إلى بلاد مهرة إلى عدن إلى أقاصي بلاد المصامدة إلى طنجة إلى الأشبونة (٢) إلى جزائر البحر إلى سواحل الشام إلى أرمينية وجبل الفتح إلى أسمار ، وفرغانة وأسروشنة (٣) إلى أقاصي خراسان إلى الجورجان إلى كابل إلى

__________________

(١) القرار : الإقامة والاستقرار.

(٢) أشبونة : مدينة بالأندلس تتصل بشنترين قريبة من البحر المحيط (مراصد الاطلاع : ص ٨٠).

(٣) أسروشنة (بالفتح ثم السكون وضم الراء وسكون الواو وشين معجمة مفتوحة ونون وهاء) ويقال «أشروسنة» بالشين المعجمة : بلدة كبيرة بما وراء النهر من بلاد الهياطلة بين سيحون وسمرقند ، بينها وبين سمرقند ستة وعشرون فرسخا (مراصد الاطلاع : ص ٧٢ و ٨١).

٩٥

المولتان (١) فما بين ذلك من المدن والقرى ، ولا بدّ من ضياع أمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد فبطل هذا القول الفاسد مع أنه لو كان ممكنا لما لزم لأنه دعوى بلا برهان ، وإنما قال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [سورة المائدة : ٢](كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [سورة النساء : ١٣٥].

فهذان الأمران متوجهان أحدهما : إلى كل إنسان في ذاته ، ولا يسقط عنه وجوب القيام بالقسط انتظار غيره في ذلك.

وأمّا التعاون على البرّ والتقوى فمتوجه إلى كل اثنين فصاعدا لأن التعاون فعل من فاعلين ، وليس فعل واحد ، ولا يسقط عن الاثنين فرض تعاونهما على البرّ والتقوى انتظار ثالث ، إذ لو كان ذلك لما لزم أحدا قيام بقسط ، ولا تعاون على برّ وتقوى ، إذ لا سبيل إلى اجتماع أهل الأرض على ذلك أبدا لتباعد أقطارهم ولتخلف من تخلف عن ذلك لعذر أو على وجه المعصية ، ولو كان هذا لكان أمر الله تعالى بالقيام بالقسط وبالتعاون على البرّ والتقوى باطلا فارغا ، وهذا خروج عن الإسلام ، فسقط القول المذكور وبالله تعالى التوفيق.

وأما قول من قال إن عقد الإمام لا يصح إلّا بعقد أهل حضرة الإمام وأهل الموضع الذي فيه قرار الأئمة ، فإنّ أهل الشام كانوا قد ادّعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك ، واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام.

قال أبو محمد : وهو قول فاسد لا حجة لأهله ، وكل قول في الدّين عريّ عن دليل من القرآن أو من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو من إجماع الأمة المتيقن فهو باطل بيقين. قال الله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة : ١١١]. فصح أن من لا برهان له على صحّة قوله فليس صادقا فيه فسقط هذا القول أيضا.

وأمّا قول الجبائي (٢) فإنه تعلق فيه بفعل عمر رضي الله عنه في الشورى ، إذ قلدها ستة رجال ، وأمرهم أن يختاروا واحدا منهم ، فصار الاختيار منهم بخمسة فقط.

قال أبو محمد : وهذا ليس شيئا لوجوه :

أولها : أنّ عمر لم يقل إن تقليد الاختيار أقل من خمسة لا يجوز بل قد جاء عنه أنه قال : إن مال ثلاثة منهم إلى واحد وثلاثة إلى واحد ، فاتبعوا الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. فقد أجاز عقد ثلاثة.

__________________

(١) ذكرها قبل ثلاثة أسطر.

(٢) وهو قوله إن الإمامة لا تصحّ بأقلّ من عقد خمسة رجال. وقد تقدّم.

٩٦

ووجه ثان : وهو أن فعل عمر رضي الله عنه لا يلزم الأمة حتى يوافق نص قرآن أو سنة ، وعمر كسائر الصحابة رضي الله عنهم لا يجوز أن يخصه وجوب اتباعه دون غيره من الصحابة رضي الله عنهم.

والثالث : أن أولئك الخمسة رضي الله عنهم قد تبرءوا من الاختيار وجعلوه إلى واحد منهم يختار لهم وللمسلمين من رآه أهلا للإمامة وهو عبد الرحمن بن عوف ، وما أنكر ذلك أحد من الصحابة الحاضرين ولا الغائبين إذ بلغهم ذلك ، فقد صحّ إجماعهم على أن الإمامة تنعقد بعقد واحد.

فإن قال قائل : إنما جاز ذلك لأن خمسة من فضلاء المسلمين قلّدوه ، قيل له : إن كان هذا عندك اعتراضا فالتزم مثله سواء سواء ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لأن الإمام الميت قلّدهم ذلك ، ولو لا ذلك لم يجز عقدهم ، وبرهان ذلك أنه إنما عقد لهم الاختيار منهم لا من غيرهم ، فلو اختاروا من غيرهم لما لزم الانقياد لهم ، فلا يجوز عقد خمسة أو أكثر إلّا إذا قلدهم الإمام ذلك أو ممن قال لك إنما صحّ عقد أولئك الخمسة لإجماع فضلاء أهل ذلك العصر على الرضا ممن اختاروه ، ولو لم يجمعوا على الرضا به لما جاز عقدهم ، وهذا مما لا مخلص منه أصلا فبطل هذا القول بيقين لا إشكال فيه ، والحمد لله رب العالمين.

وإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها فالواجب النظر في ذلك على ما أوجبه الله تعالى في القرآن والسنة وإجماع المسلمين كما افترض علينا عزوجل إذ يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة النساء : ٥٩].

فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه :

أولها وأفضلها وأصحها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماما بعد موته وسواء فعل ذلك في صحته أو في مرضه أو عند موته إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبي بكر وكما فعل أبو بكر بعمر ، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز ، وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره ، لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة ، وانتظام أمر الإسلام وأهله ، ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتثار (١) الأمر ، وارتفاع النفوس وحدوث الأطماع.

__________________

(١) كانت في الأصل المطبوع : «انتشار» بالشين المعجمة ، والصواب ما أثبتناه.

٩٧

قال أبو محمد : إنما أنكر من أنكر من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين بيعة يزيد بن معاوية والوليد وسليمان لأنهم كانوا غير مرضيين ، لا لأن الإمام عهد إليهم في حياته.

والوجه الثاني : إن مات الإمام ولم يعهد إلى أحد أن يبادر رجل مستحق للإمامة فيدعو إلى نفسه ولا منازع له ففرض على أتباعه الانقياد لبيعته ، والتزام إمامته وطاعته كما فعل عليّ إذ قتل عثمان رضي الله عنهما ، وكما فعل ابن الزبير رضي الله عنهما ، وقد فعل ذلك خالد بن الوليد إذ قتل الأمراء زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة ، فأخذ خالد الراية عن غير أمره ، وصوّب ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ بلغه فعله ، وساعد خالدا في ذلك جميع المسلمين رضي الله عنهم. أو أن يقوم كذلك عند ظهور منكر يراه فتلزم معاونته على البر والتقوى ، ولا يجوز التأخر عنه ، لأن ذلك معاونة على الإثم والعدوان ، وقد قال عزوجل : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة : ٢] كما فعل يزيد بن الوليد ، ومحمد بن هارون المهدي رحمهما‌الله.

والوجه الثالث : أن يصيّر الإمام عند وفاته اختيار خليفة للمسلمين إلى رجل ثقة أو إلى أكثر من واحد كما فعل عمر رضي الله عنه عند موته ، وليس عندنا في هذا الوجه إلّا التسليم لما أجمع عليه المسلمون حينئذ ، ولا يجوز التردّد في الاختيار أكثر من ثلاث ليال للثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «من بات ليلة ليس في عنقه بيعة» (١).

ولأن المسلمين لم يجمعوا على ذلك أكثر من ثلاث والزيادة على ذلك باطل لا يحل. على أن المسلمين يومئذ من حين موت عمر رضي الله عنه قد اعتقدوا بيعة لازمة في أعناقهم لأحد أولئك الستة بلا شك ، فهم وإن لم يعرفوه بعينه فهو بلا شك واحد من أولئك الستة ، فبأحد هذه الوجوه تصح الإمامة ، ولا تصح بغير هذه الوجوه البتة.

قال أبو محمد : فإن مات الإمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه فوثب رجل يصلح

__________________

(١) لم أجده بهذا اللفظ. وفي صحيح مسلم (كتاب الإمارة ، باب ١٣ ، حديث رقم ٥٨) عن نافع قال : جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرّة ما كان زمن يزيد بن معاوية ، فقال : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال : إني لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدّثك حديثا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوله : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».

٩٨

للإمامة فبايعه واحد فأكثر ، ثم قام آخر ينازعه ولو بطرفة عين بعده ، فالحق حق الأول وسواء كان الثاني أفضل منه أو مثله أو دونه ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فوا ببيعة الأول فالأول فمن جاء ينازعه فاضربوا عنقه كائنا من كان» (١).

فلو قام اثنان فصاعدا معا في وقت واحد أو يئس من معرفة أيهما سبقت بيعته نظر أفضلهما وأسوسهما فالحق له ، ووجب نزع الآخر لقول الله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة : ٢].

ومن البر تقليد الأسوس ، وليس هذا بيعة متقدمة يجب الوفاء بها ومحاربة من نازع صاحبها ، فإن استويا في الفضل قدّم الأسوس ، نعم وإن كان أقل فضلا إذا كان مؤديا للفرائض والسنن مجتنبا للكبائر مستترا بالصغائر ، لأن الغرض من الإمامة حسن السياسة ، والقوة على القيام بالأمور ، فإن استويا في الفضل والسياسة أقرع بينهما ، أو نظر في غيرهما ، والله عزوجل لا يضيّق على عباده هذا الضيق ، ولا يوقفهم على هذا الحرج لقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج : ٧٨].

وهذا أعظم الحرج وبالله تعالى التوفيق.

__________________

(١) رواه من حديث أبي هريرة البخاري في أحاديث الأنبياء باب ٥٠ ، ومسلم في الإمارة حديث ٤٤ ، وابن ماجة في الجهاد باب ٤٢ ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٩٧).

٩٩

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

قال أبو محمد : اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منها لقول الله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [سورة آل عمران : ١٠٤].

ثم اختلفوا في كيفيته ، فذهب أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم ، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره ، وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد ، وابن عمر ، ومحمد بن مسلمة وغيرهم إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بدّ ، أو باللسان إن قدر على ذلك ، ولا يكون باليد ولا بسلّ السيوف ، ووضع السلاح أصلا ، وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم. وبه قالت الروافض كلهم ولو قتلوا كلهم ، إلّا أنها لم تر ذلك الإمام يخرج الناطق فإذا خرج وجب سل السيوف ولا بد حينئذ معه ، وإلا فلا.

واقتدى أهل السنة في هذا بعثمان رضي الله عنه ، وبمن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم ، وبمن رأى القعود منهم.

إلّا أنّ جميع القائلين بهذه المقالة من أهل السنة إنما رأوا ذلك ما لم يكن عدلا فإن كان عدلا وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سلّ السيوف مع الإمام العدل ، وقد روينا عن ابن عمر أنه قال : لا أدري من هي الفئة الباغية؟ ولو علمتها ما سبقتني أنت ولا غيرك إلى قتالها. قال أبو محمد : وهذا الذي لا يظن بأولئك الصحابة رضي الله عنهم غيره. وذهبت طوائف من أهل السنة ، وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية ، إلى أنّ سلّ السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك. قالوا : فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ، ولم ييأسوا من الظفر ، ففرض عليهم ذلك. وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد ، وهذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة ، وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وطلحة ، والزبير ، وكل من كان معهم من الصحابة. وقول معاوية وعمرو ، والنعمان بن بشير ، وغير هم ممن

١٠٠