الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

ولا يحتاج إلى ذكر الأسماء ، إذ لم يكلفنا الله عزوجل ذلك ، فكل قرشي بالغ عاقل بادر إثر موت الإمام الذي لم يعهد إلى أحد فبايعه واحد فصاعدا فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي أمر الكتاب باتباعها ، فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحد والحق ، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره منهم.

فإن قالوا : قد اختلف الناس في تأويل القرآن والسنة قلنا نعم وقد أمرنا الله تعالى بالرجوع عن التنازع إلى ظاهر القرآن والسنة ومنع من تأويلهما بغير نص آخر.

قلنا : إن التأويل الذي لم يقع عليه برهان تحريف للكلم عن مواضعه ، وقد جاء النص بالمنع من ذلك وليس الاختلاف حجة ، وإنما الحجة في نص القرآن والسنن ، وما اقتضاه لفظهما العربي الذي خوطبنا به ، وبه ألزمتنا الشريعة.

قال أبو محمد : ثم نسألهم فنقول لهم : إن عمدة احتجاجكم في إيجاب إمامتكم التي تدعيها جميع فرقكم إنما هي وجهان فقط ، أحدهما : النص عليه باسمه والثاني : شدة الفاقة إليه في بيان الشريعة إذ علمها عنده لا عند غيره ولا مزيد ، فأخبروني بأي شيء صار محمد بن علي بن الحسين أولى بالإمامة من إخوته زيد وعمرو وعبد الله وعلي والحسين؟ فإن ادعوا نصا من أبيهم عليه أو من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه الباقر لم يكن ذلك ببدع من كذبهم ، ولم يكونوا أولى بتلك الدعوى من الكيسانية في دعواهم النص على ابن الحنفية ، وإن ادعوا أنه كان أفضل من إخوته كانت أيضا دعوى بلا برهان والفضل لا يقطع على ما عند الله عزوجل فيه بما يبدو من الإنسان ، فقد يكون باطنه خلاف ظاهره. وكذلك يسألون أيضا : ما الذي جعل موسى بن جعفر أولى بالإمامة من أخيه محمد أو إسحاق أو علي؟ فلا يجدون إلى غير الدعوى سبيلا ، وكذلك أيضا يسألون : ما الذي خص علي بن موسى بالإمامة دون إخوته وهم سبعة عشر ذكرا؟ فلا يجدون شيئا غير الدعوى ، وكذلك يسألون : ما الذي جعل محمد بن علي بن موسى أولى بالإمامة من أخيه علي بن علي؟ وما الذي جعل علي بن محمد أولى بالإمامة من أخيه موسى بن محمد؟ وما الذي جعل الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى أحق بالإمامة من أخيه جعفر بن علي؟ فهل هاهنا شيء غير الدعوى الكاذبة التي لا حياء لصاحبها والتي لو ادعى مثلها مدع للحسن بن الحسن أو لعبد الله بن الحسن ، أو لأخيه الحسن بن الحسن ، أو لابن أخيه علي بن الحسن أو لمحمد بن عبد الله القائم بالمدينة ، أو لأخيه إبراهيم أو لرجل من ولد العباس ، أو من بني أمية ، أو من أي قوم من

٢١

الناس كان ، لساواهم في الحماقة ، ومثل هذا لا يشتغل به من له مسكة من عقل أو منحة من دين ولو قلّت ، أو رقعة من الحياء ، فبطل وجه النص. وأما وجه الحاجة إليه في بيان الشريعة فما ظهر قط من أكثر أئمتهم بيان لشيء مما اختلف فيه الناس ، وما بأيديهم من ذلك شيء ، إلا دعاوى مفتعلة قد اختلفوا أيضا فيها كما اختلف غيرهم من الفرق سواء سواء ، إلا أنهم أسوأ حالا من غيرهم لأن كل من قلد إنسانا كأصحاب أبي حنيفة لأبي حنيفة ، وأصحاب مالك لمالك ، وأصحاب الشافعي للشافعي ، وأصحاب أحمد لأحمد. فإن لهؤلاء المذكورين أصحابا مشاهير نقلت عنهم أقوال صاحبهم ، ونقلوها هم عنه ، ولا سبيل إلى اتصال خبر عندهم ظاهر مكشوف يضطر الخصم إلى أن هذا قول موسى بن جعفر ، ولا أنه قول علي بن موسى ، ولا أنه قول محمد بن علي بن موسى ، ولا أنه قول علي بن محمد ولا أنه قول الحسن بن علي ، وأما من بعد الحسن بن علي فعدم بالكلية وحماقة ظاهرة ، وأما من قبل موسى بن جعفر ، فلو جمع كل ما روي في الفقه عن الحسن والحسين رضي الله عنهما وعن علي بن الحسين وعن محمد بن علي وعن جعفر بن محمد رضي الله عنهم لما بلغ عشر أوراق.

فما ترى المصلحة التي يدعونها في إمامهم ظهرت ولا نفع الله تعالى بها قط في علم ولا عمل ، ولا عندهم ولا عند غيرهم ، ولا ظهر منهم بعد الحسين رضي الله عنه من هؤلاء الذين سموا أحدا ولا أمر منهم أحد قط بمعروف معلن ، وقد قرأنا صفة هؤلاء المخاذيل المنتمين إلى الإمامية القائلين بأن الدين عند أئمتهم ، فما رأينا إلا دعاوى باردة ، وآراء فاسدة ، كأسخف ما يكون من الأقوال ، ولا يخلو هؤلاء الأئمة الذين يذكرون من أن يكونوا مأمورين بالسكوت ، أو مفسوحا لهم فيه ، فإن يكونوا مأمورين بالسكوت فقد أبيح للناس البقاء في الضلال ، وسقطت الحجة في الديانة عن جميع الناس ، وبطل الدين ، لم يلزم فرض الإسلام ، وهذا كفر مجرد.

وهم لا يقولون بهذا.

أو يكونوا مأمورين بالكلام والبيان ، فقد عصوا الله إذ سكتوا وبطلت إمامتهم.

وقد لجأ بعضهم إذ سئلوا عن صحة دعواهم في الأئمة إلى أن ادعوا الإلهام في ذلك ، فإذ قد صاروا إلى هذا الشغب فإنه لا يضيق عن أحد من الناس ولا يعجز خصومهم عن أن يدعوا أنهم ألهموا بطلان دعواهم.

قال هشام بن الحكم : لا بد أن يكون في إخوة الإمام آفات يبين بها أنهم لا يستحقون الإمامة.

قال أبو محمد : وهذه دعوى مردودة تزيد في الحماقة ، ولا ندري في زيد ،

٢٢

وعمرو ، وعبد الله ، والحسن ، وعلي بن علي بن الحسين ، آفات تمنع إلا آن الحسن أخا زيد ومحمد كان أعرج وما علمنا أن العرج عيب يمنع من الإمامة ، إنما هو عيب في العبيد المتخذين للمشي ، وما يعجز خصومهم أن يدعوا في محمد بن علي وفي جعفر بن محمد وفي سائر أئمتهم تلك الآفات التي ادعاها هشام لإخوتهم ، ثم إن بعض أئمتهم المذكورين مات أبوه وهو ابن ثلاث سنين. فنسألهم من أين علم هذا الصغير جميع علوم الشريعة وقد عدم توقيف أبيه له عليها لصغره؟ فلم يبق إلا أن يدعوا له الوحي ، فهذه نبوة وكفر صريح ، وهم لا يبلغون إلى أن يدعوا له النبوة وأن يدعوا له معجزة تصح قوله. فهذه دعوى باطلة ، ما ظهر منها قط شيء ، أو يدعوا له الإلهام فما يعجز أحد عن هذه الدعوى.

قال أبو محمد : ولو لم يكن من الحجة على أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويزين لكل أمة عملها إلا وجود من يعتقد هذه الأقوال السخيفة لكان أقوى حجة وأوضح برهان ، وإلا فما خلق الله عزوجل عقلا يسع فيه مثل هذه الحماقات ، والحمد لله على عظيم منته علينا ، وهو المسئول منه دوامها بمنه آمين.

قال أبو محمد : وأيضا فلو كان الأمر في الإمامة على ما يقول هؤلاء السخفاء لما كان الحسن رضي الله عنه في سعة من أن يسلمها إلى معاوية رضي الله عنه فيعينه على الضلال ، وعلى إبطال الحق ، وهدم الدين ، فيكون شريكه في كل مظلمة ، ويبطل عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويوافقه على ذلك الحسين أخوه رضي الله عنهما ، فما نقض قط بيعة معاوية إلى أن مات ، فكيف استحل الحسن والحسين رضي الله عنهما إبطال عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهما طائعين غير مكرهين؟ فلما مات معاوية قام الحسين يطلب حقه إذ رأى أنها بيعة ضلالة ، فلو لا أنه رأى بيعة معاوية حقا لما سلمها له ، ولفعل كما فعل بيزيد إذ ولي ، هذا ما لا يمتري فيه ذو إنصاف. هذا ومع الحسن أزيد من مائة ألف عنان يموتون دونه ، فتالله لو لا أن الحسن رضي الله عنه علم أنه في سعة من إسلامها إلى معاوية وفي سعة من أن لا يسلمها لما جمع بين الأمرين فأمسكها ستة أشهر لنفسه وهي حقه ، وسلمها بعد ذلك لغير ضرورة وذلك له مباح ، بل هو الأفضل بلا شك ، لأن جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد خطب بذلك على المنبر بحضرة المسلمين وأراهم الحسن معه على المنبر وقال : «إنّ ابني هذا سيّد ولعلّ الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين» رويناه من طريق البخاري (١).

__________________

(١) رواه البخاري في الصلح باب ٩ ، وفضائل أصحاب النبي باب ٢٣ ، والفتن باب ٣٠ ، والمناقب باب ٣٥. وأبو داود في السنة باب ١٢ ، والمهدي باب ٨. والترمذي في المناقب باب ٣٠.

٢٣

حدثنا صدقة ، أنبأنا ابن عيينة ، أنا الحسن ، سمع أبا بكر يقول إنه سمع ذلك وشهده من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا من أعلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذاره بالغيوب التي لا تعلم البتة إلا بالوحي.

وقد امتنع زياد وهو فقعة القاع لا عشيرة ولا نسب ولا سابقة ولا قدم فما أطاقه معاوية إلا بالمداراة وحتى أرضاه وولاه.

فإن ادعوا أنه قد كان في ذلك عند الحسن عهد فقد كفروا لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأمر أحدا بالعون على إطفاء نور الإسلام بالكفر ، وعلى نقض عهود الله تعالى بالباطل عن غير ضرورة ولا إكراه ، وهذه صفة الحسن والحسين رضي الله عنهما عند الروافض.

واحتج بعض الإمامية وجميع الزيدية بأن عليا كان أحق الناس بالإمامة لبينونة فضله على جميعهم ، ولكثرة فضائله دونهم.

قال أبو محمد : وهذا يقع الكلام فيه إن شاء الله تعالى في الكلام في المفاضلة بين أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما الكلام هاهنا في الإمامة فقط ، فنقول وبالله تعالى التوفيق :

هبكم أنكم وجدتم لعلي رضي الله عنه فضائل معلومة ، كالسبق إلى الإسلام والجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسعة العلم ، والزهد ، فهل وجدتم مثل ذلك للحسن والحسين رضي الله عنهما حتى أوجبتم لهما بذلك فضلا في شيء مما ذكرنا على سعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن العباس؟ هذا ما لا يقدر أحد على أن يدعي لهما فيه كلمة فما فوقها يعني مما يكونان به فوق من قد ذكرنا في شيء من هذه الفضائل ، فلم يبق إلا دعوى النص عليهما ، وهذا ما لا يعجز عن مثله أحد ، ولو استجازت الخوارج التوقح بالكذب في دعوى النص على عبد الله بن وهب الراسبي ، لما كانوا إلا مثل الرافضة في ذلك سواء بسواء ، ولو استحلت الأموية أن تجاهر بالكذب في دعوى النص على معاوية لكان أمرهم في ذلك أقوى من أمر الرافضة ، لقوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) [سورة الإسراء : ٣٣] ولكن كل أمة ما عدا الرافضة والنصارى فإنها تستحي وتصون أنفسها عما لا تصون النصارى والروافض أنفسهم عنه من الكذب الفاضح البارد وقلة الحياء فيما يأتون به. ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : وكذلك لا يجدون لعلي بن الحسين بسوقا في علم ولا في

__________________

والنسائي في المناقب باب ٢٧.

٢٤

عمل على سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وعروة بن الزبير ، ولا على أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، ولا على ابن عمه الحسن بن الحسين ، وكذلك لا يجدون لمحمد بن علي بن الحسين بسوقا في علم ولا في عمل ولا ورع على عبد الرحمن بن القاسم بن محمد ، ولا على محمد بن عمرو بن أبي بكر بن المنكدر ، ولا على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، ولا على أخيه زيد بن علي ، ولا على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ولا على عمر بن عبد العزيز ، وكذلك لا يجدون لجعفر بن محمد بسوقا في علم ولا في دين ولا في عمل على محمد بن مسلم الزهري ، ولا على ابن أبي ذؤيب ، ولا على عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر ، ولا على عبيد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر ، ولا على ابني عمه محمد بن عبد العزيز بن الحسن بن الحسن ، وعلي بن الحسن بن الحسن بل كل من ذكرنا فوقه في العلم والزهد ، وكلهم أرفع محلا في الفتيا والحديث لا يمنع أحد منهم من شيء من ذلك ، وهذا ابن عباس رضي الله عنه قد جمع فقهه في عشرين كتابا ، ويبلغ حديثه نحو ذلك إذا تقصّي ولا تبلغ فتيا الحسن والحسين ورقتين ، ويبلغ حديثهما ورقة أو ورقتين ، وكذلك علي بن الحسين إلا أن محمد بن علي يبلغ حديثه وفتياه جزءا صغيرا ، وكذلك جعفر بن محمد وهم ويقولون إن الإمام عنده جميع علم الشريعة ، فما بال من ذكرنا أظهروا بعض ذلك وهو الأقل الأنقص ، وكتموا سائره وهو الأكثر الأعظم؟ فإن كان فرضهم الكتمان فقد خالفوا الحق إذ أعلنوا ما أعلنوا ، وإن كان فرضهم البيان فقد خالفوا الحق إذ كتموا ما كتموا ، وأما من بعد جعفر بن محمد فما عرفنا لهم علما أصلا لا من رواية ولا من فتيا على قرب عهدهم منا ، ولو كان عندهم من ذلك شيء لعرف كما عرف عن محمد بن علي وابنه جعفر وعن غيره منهم ممن حديث الناس عنه فبطلت دعواهم الظاهرة الكاذبة اللائحة السخيفة ، التي هي من خرافات السمر ، ومضاحك السخفاء ، فإن رجعوا إلى ادعاء المعجزات لهم قلنا لهم : إن المعجزات لا تثبت إلا بنقل التواتر لا بنقل الآحاد الثقات فكيف بتولد الوقحاء الكذابين الذين لا يدرى من هم؟ وقد وجدنا من يروي لبشر الحافي وشيبان الراعي ورابعة العدوية أضعاف ما يدعونه من الكذب لأئمتهم وأظهر وأفشى ، وكل ذلك حماقة لا يشتغل ذو دين ولا ذو عقل بها ونحمد الله على السلامة ، فإذ قد بطل كل ما يدعونه ولله تعالى الحمد فلنقل على الإمامة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبرهان وبالله تعالى نتأيد.

٢٥

الإمامة بعد الرسول

قال أبو محمد : قد اختلف الناس في هذا فقالت طائفة إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يستخلف أحدا. ثم اختلفوا ، فقال بعضهم : لكن لما استخلف أبا بكر رضي الله عنه على الصلاة كان ذلك دليلا على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمور. وقال بعضهم : لا ، ولكن كان أبينهم فضلا فقدموه لذلك ، وقالت طائفة : بل نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على استخلاف أبي بكر بعده على أمور الناس نصا جليا.

قال أبو محمد : وبهذا نقول لبراهين أحدها : إطباق الناس كلهم وهم الذين قال الله تعالى فيهم : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [سورة الحشر : ٨] فقد أصفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه المرء لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو ، لا يجوز غير هذا البتة في اللغة بلا خلاف. تقول : استخلف فلان فلانا يستخلفه فهو خليفه ومستخلفه ، فإن قام مكانه دون أن يستخلفه هو لم يقل إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف ، ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضروريين أحدهما : أنه لم يستحق أبو بكر رضي الله عنه قط هذا الاسم على الإطلاق في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو حينئذ خليفته على الصلاة ، فصح يقينا أن خلافته المسمى هو بها هي غير خلافته على الصلاة.

والثاني : أن كل من استخلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته كعلي في غزوة تبوك ، وابن أم مكتوم في غزوة الخندق ، وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع ، وسائر من استخلفه على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها ، لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف من أحد من الأمة أن يسمى خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإطلاق.

فصح يقينا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها للخلافة بعده على أمته. ومن الممتنع أن يجمعوا على ذلك وهو عليه‌السلام لم يستخلفه نصا ، ولو لم يكن هاهنا إلا استخلافه إياه على الصلاة ما كان أبو بكر أولى بهذه التسمية من غيره ممن ذكرنا ،

٢٦

وهذا برهان ضروري نعارض به جميع الخصوم ، وأيضا فإن الرواية قد صحت بأن امرأة قالت : يا رسول الله أرأيت إن رجعت ولم أجدك؟ كأنها تريد الموت. قال : «فأت أبا بكر» وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر.

وأيضا فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة رضي الله عنها في مرضه الذي توفي فيه عليه‌السلام : «لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك فأكتب كتابا وأعهد عهدا لكي لا يقول قائل أنا أحق أو يتمنى متمنّ ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».

وروي أيضا : «ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر» (١).

فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده.

قال أبو محمد : ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحا أو أبلسوا أسفا ، لاحتججنا في ذلك بما روي : «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر» (٢).

قال أبو محمد : ولكنه لم يصح ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح.

قال أبو محمد : واحتج من قال لم يستخلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ يعني أبا بكر ـ وإن لا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني (٣) ـ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبما روي عن عائشة رضي الله عنها ، إذ سئلت من كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخلفا لو استخلف (٤). فمن المحال أن يعارض إجماع الصحابة الذي ذكرنا ، والأثران الصحيحان

__________________

(١) رواه مسلم في فضائل الصحابة باب ١١ ، وأبو داود في السنّة باب ١١ ، وأحمد في المسند (٤ / ٥٣ ، ٢٨٢).

(٢) رواه الترمذي برقم (٣٦٦٢ و ٣٨٠٥) وابن ماجة برقم (٩٧) وأحمد في المسند (٥ / ٣٨٢ ، ٣٨٥ ، ٣٩٩ ، ٤٠١ ، ٤٠٢) والبيهقي في السنن الكبرى (٥ / ١٢ ، ٨ / ١٥٣) والحاكم في المستدرك (٣ / ٧٥) وأبو نعيم في حلية الأولياء (٩ / ١٠٩) والطبراني في المعجم الكبير (٩ / ٦٨).

(٣) رواه البخاري في الأحكام باب ٥١ ، ومسلم في الإمارة حديث ١١ و ١٢ ، وأبو داود في الإمارة باب ٨ ، والترمذي في الفتن باب ٤٨ ، وأحمد في المسند (١ / ١٣ ، ٤٣ ، ٤٦ ، ٤٧).

(٤) رواه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٩ ، وأحمد في المسند (٦ / ٦٣). وتتمة الحديث : «... قالت : أبو بكر. فقيل لها : ثم من بعد أبي بكر؟ قالت : عمر. ثم قيل لها : من بعد عمر؟ قالت : أبو عبيدة بن الجراح. ثم انتهت إلى هذا».

٢٧

المسندان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لفظه بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة رضي الله عنهما مما لا يقوم به حجة مما له وجه ظاهر من أن هذا الأثر خفي على عمر رضي الله عنه كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالاستئذان وغيره ، أو أنه أراد استخلافا بعهد مكتوب ونحن نقر أن استخلاف أبي بكر لم يكن بكتاب مكتوب ، وأما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك نصا ، وقد يخرج كلامها على سؤال سائل ، وإنما الحجة في روايتها لا في قولها.

وأما من ادعى أنه إنما قدّم قياسا على تقديمه إلى الصلاة فباطل بيقين ، لأنه ليس كل من استحق الإمامة في الصلاة يستحق إمامة الخلافة ، إذ قد يستحق الإمامة في الصلاة أقرأ القوم ، وإن كان أعجميا أو عربيا ، ولا يستحق الخلافة إلا قرشي فكيف والقياس كله باطل؟

قال أبو محمد : في نص القرآن دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، وعلى وجوب الطاعة لهم ، وهو أن الله تعالى قال مخاطبا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأعراب :

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) [سورة التوبة : ٨٣].

وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك التي تخلف فيها الثلاثة المعذورون الذين تاب الله عليهم في سورة براءة ، ولم يغز عليه‌السلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال تعالى أيضا : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) [سورة الفتح : ١٥]

فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تبوك أبدا ثم عطف سبحانه وتعالى عليهم إثر منعه إياهم من الغزو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغلق لهم باب التوبة فقال تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) [سورة الفتح : ١٦].

فأخبر تعالى أنه سيدعوهم غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون ، ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم ، وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم.

٢٨

قال أبو محمد : وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم ، ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس ، وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجبت طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلا ، وإذ قد وجبت طاعتهم فرضا فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم ، وليس هذا بموجب تقليدهم في غير ما أمر الله تعالى بطاعتهم فيه لأن الله تعالى لم يأمر بذلك إلا في دعائهم إلى قتال هؤلاء القوم ، وفيما يجب الطاعة فيه للأئمة جملة ، وبالله تعالى التوفيق.

وأما ما أفتوا به باجتهادهم فما أوجبوا هم قط اتباع أقوالهم فيه ، فكيف أن يوجب ذلك غيرهم؟ وبالله تعالى التوفيق.

وأيضا فإن هذا إجماع الأمة كلها إذ ليس أحد من أهل العلم إلا وقد خالف بعض فتاوى هؤلاء الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم ، فصح ما ذكرنا والحمد لله رب العالمين.

٢٩

فصل

عدم جواز إمامة امرأة او صبيّ

قال أبو محمد : وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة ، ولا إمامة صبي لم يبلغ ، إلا الرافضة فإنها تجيز إمامة الصغير الذي لم يبلغ ، والحمل في بطن أمه ، وهذا خطأ لأن من لم يبلغ فهو غير مخاطب ، والإمام مخاطب بإقامة الدين ، وبالله تعالى التوفيق.

قال الباقلاني : واجب أن يكون الإمام أفضل الأمة.

قال أبو محمد : وهذا خطأ متيقن لبرهانين ، أحدهما : أنه لا يمكن أن يعرف الأفضل إلا بالظن في ظاهر أمره ، وقد قال تعالى (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [سورة يونس : ٣٦] والثاني : أن قريشا قد كثرت وطبقت الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب ، ومن الجنوب إلى الشمال ، ولا سبيل أن يعرف الأفضل من قوم هذا مبلغ عددهم بوجه من الوجوه ، ولا يمكن ذلك أصلا. ثم يكفي من بطلان هذا القول إجماع الأمة على بطلانه ، فإن جميع من أدرك الصحابة رضي الله عنهم من جميع المسلمين في ذلك العصر قد أجمعوا على صحة إمامة الحسن ، أو معاوية ، وقد كان في الناس أفضل منهما بلا شك كسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وابن عمر وغيرهم.

فلو كان ما قاله الباقلاني حقا لكانت إمامة الحسن ومعاوية باطلة وحاشا لله عزوجل من ذلك.

وأيضا فإن هذا القول الذي قاله هذا المذكور دعوى فاسدة لا دليل على صحتها ، لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا من قول صاحب ، ولا من قياس ، والعجب كله أن يقول إنه جائز أن يكون في هذه الأمة من هو أفضل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث بعث إلى أن مات ، ثم لا يجيز أن يكون أحد أفضل من الإمام.

قال أبو محمد : وهذا القول منه في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفر مجرد لا خفاء به ، وفيه خلاف لأهل الإسلام وإنما يجب أن يكون الإمام قرشيا بالغا ذكرا مميزا بريئا من

٣٠

المعاصي الظاهرة ، حاكما بالقرآن والسنة فقط. ولا يجوز خلعه ما دام يمكن منعه من الظلم فإن لم يمكن ذلك إلا بإزالته ففرض أن يقام كل ما يوصل به إلى دفع الظلم ، لقول الله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة : ٢] وبالله تعالى التوفيق.

٣١

الكلام في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة

قال أبو محمد : اختلف المسلمون فيمن هو أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم‌السلام. فذهب بعض أهل السنة ، وبعض المعتزلة ، وبعض المرجئة ، وجميع الشيعة ، إلى أن أفضل الأمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد روينا هذا القول نصا عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين والفقهاء.

وذهبت الخوارج كلها ، وبعض أهل السنة ، وبعض المعتزلة ، وبعض المرجئة ، إلى أن أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر ، ثم عمر. وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعفر بن أبي طالب ، وبهذا قال أبو عاصم النبيل ، وهو الضحاك بن مخلد ، وعيسى بن حاضر ، قال عيسى : وبعد جعفر حمزة ، رضي الله عنه.

وروينا عن نحو عشرين من الصحابة أن أكرم الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام.

وروينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : «مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثلاثة رجال لا يعد أحد عليهم بفضل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعبّاد بن بشر».

وروينا عن أمّ سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها تذكرت الفضل ومن هو خير فقالت : ومن هو خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروينا عن مسروق بن الأجدع وتميم بن حزم وإبراهيم النّخعي وغيرهم أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن مسعود ، قال تميم وهو من كبار التابعين : رأيت أبا بكر وعمر فما رأيت مثل عبد الله بن مسعود.

وروينا عن بعض من أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب وأنه أفضل من أبي بكر رضي الله عنهما وبلغني عن محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري أنه كان يذهب إلى هذا القول. قال داود بن علي الفقيه رضي الله عنه : أفضل الناس بعد الأنبياء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفضل الصحابة الأولون من

٣٢

المهاجرين ، ثم الأولون من الأنصار ، ثم من بعدهم منهم ولا تقطع على إنسان منهم بعينه أنه أفضل من آخر من طبقته ، ولقد رأينا من متقدمي أهل العلم ممن يذهب إلى هذا القول.

وقال لي يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري غير ما مرة إن هذا هو قوله ومعتقده.

قال الفقيه أبو محمد رحمه‌الله : والذي نقول به وندين الله تعالى عليه ، ونقطع على أنه الحق عند الله عزوجل أن أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم‌السلام نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أبو بكر رضي الله عنه ، ولا خلاف بين أحد من المسلمين في أن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الأمم ، لقول الله عزوجل : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران : ١١٠]. وأن هذه قاضية على قوله تعالى لبني إسرائيل (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة البقرة : ٤٧ و ١٢٢] وأنها مبينة بأنّ مراد الله تعالى من ذلك عالم الأمم حاشا هذه الأمة.

قال أبو محمد : ثم نقول وبالله تعالى التوفيق : إن الكلام المهمل دون تحقيق المعنى المراد بذلك الكلام فإنه طمس للمعاني ، وصد عن إدراك الصواب ، وتعريج عن الحق ، وإبعاد عن الفهم ، وتخليط وعمى ، فلنبدأ بعون الله تعالى وتأييده بتقسيم وجوه الفضل التي بها يستحق التفاضل وتفسيرها ، فإذا استبان معنى الفضل وعلى ما ذا تقع هذه اللفظة ، فبالضرورة نعلم حينئذ أن من وجدت فيه هذه الصفات أكثر فهو أفضل بلا شك ، فنقول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم :

إن الفضل ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما : فضل اختصاص من الله عزوجل بلا عمل ، وفضل مجازاة من الله تعالى بعمل.

فأما فضل الاختصاص دون عمل فإنه يشترك فيه جميع المخلوقين من الحيوان الناطق والحيوان غير الناطق والجمادات والأعراض كفضل الملائكة في ابتداء خلقهم على سائر الخلق وكفضل الأنبياء في ابتداء خلقهم على سائر الجن والإنس ، وكفضل إبراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر الأطفال ، وكفضل ناقة صالح عليه‌السلام على سائر النوق ، وكفضل ذبيحة إبراهيم عليه‌السلام على سائر الذبائح ، وكفضل مكة على سائر البلاد ، وكفضل المدينة بعد مكة على غيرها من البلاد وكفضل المساجد على سائر البقاع ، وكفضل الحجر الأسود على سائر الحجارة ، وكفضل شهر رمضان على سائر الشهور ، وكفضل يوم الجمعة وعرفة وعاشوراء والعشر على سائر ، الأيام وكفضل ليلة القدر على سائر الليالي ، وكفضل صلاة الفرض على النافلة ، وكفضل صلاة العصر

٣٣

وصلاة الصبح على سائر الصلوات ، وكفضل السجود على القعود ، وكفضل بعض الذكر على بعض. فهذا هو فضل الاختصاص المجرد بلا عمل.

فأما فضل المجازاة بالعمل فلا يكون البتة إلا للحي الناطق من الملائكة ، والإنس والجن فقط ، وهذا هو القسم الذي تنازع الناس فيه في هذا الباب الذي نتكلم فيه الآن من أحق به فوجب أن ننظر أيضا في أقسام هذا القسم التي بها يستحق الفضل فيه والتقدم فنحصرها ونذكرها بحول الله تعالى وقوته ، ثم ننظر حينئذ من هو أحق به وأسعد بالبسوق فيه ، فيكون بلا شك أفضل ممن هو أقل حظا فيها بلا شكّ. وبالله تعالى التوفيق.

فنقول وبالله تعالى نستعين :

إن العامل يفضل العامل في عملهما بسبعة أوجه لا ثامن لها :

وهي المائية (١) : وهي عين العمل وذاته ، والكمية : وهي العرض في العمل ، والكيفية ، والكم ، والزمان ، والمكان ، والإضافة ، فأما المائية فهي أن تكون الفروض من أعمال أحدهما موفاة كلها ويكون الآخر يضيع بعض فروضه وله نوافل ، أو يكون كلاهما يوفّي جميع فرضه ويعملان نوافل زائدة إلا أن نوافل أحدهما أفضل من نوافل الآخر ، كأن يكون أحدهما يكثر الذكر في الصلاة ، والآخر يكثر الذكر في حال جلوسه ، وما أشبه هذا ، وكإنسانين قاتل أحدهما في المعركة والموضع المخوف ، وقاتل الآخر في الرد ، أو جاهد أحدهما واشتغل الآخر بصيام وصلاة تطوع ، أو يجتهدان فيصادف أحدهما الحق ويحرمه الآخر فيفضل أحدهما الآخر في هذه الوجوه بنفس عمله ، أو بأن ذات عمله أفضل من ذات عمل الآخر ، فهذا هو التفاضل في المائية في العمل.

وأما الكمية ، وهي العرض : فأن يكون أحدهما يقصد بعمله وجه الله تعالى لا يمزج به شيئا البتة ، ويكون الآخر يساويه في جميع عمله ، إلا أنه ربما مزج بعمله شيئا من حب البر في الدنيا ، وأن يستدفع بذلك الأذى عن نفسه ، وربما مزجه بشيء من الرياء ففضله الأول بعرضه في عمله.

وأما الكيفية فأن يكون أحدهما يوفي عمله جميع حقوقه ورتبه لا منتقصا ولا متزايدا ويكون الآخر ربما انتقص بعض رتب ذلك العمل وسننه ، وإن لم يعطل منه فرضا. أو يكون أحدهما يصفي عمله من الكبائر ، وربما أتى الآخر ببعض الكبائر ففضله الآخر بكيفية عمله.

__________________

(١) المائية : هي الماهية. وهي السؤال عن الشيء : ما هو؟ أي ما عينه وذاته؟

٣٤

وأما الكم : فأن يستويا في أداء الفرض ، ويكون أحدهما أكثر نوافل ففضله هذا بكثرة عدد نوافله ، كما روي في رجلين أسلما وهاجرا أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم استشهد أحدهما وعاش الآخر بعده سنة ثم مات على فراشه فرأى بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدهما في النوم وهو آخرهما موتا في أفضل من حال الشهيد فسأل عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عليه‌السلام كلاما معناه : «فأين صلاته وصيامه بعده».

ففضل أحدهما الآخر بالزيادة التي زادها عليه في عدد أعماله.

وأما الزمان فكمن عمل في صدر الإسلام أو في عام المجاعة ، أو في وقت نازلة بالمسلمين وعمل غيره بعد قوة الإسلام ، وفي زمن رخاء وأمن ، فإن الكلمة في أول الإسلام والتمرة والصبر حينئذ وركعة في ذلك الوقت تعدل اجتهاد الأزمان الطوال وجهادها ، وبذل الأموال الجسام بعد ذلك ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوا لي أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (١).

فكان نصف مد شعير أو تمر في ذلك الوقت أفضل من جبل أحد ذهبا ننفقه نحن في سبيل الله عزوجل بعد ذلك ، قال الله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [سورة الحديد : ١٠].

قال أبو محمد : هذا في الصحابة فيما بينهم فكيف بمن بعدهم معهم رضي الله عنهم أجمعين؟

قال أبو محمد : وهذا يكذب قول أبي هاشم محمد بن علي الجبائي ، وقول محمد بن الطيب الباقلاني ، فإن الجبائي قال : جائز إن طال عمر امرئ أن يعمل ما يوازي عمل نبي من الأنبياء. وقال الباقلاني : جائز أن يكون في الناس من هو أفضل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حين بعث بالنبوة إلى أن مات.

قال أبو محمد : وهذا كفر مجرد وردة صحيحة (٢) وخروج عن دين الإسلام بلا مرية وتكذيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إخباره أنّا لا ندرك أحدا من أصحابه وفي إخباره عليه‌السلام عن أصحابه رضي الله عنهم بأنه ليس مثلهم ، وأنه أتقاهم لله وأعلمهم بما

__________________

(١) رواه البخاري في فضائل الصحابة باب ٥. ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٢١ و ٢٢٢. وأبو داود في السنّة باب ١٠. والترمذي في المناقب باب ٥٨. وابن ماجة في المقدمة باب ١١. وأحمد في المسند (٣ / ١١ ، ٥٤ ، ٦ / ٦).

(٢) كذا في الأصل. ولعلها : «صريحة».

٣٥

يأتي وما يذر. وكذلك أيضا قالت الخوارج والشيعة فإن الشيعة يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله عزوجل على أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة والزبير ، وعائشة وجميع الصحابة رضي الله عنهم حاشا عليا ، والحسن ، والحسين ، وعمار بن ياسر. والخوارج يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله عزوجل وكلاب النار على عثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، ولقد خاب من خالف كلام الله تعالى وقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو محمد : وكذلك القليل من الجهاد والصدقة في زمان الشدائد أفضل من كثيرهما في وقت القوة والسعة ، وكذلك صدقة المرء بدرهم في زمان فقره وصحته يرجو الحياة ويخاف الفقر أفضل من الكبير (١) يتصدق به في عرض غناه ، وفي وصيته بعد موته ، وقد صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبق درهم مائة ألف» وهو إنسان كان له درهمان تصدق بأحدهما ، والآخر عمد إلى عرض ماله فتصدق منه بمائة ألف. وكذلك صبر المرء على أداء الفرائض في حال خوفه ، ومرضه ، وقليل تنفله في زمان مرضه وخوفه أفضل من عمله وكثير تنفله في زمان صحته وأمنه ، ففضل من ذكرنا غيرهم بزمان عملهم ، وكذلك من وفق لعمل الخير في زمان آخر أجله هو أفضل ممن خلط في زمان آخر أجله.

وأما المكان فكصلاة في المسجد الحرام ومسجد المدينة فهما أفضل من ألف صلاة فيما عداهما ، وتفضل الصلاة في المسجد الحرام على صلاة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمائة فرجة ، وكصيام في بلد العدو ، وفي الجهاد على صيام في غير الجهاد ففضل من عمل في المكان الفاضل أفضل من غيره ممن عمل في غير ذلك المكان بمكان عمله ، وإن تساوى العملان.

وأما الإضافة فركعة من نبي أو ركعة مع نبي أو صدقة من نبي أو صدقة معه أو ذكر منه أو ذكر معه وسائر أعمال البر منه أو معه فقليل ذلك معه أفضل من كثير الأعمال بعده ، ويبين ذلك ما قد ذكرنا آنفا من قول الله عزوجل : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) [سورة الحديد : ١٠].

وإخباره عليه‌السلام أن أحدنا لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ نصف مد من أحد من الصحابة رضي الله عنهم (٢) ، فبهذا فضل الصحابة رضي الله عنهم من جاء بعدهم.

__________________

(١) كذا في الأصل. ولعلها : «الكثير».

(٢) رواه البخاري في فضائل الصحابة باب ٥ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٢١ و ٢٢٢ ، وأبو داود في السنّة باب ١٠ ، والترمذي في المناقب باب ٥٨ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١١ ، وأحمد في المسند (٣ / ١١ ، ٥٤ ، ٦ / ٦).

٣٦

قال أبو محمد : وبهذا قطعنا على أن كل عمل عمله الصحابة أنفسهم بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يوازي شيئا من البر عمله ذلك الصاحب بنفسه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ما عمله غير ذلك الصاحب بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو كان غير ما نقول لجاز أن يكون أنس ، وأبو أمامة الباهلي ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وعبد الله بن بسر ، وعبد الله بن الحارث بن جزء ، وسهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنهم ، أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وزيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، ومصعب بن عمير ، وعبد الله بن جحش ، وسعد بن معاذ وعثمان بن مظعون ، وسائر السابقين من المهاجرين والأنصار المتقدمين ، رضي الله عنهم أجمعين ، لأن بعض أولئك عبدوا الله عزوجل بعد موت أولئك ، بعضهم بعد موت بعض بتسعين عاما فما بين ذلك إلى خمسين عاما وهذا ما لا يقوله أحد يعتد به.

قال أبو محمد : وبهذا قطعنا على أن من كان من الصحابة حين موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل ممن أخّر منهم فإن ذلك المفضول لا يلحق درجة الفاضل له حينئذ أبدا وإن طال عمر المفضول وتعجل موت الفاضل.

وبهذا أيضا لم نقطع على فضل أحد منهم رضي الله عنهم حاشا من ورد فيه النص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من مات منهم في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل نقف في هؤلاء على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

قال أبو محمد : فهذه وجوه الفضائل بالأعمال التي لا يفضل ذو عمل ذا عمل فيما سواها البتة ، ثم نتيجة هذه الوجوه كلها وثمرتها ونتيجة فضل الاختصاص المجرد دون عمل أيضا لا ثالث لهما البتة.

أحدهما : إيجاب الله تعالى تعظيم الفاضل في الدنيا على المفضول ، فهذا الوجه يشترك فيه كل فاضل بعمل أو باختصاص مجرد بلا عمل من عرض أو جماد أو حي ناطق أو غير ناطق ، قد أمرنا الله تعالى بتعظيم الكعبة والمساجد ، ويوم الجمعة والأشهر الحرم ، وشهر رمضان ، وناقة صالح ، وإبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر الله تعالى الملائكة والنبيين على جميعهم صلوات الله وسلامه ، والصحابة أكثر من تعظيمنا وتوقيرنا غير ما ذكرنا ، ومن فضل من المواضع والأيام والنوق والأطفال والكلام والناس ، هذا ما لا شك فيه وهذه خاصة كل فاضل لا يخلو منها فاضل أصلا ولا يكون البتة إلا الفاضل.

والوجه الثاني هو إيجاب الله تعالى للفاضل درجة في الجنة أعلى من درجة المفضول ، إذ لا يجوز عند أحد من خلق الله تعالى كلهم أن يأمر بإجلال المفضول

٣٧

أكثر من إجلال الفاضل ، ولا أن يكون المفضول أعلى درجة في الجنة من الفاضل ، ولو جاز ذلك لبطل معنى الفضل جملة ، ولكان لفظا لا حقيقة له ولا معنى تحته ، وهذا الوجه الثاني الذي هو علو الدرجة في الجنة هو خاصة كل فاضل بعمل فقط من الملائكة ، والإنس ، والجن. وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : فكل مأمور بتعظيمه فاضل ، وكل فاضل فمأمور بتعظيمه وليس الإحسان والبر والتوقير والتذلل المفترض في الأبوين الكافرين من التعظيم في شيء ، فقد يحسن المرء إلى من لا يعظم ولا يهين كإحسان المرء إلى جاره ، وغلامه ، وأجيره ، ولا يكون ذلك تعظيما ، وقد يبر الإنسان جاره والشيخ من أسرته ولا يسمى ذلك تعظيما ، وقد يوقر الإنسان من يخاف ضره ، ولا يسمى ذلك تعظيما ، وقد يتذلل المرء للمتسلط الظالم ولا يسمى ذلك تعظيما ، وفرض على كل مسلم البراءة من أبويه الكافرين وعداوتهما في الله عزوجل. وقال الله عزوجل : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [سورة المجادلة : ٢٢].

وقال عزوجل : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [سورة الممتحنة : ٤].

وقال عزوجل : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [سورة التوبة : ١١٤].

فقد صح بيقين أنا ما وجب للأبوين الكافرين من بر وإحسان وتذلل ليس هو التعظيم الواجب لمن فضله الله عزوجل ، لأن التعظيم الواجب لمن فضله الله عزوجل هو مودة في الله ومحبة فيه وولاية له ، وأما البر الواجب للأبوين الكافرين ، والتذلل لهما ، والإحسان إليهما ، فكل ذلك مرتبط بالعداوة لله تعالى وللبراءة منه وإسقاط المودة كما قال الله تعالى في نص القرآن وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وقد يكون دخول الجنة اختصاصا مجردا دون عمل وذلك للأطفال كما ذكرنا قبل. فإذ (١) قد صح ما ذكرنا قبل يقينا بلا خلاف من أحد في شيء منه فبيقين ندري أنه لا تعظيم يستحقه أحد من الناس في الدنيا بإيجاب الله

__________________

(١) كانت في الأصل : «فإذا» والصواب ما أثبتناه.

٣٨

تعالى ذلك علينا بعد التعظيم الواجب علينا للأنبياء عليهم‌السلام أوجب ولا أوكد مما ألزمناه الله تعالى من التعظيم الواجب علينا لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول الله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [سورة الأحزاب : ٦] فأوجب الله لهن حكم الأمومة على كل مسلم هذا سوى حق إعظامهن بالصحبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلهن رضي الله تعالى عنهن مع ذلك حق الصحبة له كسائر الصحابة ، إلا أنّ لهن من الاختصاص في الصحبة ووكيد الملازمة له عليه‌السلام ، ولطيف المنزلة عنده عليه‌السلام ، والقرب منه والحظوة لديه ، ما ليس لأحد من الصحابة رضي الله عنهم ، فهن أعلى درجة في الصحبة من جميع الصحابة ، ثم فضل سائر الصحابة بحق زائد وهو حق الأمومة الواجبة لهن كلهن بنص القرآن ، فوجدنا الحق الذي به استحق الصحابة الفضل قد شاركنهم فيه وفضلنهم فيه أيضا ، ثم فضلنهم بحق زائد وهو حق الأمومية ، ثم وجدناهن لا عمل من الصلاة والصدقة والصيام والحج وحضور الجهاد يسبق فيه صاحب من الصحابة رضي الله عنهم إلا ولهن في ذلك مثل ما لغيرهم من الصحابة فقد كن يجهدن أنفسهن في ضيق عيشهن على الكد في العمل بالصدقة والعتق ، ويشهدن الجهاد معه عليه‌السلام ، وفي هذا كفاية بينة في أنهن أفضل من كل صاحب ، ثم لا شك عند كل مسلم وبشهادة نص القرآن إذ خيرهن الله عزوجل بين الدنيا وبين الدار الآخرة والله ورسوله فاخترن الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدار الآخرة ، فهن أزواجه في الآخرة بيقين ، فإذ هن كذلك فهن معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا شك في درجة واحدة في الجنة في قصوره وعلى سرره ، إذ لا يمكن البتة أن يحال بينه وبينهن في الجنة ولا أن ينحط عليه‌السلام إلى درجة يسفل فيها عن أحد من الصحابة ، هذا ما لا يظنه مسلم ، فإذ لا شك في حصولهن على هذه المنزلة فبالنص والإجماع علمنا أنهن لم يؤتين ذلك اختصاصا مجردا دون عمل بل باستحقاقهن لذلك باختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، إذ أمره الله عزوجل أن يخيرهن فقد حصل لهن أفضل الاختصاص أولا بأن يخيرهن الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أفضل الناس ثم قد حصل لهن أفضل الأعمال من جميع الوجوه السبعة التي قدمنا آنفا والتي لا يكون التفاضل إلا بها في الأعمال خاصة ، ثم قد حصل لهن على ذلك أوكد التعظيم في الدنيا ، ثم قد حصل لهن أرفع الدرجات في الآخرة ، فلا وجه من وجوه الفضل إلا ولهن فيه أعلى الحظوظ كلها بلا شك. ومارية أم إبراهيم داخلة معهن في ذلك لأنها معه عليه‌السلام في الجنة ، ومع ابنها منه بلا شك ، فإذ قد ثبت كل ذلك على رغم الآبي فقد وجب ضرورة أن يشهد لهن كلهن بأنهن أفضل من جميع الخلق كله بعد الملائكة والنبيين عليهم‌السلام.

٣٩

فكيف ومعنا نص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي ، حدثنا محمد بن أحمد بن مفرج ، حدثنا محمد بن أيوب الرقي الصموت ، حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزاز ، حدثنا أحمد بن عمر ، وحدثنا المعتمر بن سليمان التيمي ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس بن مالك قال : قيل يا رسول الله : من أحبّ النّاس إليك؟ قال : «عائشة». قيل : ومن الرّجال؟ قال : «فأبوها إذن» (١).

حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ، قال : حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن قيس ، حدثنا أحمد بن محمد الأشقر ، حدثنا أحمد بن علي القلانسي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن يحيى بن خالد بن عبد الله هو الطحان ، عن خالد الحذّاء ، عن أبي عثمان النّهدي ، قال أخبرني عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه إلى جيش ذات السّلاسل قال فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك؟ فقال : «عائشة» قلت : من الرجال؟ قال : «أبوها» ، قلت : ثم من؟ قال : «عمر». فعد رجالا.

فهذان عدلان أنس ، وعمرو ، يشهدان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر بأن عائشة أحب الناس إليه ثم أبوها ، وقد قال الله عزوجل عنه عليه‌السلام : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم : ٣ ، ٤].

فصح أن كلامه عليه‌السلام بأنها أحب الناس إليه وحي أوحاه الله تعالى إليه ليكون كذلك ويخبر بذلك لا عن هوى له ، ومن ظن ذلك فقد كذب الله تعالى ، لكن لاستحقاقها لذلك الفضل في الدين والتقدم فيه على جميع الناس الموجب لأن يحبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر من محبته لجميع الناس فقد فضلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبيها ، وعلى عمر ، وعلى علي وفاطمة ، رضي الله عن جميعهم تفضيلا ظاهرا بلا شك.

فإن قال قائل : نقل أن إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، رضي الله عنهم أجمعين ، لكونه مع أبيه عليه‌السلام في الجنة في درجة واحدة ، قلنا له وبالله تعالى التوفيق :

إن إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يستحق تلك المنزلة بعمل كان منه ، وإنما هو اختصاص مجرد ، وإنما تقع المفاضلة بين الفاضلين إذا كان فضلهما واحدا من وجه واحد فتفاضلا فيه ، وأما إذا كان الفضل من وجهين اثنين فلا سبيل إلى المفاضلة بينهما لأن معنى قول القائل : أي هذين أفضل؟ إنما هو أي هذين أكثر أوصافا في الباب الذي

__________________

(١) رواه الترمذي في مناقب عائشة رضي الله عنها.

٤٠