الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

ومدبر الأفلاك المميت المحيي العالم بما في الصدور ، ويصيرون في حسب هذا الاعتقاد على السجون والمطابق وضرب السياط ، وقطع الأيدي والأرجل ، والقتل والصلب وهتك الحريم ، وفيهم قضاة وكتاب وتجار وهم اليوم ألوف الألوف. وكما تدعي طوائف من اليهود وطوائف من المسلمين أن ربهم تعالى جسد في صورة الإنسان ، لحم ودم يمشي ويقعد.

وكالأشعرية الذين يقولون إن هاهنا أحوالا لا مخلوقة ولا غير مخلوقة ، ولا معلومة ولا مجهولة ولا حق ولا باطل ولا معروفة ولا مجهولة ، وأن النار ليست حارة والثلج ليس باردا.

وكما يقول بعض الفقهاء وأتباعهم إن رجلا واحدا يكون ابن رجلين وابن امرأتين كل واحدة منهما أمه وهو ابنها بالولادة.

قال أبو محمد : أترى كل من ذكرنا لا تشهد نفسه وحسه ولا يقر عقله بأن كل هذا باطل؟ بلى والذي خلقهم ولكن العوارض التي ذكرنا قبل سهلت عليهم هذا الاختلاط ، وكرهت عليهم الرجوع إلى الحق والإذعان له.

قال أبو محمد : وأما العناد فقد شاهدنا كل من رأيناه في المناظرة في الدين ، وفي المعاملات في الدنيا ، أكثر من أن يحصى ممن يعلم الحق يقينا ويكابر على خلافه ، ونعوذ بالله من الخذلان ونسأله الهدى والعصمة.

قال أبو محمد : لا يدرك الحقّ من طريق البرهان إلا من صفا عقله ونفسه من الشواغل التي قدمنا ، ونظر في الأقوال كلها نظرا واحدا ، واستوت عنده جميع الأقوال ، ثم نظر فيها طالبا لما شهدت بها البراهين الراجعة رجوعا صحيحا غير مموه ، لكن ضروريا إلى مقدمات مأخوذة من أوائل العقل والحواس ، غير متسامح في شيء من ذلك ، فهذا مضمون له بعون الله عزوجل ، الوقوف على الحقائق والخلاص من ظلمة الجهل ، وبالله تعالى التوفيق.

وأما ما نقله اثنان فصاعدا نوقن أنهما لم يجتمعا ولا تساررا فأخبرا بخبر واحد راجع إلى ما أدرك بالحواس من أي شيء كان ، فهو حق بلا شك ، مقطوع على عينه والنفس مضطرة إلى تصديقه ، وهذا حد أقل الكافة وأولها من أي شيء كان ، فهو إذ لا يمكن البتة إيقاف اثنين في توليد حديث واحد ، لا يختلفان فيه عن غير تواطؤ. وأما إذا تواطأت الجماعة العظيمة فقد تجتمع على الكذب ، وقد شاهدنا جماعات يشكرون ولاتهم وهم كاذبون إلا أن هذا لا يمكن أن يتفقوا على ظنه أبدا ، ومن أنكر ما تنقله

٣٠١

الكافة لزمه أن لا يصدق أنه كان في الدنيا أحد قبله لأنه لا يعرف كون الناس إلا بالخبر.

قال أبو محمد : وقد يضطر خبر الواحد في بعض الأوقات إلى التصديق ، يعرف ذلك من تدبر أمور نفسه ، كمنذر بموت إنسان لدفنه ، وكرسالة من عند السلطان يأتي بها بريد ، وككتاب وارد من صديق بهدية ، وكمخبر يخبرك أن هذا ولد فلان ، وكمنذر لعرس عند فلان ، وكرسول من عند القاضي والحاكم ، وسائر ذلك من الأخبار بأن هذا فلان ابن فلان ، ومثل هذا كثير جدا ، وهذا لا ينضبط بأكثر مما نسمع ، ومن راعى هذا المعنى لم يمض له يوم واحد قطعا حتى نشاهد في منزلة وخارج منزله من خبر واحد ما نضطر إلى تصديقه ولا بد كثيرا جدا.

وأما في الشريعة فخبر الواحد الثقة موجب للعلم ، وبرهان تشريعي قد ذكرناه في كتابنا في الأحكام لأصول الأحكام ، وقد ادعى المخالفون أن ما اتفقت عليه أمتنا بآرائها فهي معصومة بخلاف سائر الأمم ، ولا برهان على هذا.

وقال النظام : إن خبر التواتر لا يضطر لأن كل واحد منهم يجوز عليهم الغلط والكذب ، وكذلك يجوز على جميعهم ، ومن المحال أن يجتمع ممن يجوز عليه الكذب وممن يجوز عليه الكذب من لا يجوز عليه الكذب ، ونظير ذلك بأعمى وأعمى وأعمى ، فلا يجوز أن يجتمع منهم مبصرون.

قال أبو محمد : وهذا تنظير فاسد ، لأن الأعمى ليس فيه شيء من صحة البصر ، وليس كذلك المخبرون ، لأن كل واحد منهم كما يجوز عليه الكذب فكذلك يجوز عليه الصدق ويقع منه ، وقد علم بضرورة العقل أن اثنين فصاعدا إذا فرق بينهما لم يمكن البتة منهما أن يتفقا على توليد خبر كاذب يتفقان في لفظه ومعناه ، فصح أنهما إذا أخبرا بخبر فاتفقا فيه أنهما أخبرا عن علم صحيح موجود عندهما. ومن أنكر هذا لزمه أن لا يصدق بشيء من البلاد الغائبة عنه ، ولا بالملوك السالفين ، ولا بالأنبياء ، وهذا خروج إلى الجنون بلا شك ، إلى مكابرة الحسّ ، وبالله تعالى التوفيق.

فإن قال قائل : كيف أجزتم هاهنا إطلاق اسم الضرورة والاضطرار ، ومنعتم من ذلك في أفعال الفاعلين عند ذكركم الاستطاعة ، وخلق الله تعالى أفعال العباد ، وكل ذلك عندكم خلق الله عزوجل في عباده؟

قلنا : إن الفرق بين الأمرين في ذلك لائح ، وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله لو اختار تركه ، وممكن منه ذلك وليس ممكنا منه اعتقاد خلاف ما تيقنه بأن يرفع عن نفسه تحقيق ما عرف أنه حق ، فلهذا أوقعنا هاهنا اسم الاضطرار ، ومنعنا من هنالك وبالله تعالى نتأيد.

٣٠٢

الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة

قال أبو محمد : ذهب قوم إلى القول بتكافؤ الأدلة ، ومعنى هذا أنه لا يمكن نصر مذهب على مذهب ، ولا تغليب مقالة على مقالة ، حتى يلوح الحق في الباطل ظاهرا بيّنا لا إشكال فيه ، بل دلائل كل مقالة فهي مكافئة لدلائل سائر المقالات. وقالوا : كل ما ثبت بالجدل فإنه بالجدل ينقض.

وانقسم هؤلاء أقساما ثلاثة فيما أنتجه لهم هذا الأصل ، فطائفة قالت بتكافؤ الأدلة جملة في كل ما اختلف فيه فلم تحقق الباري تعالى ولا أبطلته ، ولا أثبتت أزلية العالم ولا حدوثه ولا أثبتت النبوة ولا أبطلتها ، وهكذا في جميع الأديان والأهواء لم تثبت شيئا من ذلك ولا أبطلته ، إلا أنهم قالوا : إننا نوقن أن الحق في أحد هذه الأقوال بلا شك ، إلا أنه غير بين إلى أحد البتة ولا ظاهر ولا متميز أصلا.

قال أبو محمد : وكان إسماعيل بن يونس الأعور الطبيب اليهودي ، تدل أقواله ومناظراته دلالة صحيحة على أنه كان يذهب إلى هذا القول ، لاجتهاده في نص هذه المقالة ، وإن كان غير مصرح بأنه يعتقدها.

وقالت طائفة أخرى بتكافؤ الأدلة فيما دون الباري عزوجل ، فأثبتت الخالق تعالى وقطعت بأنه حق خالق لكل ما دونه بيقين لا شك فيه ، ثم لم تحقق النبوة ولا أبطلتها ، ولا حققت ملة دون ملة ولا أبطلتها ، لكن قالت : إن في هذه الأقوال قولا صحيحا بلا شك ، إلا أنه غير ظاهر إلى أحد ولا بيّن ، ولا كلفه الله تعالى أحدا. وكان إسماعيل بن القراد الطبيب اليهودي يذهب إلى هذا القول يقينا ، وقد ناظرنا عليه مصرحا به ، وكان يقول إذا دعوناه إلى الإسلام وحسمنا شكوكه ونقضنا علله : الانتقال في الملل تلاعب.

قال أبو محمد : وقد ذكر لنا عن قوم من أهل النظر والرئاسة في العلم هذا القول ، إلا أننا لم يثبت ذلك عندنا عنهم.

وطائفة قالت بتكافؤ الأدلة فيما دون الباري عزوجل ودون النبوة فقطعت أن الله عزوجل حق ، وأنه خالق الخلق ، وأن النبوة حق ، وأن محمدا رسول الله عليه الصلاة

٣٠٣

والسلام حق ، ثم لم تغلّب قولا من أقوال أهل القبلة على قول ، بل قالوا إن منها قولا هو الحق بلا شك ، إلا أنه غير بين إلى أحد ، ولا ظاهر. وأما الأقوال التي صاروا إليها فيما ثبتوا عليها منها فطائفة لزمت الحيرة ، وقالت لا ندري ما نعتقد ، ولا يمكننا أخذ مقالة لم تصح عندنا دون غيرها ، فنكون مغالطين لأنفسنا مكابرين لعقولنا ، لكنا لا ننكر شيئا من ذلك ولا نثبته : وجمهور هذه الطائفة مالت إلى اللذات وإمراح النفوس في الشهوات كيف مالت إليه بطبائعها.

وطائفة قالت : على المرء فرض بموجب العقل ألا يكون سدى بل يلزمه ولا بد أن يكون له دين يزجر به عن الظلم والقبائح ، وقالوا : من لا دين له فهو غير مأمون في هذا العالم على الإفساد وقتل النفوس غيلة وجهرا ، وأخذ الأموال خيانة وغصبا ، والتعدي على الفروج تحيلا وعلانية ، وفي هذا هلاك العالم بأسره ، وفساد البنية ، وانحلال؟؟ النظام؟؟ وبطلان العلوم والفضائل كلها التي تقتضي العلوم بلزومها ، وهذا هو الفساد الذي توجب العقول التحرر منه واجتنابه.

قالوا : فمن لا دين له فواجب على كل من قدر على قتله أن يسارع إلى قتله وإراحة العالم منه وتعجيل استكفاف ضرره لأنه كالأفعى والعقرب ، أو أضر منهما.

ثم انقسم هؤلاء قسمين : فطائفة قالت : فإذا الأمر كذلك فالواجب على الإنسان لزوم الدين الذي نشأ عليه أو ولد عليه ، لأنه هو الدين الذي تخيره الله له في مبدأ خلقه ومبدأ نشأته بيقين ، وهو الذين أثبته الله عليه فلا يحل له الخروج عن ما رتبه الله تعالى فيه وابتدأه عليه ، أي دين كان. وهذا كان قول إسماعيل ابن القراد ، وكان يقول : من يخرج من دين إلى دين فهو وقاح متلاعب بالأديان عاص لله عزوجل المتعبد له بذلك الدين ، وكان يقول بالملة الكلية ، ومعنى ذلك ألا يبقى أحد دون دين يعتقده على ما ذكرنا آنفا.

وقالت طائفة : لا عذر للمرء في لزوم دين أبيه وجده أو سيده وجاره ، ولا حجة له فيه ، لكن الواجب على كل أحد أن يلزمه ما اجتمعت الديانات بأسرها والعقول بكليتها على صحته وتفضيله فلا يقتل أحد ، ولا يزني ولا يليط ولا يبغي ولا يبغى به ، ولا يسعى في إفساد حرمة أحد ، ولا يسرق ولا يغصب ، ولا يظلم ، ولا يجور ولا يجني ولا يغش ولا ينم ، ولا يسفه ولا يضرب أحدا ولا يستطيل عليه ، ولكن يرحم الناس ، ويتصدق ، ويؤدي الأمانة ، ويؤمن الناس شره ، ويعين المظلوم ويمنع منه. فهذا هو الحق بلا شك لأنه المتفق عليه من الديانات كلها ، ويوقف عما اختلفوا فيه ليس علينا غير هذا لأنه لم يلح لنا الحق في شيء منه دون غيره.

٣٠٤

قال أبو محمد : فهذه أصولهم ومعاقدهم ، وأما احتجاجهم في ذلك فهو أنهم قالوا : وجدنا الديانات والآراء والمقالات كل طائفة تدعي أنها إنما اعتقدت ما اعتقدته عن دلائل وبراهين باهرة وكل طائفة منها تناظر الأخرى فتنتصف منها ، وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر ، على حسب قوة نظر المناظر وقدرته على التبيان والتخيل والشغب ، فهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالا بينهم.

قالوا : فصح أنه ليس هاهنا قول ظاهر الغلبة ولو كان لما أشكل على أحد ، ولم يختلف الناس في ذلك كما يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداهة عقولهم ، وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل شيء عليه برهان لائح.

قالوا : ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس فيعاندوه بلا معنى ، ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب.

قالوا : فلما بطل هذا صح أن كل طائفة فإنما تتبع ما نشأت عليه. وأما ما يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبت ولا يقين قالوا : هذا مشاهد من أهل كل ملة وإن كان فيها ما لا شك في سخافته وبطلانه.

وقالوا أيضا : إنا نرى الجماعة الكثيرة قد طلبوا علم الفلسفة وتبحروا فيها ووسموا أنفسهم بالوقوف على الحقائق وبالخروج عن جملة العامة ، وبأنهم قد أشرفوا على الصحيح بالبراهين وميزوه من الشغب والإقناع ، ونجد آخرين قد تمهروا في علم الكلام وأفنوا فيه دهرهم ، ورسخوا فيه ، وفخروا بأنهم قد وقفوا على الدلائل الصحاح وميزوها من الفاسدة ، وأنهم قد لاح لهم الفرق بين الحق والباطل بالحجج والإنصاف ثم نجدهم كلهم يعني جميع هاتين الطائفتين فلسفيهم وكلاميهم في أديانهم التي يقرون أنها نجاتهم أو هلكتهم مختلفين كاختلاف العامة وأهل الجهل بل أشد اختلافا. فمن يهودي يموت على يهوديته ، ونصراني يتهالك على نصرانيته وتثليثه ، ومجوسي يستميت على مجوسيته ، ومسلم يستقتل في إسلامه ، ومناني يستهلك في مانويته ، ودهري ينقطع في دهريته ، فقد استوى العاميّ المقلد من كل طائفة في ذلك مع المتكلم الماهر المستدل بزعمه ثم نجد أهل هذه الأديان في فرقهم أيضا كذلك سواء سواء ، فإن كان يهوديا فإما رباني يتقد غيظا على سائر فرق دينه ، وإما صابئي يلعن سائر فرق دينه ، وإما عيسوي يسخر من سائر فرق دينه ، وإما سامري يبرأ من سائر فرق دينه.

وإن كان نصرانيا فإما ملكي يتهالك غيظا على سائر فرق دينه ، وإما نسطوري يتقد أسفا على سائر فرق دينه ، وإما يعقوبي يسخط على سائر فرق دينه.

٣٠٥

وإن كان مسلما فإما خارجي يستحل دماء سائر أهل ملته ، وإما معتزلي يكفر سائر فرق ملته ، وإما شيعي لا يتولى سائر فرق ملته ، وإما مرجئي لا يرضي عن سائر فرق ملته ، وإما سنّي ينافر سائر فرق ملته ، قد استوى في ذلك العامي المقلد الجاهل والمتكلم بزعمه المستدل.

وكل امرئ من متكلمي الفرق التي ذكرنا يدّعي أنه إنما أخذ ما أخذ وترك ما ترك ببرهان واضح ، ثم هكذا نجدهم حتى في الفتيا ، إما حنفي يجادل عن حنيفيته ، وإما ما لكي يقاتل عن مالكيته ، وإما شافعي يناضل عن شافعيته ، وإما حنبلي يضارب عن حنبليته ، وإما ظاهري يحارب عن ظاهريته ، وإما متحير يستدل ، فهنالك جاء التجاذب والتجاذب حتى لا يتفق اثنان منهم على مائة مسألة إلا في الندرة ، وكل امرئ ممن ذكرنا يزري على الآخرين ، وكلهم يدعي أنه قد أشرف على الحقيقة.

وهكذا القائلون بالدهر أيضا متباينون متنابذون مختلفون فيما بينهم ، فمن موجب أن العالم لم يزل وأن لا فاعل له ، ومن مكذب له موجب أن العالم لم يزل وأن له فاعلا لم يزل ، ومن موجب أزلية الفاعل وأشياء أخر معه وأن سائر العالم محدث ، ومن موجب أزلية الفاعل ، وحدوث العالم ، ومبطل النبوات كلها ، كما اختلف سائر أهل النحل ولا فرق. قالوا : فصح أن جميعهم إما متبع للذي نشأ عليه ، والنحلة التي تربي عليها ، وإما متبع لهواه قد يخيل له أنه الحق. فهم على ما ذكرنا دون تحقيق.

قالوا : فلو كان البرهان حقيقة لما اختلفوا فيه هذا الاختلاف ، ولبان على طول الأيام وكرور الأزمان ، ومرور الدهور ، وتداول الأجيال له ، وشدة البحث وكثرة ملاقاة الخصوم ومناظراتهم ، وإفنائهم الأوقات وتسويدهم القراطيس ، واستنفاد وسعهم وجهدهم أين الحق ، فيرتفع الإشكال ، بل الأمر واقف بحسبه أو متزيد في الاختلاف وحدوث التجاذب والفرق.

قالوا : وأيضا فإنا نرى المرء الفهم العالم النبيل ، المتفنن في علوم الفلسفة والكلام والحجاج ، المستنفد لعمره في طلب الحقائق ، المؤثر للبحث عن البرهان على كل ما سواه من لذة أو مال أو جاه ، المستفرغ لقوته في ذلك ، النافر عن التقليد ، يعتقد مقالة ما ويناظر عنها ، ويحاجي دونها ، ويدفع أمامها ، ويعادي من خالفها ، مجدّا في ذلك موقنا نصرته وخطأ من خالفه منافرا له مضللا أو مكفرا ، فيبقى كذلك الدهر الطويل والأعوام الجمة ، ثم تبدو له بادية عنها فيرجع أشد ما كان عداوة لما كان ينصر ، ولأهل تلك المقالة التي كان يدين بصحتها ، وينصرف يقاتل في إبطالها ويناظر في

٣٠٦

إفسادها يعتقد من ضلالها وضلال أهلها كالذي كان يعتقد من صحتها ويعجب الآن من نفسه ، وربما عاد إلى ما كان عليه أو خرج إلى قول ثالث.

قالوا : فدل هذا على إفساد الأدلة وعلى تكافئها جملة ، وأن كل دليل فهو هادم للآخر كلاهما يهدم صاحبه.

وقالوا أيضا : لا يخلو من حقق شيئا من هذه الديانات والمقالات من أن يكون صح له أو لم يصح له ، ولا سبيل إلى قسم ثالث. قالوا : فإن كان لم يصح له بأكثر من دعواه أو من تقليده مدعيا فليس هو أولى من غيره بالصواب ، وإن كان صح له فلا يخلو من أن يكون صح له بالحواس أو ببعضها أو بضرورة النفس وبديهته ، أو صح له بدليل ما غير هذين ، ولا سبيل إلى قسم رابع. فإن كان صح له بالحواس أو ببعضها أو بضرورة العقل وبديهته ، فيجب أن لا يختلف في ذلك أحد كما لم يختلفوا فيما أدرك بالحواس وبداهة العقل ، من أن ثلاثة أكثر من اثنين ، وأنه لا يكون المرء قاعدا قائما معا بالعقل. فلم يبق إلا أن يقولوا إنه صح لنا بدليل غير الحواس ، فنسألهم عن ذلك الدليل بما ذا صح عندكم؟ أبالدعوى فلستم أولى من غيركم في دعواه ، أم بالحواس وبديهة العقل فكيف خولفتم فيه وهذا لا يختلف في مدركاته أحد؟ أم بدليل غير ذلك. وهكذا أبدا إلى ما لا نهاية له. قالوا وهذا لا مخلص لهم منه.

وقالوا : ونسألهم أيضا عن علمهم بصحة ما هم عليه ، أيعلمون أنهم يعلمون ذلك أم لا؟ فإن قالوا لا نعلم ذلك أحالوا وسقط قولهم وكفونا مئونتهم لأنهم يقرون أنهم لا يعلمون أنهم يعلمون ما علموا وهذا هوس وإفساد لما يعتقدونه. وإن قالوا بل نعلم ذلك سألناهم أبعلم علموا ذلك أم بغير علم؟ وهكذا أبدا وهذا يقتضي أن يكون للعلم علم ، ولعلم العلم علم إلى ما لا نهاية له وهذا عندهم محال.

قال أبو محمد : هذا كل ما موّهوا به ما نعلم لهم شغبا غير ما ذكرنا ، ولا لهم متعلق بسواه أصلا ، بل قد زدنا لهم فيها ما رأينا لهم وتقصيناه لهم بغاية الجهد كما فعلنا بأهل كل مقالة.

قال أبو محمد : وكل هذا الذي موّهوا به منحلّ بيقين ومنقض بأبين برهان بلا كبير كلفة ، ولم نجد أحدا من المتكلمين السالفين أورد بابا خالصا في النقض على هذه المقالة ، ونحن إن شاء الله ننقض كلّ ما موّهوا به بالبراهين الواضحة وبالله تعالى التوفيق. وذلك بعد أن نبين فساد معاقد هذه الطوائف المذكورة إن شاء الله عزوجل.

قال أبو محمد : فنقول وبالله تعالى نتأيد : أما الطائفة المتحيرة فقد شهدت على

٣٠٧

أنفسها بالجهل وكفت خصومها مئونتها في ذلك ، وليس جهل من جهل حجة على علم من علم ، ولا من لم يتبين له الشيء غبارا على من لم تبين له ، بل من علم فهو الحجة على من جهل ، هذا هو الذي لا يشك أحد فيه في جميع العلوم والصناعات ، وكل معلوم يعلمه قوم ويجهله قوم ويعلمه آخرون ، ولا أحمق ممن يقول لما جهلت أنا أمر كذا ولم أعرفه علمت أن كل أحد جاهل به كجهلي ، وهذه صفة هؤلاء القوم نفسها ، ولو ساغ هذا لأحد لبطلت الحقائق وجميع المعارف وجميع الصناعات إذ لكل شيء منها من يجهله من الناس ، نعم ومن لا ينجح فيه ولا يفهمه وإن طلبه ، هذا أمر مشاهد بالحواس ، فهم قد أقروا بالجهل وندّعي نحن العلم بحقيقة ما اعترفوا بجهلهم به.

فالواجب عليهم أن ينظروا في براهين المدعين للمعرفة بما جهلوا نظرا صحيحا متقصيا بغير هوى ، فلا بد يقينا من أن يلوح حقيقة قول المحقق والمحق ، وبطلان قول المبطل ، فتزول عنهم الحيرة والجهل حينئذ. فسقطت هذه المقالة بيقين والحمد لله رب العالمين.

وأما من قطع بأنه ليس هاهنا مذهب صحيح أصلا فإن قوله لها هو الفساد بيقين لا إشكال فيه لأنهم إذ أثبتوا حقيقة هذا العالم بما فيه ، وحقيقة ما يدرك بالحواس وبأول العقل وبديهته ، ثم لم يصححوا حدوثه ولا أزليته ، ولا أبطلوا حدوثه وأزليته معا ، ولم يصححوا أن له خالقا ولا أنه لا خالق له ، وأبطلوا كلا الأمرين ، وأبطلوا النبوة وأبطلوا إبطالها فقد خرجوا يقينا إلى المحال ، وإلى قبح قول السوفسطائية ، وفارقوا بدهية العقل وضرورته التي قد حققوها وصدقوا موجبها إذ لا خلاف بين أحد له مسكة عقل في أن كلّ ما لم يكن حقا فهو باطل ، وما لم يكن باطلا فإنه حق ، وأن اثنين قال أحدهما في قضية واحدة في حكم واحد نعم وقال الآخر لا ، فأحدهما صادق بلا شك والآخر كاذب بلا شك هذا يعلم بضرورة العقل وبديهته. وأما قول قائل هذا حق باطل معا من وجه واحد في وقت واحد ، أو قول من قال لا حق ولا باطل ، فهو بيّن باطل معلوم بضرورة العقل وبديهته ، فواجب بإقرارهم أن من قال : إن العالم لم يزل وقال الآخر بل هو محدث أن أحدهما صادق بلا شك ، وكذلك من أثبت النبوة ومن نفاها. فظهر بيقين وضرورة العقل فساد هذه المقالة ، إلا أن يبطلوا الحقائق ويلحقوا بالسوفسطائية فيكلمون حينئذ بما تكلم به السوفسطائية مما قد ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق.

وأما من مال إلى اللذات جملة فإنه إن كان من إحدى هاتين الطائفتين فقد بطل عقده وصح يقينا أنه على ضلاله وخطأ وباطل وفساد في أصل معتقده الذي أداه

٣٠٨

إلى الإهمال ، وإذا بطل أصل شيء بيقين فبيقين قد بطل ما تولد منه ، وإن مال إلى أحد الأقوال الأخر فكلها مبطل للزوم اللذات وللإهمال ، فصح ضرورة بطلان هذه الطريقة وإن صار إلى تحقيق الدهرية ، كلم بما يكلّم به الدهرية مما قد أوضحناه والحمد لله.

وأما من قال بالتزام المرء دين سلفه والدين الذي نشأ عليه فخطأ لا خفاء به ، لأننا نقول لمن قال بوجوب ذلك ولزومه : أخبرنا من أوجبه ومن ألزمه؟ فالإيجاب والإلزام يقتضي فاعلا ضرورة ولا بد منها فمن ألزم ما ذكرتم من أن يلزم المرء دين سلفه أو الدين الذي نشأ عليه؟ الله ألزم ذلك جميع عباده أم غير الله تعالى أوجب ذلك إما إنسان وإما عقل وإما دليل؟ فإن قال قائل : ما ألزمنا ذلك إلا من دون الله تعالى ، قيل له : إن من دون الله تعالى معصيّ مخالف مرفوض لا حق له ولا طاعة إلا من أوجب الله تعالى له طاعة فيلزم طاعته لأن الله تعالى أوجبها لا لأنها واجبة بذاتها ، وليس من أوجب شيئا دون الله تعالى بأولى من آخر أبطل ما أوجب هذا وأوجب بطلانه ، وفي هذا كفاية لمن عقل ، ولا ينقاد للزوم من دون الله تعالى إلا جاهل مغرور كالبهيمة تقاد فتنقاد ، ولا فرق. وإن قال : إن العقل ألزم ذلك. قيل له : إنك تدعي الباطل على العقل إذ ادعيت عليه ما ليس في بنيته ، لأن العقل لا يوجب شيئا ، وإنما العقل قوة تميز النفس بها الأشياء على ما هي عليه فقط ، ويعرف ما صح وجوبه مما أوجبه من تلزم طاعته ، مما لم يصح وجوبه مما لم يوجبه من تجب طاعته ، ليس في العقل المراد به التمييز شيء غير هذا أصلا.

وأيضا : فإن قائل هذا مجاهر بالباطل ، لأنه لا يخلو أن يكون ، يزعم أن العقل أوجب ذلك ببديهته أو ببرهان راجع إلى البديهة من قرب أو من بعد ، فإن ادّعى أن العقل يوجب ذلك ببديهته كابر الحس ولم ينتفع بهذا أيضا ، لأنه لا يعجز عن التوقح بمثل هذه الدعوى أحد في أي شيء شاء. وإن ادّعى أنه أوجب ذلك ببرهان راجع إلى العقل كلف المجيء ، به ولا سبيل إليه أبدا. فإن قال قائل : إن الله عزوجل أوجب ذلك سئل الدليل على صحة هذه الدعوى ، التي أضافها إلى الباري عزوجل. وهذا لا سبيل له إليه لأن ما عند الله عزوجل من إلزام لا يعرف البتة إلا بوحي من عنده تعالى إلى رسول من خلقه يشهد له تعالى المعجزات ، وإما بما يضعه الله عزوجل في العقول ، وليس في شيء من هذين دليل على صحة دعوى هذا المدعي. وأما احتجاجه بأنه هو الدين الذي اختاره الله عزوجل لكل أحد وأنشأه عليه فلا حجة له في هذا ، لأننا لم نخالفه في أن هذا درب على هذا الدين ، وخلقه الله تعالى مع من درّبه عليه ، بل نقرّ بأن الله خلقه في مكان ما في صناعة ما وعلى معاش ما وعلى خلق ما ، وليس في

٣٠٩

ذلك دليل عند أحد من العالم على أنه لا يجوز له فراق ذلك الخلق إلى ما هو خير منه ، ولا على أنه يلزمه لزوم المكان الذي خلق فيه والصناعة التي نشأ عليها والقوت الذي كبر عليه ، بل لا يختلف اثنان في أن له مفارقة ذلك المكان وتلك الصناعة وذلك المعاش إلى غيره ، وأنّ فرضا عليه الزوال عن كل ذلك إذا كان مذموما إلى المحمود من كل ذلك.

وأيضا فإن جميع الأديان التي أوجبها كلها هذا القائل وحقق جميعها فكل دين منها فيه إنكار غيره منها ، وأهل كل دين منها يكفر سائر أهل تلك الأديان وكلهم يكذب بعضهم بعضا ، وفي كل دين منها تحريم التزام غيره على كل أحد ، فلو كان كل دين منها لازما أن يعتقده من نشأ عليه لكان كل دين منها حقا ، وإذا كان كل دين منها حقا وكل دين منها يبطل سائرها وكل ما أبطله الحق فهو باطل بلا شك ، فكل دين منها باطل بلا شك.

فوجب ضرورة على قول هذا الجاهل أن جميع الأديان باطل ، وأن جميعها حق فجميعها حق باطل معا ، فبطل هذا القول بيقين لا شك فيه والحمد لله رب العالمين.

وأما من قال إني ألزم فعل الخير الذي اتّفقت الديانات والعقول على أنه فاضل ، وأجتنب ما اتفقت الديانات والعقول على أنه قبيح ، فقول فاسد مموّه مضحك.

أول ذلك أنه كذب وما اتّفقت الديانات ولا العقول على شيء من ذلك بل جميع الديانات إلا الأقل منها مجمعون على قتل من خالفهم وأخذ أموالهم ، وكل دين منها لا نحاشي دينا قائل بأحكام هي عند سائرها ظلم ، وأما المنّانية : فإنها وإن لم تقل بالقتل فإنها تقول بترك النكاح الذي هو مباح عند سائر الديانات ويقولون بإباحة اللياطة والسحاق وسائر الديانات محرّمة لذلك ، فما اتفقت الديانات على شيء أصلا ولا على التوحيد ولا على إبطاله ، لكن اتفقت الديانات على تخطئته وتكفيره والبراءة منه إذا لم يعتقد دينا مما بيناه ، فبطلب موافقة جميع الديانات حصل على مخالفة جميعها. وهكذا فليكن السعي المضلّل. وكذلك طبائع جميع الناس مؤثرة للّذّات كارهة لما يلتزمه أهل الشرائع والفلاسفة ، فبطل تعلقهم بشيء مجمع عليه ، ولم يحصل إلا على طمع خائب مخالفا لجميع الديانات ، غير متعلق بدليل لا عقليّ ولا سمعي. وقد قلنا إن العقول لا توجب شيئا ولا تقبحه ولا تحسنه ، وبرهان ذلك أن جميع أهل العقول إلا يسيرا فإنهم أصحاب شرائع وقد جاءت الشرائع بالقتل وأخذ المال وضرب الإنسان وذبح الحيوان ، فما قال قط أصحاب العقول إنما جاءت بخلاف ما في العقول ولا ادّعى ذلك إلا أقل

٣١٠

الناس ومن ليس عقله عيارا على عقل غيره ، ولو كان ذلك واجبا في العقول لوجده سائر أهل العقول كما قالوا هم سواء سواء ، فصح أن دعواهم على العقول كاذبة في باب التقبيح والتحسين جملة ، وهذا كسر عام لنفس أقوالهم والحمد لله رب العالمين.

ثم نذكر إن شاء الله عزوجل البراهين على إبطال حججهم الشغبية المموهة وبالله تعالى نتأيد.

قال أبو محمد : أما احتجاجهم بأن قالوا وجدنا أهل الديانات والآراء والمقالات كل طائفة تناظر الأخرى فتنتصف منها وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على حسب قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب فهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالا بينهم ، فصح أن ليس هاهنا قول ظاهر الغلبة ، ولو كان ذلك لما أشكل على أحد ، ولا اختلفت الناس فيه كما لم يختلفوا ما أدركوا بحواسهم وبداية عقولهم ، وكما لم يختلفوا في الحساب ولا في شيء عليه برهان لائح ، واللائح الحق على مرور الأزمان وكثرة البحث وطول المناظرات. قالوا : ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس ظاهرا فيعاندوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب. قالوا : فلما بطل هذا صح أن كل طائفة تتبع إمّا ما نشأت عليه وإمّا ما تخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبت ولا يقين. قالوا : وهذا مشاهد من كل أمة ونحلة وإن كان فيها ما لا يشك في بطلانه وسخافته.

قال أبو محمد : هذه جمل نحن نبين كل عقدة منها ونوفيها حقها من البيان بتصحيح أو إفساد بما لا يخفى على أحد صحته وبالله تعالى التوفيق.

أما قولهم : إن كل طائفة من أهل الديانات والمقالات والآراء تناظر فتنتصف وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر ، على قدر قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب والتمويه ، فنقول صحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه على ما ادّعوه من تكافؤ الأدلة أصلا ، لأن غلبة الوقت ليست حجة ولا يقنع بها عالم محقق وإن كانت له ولا يلتفت إليها وإن كانت عليه ، وإنما يحتج بها ويغضب منها أهل المحرفة والجهّال ، وأهل الصياح والتهويل والتشنيع ، القانون بأن يقال غلب فلان فلانا ، وإن فلانا لنظار جدّال ، ولا يبالون بتحقيق حقيقة ولا بإبطال باطل. فصح أن تغالب المتناظرين لا معنى له ولا يجب أن يعتد به ، لا سيما تجادل أهل زماننا الذي أمالهم إرب معدودة لا يتجاوزونها بكلمة ، وأما أن يغلب الصليب الرأس بكثرة الصياح والتوقح والتشنيع والجفاء ، وأما كثير الهذر قوي على أن يملأ المجلس كلاما لا

٣١١

يتحصل منه معنى ، وأما الذي يعتقد أهل التحقيق الطالبون معرفة الأمور على ما هي عليه فهو أن يبحثوا فيما يطلبون معرفته عن كلّ حجة احتج بها أهل فرقة في ذلك الباب ، فإذا تقصّوها ولم يبقوا منها شيئا تأمّلوها كلها حجة حجة فميّزوا الشغبي منها والإقناعي فاطرحوهما ، وفتشوا البراهين على حسب المقدمات التي بيناها في كتابنا الموسوم : «بالتقريب في ماهية البرهان ، وتمييزه مما يظن أنه برهان وليس ببرهان» وفي كتابنا هذا ، وفي كتابنا الموسوم «بالإحكام في أصول الأحكام» فإن من سلك الطريق التي ذكرنا وميز في المبدأ ما يعرف بأول التمييز والحواس ثم ميّز ما هو البرهان مما ليس برهانا ، ثم لم يقبل إلا ما كان برهانا راجعا رجوعا صحيحا ضروريا إلى ما أدرك بالحواس أو ببديهة التمييز وضرورته في كل مطلوب يطلبه ، فإن شارع الحق يلوح له واضحا ممتازا من كل باطل دون إشكال ، والحمد لله رب العالمين.

وأما من لم يفعل ما ذكرنا ولم يكن وكده إلا نصر المسألة الحاضرة فقط ، أو نصر مذهب قد ألفه قبل أن يقوده إلى اعتقاده برهان فلم يجعل غرضه إلا طلب أدلة ذلك المذهب فقط ، فبعيد عن معرفة الحق من الباطل ، ومثل هؤلاء غرّر هؤلاء المخاذيل فظنوا أن كل بحث ونظر فمجراهما المجرى الذي عهدوه ممن ذكرنا فضلّوا ضلالا بعيدا.

وأما قولهم : فصح أنه ليس هاهنا قول ظاهر الغلبة ولو كان ذلك لما أشكل على أحد ، ولما اختلف الناس فيه ، كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم ، وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل ما عليه برهان لائح ، فقول أيضا مموه ، لأنه كله دعوى فاسدة بلا دليل ، وقد قلنا قبل في إبطال هذه الأقوال كلها بالبرهان بما فيه كفاية ، وهذا لا يمكن فيه تفصيل كل برهان على كل مطلوب لكن نقول جملة إن من عرف البرهان وميّزه وطلب الحقيقة غير مائل بهوى ولا إلف ولا نفار ولا كسل ، فمضمون له تمييز الحق ، وهذا كمن سأل عن البرهان على إشكال أقليدس فإنه لا سبيل إلى جوابه عن جميعها بقول مجمل ، لكن يقال له سل عن شكل شكل تخبر ببرهانه ، أو كمن سأل ما النحو؟ وأراد أن يوقف على قوانينه جملة فإن هذا لا يمكن بأكثر من أن يقال له هو بيان حركات وحروف يتوصل باختلافها إلى معرفة مراد المخاطب باللغة العربية ، ثم لا يمكن توقيفه على حقيقة ذلك ولا إلى إثباته جملة إلا بالأخذ معه في مسألة مسألة.

وهكذا في هذا المكان الذي نحن فيه ، لا يمكن أن نبين جميع البرهان على

٣١٢

كل مختلف فيه بأكثر من أن يقال له سل عن مسألة مسألة نبين لك برهانها بحول الله تعالى وقوته.

ثم نقول لمن قال من هؤلاء إن هاهنا قولا صحيحا واحدا لا شك فيه : أخبرونا من أين عرفت ذلك؟ ولعل الأمر كما يقول من قال إن جميع الأقوال كلها باطل ، أو كما قال من قال إن جميع الأقوال كلها حق؟ فإن قال : لا لأنها لو كانت حقا كلها لكان محالا ممتنعا ، لأن فيها إثبات الشيء وإبطاله معا ، ولو كان جميعها باطلا لكان كذلك أيضا سواء سواء ، وهذا محال ممتنع لأن فيه أيضا إثبات الشيء وإبطاله معا ، وإذا ثبت إثبات الشيء بطل إبطاله بلا شك ، وإذا بطل إثباته ثبت إبطاله بلا شك ، فإذ قد أبطل هذان القولان بيقين لم يبق بلا شك إلا أن فيه حقّا بعينه وباطلا بعينه. قلنا له : صدقت وإذ الأمر كما قلت فإن هذا العقل الذي عرفت به أن في تلك الأقوال قولا صحيحا بلا شك ، فيه تميز ذلك القول الصحيح بعينه مما ليس بصحيح ، لأن الصحيح من الأقوال يشهد له العقل والحواس ببراهين ترده إلى العقل والحواس ردّا صحيحا ، وأما الباطل فينقطع ويقف قبل أن يبلغ إلى العقل والحواس ، وهذا بيّن والحمد لله رب العالمين.

وأما من أبطل أن يكون في الأقوال كلها قول صحيح فقد أخبرنا أنه مبطل للحقائق كلها متناقض ، لأنه يبطل الحق والباطل معا ، وبالله تعالى التوفيق.

أما قولهم : لو كان هاهنا قول صحيح لما أشكل على أحد ، ولا اختلف فيه ، كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم ، ولا في الحساب ، فإن هذا قول فاسد لأن إشكال الشيء على من أشكل عليه إنما معناه أنه يجهل حقيقة ذلك الشيء فقط ، وليس جهل من جهل حجة على من علم ، برهان هذا أنه ليس في العالم شيء إلا ويجهله بعض الناس كالمجانين والأطفال ومن غمره الجهل والبلادة ، ثم يتزيد الناس في الفهم فتفهم طائفة شيئا لا تفهمه المجانين ، وتفهم طائفة أخرى ما لا يفهمه هؤلاء ، وهكذا إلى أرفع مراتب العلم ، فكل ما اختلف فيه فقد وقف على الحقيقة فيه من فهمه ، وإن كان خفي على غيره ، وهذا أمر مشاهد محسوس في جميع العلوم. وآفة ذلك ما قد ذكرنا قبل ، وهو إما قصور الفهم والبلادة وإما كسل عن تقصي البرهان ، وإما لإلف أو نفار بعد بصاحبهما عن الغاية المطلوبة أو تعدياها ، وهذه دواعي الاختلاف في كل ما اختلف فيه ، فإذا ارتفعت الموانع لاح البرهان بيقين ، فبطل ما شغبوا به والحمد لله رب العالمين.

وأما قولهم : كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وفي الحساب وفيما أدركوه

٣١٣

ببداية عقولهم فقول غير مطرد ، والسبب في انقطاع اطراده هو أنه ليس في أكثر ما يدرك بالحواس وبداية العقول شيء يدعو إلى التنازع ، ولا إلى تقليد يتهالك في نصره أو إبطاله ، وكذلك في الحساب ، حتى إذا صرنا إلى ما فيه تقليد مما يدرك بالحواس أو بأوائل التمييز وجد فيه من التنازع والمكابرة والمدافعة وجحد الضرورات كالذي يوجد فيما سواه كمكابرة النصارى واستهلاكهم في أن المسيح له طبيعتان ناسوتيّة ولاهوتيّة ، ثم منهم من يقول إن تلك الطبيعتين صارتا شيئا واحدا ، وصار اللّاهوت ناسوتا تامّا محدثا مخلوقا ، وصار الناسوت إلها تامّا خالقا غير مخلوق ، ومنهم من يقول امتزجا كامتزاج العرض بالجوهر ، ومنهم من يقول امتزجا كامتزاج البطانة والظهارة ، وهذا حمق ومحال يدرك فساده بأول العقل وضرورته. وكما تهالكت المنانية على أن الفلك في كل أفق من العالم لا يدور إلا كما يدور الرّحى ، وهذا أمر يشاهد كذبه بالعيان. وكما تهالكت اليهود على أن النيل الذي يحيط بأرض مصر وزويلة ومعادن الذهب ، وأن الفرات المحيط بأرض الموصل مخرجهما جميعا من عين واحدة في المشرق ، وهذا كذب يدرك بالحواس. وكما تهالكت المجوس على أن الولادة من إنسان ونهر وأن مدينة واقفة من بنيان بعض ملوكهم بين السماء والأرض. وكتهالك جميع العامة على أن السماء مستوية كالصحيفة لا مقببة مكوّرة ، وأن الأرض كذلك أيضا ، وأن الشمس تطلع على جميع الناس في جميع الأرض في ساعة واحدة وتغرب عنهم كذلك وهذا معلوم كذبة بالعيان. وكتهالك الأشعرية وغيرهم ممّن يدعي العلم والتوفيق فيه إلى أن النار لا حر فيها ، وأن الثلج لا برد فيه ، وأن الزجاج والحصا لها طعم ورائحة ، وأن الخمر لا يسكر ، وأن هاهنا أحوالا لا معدومة ولا موجودة ، ولا هي حق ولا هي باطل ، ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ، ولا هي معلومة ولا هي مجهولة ، وهذا كله معلوم كذبه وبطلانه بالحواس وبأول العقل وضرورته ، وتخليط لا يفهمه أحد ولا يتشكل في وهم أحد ، ولو لا أننا شهدنا أكثر من ذكرنا لما صدقنا أن من له مسكة عقل ينطق لسانه بهذا الجنون. وكتهالك طوائف على أن اسمين يقعان على مسميين كل واحد من ذانك المسميين لا هو الآخر ولا هو غيره ، وكالسوفسطائية المنكرة للحقائق.

وأما الحساب فقد اختلف أهله في أشياء من التعديل ، ومن قطع الكواكب ، وهل الحركة لها أو لأفلاكها. وأما الذي لا يخلو وقت من وجوده فخطأ كبير من أهل الحساب في جميع الأعداد الكثيرة حتى يختلفوا اختلافا ظاهرا حتى إذا حقق النظر يظهر الحق من الباطل ، وهذا نفس ما يعرض في كل ما يدرك بالحواس. فظهر بطلان تمويههم وتشبيههم جملة ، والحمد لله رب العالمين.

٣١٤

وصح ما أنكروه من أن كثيرا من الناس يغيبون عن اعتقاد ما شهدت له الحواس ، وينكرون أوائل العقول ، ويكابرون الضرورات إما بأنهم كسلوا عن طلب البراهين فقطعوا بظنونهم ، وإما لأنهم زلوا عن طريق البرهان وظنوا أنهم عليه ، وإما لأنهم ألفوا ما مالت إليه أهواؤهم لإلفهم شيئا ونفارهم عن آخر.

وأما قولهم : ولاح الحق على مرور الأزمان وكثرة البحث وطول المناظرات ، فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق : نعم قد لاح الحق وبان الباطل وأن كل طائفة تدعيه ، فإن من يظهر على الطريق التي وصفنا صح عنده المحق من المبطل ، وبالله تعالى التوفيق.

وأما قولهم : ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس فيعاندوه بلا معنى ، ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا معنى ، فقول فاسد ، لأننا قد رأيناهم أتوا بأشياء بدا الحق فيها إلى الناس فعانده كثير منهم ، وبذلوا مهجهم فيه ، وكأنهم ما شاهدوا الأمر الذي ملأ الأرض من المقاتلين الذين يعرفون بقلوبهم ويقرون بألسنتهم أنهم على باطل يقتلون ويعترفون بأنهم يتلفون مهجهم ودماءهم وأموالهم وأديانهم ويؤتمون أولادهم ويرمّلون نساءهم في قتال عن سلطان غائب عن ذلك القتال ، لا يرجون زيادة درهم ، ولا يخاف كل امرئ منهم في ذاته تقصيرا به لو لم يقاتل. أو لم يروا كثيرا من الناس يأكلون أشياء يوقنون بأنهم يستضرون بها ، ويكثرون شرب الخمر وهم يقرون أنها قد أفسدت أمزجتهم ، وأنها تؤديهم إلى التلف ، وهم يقرون مع ذلك أنهم عاصون لله تعالى؟ وكم رأينا من الموقنين بخلود العاصي في النار المحققين لذلك يقرّ على نفسه أنه يفعل ما يخلد به في النار. فإن قالوا : إن هؤلاء يستلذون ما يفعلون من ذلك قلنا لهم : إن استلذاذ من يدين بشيء ما يبصره لما يدين به وتعصبه له أشد من استلذاذ الأكل والشرب لما يدري أنه يتلفه من ذلك. ثم نقول لهم : أخبرونا عن قولكم هذا إنه ليس هاهنا قول سطعت حجته ولو كان لما اختلف الناس فيه أحق هي هذه القضية قطعتم بها ، وهل قولكم هذا ظاهر الحجة متيقن الحقيقة أم لا؟

فإن قالوا : لا. أقروا بأن قولهم لم تصح حجته ، ولا لاح برهانه وأنه ليس حقا ما قالوه. وإن قالوا بل هو حق قد لاحت حجته ، قلنا لهم : فكيف خولفتم في شيء لاحت حجته حتى صار أكثر أهل الأرض يعمون عمّا لا شك فيه عندكم وعن ما لاح الحق فيه ، حتى اعتقدوا فيكم الضلال والكفر وإباحة الدم؟ وهذا هو نفس ما أنكروا قد صرحوا أنه حق والحمد لله رب العالمين.

وأما احتجاجهم بانتقال من ينتقل من مذهب وتهالكه في إثباته ثم تهالكه في

٣١٥

إبطاله ورومهم أن ينشدوا بهذا جميع البراهين ، فليس كما ظنوا لأن كل منتقل من مذهب إلى مذهب فلا يخلو ضرورة من أحد ثلاثة أوجه ، إما أن يكون انتقل من خطأ إلى خطأ ، أو من خطأ إلى صواب ، أو من صواب إلى خطأ ، وأي ذلك كان فإنما أتى في الانتقالين الاثنين اللذين هما إلى الخطأ من أنه لم يطلب البرهان طلبا صحيحا ، بل عاجزا عنه بأحد الوجوه التي قدمنا قبل. وأما الانتقال إلى الصواب فإنه وقع عليه بحد صحيح وطلب صحيح أو بحدّ وبحث.

وهذا يعرض فيما يدرك بالحواس كثيرا فيرى الإنسان شخصا من بعيد فيظنه فلانا ، ويحلف عليه ويكابر ويجرد ثم يتبين له أنه ليس هو الذي ظن ، وقد يشم الإنسان رائحة يظنها من بعض الروائح ويقطع على ذلك ويحلف عليه مجدّا ثم يتبين أنه ليس هو الذي ظن ، وهكذا في الذوق أيضا ، وقد يعرض هذا في الحساب فقد يختلف الحاسبون في جميع الأعداد الكثيرة فيقول أحدهم إن المجتمع من هذه الأعداد كذا وكذا ، ويخالفه غيره في ذلك حتى إذا بحثوا بحثا صحيحا صحّ الأمر عندهم.

وقد يعرض هذا للإنسان فيما بين يديه ، يطلب الشيء من متاعه طلب تردد المرة بعد المرة فلا يجده ولا يقع عليه ، وهو بين يديه ونصب عينيه ، ثم يجده في أقرب مكان من بصره ، وقد يكتب الإنسان مستمليا أو يقرأ فيصحف ويزيد وينقص وليس هذا بموجب ألا يصح شيء بإدراك الحواس أبدا ، ولا ألا يصح وجود الإنسان شيئا افتقده أبدا ، ولا ألا يصح جميع الأعداد أبدا ، ولا ألا يصح حرف مكتوب ولا كلمة مقروءة أبدا ، لإمكان وجود الخطأ في بعض ذلك ، لكن التثبت الصحيح يليح الحق من الباطل. وهكذا لكل شيء أخطأ فيه أحد من الناس. لا بد من برهان يليح الحقّ فيه من الباطل. ولا يظن جاهل أن هذه المعاني كلها حجة لمبطلي الحقائق بل هي برهان عليهم لائح قاطع لأن كل ما ذكرنا لا يختلف حس أحد في أن كل ذلك إذا فتش تفتيشا صحيحا فإنه يقع اليقين والضرورة بأن الوهم بها غير صحيح وأن الحق فيها ولا بد ، فبطل تعلقهم بمن رجع عن مذهب إلى مذهب ، ولم يحصلوا إلا على أن قالوا : إنا نرى قوما يخطئون ، فقلنا لهم : نعم ويصيب آخرون.

ثم نعكس استدلالهم عليهم فنقول لهم وبالله تعالى نتأيد : فإذ قد وجدتم من يعتقد ما أنتم عليه ثم يرجع عنه فهلا قلتم إن مذهبكم هكذا كالأقوال الأخر التي أبطلتموها من أجل هذا الظن الفاسد في الحقيقة ، وهو في ظنكم صحيح؟ فهو لكم لازم لأنكم صححتموه ولا يلزمنا لأننا لم نصححه ولا صححه برهان.

٣١٦

قال أبو محمد : وبهذا الذي قلنا يبطل ما اعترضوا به من اختلاف المدعين الفلسفة والمنتحلين للكلام في مذاهبهم ، وما ذكروه من اختلاف المختارين أيضا في اختيارهم ، لأننا لم ندّع أن طباع الناس سليمة من الفساد ، لكنا نقول : إن الغالب على طبائع الناس الفساد ، وإن المنصف لنفسه أولا ثم لخصمه ثانيا الطالب للبرهان على حقيقة العارف به قليل ، برهاننا على هذا ما وجدناه من اختلاف الناس واختلافهم دليل على كثرة الخطأ منهم ، وقد أوضحنا أن وجود الخطأ يقتضي ضرورة وجود الصواب منهم ولا بد ، وليس اختلافهم دليلا على أن لا حقيقة في شيء من أقوالهم ، ولا على امتناع وجود السيل إلى معرفة الحق. وبالله تعالى التوفيق.

وأما احتجاجهم بأن لا يخلو من حقق شيئا من الديانات والمقالات والآراء من أن يكون صحّ له بالحواس أو ببعضها ، أو ببديهة العقل وضرورته ، أو بدليل من الأدلة غير هذين ، وأنه لو صح بالحواس أو بالعقل لم يختلف فيه ، وإلزامهم في الدليل مثل ذلك إلى آخر كلامهم ، فهذا كلّه مكرّر قد مضى الكلام فيه ، وقد أريناهم أنه قد يختلف الناس فيما يدرك بالحواس وببديهة العقل كاختلافهم في الشخص يرونه ويختلفون فيه ما هو؟ وفي الصوت يسمعونه بينهم فيم هو؟ ويختلفون فيه ، وكأقوال النصارى وغيرهم مما يعلم بضرورة العقل فساده.

ثم نقول لهم : إن أول المعارف هو ما أدرك بالحواس وببديهة العقل وضرورته ، ثم ينتج براهين راجعة من قرب أو من بعد إلى أول العقل أو إلى الحواس ، فما صححته هذه البراهين فهو حقّ ، وما لم تصححه هذه البراهين فهو غير صحيح. ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق : قولكم هذا بأي شيء علمتموه؟ أبا لعقل أو بالحواس أو بدليل عنهما؟ فإن علمتموه بالحواس أو العقل فكيف خولفتم فيه؟ وإن كنتم عرفتموه بدليل فذلك الدليل بم عرفتموه؟ أبا لحواس أم بالعقول أم بدليل آخر؟ وهكذا أبدا ، وكل سؤال أفسد حكم نفسه فهو فاسد. وعلى أن هذا لهم لازم لأنهم صححوه ، ومن صحح شيئا لزمه ، ونحن لم نصحح هذا السؤال فلا يلزمنا ، وقد أجبنا عنه بما دفعه عنّا ، وأما هم فلا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق.

وأما قولهم : نسألهم عن علمهم بم يدعون صحته أتعلمونه أم لا؟ فإن قالوا : لا نعلمه بطل قولهم إذ أقروا أنهم لا يعلمونه ، وإن قالوا بل نعلمه سألناهم : أبعلم علمتم علمكم بذلك أم بغير علم؟ وهكذا أبدا فهذا أمر قد أحكمنا بيان فساده في باب أفردناه في ديواننا هذا على أصحاب معمّر ، في قولهم بالمعاني وعلى الأشعرية ومن وافقهم من المعتزلة في قولهم بالأحوال ، وإنما كلامنا هذا مع من يقول بتكافؤ الأدلة.

٣١٧

قال أبو محمد : وهذا السؤال نفسه مردود عليهم كما هو ، ونسألهم : أتعلمون صحة مذهبكم هذا أم لا؟ فإن قالوا لا ، أقروا بأنهم لا يعلمون صحته ، وفي هذا إبطاله وأنه إنما هو ظن لا حقيقة ، وإن قالوا بل نعلمه سألناهم أبعلم تعلمونه أم بغير علم؟ وهكذا أبدا. إلا أن هذا السؤال لازم لهم لأنهم صححوه ، ومن صحّح شيئا لزمه وأما نحن فلم نصححه فلا يلزمنا وقد أجبنا عنه في بابه بأننا نعلم صحة علمنا بعلمنا ذلك بعينه لا بعلم آخر ، ونعقل أن لنا عقلا بعقلنا ذلك نفسه ، وإنما هو سؤال من يبطل الحقائق كلّها لا من يقول بتكافؤ الأدلة ، فبطل كل ما موّهوا به ، والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : ثم نقول لهم : أنتم قد أثبتم الحقائق وفي الناس من يبطلها ومن يشك فيها وهم السوفسطائية وعلمتم أنهم مخطئون في ذلك ببراهين صحاح ، فببراهين صحاح أيضا صح ما أبطلتموه أو شككتم فيه من أن في مذاهب الناس مذهبا صحيحا ظاهر الصحة؟ فإذا سأل عنها أجيب بها في مسألة مسألة.

قال أبو محمد : ويقال لمن قال لكل ذي ملة أو نحلة أو مذهب لعلك مخطئ وأنت تظن أنك مصيب ، لأن هذا ممكن في كثير من الأقوال بلا شك : أخبرنا أفي الناس من فسد دماغه وهو يظن أنه صحيح الدماغ؟ فإن أنكر ذلك كابر ودفع المشاهدات ، وإن قال هذا ممكن قيل له لعلك أنت الآن كذلك ، وأنت تظن أنك سالم الدماغ؟ فإن قال : لا ، لأن هاهنا براهين تصحح أني سالم الذهن ، قيل له : هاهنا براهين تصحح الصحيح من الأقوال وتبينه من الفاسد ، فإذا سأل عنها أجيب بها في مسألة مسألة.

قال أبو محمد : فإذ قد بطل بيقين أن تكون جميع أقوال الناس صحيحة لأن في هذا أن يكون الشيء باطلا حقا معا ، لأن الأقوال كلها إنما هي نفي شيء يثبته آخر من الناس ، فلو كان كلا الأمرين باطلا لبطل النفي في الشيء وإثباته معا ، وإذا بطل إثباته صح نفيه ، وإذا بطل نفيه صح إثباته. فكان يلزم من هذا أيضا أن يكون الشيء حقّا باطلا معا فثبت بيقين أن في الأقوال حقا وباطلا. وإذ هذا لا شك فيه فبالضرورة يعرف أن بين الحق والباطل فرقا موجودا وذلك الفرق هو البرهان فمن عرف البرهان عرف الحقّ من الباطل وبالله تعالى التوفيق.

فإن قال قائل : فإنكم تحيلون على براهين تقولون إن ذكرها جملة لا يمكن ، وتأمرون بالجدّ في طلبها ، فما الفرق بينكم وبين دعاة الإسماعيلية ، والقرامطة الذين يحيلون على مثل هذا؟ قلنا لهم : الفرق بيننا وبينهم برهانان واضحان أحدهما : أن القوم يأمرون باعتقاد أقوالهم وتصديقهم قبل أن تعرفوا براهينهم ، ونحن لا نفعل هذا ، بل ندعو

٣١٨

إلى معرفة البراهين وتصحيحها قبل أن نصدّق فيما نقول ، والثاني : أن القوم يكتمون أقوالهم وبراهينهم معا ولا يبيحون بها للسّبر والنظر ، ونحن نهتف بأقوالنا وبراهيننا لكل واحد وندعو إلى سبرها وتفتيشها وأخذها إن صحت ، ورفضها إن لم تصح ، والحمد لله رب العالمين.

ولسنا نقول إننا لا نقدر أن نحدّ براهيننا بحدّ جامع مبيّن لها بل نقدر على ذلك وهو البرهان المفرق بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه أن نرجع رجوعا صحيحا متيقنا إلى الحواس أو إلى العقل من قرب أو من بعد رجوعا صحيحا لا يحتمل ولا يمكن فيه إلا ذلك العمل ، فهو برهان وهو حق متيقّن ، وإن لم يرجع كما ذكرنا إلى الحواس أو إلى أول العقل فليس برهانا ولا ينبغي أن نستدل به ، وإنما هو دعوى كاذبة وبالله تعالى التوفيق.

وبهذا سقط القياس والتقليد لأنه لا يقدر القائلون بهما على برهان في تصحيحهما يرجع إلى الحواس أو إلى أول العقل رجوعا متيقنا.

قال أبو محمد : ونحن نقول قولا كافيا بعون الله تعالى وقوته : وهو أن كل ما اختلف فيه من غير الشريعة ومن تصحيح حدوث العالم وأن له محدثا واحدا لم يزل ، ومن تصحيح النبوة ثم تصحيح نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن براهين كل ذلك راجعة رجوعا صحيحا ضروريا إلى الحواس وضرورة العقل ، فما لم يكن هكذا فليس بشيء ولا هو برهان ، وإن كان ما اختلف فيه من الشريعة بعد صحة حملها فإن براهين كل ذلك راجعة إلى ما أخبر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله تعالى إذ هو المبعوث إلينا بالشريعة ، فما لم يكن هكذا فليس برهانا ولا هو شيئا. وفي أول ديواننا هذا باب في ماهية البراهين الموصلة إلى معرفة الحقيقة في كل ما اختلف الناس فيه ، فإذا أضيف إلى هذا ارتفع الإشكال والحمد لله رب العالمين.

٣١٩

الكلام في الألوان

قال أبو محمد : الأرض غبراء ، وفيها حمراء وفيها بيضاء وصفراء وخضراء وسوداء وموشاة ، والماء أبيض إلا أن يكتسب لونا بما استضافه إليه لفرط صفائه ، فيكتسب لون إنائه أو ما هو فيه. وإنما قلنا إنه أبيض لبراهين ، أحدها : أنه إذا صب في الهواء بهر وظهر أبيض صافي البياض ، والثاني أنه إذا جمد فصار ثلجا أو بردا ظهر أبيض شديد البياض. وأما الهواء فلا لون له أصلا ، ولذلك لا يرى لأنه لا يرى إلا اللون ، وقد زعم قوم أنه إنما لا يرى لانطباقه على البصر وهذا فاسد جدّا ، وبرهان ذلك أن المرء يغوص في الماء الصافي ويفتح عينيه فيه فيرى الماء وهو منطبق على بصره لا حائل بينهما ، ولا يرى الهواء في تلك الحال ، وإن استلقى على ظهره في الماء وهذا أمر مشاهد ، وأما الذي يرى عند دخول خط ضياء الشمس من كوة فإنما هو أن الأجسام تنحل منها أبدا أجزاء صغار وهي التي تسمى الهباء فإذا انحصر خط ضياء الشمس وقع البصر على تلك الأجزاء الصغار وهي متكاثفة جدا ولونها الغبرة فهي التي ترى لا ما سواها ، ومن تأمل هذا عرفه يقينا ، وأن البيوت مملوءة من ذلك الهباء المنحل من الأرض والثياب والأبدان وسائر الأجرام ، ولكن لدقتها لا ترى إلا إن انحصر خط الشمس فيرى ما في ذلك الانحصار منها فقط ، وأما النار فلا ترى أيضا لأنه لا لون لها في فلكها ، وأما المرئية عندنا في الحطب والفتيلة وسائر ما يحترق فإنما هي رطوبات ذلك المحترق تستحيل هواء فيه نارية فتكتسب ألوانا بمقدار ما تعطيها طبيعتها فتراها خضراء ولازورديّة وحمراء وبيضاء وصفراء وبالله تعالى التوفيق. وهذا يعرض للرطوبات المتولد منها دائرة قوس قزح.

قال أبو محمد : أجمع جميع المتقدمين بعد التحقيق بالبرهان أنه لا ترى إلّا الألوان ، وأن كل ما يرى فليس إلا لونا ، وحدّوا بعد ذلك البياض بأنه لون يفرّق البصر ، وحدّوا السواد بأنه لون يجمع البصر.

قال أبو محمد : وهذا حدّ وقعت فيه مسامحة وإنما خرّجوه على قول العامة في لون السواد ، ومعنى يجمع البصر أنه يقبضه في داخل الناظر ويمنع من انتشاره ومن

٣٢٠