الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

في جهة واحدة ، وهذا حمق لا يبلغه إلا الموسوس ومكابرة للعيان لا يرضاها لنفسه سالم البنية ، وإن قالوا بل الملاقي منه للمشرق هو غير الملاقي منه للمغرب وأن السماء والأرض منه في جهتين متقابلتين فوق وأسفل صدقوا ، وهكذا جهة الجنوب والشمال ، فإذ ذلك كذلك بلا شك فقد صح أنه ذو جهات ستة متغايرة ، وهذا إقرار منهم بأنه ذو أجزاء إذ قطعوا بأن الملاقي منه للمغرب غير الملاقي منه للمشرق ، و «من» للتبعيض ، وبطل قولهم من قرب والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : فإن أرادوا إلزامنا مثل هذا في العرض قلنا ليس للعرض جهة ، ولا له مكان ، ولا يقوم بنفسه ، ولا يحاذي شيئا ، وإنما يحاذي الأشياء حامل العرض لا العرض ، إذ لو ارتفع العرض لبقي حامله مالئا لمكانه كما كان محاذيا من جميع جهاته ما كان يحاذي حين حمله للعرض سواء سواء ، ولو ارتفع في قولكم الجزء الذي لا يتجزأ لبقي مكانه خاليا منه ، وقد أوضحنا أن عرضين وأعراضا تكون في جسم واحد في جهة منه واحدة وهم لا يختلفون في أن جزءين كل واحد منهما لا يتجزأ فلا يمكن البتة أن يكونا جميعا في مكان واحد منهما ، بل لكل واحد منهما عندهم مكانا غير مكان الآخر.

وبرهان آخر :

وهو أنهم يقولون : إن الجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق ، فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق : إذا أضفتم إلى الجزء الذي لا يتجزأ عندكم جزءا آخر مثله لا يتجزأ أليس قد حدث لهما طول؟ فلا بدّ من قولهم : نعم ، لا يختلفون في ذلك. ولو أنهم قالوا لا يحدث لهما طول للزمهم مثل ذلك في إضافة جزء ثالث ورابع وأكثر حتى يقولوا إن الأجسام العظام لا طول لها ويحصلوا في مكابرة العيان ، فنقول لهم : إذا قلتم إن جزءا لا يتجزأ لا طول له إذا ضمّ إليه جزء آخر لا يتجزأ ولا طول له فأيهما حدث له طول؟ فقولوا لنا هل يخلو هذا الطول الحادث عندكم من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها : إما أن يكون هذا الطول لأحدهما دون الآخر ، أو لا لواحد منهما ، أو لكليهما ، فإن قلتم ليس هذا الطول لهما ، ولا لواحد منهما ، فقد أوجبتم طولا لا لطويل ، وطولا قائما بنفسه ، والطول عرض والعرض لا يقوم بنفسه ، وصفة الصفة لا يمكن أن توجد إلا في موصوف بها ووجود طول لا لطويل مكابرة ومحال.

وإن قلتم إن ذلك الطويل هو لأحد الجزءين دون الآخر ، فقد أحلتم ، وأتيتم بما ، لا شك بالحس وضرورة العقل في بطلانه ، ولزمكم أن الجزء الذي لا يتجزأ له طول ، وإذا

٢٨١

كان له طول فهو بلا شك يتجزأ وهذا ترك منكم لقولكم ، مع أنه أيضا محال لأنه يجب من هذا أنه يتجزأ ولا يتجزأ. وإن قلتم إن ذلك الطول للجزءين معا صدقتم وأقررتم بالحق في أن كل جزء منهما فله حصته من الطول والحصّة من الطول طول بلا شك ، وإذا كان كل واحد منهما له طول ، فكل واحد منهما يتجزأ ، وهذا خلاف قولكم إنه لا يتجزأ ، وهذا برهان ضروري أيضا واضح لا محيد عنه ، وبالله تعالى التوفيق.

وبرهان آخر :

قال أبو محمد : ونقول لهم : أيما أطول جزءان لا يتجزأ كل واحد منهما وقد ضم أحدهما إلى الآخر ، أم أحدهما غير مضموم إلى الآخر؟ فلا يجوز أن يقول أحد إلا أن الجزءين المضمومين أطول من أحدهما غير مضموم إلى الآخر ، فإذ ذلك كذلك فمن المحال الممتنع الباطل أن يقال في شيء هذا أطول من هذا إلا وفي الآخر طول دون طول ما هو أطول منه ، فقد صح ضرورة أن الطول موجود لكل جزء قالوا فيه إنه لا يتجزأ ، وإذا كان له طول فهو منقسم بلا خلاف من أحد منا ومنهم ، وهكذا القول في عرضهما إن ضمّ أحدها إلى الآخر وفي عمقهما كذلك ، ولا بد من أن يكون لكل واحد منهما حصة من العرض والعمق ، فإذ ذلك كذلك ضرورة فكل جزء قالوا فيه إنه لا يتجزأ فلا بد من أن يكون له طول وعرض وعمق ، فإذ ذلك كذلك فهو جسم يتجزأ ولا بد ، وهذا أيضا برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق.

وقد رام أبو الهذيل التخلص من هذا الإلزام فبعد ذلك عليه ، لأنه رام محالا فقال : إن الطول الحادث للجزءين عند اجتماعهما إنما هو كالاجتماع الحادث لهما ولم يكن لهما ولا لأحدهما إذا كانا منفردين.

قال أبو محمد : وهذا تمويه ظاهر لأن الاجتماع هو ضم أحدهما إلى الآخر نفسه ليس هو شيئا آخر ، ولم يكونا قبل هذا الضم والجمع مضمومين ولا مجتمعين وليس معنى الطول والعرض والعمق كذلك بل هو شيء آخر غير الضم والجمع وإنما هو صفة للطويل مضموما كان إلى غيره أو غير مضموم ، ولا يوجب الجمع والضم طولا لم يكن واجبا قبل الضم والجمع ، فلم يزد أبو الهذيل على أن قال : لما اجتمعا صارا مجتمعين وصارا طويلين. وهذه دعوى فاسدة وتنظير منحل ، لأن قوله لما اجتمعا صارا مجتمعين صحيح لا شك فيه ، وقوله وصارا طويلين دعوى مجردة من الدليل جملة وما كان هكذا فهو باطل. وأيضا فإن الاجتماع لما حدث بينهما بطل معنى آخر كان موجودا فيهما ، وهو الافتراق الذي هو ضد الاجتماع.

٢٨٢

فأخبرونا إذا حدث الطول بزعمكم فأي شيء هو المعنى الذي ذهب بوجود الطول وبما فيه الطول؟ ولا سبيل لهم إلى وجوده ، فصح أن الطّول كان موجودا في كل جزء على انفراده وكذلك العرض والعمق ، ثم لما اجتمعا زاد الطول والعرض والعمق ، وهكذا أبدا وبالله تعالى التوفيق.

وهذا هو الذي تشهد له الحواس والمشاهدة والعقل والحمد لله رب العالمين.

وبرهان آخر : وهو أن الجرم لو كان أحمر فكل جزء من أجزائه أحمر بلا شك ، فإن قالوا ليس أحمر قلنا لهم فلعله أخضر أو أصفر أو غير ذي لون وهذا عين المحال ، لأن الكل قد بينا أنه ليس هو شيئا غير أجزائه ، فلو كان لون أجزائه غير لونه كله لكان لونه غير لونه وهذا محال ، فإذ لا شك فيما ذكرنا فالجزء الذي يدعون أنه لا يتجزأ هو ذو لون بلا شك ، وإذ هو ذو لون فهو جسم لا يعقل غير ذلك فهو يتجزأ.

قال أبو محمد : وقالت الأشعرية هاهنا كلاما طريفا وهو أنهم قالوا : هو ذو لون واحد.

قال أبو محمد : كل ملون فهو ذو لون واحد لا ذو ألوان كثيرة ، إلا أن يكون أبلق أو موشّى.

وبرهان آخر : أن وجود شيء في العالم قائم بنفسه ليس جسما ولا عرضا ولا قابلا للتجزؤ ولا طول له ولا عرض ولا عمق فهو محال ممتنع إذ هو المذكور ليس هو شيئا غير الباري تعالى ، وجلّ تعالى عن أن يكون له في العالم شبيه ، وبهذا بان عزوجل عن مخلوقاته ، ولم يكن له كفوا أحد ، وليس كمثله شيء.

وبرهان آخر :

قال أبو محمد : كل شيء يحتمل أن يكون له أجزاء كثيرة فبالضرورة ندري أنه يحتمل أن يجزأ إلى أقل منها ، هذا ما لا تختلف العقول والإحساس فيه ، كشيء احتمل أن يقسم على أربعة أقسام فلا شك أنه يحتمل أن ينقسم على ثلاثة وعلى اثنتين ، وهكذا في كل عدد ، ومن دافع هذا فإنما يدافع الضرورة ويكابر العقل ، فلو أقمت خطّا من ثلاثة أجزاء كل جزء منها لا يتجزأ على قولهم ، أو يعمل ذلك الخط من عشرة أجزاء كذلك ومن ألف جزء كذلك أو مما زاد ، فإنه لا يختلف أحد في أن الخط الذي هو في ثلاثة أجزاء فإنه ينقسم أثلاثا في موضعين ، وأن الذي هو من أربعة أجزاء فإنه ينقسم أعشارا أو بنصفين ، فإذ لا شك في هذا فبيقين لا محيد عنه يدري كلّ ذي حس سليم ولو أنه عالم أو جاهل أن ما انقسم أثلاثا فإنه ينقسم بنصفين مستويين ، وما انقسم أرباعا فإنه ينقسم أثلاثا مستوية ، وأما ما كان من الخطوط له

٢٨٣

أعشار وأخماس وأنصاف وأثلاث وأسداس وأسباع متساوية ، وإذ لا شك في هذا فإن القسمة لا بدّ من أن تقع في نصف جزء منها أو في أقل من نصفه ، فصح أن كل جسم فهو يتجزأ ضرورة وأن الجزء الذي لا يتجزأ باطل معدوم من العالم ، وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق.

برهان آخر :

قال أبو محمد : بلا شك نعلم أن الخطين المستقيمين المتوازيين لا يلتقيان أبدا ولو مدّا عمر العالم أبدا بلا نهاية وإذ لا شك في هذا فإنك إن مددت من الخط الأعلى إلى الخط المقابل له خطين مستقيمين متوازيين قام منهما مربع بلا شك فإذا أخرجت من زاوية ذلك المربع خطأ منحدرا من هنالك إلى الخط الأسفل فإن تلك الخطوط المخرجة من الضلع الذي ذكرنا وتلك الخطوط المخرجة من الزاوية لا تمر مع الخط الأعلى أبدا لأنها غير متوازية له وإذ ذلك كذلك فذلك الضلع منقسم أبدا لا بد ما أخرجت الخطوط بلا نهاية.

برهان آخر :

قال أبو محمد : وبالضرورة نعلم أن كل مربع متساوي الأضلاع ، فإن الخط القاطع من الزاوية العليا إلى الزاوية السفلى التي لا يوازيها يقوم منه في المربع مثلثان متساويان فإنه لا شك أطول من كل ضلع من أضلاع ذلك المربع على انفراده ، ونسألهم عن مائة جزء لا تتجزأ رتبت متلاصقة ، عشرة عشرة ، فبالضرورة نجد فيها ما ذكرنا فبيقين نعلم حينئذ أن كل جزء من الأجزاء المذكورة لو لا أن له طولا وعرضا لما كان الخط المارّ بها القاطع للمربع القائم منها على مثلثين متساويين أطول من الخط المارّ بكل جهة من جهات ذلك المربع على استواء وموازاة للخطوط الأربعة المحيطة بذلك المربع ، وهو أطول منه بلا شك.

فصح ضرورة أن لكل جزء منها طولا وعرضا ، وأن ما له طول وعرض فهو متجزئ بلا شك ، فصح أيضا بما ذكرنا أن كلّ جزء مر عليه الخيط المذكور فقد انقسم.

برهان آخر :

وأيضا فإننا لو أقمنا خطأ من أجزاء لا تتجزأ على قولهم مستقيما ثم أدرناه حتى يلتقي طرفاه ويصير دائرة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الخط إذا أدير حتى يلتقي طرفاه فإن ما قابل من أجزائه مركز الدائرة أضيق مما قابل منها خارج الدائرة ، فإذ

٢٨٤

ذلك كذلك فهذا لازم في هذا الخط المدار بلا شك ، وإذ لا شك في هذا فقد فضل من أحد طرفي الجزء الذي لا يتجزأ عندهم فضلة على طرفه الآخر وهكذا كل جزء من تلك الأجزاء بلا شك ، فصح ضرورة أنه منقسم محتمل للانقسام ولا بد وبالله تعالى التوفيق.

برهان آخر :

نسألهم عن دائرة قطرها أحد عشر جزءا يتجزأ كل واحد منها عندهم أو أي عدد شئت على الحساب ، فأردنا أن نقسمها بنصفين على السواء ، ولا خلاف في أن هذا ممكن ، فبالضرورة ندري أن الخط القاطع على قطر الدائرة من المحيط إلى ما قابله من المحيط مارّا على مركزها لا يقع البتّة إلا في أنصاف تلك الأجزاء ، فصح ضرورة أنها تتجزأ ولو لم يمر ذلك الخط على أنصافها لما قسم الدائرة بنصفين وبالله تعالى التوفيق.

وبرهان آخر :

وهو أن نسألهم عن الجزء الذي لا يتجزأ الذي يحققونه إذا وضع على سطح زجاجة ملساء مستوية ، هل له حجم زائد على سطحها أم لا حجم له زائد على سطحها؟ فإن قالوا لا حجم له زائد على سطحها أعدموه ولم يجعلوا له مكانا ولا جعلوه متمكنا أصلا. ونسألهم عن جزءين جعلا كذلك فلا بد من قولهم إن له حجما. فنسألهم عن ذلك الحجم ألهما معا أم لأحدهما؟ فأي ذلك قالوا أثبتوا ولا بد الحجم لهما وللجزء الذي هو أحدهما ، وإذا كان للجزء الذي لا يتجزأ حجم زائد فالذي لا شك فيه أن له ظلّا ولذا صح يقينا أن له ظلّا فلا شك في أن الظل يزيد وينقص ويمتد ويتقلص ويذهب جملة إذا سامتته الشمس ، فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن ظله ينقص حتى يكون أقل من قدره وإذ ذلك كذلك فقد ظهر ووجب أن له تجزؤا ومقدارا متبعضا.

وبرهان آخر :

وهو أننا نسألهم عن جزء لا يتجزأ من الحديد أو من الذهب ، وجزء لا يتجزأ من خيط قطن هل ثقلهما ووزنهما سواء ، أم الذي من الذهب والحديد أثقل من الذي من القطن؟ فإن قالوا ثقلهما ووزنهما سواء كابروا ولزمهم هذا في ألف جزء كذلك من الذهب أنها ليست أثقل من ألف جزء من القطن مجتمعة كانت الأجزاء أو متفرقة ، وهذا جنون ومكابرة ، وإن قالوا بل الذي من الذهب أوزن وأثقل صدقوا وأوجبوا أن له تجزؤا بتفاضل الوزن ضرورة ولا بد.

٢٨٥

قال أبو محمد : فهذه براهين ضرورية قاطعة بأن كل جزء فهو يتجزأ أبدا بلا نهاية وأن جزءا لا يتجزأ ليس في العالم أصلا ولا يمكن وجوده بل هو من المحال الممتنع وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : أما أبو الهذيل فخلط في هذا الباب ، وحق لمن رام نصر الباطل أن يخلط فقال : إن الجزء الذي لا يتجزأ ذو حركة وسكون يتعاقبان عليه ، وأنه يشغل مكانا لا يسع فيه معه غيره ، وأنه أقرب إلى السماء من مكانه الذي هو عليه من الأرض ، وهذا غاية التناقض إذ ما كان هكذا فله مساحة بلا شك ، وهو ذو جهات ست فلمساحته أجزاء من نصف وثلث وأقل وأكثر ، وما كان ذا جهات فالذي منه في كل جهة غير الذي منه في الجهة الأخرى بلا شك ، وما كان هكذا فهو جسم محتمل للتجزؤ بلا شك ، وما عدا هذا فوسواس نعوذ بالله منه.

قال أبو محمد : اختلفوا في تخليطهم هذا اختلافا طريفا أيضا ، فأجمعوا أنه إذا ضم جزء لا يتجزأ فصار اثنين فقد حدث لهما طول ، ثم اختلفوا متى يصير جسما له طول وعرض وعمق.

فقال بعضهم : إذا صار جزءين صار جسما وهو قول الأشعرية. وقال بعضهم : إذا صار له أربعة أجزاء وقال بعضهم بل إذا صار ستة أجزاء. واتفقوا على أنه إذا صار ثمانية أجزاء فقد صار جسما له طول وعرض وعمق ، وكل هذا تخليط ناهيك به وجهل شديد كان الأولى بأهله أن يتعلموا قبل أن يتكلموا بهذه الحماقات. برهان ذلك أنهم لم يختلفوا أنهم إذا صفّوا أربعة أجزاء لا تتجزأ ، وتحتها أربعة أجزاء لا تتجزأ ، فإنه قد صار عندهم مجتمع من هذه الأجزاء جسما طويلا عريضا عميقا.

قال أبو محمد : وهذا الذي طابت نفوسهم عليه وأنست عقولهم إليه في الثمانية ، وسهل على بعضهم دون بعض في ثلاثة أجزاء تحتها ثلاثة أجزاء ، وفي جزءين تحتهما جزءان ، ومنعوا كلهم من ذلك في جزء على جزء حاشا الأشعرية ، وإنه بعينه موجود على أصولهم المخذولة وأقوالهم المرذولة في جزء على جزء سواء سواء بعينه ، وذلك أن أربعة أجزاء على أربعة أجزاء فإنما الحاصل منها جزء على جزء فقط من كل جهة ، فإذا جعلوا للأربعة على الأربعة طولا فإنما جعلوه في جزء إلى جنب جزء وكذلك فعلوا في العرض ، وكذلك فعلوا في العمق ، فإذ هو كذلك والطول عندهم يوجد في جزء إلى جنب جزء والعرض يوجد جنب الطول ، لأن العرض لا يكون أكثر من الطول أصلا والعمق موجود فيهما أيضا فظهر أيضا أن لكل جزء منها طولا وعرضا

٢٨٦

وعمقا ومكانا وجهات ، ووجب ضرورة بهذا أنه يتجزأ ولاح جهلهم وخبطهم وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : فإذ قد بطل قولهم في الجزء الذي لا يتجزأ وفي كل ما أوجبوا أنه جوهر لا جسم ولا عرض ، فقد صح أن العالم كله حامل قائم بنفسه ، ومحمول لا يقوم بنفسه ، ولا يمكن وجود أحدها متخليا ، فالمحمول هو العرض ، والحامل هو الجوهر ، وهو الجسم سمّه كيف شئت ، ولا يمكن في الوجود غيرهما وغير الخالق لهما تعالى وبالله تعالى التوفيق.

٢٨٧

الكلام في أن العرض لا يبقى وقتين

قال أبو محمد : وقال هؤلاء الجهال : إن العرض لا يبقى وقتين وأنه لا يحمل عرضا.

قال أبو محمد : وقد كلمناهم في هذا وتقرينا كتبهم فما وجدنا لهم حجة في هذا أصلا ، أكثر من أن بعضهم قال أو بقي وقتين لشغل مكانا.

قال أبو محمد : وهذه حجة فقيرة إلى حجّة ، ودعوى كاذبة نصرتها دعوى كاذبة ولا عجب أكثر من هذا ، ثم لو صحت لهم للزمهم هذا بعينه فيما جوّزوه من بقاء العرض وقتا واحدا ، ويقال لهم : ما الفرق بينكم وبين من قال لو بقي العرض وقتا واحدا لشغل مكانا؟ وبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه لا فرق في اقتضاء المكان بين بقاء وقت واحد وبين بقاء وقتين فصاعدا ، فإن أبطلوا بقاءه وقتا لزمهم أنه ليس باقيا أصلا ، وإذا لم يكن باقيا فليس موجودا أصلا وإذا لم يكن موجودا فهو معدوم ، فحصلوا من هذا التخليط على نفي الأعراض ومكابرة العيان.

ويقال لهم : ما الفرق بينكم وبين من قال بل يبقى وقتين ولا يبقى ثلاثة أوقات إذ لو بقي ثلاثة أوقات لشغل مكانا؟ وكل هذا هوس وليس من أجل البقاء وجب اقتضاء الباقي المكان ، لكن من أجل أنه طويل عريض عميق فقط ولا مزيد.

وقد قال بعضهم : إن الشيء في حين خلق الله تعالى له ليس باقيا ولا فانيا ، وهذه دعوى في الحمق كما سلف لهم ولا فرق ، وهي مع ذلك لا تعقل ، ولا يتمثل في الوهم أن يكون في الزمان أو في العالم شيء موجود ليس باقيا ولا فانيا.

قال أبو محمد : ولا عجب أعجب من حماقة من قال إن بياض الثلج ، وسواد القار ، وخضرة البقل ، ليس شيء منها الذي كان آنفا بل يفنى في كل حين ويستعيض ألف ألف بياض وأكثر ، وألف ألف خضرة وأكثر ، هذه دعوى عارية من الدليل إلا أنها جمعت السخف مع المكابرة.

قال أبو محمد : والصحيح من هذا هو ما قلناه ونقوله ، من أن الأعراض تنقسم

٢٨٨

أقساما فمنها ما لا يزول ولا يتوهم زواله إلا بفساد ما هو فيه لو أمكن ذلك كالصورة الكلية ، أو كالطول والعرض والعمق. ومنها ما لا يزول ولا يتوهم زواله إلا بفساد حامله كالإسكار في الخمر ونحو ذلك فإنها إن لم تكن مسكرة لم تكن خمرا وهكذا كل صفة نجد بها ما هي عليه ، ومنها ما لا يزول إلا بفساد حامله ، إلا أنه لو توهم زائلا لم يفسد حامله كزرق الأزرق وفطس الأفطس فلو زالا لبقي الإنسان إنسانا بحسبه ، ومنها ما يبقى مددا طوالا وقصارا وربما زايل ما هو فيه كسواد الشعر وبعض الطعوم والخشونة والإملاس في بعض الأشياء ، والطيب والنتن في بعضها والسكون والعلم ، وكبعض الألوان التي تستحيل ، ومنها ما يسرع إليه الزوال كحمرة الخجل ، وكمدة الهم ، وليس من الأعراض شيء يفنى بسرعة حتى لا يمكن أن يضبط مدة بقائه إلا الحركة فقط ، على أننا بضرورة العقل والحس ندري أن حركة الجزء من الفلك التي تقطع الفلك بنصفين من مشرق إلى غرب أسرع من حركة الجزء منه الذي حوالي القطبين ، لأن كل هذين الجزءين يرجع إلى مكانه الذي بدأ منه في أربعة وعشرين ساعة ، وبين دائريهما في الكبر ما لا يكون مساحة خط دائرة أو خط مستقيم أكثر منه في العالم ، وبيقين ندري أن حركة المذعورة في طيرانها أسرع من حركة السلحفاة في مشيها ، وأن حركة الماء المناسب في الحدور أسرع من حركة الماء الجاري في ميل النهر ، وأن حركة المحصر في الجري أسرع من حركة الماشي.

فصح يقينا أن في خلال ذلك الحركات أيضا بقاء إقامة تتفاضل في مدته لأن الحركات كلها إنما هي نقلة من مكان إلى مكان فللمتحرك مقابله ولا بد لكل جرم مر عليه ، ففي تلك المقابلات يكون التفاضل في السرعة أو في البطء إلا أنه لا تحس أجزاؤه ولا تضبط دقائقه إلا بالعقل فقط الذي به تعرف زيادة الظل والشمس ، ولا يدرك ذلك بالحس ، إلا إذا اجتمعت فيه جملة ما فإنه يعرف حينئذ بحس البصر ، كما لا يدرك بالحواس نماء النامي إلا إذا اجتمعت منه جملة ما ، وكما يعرف بالعقل لا بالحس أن لكل خردلة جزءا من الأثقال ، ولا تحس إلا إذا اجتمعت منه جملة ما ، وكذلك الشبع والري وكثير من أعراض العالم فتبارك خالق كل ذلك هو الله أحسن الخالقين.

وأما قولهم : إن العرض لا يحمل العرض فكلام فاسد مخالف للشريعة وللطبيعة وللعقل وللحواس ولإجماع جميع ولد آدم ، لأننا لا نختلف في أن نقول حركة سريعة ، وحركة بطيئة ، وحمرة مشرقة ، وخضرة أشد من خضرة ، وخلق حسن وخلق سيّئ ، وقال تعالى : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [سورة يوسف : ٢٨] وقال تعالى : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)

٢٨٩

[سورة يوسف : ١٨]. وحسبك فسادا بقول أدى إلى هذا ، ومن أحال على العيان والحس والمعقول وكلام الله تعالى فقد فاز قدحه وخسرت صفقة من خالفه.

قال أبو محمد : ولسنا نقول إن كل عرض يحمل عرضا إلى ما لا نهاية له ، بل هذا باطل لكن كما وجد وكما خلق الباري تعالى ما خلق ولا مزيد وما عدا هذا فرقة دين ، وضعف عقل ، وقلة حياء ، ونعوذ بالله من هذه الثلاث وحسبنا الله ونعم الوكيل

٢٩٠

الكلام في المعارف

قال أبو محمد : اختلف الناس في المعارف فقال قائلون : المعارف كلها باضطرار إليها ، وقال آخرون : المعارف كلها باكتساب لها ، وقال آخرون : بعضها باكتساب وبعضها باضطرار.

قال أبو محمد : والصحيح في هذا الباب أن الإنسان يخرج إلى الدنيا غفلا لا معرفة له بشيء كما قال عزوجل : (أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [سورة النمل : ٧٨].

قال أبو محمد : فحركاته كلها طبيعة كأخذه الثدي حين ولادته ، وتصرفه تصرف البهائم على حسب تألمها وطربها ، حتى إذا كبر وعقل وتقوت نفسه الناطقة ، وأنست بما صارت فيه وسكنت إليه ، وبدأت رطوباته تجفّ بدأت بتمييز الأمور في الدار التي صارت فيها فيحدث الله تعالى لها قوة على التفكير ، واستعمال الحواس في الاستدلال ، وأحدث الله تعالى لها الفهم بما تشاهد وما تخبر به فطريقه إلى بعض المعارف اكتساب في أول توصله إليها لأنه بأول فهمه ومعرفته عرف أن الكل أكثر من الجزء ، وأن جسما واحدا لا يكون في مكانين ، وأنه لا يكون قاعدا قائما معا ، وهو إن لم يحسن العبارة عن ذلك فإن أحواله كلها تقتضي تيقنه لكل ما ذكرنا ، وعرف أولا صحة ما أدرك بحواسه ، ثم أنتجت له بعد ذلك سائر المعارف بمقدمات راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو من بعد ، فكل ما ثبت عندنا ببرهان وإن كان بعيد الرجوع إلى ما ذكرنا فمعرفة النفس به اضطرارية لأنه لو رام جهده أن يزيل عن نفسه المعرفة بما ثبت عنده هذا الثبات لم يقدر ، فإذ هذا لا شك فيه فالمعارف كلها باضطرار ، إذ ما لم يعرف بيقين فإنما عرف بظنّ ، وما عرف ظنا فليس علما ولا معرفة ، هذا ما لا شك فيه ، إلّا أن يتطرق إلى طلب البرهان بطلب وهذا الطلب هو الاستدلال ولو شاء ألّا يستدل لقدر على ذلك ، فهذا الطلب وحده هو الاكتساب فقط ، وأما ما كان مدركا بأول العقل وبالحواس فليس عليه استدلال أصلا ، بل من قبل هذه الجهات يبتدئ كل أحد بالاستدلال وبالرد إلى ذلك فيصح استدلاله أو يبطل ، وحدّ العلم بالشيء هو المعرفة به أن نقول العلم والمعرفة اسمان

٢٩١

واقعان على معنى واحد ، وهو اعتقاد الشيء على ما هو عليه وتيقنه به وارتفاع الشكوك عنه ، ويكون ذلك إما بشهادة الحواس وأول العقل وإما برهان راجع من قرب أو من بعد إلى شهادة الحواس وأول العقل ، وإما باتفاق وقع له في مصادفة اعتقاد الحق خاصة بتصديق ما افترض الله عزوجل عليه اتباعه خاصة دون استدلال.

وأما علم الله تعالى فليس محدودا أصلا ، ولا يجمعه مع علم الخلق حدّ ولا جنس ولا شيء أصلا. وذهب الأشعرية إلى أن علم الله تعالى واقع مع علمنا تحت حدّ واحد.

قال أبو محمد : وهذا خطأ فاحش إذ من الباطل أن يقع ما لم يزل مع ما لم يكن تحت حدّ ، وما لم يزل فلا نهاية له فلا حدّ له لأن الحدّ هو حصر النهايات ، وعلم الله تعالى ليس هو غير الله تعالى على ما بيّنّا قبل وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : قالت طوائف منهم الأشعرية وغيرهم : إن من اتفق له اعتقاد شيء على ما هو به من غير دليل لكن بتقليد أو بميل بإرادته فليس عالما به ولا عارفا به ، ولكنه معتقد له ، وقالوا كل علم ومعرفة اعتقاد ، وليس كلّ اعتقاد علما ولا معرفة ، لأن العلم والمعرفة بالشيء إنما يعبر بهما عن تيقن صحته ، قالوا : قالوا : وتيقن الصحة لا يكون إلا ببرهان. قالوا : وما كان بخلاف ذلك فإنما هو ظن ودعوى لا يقين بها إذ لو جاز أن يصدق قول بلا دليل لما كان قول أولى من قول ، ولكانت الأقوال كلها صحيحة على تضادها ، ولو كان ذلك لبطلت الأقوال ولبطلت الحقائق كلها ، لأن كل قول يبطل كل قول سواه ، فلو صحت الأقوال كلها لبطلت كلّها لأنه كان يكون كلّ قول صادقا في إبطاله ما عداه.

قال أبو محمد : فنقول وبالله تعالى التوفيق : إن التسمية والحكم ليسا إلينا وإنما هما إلى خالق اللغات ، وخالق الناطقين بها ، وخالق الأشياء ومرتبها كما شاء لا إله إلا هو ، قال عزوجل منكرا على من سمى من قبل نفسه : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [سورة النجم : ٢٣].

فوجدناه عزوجل يقول في غير موضع من القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وقال تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [سورة الحجرات : ٩] وقال تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [سورة التوبة : ١١].

فخاطب الله تعالى بهذه النصوص وبغيرها ، وكذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كلّ مؤمن في العالم إلى يوم القيامة ، وبيقين ندري أنه كان في المؤمنين على عهده عليه‌السلام

٢٩٢

ثم من بعده عصرا عصرا إلى يوم القيامة المستدل وهم الأقل ، وغير المستدل ، كمن أسلم من الزنج ومن الروم ، والفرس والإماء وضعفة النساء ، والرعاة ومن نشأ على الإسلام بتعليم أبيه أو سيده إياه ، وهم الأكثر والجمهور ، فسماهم عزوجل مؤمنين وحكم لهم بحكم الإسلام ، وهذا كله معروف بالمشاهدة والضرورة.

وقال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [سورة الإسراء : ٣٦] فنهى الله عزوجل كل أحد عن أن يقول ما ليس به علم ، وقال تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [سورة النساء : ١٣٦].

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، ويؤمنوا بما أرسلت به» (١).

فصح يقينا أنهم كلهم مأمورون بالقول بجميع ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن كل من صدّ عنه فهو كافر حلال دمه وماله ، فلو لم يؤمن بالقول بالإيمان إلا من عرفه من طريق الاستدلال لكان كل من لم يستدل ممن ذكرنا منهيا عن اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن القول بتصديقه لأنه عند هؤلاء القوم ليسوا عالمين بذلك ، وهذا خلاف القرآن وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإجماع الأمة المتيقن.

أما القرآن والسنة فقد ذكرناهما ، وأما إجماع الأمة فمن الباطل المتيقن أن يكون الاستدلال فرضا لا يصح أن يكون أحد مسلما إلا به ، ثم يغفل الله عزوجل أن يقول : لا تقبلوا من أحد أنه مسلم حتى يستدل أتراه نسيء تعالى ذلك أو تعمد عزوجل ترك ذكر ذلك إضلالا لعباده ....؟؟؟ ويترك ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إما عمدا أو قصدا إلى الضلال والإضلال ، أو نسيانا لما اهتدى له هؤلاء وتنبهوا إليه وهم من هم بلادة وجهلا وسقوطا؟

هذا لا يظنه إلا كافر ولا يحققه إلا مشرك ، فما قال قط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل قرية أو حلة أو حي ولا لراع ولا لراعية ولا للزنج ولا للنساء لا أقبل إسلامكم حتى أعلم المستدل من غيره.

__________________

(١) روي بألفاظ وطرق عديدة. رواه البخاري في الإيمان باب ١٧ ، والزكاة باب ١ ، والصلاة باب ٢٨ ، واستتابة المرتدين باب ٣ ، والاعتصام بالكتاب والسنة باب ٢ و ٢٨. ومسلم في الإيمان حديث ٣٢. وأبو داود في الزكاة باب ١ ، والجهاد باب ٩٥. والترمذي في الإيمان باب ١ و ٢ ، وتفسير سورة ٨٨. والنسائي في الزكاة باب ٣ ، والإيمان باب ١٥ ، والجهاد باب ١ ، والتحريم باب ١. وابن ماجة في المقدمة باب ٩ ، والفتن باب ١. والدارمي في السير باب ١٠. وأحمد في المسند (١ / ١١ ، ٧٨ ، ٢ ، ٣١٤ ، ٣٤٥ ، ٣٧٧ ، ٤٣٣ ، ٤٣٩ ، ٤٧٥ ، ٤٨٢ ، ٥٠٢ ، ٥٢٧ ، ٥٢٨ ، ٣ / ١٩٩ ، ٢٢٤ ، ٣٠٠ ، ٣٣٢ ، ٣٣٩ ، ٣٩٤ ، ٤ / ٩ ، ٥ / ٢٤٦).

٢٩٣

فإذ لم يقل عليه‌السلام ذلك فالقول به واعتقاده إفك وضلال ، وكذلك أجمع جميع الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء إلى الإسلام وقبوله من كل أحد دون ذكر استدلال ، ثم هكذا جيلا فجيلا حتى حدث من لا وزن له.

فإن قالوا : قد قال الله عزوجل : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة : ١١١]. قلنا : نعم هذا حق ، وإنما قاله الله عزوجل لمن خالف الحق الذي أمر عزوجل الجن والإنس باتباعه.

وهكذا القول أن كل من قال قولا خالف فيه ما أمر الله عزوجل باتباعه فسواء استدل بزعمه أو لم يستدل ، هذا مبطل غير معذور إلا من عذره الله عزوجل فيما عذره فيه كالمجتهدين من المسلمين بخطإ قاصد إلى الحق فقط ما لم يقم عليه حجة فيعاند وأما من اتبع الحق فما كلفه الله عزوجل قطّ برهانا.

والبرهان قد ثبت بصحة كل ما أمر الله تعالى به ، فسواء علمه فتبع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لم يعلمه حسبه أنه عالم بالحق معتقد له موقن به ، وإن جهل برهانه الذي قد علمه غيره ، وهذا خلق الله عزوجل الإيمان والعلم في نفسه كما خلقه في نفس المستدل ولا فرق ، قال الله عزوجل : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) [سورة النصر : ١ ، ٢]. فسماهم داخلين في دينه وإن كانوا أفواجا ، وما شرط الله عزوجل قط ولا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون ذلك باستدلال ، بل هذا شرط من شرط ذلك ممن قذفه إبليس في قلبه وعلى لسانه ليخرجه إلى تكفير الأمة ، ولا عجب أعجب من إصفاق هذه الطائفة الضالة المخذولة على أنه لا يصح لأحد إيمان حتى يستدل على ذلك ، ولا يصح لأحد استدلال إلا حتى يكون شاكّا في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مصدق بها ، فإذا كان ذلك كذلك صح له الاستدلال ، وإلا فليس مؤمنا ، فهل سمع بأحمق أو أدخل في الحمق والكفر من قول من قال لا يؤمن أحد إلا حتى يكفر بالله تعالى وبالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وأن من آمن بهما ولم يكفر بهما قط فهو كافر مشرك؟ نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال بهذا.

قال أبو محمد : فهذان طريقان لا ثالث لهما ، وكل طريق منهما تنقسم قسمين أحدهما : من اتبع الذي أمره الله تعالى باتباعه وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا مؤمن عالم حقا ، سواء استدل أو لم يستدل ، لأنه فعل ما أمر الله تعالى به ، ثم ينقسم هؤلاء قسمين أحدهما : من لم يتبع قط غيره عليه‌السلام ووافق الحق بتوفيق الله عزوجل ، فهذا له في كل عقد اعتقده أجران ، وإما أن يكون حرم موافقة الحق وهو يريد في أمره ذلك

٢٩٤

اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا معذور ومأجور أجرا واحدا ، ما لم تقم عليه الحجة فيعاندها ، وهذا نص قوله عليه‌السلام في الحاكم المجتهد والمخطئ (١).

والطريقة الثانية من اتبع غير الذي أمره الله باتباعه ، فهذا سواء استدل أو لم يستدل هو مخطئ ظالم عاص لله تعالى أو كافر على حسب ما جاءت به الديانة في أمره. ثم ينقسم هؤلاء قسمين أحدهما أصاب ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو غير قاصد إلى اتباعه عليه‌السلام فيه والآخر لم يصبه ، وكلاهما لا خير فيه وكلاهما آثم غير مأجور ، وكلاهما عاص الله عزوجل أو كافر على حسب ما جاءت به الديانة في أموره ، لأنهما جميعا تعديا حدود الله عزوجل فيما أمرهم به من اتّباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [سورة الطلاق : ١]. ولا ينتفع بإصابته الحق إذ لم يصبه من الطريق التي لم يجعل الله تعالى له طلب الحق وأخذه إلا من قبلها. وقد علمنا أن اليهود والنصارى يوافقون الحق في كثير كإقرارهم بنبوة موسى عليه‌السلام ، وكتوحيد بعضهم لله تعالى ، فما انتفعوا بذلك إذ لم يعتقدوه اتباعا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكذلك من قلد فقيها فاضلا دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان عقده أنه لا يتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن وافق قوله قول ذلك الفقيه فهذا فاسق بلا شك ، وإن فعله غير معتقد له ، وهو كافر بلا شك إن اعتقده بقلبه أو نطق به بلسانه لمخالفته قول الله تبارك وتعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة النساء : ٦٥].

فنفى الله عزوجل عن أهل هذه الصفة الإيمان وأقسم على ذلك ، ونحن ننفي ما نفى الله عزوجل عمن نفاه عنه ، ونقسم على ذلك ونوقن أننا على الحق في ذلك. وأما من قلد فقيها فاضلا وقال إنما أتبعه لأنه اتّبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا مخطئ للطريق ، لأنه فعل من ذلك ما لم يأمره الله تعالى به ، ولا يكفر لأنه قاصد إلى اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخطئ للطريق في ذلك ، ولعله مأجور بنيته أجرا واحدا ما لم تقم الحجة عليه بخطإ فعله.

فإن ذكروا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث فتنة القبر ... «وأما المنافق أو

__________________

(١) حديث : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ... الخ» رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة باب ٢٠ و ٢١. ومسلم في الأقضية حديث ١٥. وأبو داود في الأقضية باب ٢. والنسائي في آداب القضاة باب ٣. وابن ماجة في الأحكام باب ٣. وأحمد في المسند (٤ / ١٩٨ ، ٢٠٤ ، ٢٠٥).

٢٩٥

المرتاب فإنه يقال له ما قولك في هذا الرجل يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» (١).

قال أبو محمد : هذا حق على ظاهره ، كما أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يقول هذا إلا المنافق أو المرتاب ، لا المؤمن الموقن ، بل المؤمن الموقن ذكر في هذا الحديث أنه يقول : هو عبد الله ورسوله أتانا بالهدى والنور ، أو كلاما هذا معناه ، فإنما أخبر عليه‌السلام عن موقن ومرتاب لا عن مستدل وغير مستدل ، وكذلك نقول إن من قال في نفسه أو بلسانه لو لا أني نشأت بين المسلمين لم أكن مسلما وإنما اتبعت من نشأت بينهم ، فهذا ليس مؤمنا ولا موقنا ، ولا متبعا لمن أمره الله باتباعه ، بل هو كافر.

قال أبو محمد : وإذ كان قد يستدل دهره كله من لا يوفقه الله تعالى للحق ، وقد يوفق من لا يستدل يقينا لو علم أن أباه أو أمه أو ابنه أو امرأته وأهل الأرض يخالفونه فيه لاستحل دماءهم كلهم ، ولو خير بين أن يلقى في النار وبين أن يفارق الإسلام لاختار أن يحرق بالنار ، على أن يقول مثل هذا ، قلنا : فإذ هو موجود فقد صح أن الاستدلال لا معنى له ، وإنما المدار على اليقين والعقد فقط وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وإنما يضطر إلى الاستدلال من نازعته نفسه إليه ، ولم يسكن قلبه إلى اعتقاد ما لم يعرف برهانه ، فهذا يلزمه طلب البرهان حينئذ ليقي نفسه نارا وقودها الناس والحجارة ، فإن مات شاكّا قبل أن يصح عنده البرهان مات كافرا مخلدا في النار أبدا.

قال أبو محمد : ثم نرجع إلى ما كنا فيه هل المعارف باضطرار أم باكتساب ...؟ فنقول وبالله تعالى التوفيق : إن المعلومات قسم واحد وهو ما عقد عليه المرء قلبه وتيقنه. ثم هذا ينقسم قسمين أحدهما حق في ذاته قد قام البرهان على صحته ، والثاني لم يقم على صحته برهان. وأما ما لم يتيقن المرء صحته في ذاته فليس عالما به ولا له به علم ، وإنما هو ظان له. وأما كلّ ما علمه المرء ببرهان صحيح فهو مضطر إلى علمه به لأنه لا مجال للشك فيه عنده ، وهذه صفة الضرورة. وأما الاختيار فهو الذي إن شاء المرء فعله وإن شاء تركه.

__________________

(١) رواه البخاري في العلم باب ٢٤ ، والوضوء باب ٣٧ ، والجمعة باب ٢٩ ، والكسوف باب ١٠. والاعتصام باب ٢. ومسلم في الكسوف حديث ١١. ومالك في الكسوف حديث ٤. وأحمد في المسند (٦ / ٣٤٥).

٢٩٦

قال أبو محمد : فعلمنا بحدوث العالم وأن له بكل ما فيه خالقا واحدا لم يزل يشبهه شيء من خلقه في شيء من الأشياء ، والعلم بصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة كل ما أتى به مما نقله إلينا الصحابة رضي الله عنهم ، ونقله عنهم الكواف كافة بعد كافة ، حتى بلغ الأمر إلينا وكان نقله تواترا حتى بلغ إلينا ، ونقله المتفق على عدالته عن مثله ، وهكذا حتى بلغ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو كله علم حق متيقن مقطوع على صحته عند الله تعالى ، لأن الأخذ بالظن في شيء من الدّين لا يحلّ قال تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [سورة يونس : ٣٦].

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إيّاكم والظّنّ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث» (١).

وقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [سورة الحجر : ٩].

فصح أن الدين محفوظ لما ضمن الله عزوجل حفظه ، فنحن على يقين من أنه لا يجوز أن يكون فيه شك ، وقد أمر الله تعالى بقبول خبر الواحد العدل ، ومن المحال أن يأمر عزوجل بأن نقول عليه ما لم يقل وهو قد حرّم ذلك ، أو أن نقول عليه ما لا نعلم لأنه تعالى قد حرّم ذلك بقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة : ١٦٩].

فكل ما أمرنا الله عزوجل بالقول به فنحن على يقين من أنه من الدّين وأن الله تعالى قد حماه من كل دخيل ، وكذلك أخذنا بالزائد من الاثنين المتعارضين ، ومن الخبرين الثابتين المتعارضين ، وقد علمنا صحة الحق في فعلنا ذلك علم ضرورة متيقن.

ولا عجب أعجب ممن يقول إن خبر الواحد لا يوجب العلم ، وإنما هو غالب ظن. ثم نقطع به ونقول إنه قد دخلت في الدين دواخل لا تتميز من الحق ، وأنه لا سبيل إلى تمييز ما أمر الله تعالى به في الدين مما شرعه الكذابون ، هذا أمر نعوذ بالله منه ومن الرضا به.

قال أبو محمد : وأما ما أجمعت عليه الجماعات العظيمة من آرائهم مما لم يأت به نص عن الله عزوجل ولا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو باطل عند الله بيقين ، لأنه شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقال على الله تعالى ما لم يقله.

__________________

(١) رواه البخاري في الوصايا باب ٨ ، والنكاح باب ٤٥ ، والفرائض باب ٢ ، والأدب باب ٥٧ و ٥٨. ومسلم في البر والصلة والآداب حديث ٢٨. والترمذي في البر والصلة باب ٥٦. ومالك في حسن الخلق حديث ١٥ ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٥ ، ٧٢٨٧ ، ٣١٢ ، ٣٤٢ ، ٧٤٦٥ ٤٧٠ ، ٤٨٢ ، ٤٩٢ ، ٥٠٤ ، ٥١٧ ، ٥٣٩).

٢٩٧

وبرهان ذلك : أنه قد يعارض ذلك قول آخر قالته جماعات مثل هذه ، والحق لا يعارض والبرهان لا يناقضه برهان آخر ، وقد تقصّينا هذا في كتابنا الموسوم «بكتاب الإحكام في أصول الأحكام» فأغنى عن ترداده والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : فكل من كان من أهل الملل المخالفة فبلغته معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقامت عليه البراهين في التوحيد فهو مضطر إلى الإقرار بالله تعالى وبنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك كل من قام على شيء ما أي شيء كان عنده برهان ضروري صحيح وفهمه فهو مضطر إلى التصديق به سواء كان من الملل أو النحل أو من الفتيا أو غير ذلك ، وإنما أنكر الحق في ذلك أحد ثلاثة : إما غافل معرض عما صح عنده من ذلك مشتغل عنه بطلب معاشه ، أو بالتزيد في مال أو جاه أو صوت أو لذة أو عمل يظنه صلاحا ، أو كسلا أو إيثارا للشغل مما يتبين له من ذلك عجزا وضعف عقل وقلّة تمييز لفضل الإقرار بالحق ، أو مسوّف نفسه بالنظر ، كحال كل طبقة من الطبقات الذين نشاهدهم في كل مكان وكل زمان ، وإما مقلد لأسلافه أو لمن نشأ بينهم قد شغله حسن الظن بمن قلد أو استحسانه لما قلد فيه ، وغمر الهوى عقله عن التفكير فيما فهم من البرهان ، قد حال ما ذكرنا بينه وبين الرجوع إلى الحق وصرف الهوى ناظر قلبه عن التفكر فيما بيّن له من البرهان ونفر عنه وأوحشه منه فهو إذا سمع برهانا ظاهرا لا مدفع فيه عنده ظنه من الشيطان وغالب نفسه حتى يعرض عنه ، وقالت له نفسه لا بدّ أن هاهنا برهانا يبطل به هذا البرهان الذي أسمع وإن كنت أنا لا أدريه ، وهل خفي هذا على جميع أهل ملتي وأهل نحلتي أو مذهبي أو على فلان وعلى فلان وفلان وفلان ولا بد أنه قد كان عندهم ما يبطلون به هذا.

قال أبو محمد : وهذا عام في أكثر من يظن أنه عالم ، وفي كل ملة وكل نحلة وكل مذهب ، وليس واحد من هاتين الطائفتين إلا والحجة قد لزمته وبهرته ، ولكنه غلب وساوس نفسه وحماقاتها على الحقائق اللائحة له ونصر ظنه الفاسد على يقين قلبه الثابت ، وتلاعب الشيطان به وسخر منه فأوهمه لشهوته لما هو فيه أن هاهنا دليلا يبطل به هذا البرهان وأنه لو كان فلان حيّا أو حاضرا لأبطل هذا البرهان.

وهذا أعظم ما يكون من السخافة لأنه تصديق لما لا يدري ولا سمع به وتكذيب لما صح عنده ظهر إليه ، ونعوذ بالله من الخذلان.

والثالث منكر بلسانه ما قد تيقن صحته بقلبه إما استدامة لرئاسة أو استدرار مكسب أو طمعا في أحدهما مما لعله يتم له أو لا يتم ، ولو تم له لكان خاسرا الصفقة

٢٩٨

في ذلك ، أو أثر غرورا ذاهبا عن قريب على فوز الأبد ، أو يفعل ذلك خوف أذى أو عصبية لمن خالف ما قد قام البرهان عنده ، أو عداوة لقائل ذلك القول الذي قام به عنده البرهان. وهذا كله موجود في جمهور الناس من أهل كلّ ملة وكل نحلة وأهل كلّ رأي ، بل هو الغالب عليهم وهذا أمر يجدونه في أنفسهم فهم يغالبونها.

قال أبو محمد : ويقال لمن قال ممن ينتمى إلى الإسلام إن المعارف ليست باضطرار وأن الكفار ليسوا مضطرين إلى معرفة الحق في الربوبية والنبوة : أخبرونا عن معجزات الأنبياء عليهم‌السلام ، هل رفعت الشك جملة عن كل من شاهدها ، وحسمت عللها وفصلت بين الحق والباطل فصلا تاما أم لا؟

فإن قالوا : نعم ، أقروا بأن كلّ من شاهدها مضطر إلى المعرفة بأنها من عند الله تعالى حقّ شاهد يصدّق من أتى بها ، ورجعوا إلى الحق الذي هو قولنا ولله الحمد.

وإن قالوا : لا ، بل الشك باق فيها ويمكن أن تكون غير شاهد بأنهم محقون ، قطع بأنّ الأنبياء عليهم‌السلام لم يأتوا ببرهان ، وأن الشك [قائم] في أمرهم ، وأن حجة الله تعالى لم تقع على الكفار ولا لزمتهم قط له تعالى حجة ، وأن الأنبياء عليهم‌السلام إنما أتوا بشيء ربما قام في الظن أنّه حق وربما لم يقم. وهذا كفر مجرد من كل من دان به أو قاله.

وهكذا نسألهم في البراهين العقلية على إثبات التوحيد وفي الكواف الناقلة أعلام الأنبياء عليهم‌السلام حتى يقروا بالحق بأن حجج الله تعالى بكل ما ظهرت وبهرت واضطرت الكفار كلهم إلى تصديقها والمعرفة بأنها حق ، أو يقولوا إنه لم تقم لله حجة على أحد ولا تبين قط لأحد تعين صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما نحن في الإقرار بذلك على ظن إلا أنه من الظنون أقوى وقد يمكن أن يكون بخلاف ذلك. ومن قال بهذا فهو كفر مجرد محض وشرك لا خفاء به ، ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : ومن أنكر أن يكون الكفار وكل مبطل مضطرين إلى تصديق كل ما قام به برهان بعد بلوغه إليهم ، وقال إنما اضطر المرء إلى معرفته فلا سبيل له إلى إنكاره أريناه كذب قوله في تكوين الأرض والأفلاك ، ومدار الشمس والقمر والنجوم ، وتناهي مسافة كل ذلك وأكثر الناس على إنكار هذا أو دفعه الحق في ذلك ، وكذلك من دان بالقياس أو الرأي أو دليل الخطاب ، وسمع البراهين في إبطالها فهو مضطر إلى معرفة بطلان ما هو عليه ، مكابر لعقله في ذلك ، مغالط لنفسه ، مغالب ليقينه ، مغلب لظنونه.

٢٩٩

قال أبو محمد : وعلم الملائكة عليهم‌السلام وعلم النبيين عليهم‌السلام بصحة ما جاءتهم به الملائكة وأوحي إليهم به ورأوه في منامهم علم ضروري كسائر ما أدركوه بحواسهم وأوائل عقولهم ، وكعلمهم بأن أربعة أكثر من اثنين ، وأن النار حارة ، والبقل أخضر ، وصوت الرعد ، وحلاوة العسل ، ولبن الحليب ، وخشونة القنفذ ، وغير ذلك.

ولو لم يكن الأمر كذلك لكان الملائكة والنبيون شكاكا في أمرهم ، وهذا كفر ممن أجازه. إلا أن الملائكة لا علم لهم بشيء إلا هكذا ، ولا ظن لهم أصلا لأنهم لا يخطئون ، ولا ركبوا من طبائع متخالفة كما ركب الإنسان.

فإن قال قائل : فإذا العلم كله باضطرار ، والاضطرار فعل الله تعالى في النفوس ، فكيف يؤجر الإنسان أو يعذب على فعل الله تعالى فيه؟ قلنا : نعم. لا شيء في العالم إلا خلق الله تعالى. وقد صح البرهان بذلك على ما أوردنا في كلامنا في خلق الأفعال في ديواننا هذا والحمد لله. وما جاء قط نص ولا برهان عقل بالمنع من أن يعذبنا الله تعالى ويأجرنا على ما خلق فينا ، والله تعالى يفعل ما يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

قال أبو محمد : وكيف ينكر أهل الغفلة أن يكون قوم يخالفون ما هم إلى المعرفة به مضطرون وهم يشاهدون السوفسطائية الذين يبطلون الحقائق جملة ، وكما يعتقد النصارى وهم أمم لا يحصى عددهم إلا خالقهم ورازقهم ومضلهم ، لا إله إلا هو ، وفيهم علماء بعلوم كثيرة وملوك لهم التدابير الصائبة والسياسات المعجبة ، والآراء المحكمة والفطنة في دقائق الأمور وبصر بغوامضها ، وهم مع ذلك يقولون إن واحدا ثلاثة وثلاثة واحد ، وأن أحد الثلاثة أب ، والثاني ابن ، والثالث روح ، وأن الأب هو الابن وليس هو الابن والإنسان هو الإله وهو غير الإله ، وأن المسيح إله تام وإنسان تام وهو هو لا غيره ، وأن الأول الذي لم يزل هو المحدث الذي لم يكن ولا هو هو.

قال أبو محمد : وليس في الجنون أكثر من هذا ، واليعقوبية منهم وهم مئات ألوف يعتقدون أن الباري ـ تعالى عن كفرهم ـ ضرب بالسياط واللطام ، وصلب ونحر ومات وسقي الحنظل ، وبقي العالم ثلاثة أيام بلا مدبر ، وكأصحاب الحلول وغالية الرافضة الذين يعتقدون في رجل جالس معهم كالحلاج وابن أبي العزاقر أنه الله ، والإله عندهم قد يبول ويسلح ، ويجوع فيأكل ، ويعطش فيشرب ، ويمرض فيسوقون إليه الطبيب ، ويقع ضرسه إذا ضرب عليه ، ويتضرر إذا أصابه دمل ويجامع ويحتجم ويفتصد ، وأنه الله الذي لم يزل ولا يزال خالق هذا العالم كله ورازقه ومحصيه ومدبره

٣٠٠