الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

فأخبر أن الشجرة تنبت بها. وقال تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [سورة النحل : ٦٧].

فصح أن السكر والعصير الحلال مأخوذ من الثمر والأعناب ولو لم يكونا فيهما ما أخذ منها. وقد أطبقت الأمم كلها على إنكار هذا الجنون ، وعلى القول : هذا أحلى من العسل ، وأمر من الصّبر ، وأحرّ من النار ، ونحمد الله على السلامة.

٢٤١

الكلام في الاستحالة

قال أبو محمد : احتج الحنيفيون ومن وافقهم في قولهم إن النقطة من البول والخمر تقع في الماء فلا يظهر لها فيه أثر أنها فيه باقية بجسمها إلا أن أجزاءها دقت وخفيت عن أن تحس ، وكذلك الحبر يرمى في اللبن فلا يظهر له فيه أثر ، وكذلك الفضة اليسيرة تذاب في الذهب فلا يظهر لها فيه أثر ، وهكذا في كل شيء فقالوا : لو أن ذلك المقدار من الماء يحيل ماء النقطة من الخمر تقع فيه لكان أكثر من ذلك المقدار أقوى على الإحالة بلا شك ، ونحن نجد كلما زدنا نقط الخمر وقلتم أنتم قد استحالت ماء ونحن نزيد فلا يلبث أن تظهر الخمر ، وهكذا في كل شيء قالوا فظهرت صحة قولنا ولزمكم أن كلما كثر الماء ضعفت إحالته وهكذا في كل شيء.

قال أبو محمد : فقلنا لهم : إن الأمور إنما هي على ما رتبها الله عزوجل وعلى ما توجد عليه لا على قضاياكم المخالفة للحس ، ولا ننكر أن يكون مقدار ما يفعل فعلا ما ، فإذا كثر لم يفعل ذلك الفعل كالمقدار من الدواء ينفع ، فإذا زيد فيه أو نقص منه لم ينفع ، ونحن نقرّ معكم بما ذكرتم ولا ننكره فنقول : إن مقدارا ما من الماء يحيل مقدارا ما مما يلقى فيه من الخل أو الخمر أو العسل ، ولا يحيل أكثر مما يكون فيه ، ونحن نجد الهواء يحيل الماء هواء حتى إذا كثر الهواء المحيل من الماء لم يستحل بل أحال الهواء ماء ، وهكذا كل ما ذكرتم وإنما العمدة هاهنا على ما شهدت به أوائل العقول والحواس ، من أن الأشياء إنما تختلف باختلاف طبائعها وصفاتها التي منها تقوم حدودها وبها تختلف في اللغات أسماؤها ، فللماء صفات وطبائع إذا وجدت في جرم ما سمي ماء وكان ماء فإذا عدمت منه لم يسم ماء ولم يكن ماء ، وهكذا كل ما في العالم ولا نحاشي شيئا أصلا ، ومن المحال أن تكون حدود الماء وصفاته وطبعه في العسل أو في الخمر وهكذا كل شيء في العالم فأكثره يستحيل بعضه إلى بعض ، فأي شيء وجدت فيه حدود شيء ما سمي باسم ما فيه تلك الحدود إذا استوفاها كلها ، فإن لم يستوف إلا بعضها وفارق أيضا شيئا من صفاته الذاتية فهو حينئذ شيء غير الذي كان وغير الذي مازج كالعسل الملقى في الأيارج ، ونقطة مداد في لبن وما

٢٤٢

أشبه ذلك وهذه رتبة العالم في مقتضى العقول ، وفيما يشاهد بالحواس بالبصر والذوق والشم واللمس ، ومن دفع هذا خرج عن المعقول ، ويلزم الحنيفيين من هذا اجتناب ماء البحر ، لأنّ فيه على قولهم عذرة وبولا ورطوبات ميتة ، وكذلك مياه جميع الأنهار أولها عن آخرها ، نعم ، وماء المطر أيضا. ونحن نجد الدجاج يتغذى بالميتة والدم والعذرة ، والكبش يسقى خمرا أنّ ذلك كله قد استحال عن صفات كل ذلك وطبعه إلى لحم الدجاج والكبش فحل عندنا وعندهم ، ولو كثر تغذيها به حتى تضعف طبيعتها عن إحالته فيوجد في حواصلها وفيه صفة العذرة الميتة حرم وهذا هو الذي أنكروه نفسه وهم مقرون معنا في أن الثمار والبقول تتغذى بالعذرة ، وتستحيل فيها ثمرة ، أنها قد حلت ، وهذا هو الذي أنكروه نفسه وبالله تعالى التوفيق.

٢٤٣

الكلام في الطفرة

قال أبو محمد : نسب قوم من المتكلمين إلى إبراهيم النظّام أنه قال : إن المارّ على سطح الجسم يسير من مكان إلى مكان بينهما أماكن لم يقطعها المار ولا مرّ عليها ، ولا حاذها ولا حلّ فيها.

قال أبو محمد : وهذا عين المحال والتخليط.

قال أبو محمد : إلا إن كان هذا على قوله في أنه ليس في العالم إلا جسم حاشا الحركة فقط ، فإنه وإن كان قد أخطأ في هذه القضية فكلامه الذي ذكرنا خارج عليه خروجا صحيحا ، لأن هذا الذي ذكرنا ليس موجودا البتة إلا في حاسة البصر فقط ، وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته لاقى نظرك خضرة السماء والكواكب التي في الأفلاك البعيدة بلا زمان ، كما يقع على أقرب ما يلاصقه من الألوان ، ولا تفاضل بين الإدراكين في المدة أصلا.

فصح ضرورة أن خط البصر لو قطع المسافة التي بين الناظر وبين الكواكب ومرّ عليها لكان ضرورة بلوغه إليها في مدة أطول من مدة مروره على المسافة التي ليس بينه وبين من يراه فيها إلا يسيرا أو أقل ، فصح يقينا أن البصر يخرج من الناظر ويقع على كل مرئيّ قرب أو بعد دون أن يمر في شيء من المسافة التي بينهما ، ولا يحلّها ، ولا يحاذيها ، ولا يقطعها ، وأما في سائر الأجسام فهذا محال ألا ترى أنك تنظر إلى الهدم وإلى ضرب القصّار بالثوب في الحجر من بعد ، فتراه ثم يقيم سويعة ، وحينئذ تسمع صوت ذاك الهدم وذلك الضرب فصح يقينا أن الصوت يقطع الأماكن وينتقل فيها ، وأن البصر لا يقطعها ولا ينتقل فيها ، فإذا صح البرهان بشيء ما لم يعترض عليه إلا عديم عقل ، أو عديم حياء ، أو عديم علم أو عديم دين وبالله تعالى التوفيق.

٢٤٤

الكلام في الإنسان

قال أبو محمد : اختلف الناس في هذا الاسم علام يقع؟ فذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على الجسد دون النفس ، وهو قول أبي الهذيل العلاف. وذهبت طائفة إلى أنه يقع على النفس دون الجسد ، وهو قول إبراهيم النظام. وذهبت طائفة إلى أنه يقع عليهما معا ، كالبلق الذي لا يقع على السّواد والبياض معا.

قال أبو محمد : واحتجت الطائفة التي ذكرنا بقول الله عزوجل : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) [سورة الرحمن : ١٤]. وبقوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) [سورة الطارق : ٥ ـ ٧]. وقال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) [سورة القيامة : ٣٦ ـ ٣٨].

وبآيات أخر غير هذه ، وهذه بلا شك صفة الجسد لا صفة النفس لأن الروح إنما نفخ بعد تمام خلق الإنسان الذي هو الجسد. واحتجت الطائفة الأخرى بقول الله عزوجل : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [سورة المعارج : ١٩ ، ٢٠]. وهذا بلا خلاف صفة النفس لا صفة الجسد ، لأن الجسد موات والفعّالة هي النفس وهي المميزة الحية ، حاملة لهذه الأخلاق وغيرها.

قال أبو محمد : وكلا هذين الاحتجاجين حق وليس أحد منهما أولى بالقبول من الآخر ، ولا يجوز أن يعارض أحدهما بالآخر ، لأن كليهما من عند الله عزوجل ، وما كان من عند الله فليس بمختلف ، قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء : ٨٢].

فإذ كل هذه الآيات حق فقد ثبت أنّ للإنسان اسم يقع على النفس دون الجسد ، ويقع أيضا على الجسد دون النفس ، ويقع أيضا على كليهما معا مجتمعين ، فنقول في الحيّ : هذا إنسان ، وهو مشتمل على جسد وروح ، ونقول للميت : هذا إنسان وهو جسد لا نفس فيه ، ونقول : إنّ الإنسان يعذب قبل يوم القيامة وينعم ، يعني النفس دون الجسد. وأمّا من قال : إنه لا يقع إلّا على النفس والجسد معا فخطأ يبطله الذي ذكرنا من النصوص التي فيها وقوع اسم الإنسان على الجسد دون النفس ، وعلى النفس دون الجسد ، وبالله تعالى التوفيق.

٢٤٥

الكلام في الجواهر والأعراض وما الجسم؟ وما النفس؟

قال أبو محمد : اختلف الناس في هذا الباب ، فذهب هشام بن الحكم : إلى أنه ليس في العالم إلّا جسم ، وأن الألوان والحركات أجسام ، واحتج أيضا بأن الجسم إذا كان طويلا عريضا عميقا فمن حيث وجدته وجدت اللّون فيه ، فوجب الطول والعرض والعمق للّون أيضا ، فإذا وجب ذلك للّون فاللّون أيضا طويل عريض عميق ، وكل طويل عريض عميق جسم ، فاللّون جسم. وذهب إبراهيم بن سيّار النّظام إلى مثل هذا سواء سواء إلّا الحركات فإنه قال : هي خاصة أعراض.

وذهب ضرار بن عمرو : إلى أن الأجسام مركبة من الأعراض. وذهب سائر الناس إلى أنّ الأجسام هي كل ما كان طويلا عريضا عميقا شاغلا لمكان ، وأن كل ما عداه من لون أو حركة أو مذاق أو طيب أو محبة فعرض. وذهب بعض الملحدين إلى نفي الأعراض ، ووافقهم على ذلك بعض أهل القبلة.

قال أبو محمد : أما الجسم فمتفق على وجوده ، وأما الأعراض فإثباتها وبيّن واضح بعون الله تعالى ، وهو أننا لم نجد في العالم إلّا قائما بنفسه حاملا لغيره ، أو قائما بغيره لا بنفسه محمولا في غيره ، ووجدنا القائم بنفسه شاغلا لمكان يملؤه ، ووجدنا الذي لا يقوم بنفسه لكنه محمول في غيره لا يشغل مكانا بل يكون الكثير منها في مكان حاملها القائم بنفسه ، هذه قسمة لا يمكن وجود شيء في العالم بخلافها ، ولا يوجد قسم زائد على ما ذكرنا ، فإذ ذلك كذلك فبالضرورة علمنا أنّ القائم بنفسه الشاغل لمكانه هو نوع آخر غير القائم بغيره الذي لا يشغل مكانا فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الجنسين اسم يعبّر عنه ليقع التفاهم بيننا فاتفقنا على أن سمّينا القائم بنفسه ، الشاغل لمكانه جسما ، واتّفقنا على أن سمّينا ما لا يقوم بنفسه عرضا ، وهذا بيان برهاني مشاهد. ووجدنا الجسم تتعاقب عليه الألوان والجسم قائم بنفسه ، فبينما تراه أبيض صار أخضر ، ثم أحمر ، ثم أصفر ، كالذي نشاهده في الثمار والأصباغ ، فبالضرورة نعلم أنّ الذي عدم وفني من البياض والخضرة وسائر الألوان هو غير الذي بقي موجودا لم يفن ، وأنهما جميعا غير الشيء الحامل لهما ، لأنه لو كان شيء من ذلك هو الآخر

٢٤٦

لعدم بعدمه ، فدل بقاؤه بعده على أنه غيره ولا بدّ ، إذ من المحال الممتنع أن يكون الشيء معدوما موجودا في حالة واحدة ، في مكان واحد ، في زمان واحد.

وأيضا فإن الأعراض هي الأفعال من الأكل والشرب ، والنوم ، والجماع ، والمشي ، والضرب ، وغير ذلك ، فمن أنكر الأعراض فقد أثبت الفاعلين وأبطل الأفعال ، وهذا محال لا خفاء به ، ولا فرق بين من أثبت الفاعلين ونفى الأفعال ، وبين من أثبت الأفعال ونفى الفاعلين. وكلا الطائفتين مبطلة لما يشاهد بالحواس ، ويدرك بالعقل ، سوفسطائيون حقّا ، لأن من الأعراض ما يدرك بالبصر وهو اللون إذ ما لا لون له لا يدرك بالبصر ، وقد يدرك بالشمّ كالنتن والطيب. ومنها : ما يدرك بالذّوق كالحلاوة والمرارة ، والحموضة والملوحة ، ومنها ما يدرك بالحس كالحر والبرد ، ومنها ما يدرك بالسمع كحسن الصوت وقبحه ، وجهارته وجفوته ، ومنها ما يدرك بالعقل كالحركة ، والحمق والعقل ، والعدل والجور ، والعلم والجهل ، فظهر فساد قول مبطلي الأعراض يقينا والحمد لله رب العالمين. فإذ قد صح كل ما ذكرنا فإنما الأسماء عبارات وتمييز للمسميات ليتوصل بها المخاطبون إلى تفاهم مراداتهم من الوقوف على المعاني ، وفصل بعضها من بعض ، ليس للأسماء فائدة غير هذه ، فوجب ضرورة أن يوقع على القائم بنفس الشاغل لمكانه ، الحامل لغيره أسماء تكون عبارة عنه ، وأن يوقع أيضا على القائم بغيره لا بنفسه المحمول الذي لا يشغل مكانا اسما آخر يكون عبارة عنه لينفصل بهذين الاسمين كل واحد من ذينك المسمّيين عن الآخر ، وإن لم يكن هذا وقع التخليط وعدم البيان. واصطلحنا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل للمكان جسما. واتفقنا على أن سمينا القائم بغيره لا بنفسه عرضا ، لأنه عرض في الجسم ، وحدث فيه. هذا هو الحق المشاهد بالحسّ ، المعروف بالعقل ، وما عدا هذا فهذيان وتخليط ، لا يعقله قائله ، فكيف غيره؟ فصحّ بهذا كله وجود الأعراض وبطلان قول من أنكرها ، وصحّ أيضا بما ذكرنا أنّ حدّ اللون والحركة وكلّ ما لا يقوم بنفسه هو غير حدّ القائم بنفسه ، فإذ ذلك كذلك فلا جسم إلّا القائم بنفسه وكل ما عداه فعرض ، فلاح بهذا صحة قول من قال بذلك ، وبطل قول هشام والنظام. وبالله تعالى التوفيق.

وأما احتجاج هشام بوجود الطول والعرض والعمق التي توهّمها في اللون ، فإنما هو طول الجسم الملون وعرضه وعمقه فقط ، وليس للّون طول ولا عرض ولا عمق ، وكذلك الطعم والمجسّة ، والرائحة ، وبرهان ذلك أنه : لو كان للجسم طول وعرض وعمق ، وكان للون طول غير طول الحامل له ، وعرض آخر غير عرض الحامل له ، وعمق آخر غير عمق الملوّن الحامل له ، لاحتاج كل واحد منهما إلى مكان آخر غير مكان

٢٤٧

الآخر ، إذ من أعظم المحال الممتنع أن يكون شيئا طول كل واحد منهما ذراع وعرضه ذراع وعمقه ذراع ثم يسعان جميعا في واحد ليس هو إلّا ذراع في ذراع فقط ، ويلزمه مثل هذا في الطعم والرائحة والمجسة ، لأن كل هذه الصفات توجد في كل جهة من جهات الجسم الذي هي فيه ، كما يوجد اللون ولا فرق. وقد يذهب الطعم حتى يكون الشيء لا طعم له ، وتذهب الرائحة حتى يصير الشيء لا رائحة له ، ومساحته باقية بحسبها ، فصح يقينا أن المساحة للملون والذي له الرائحة والطعم والمجسة ، لا للّون ولا للطعام ولا للرائحة ولا للمجسة. وقد نجد جسما طويلا عريضا عميقا لا لون له وهو الهواء ساكنة ومتحركة ، وبالضرورة ندري أنه لو كان له لون لم يزد ذلك في مساحته شيئا.

قال أبو محمد : فإن بلغ الجهل بصاحبه إلى أن يقول ليس الهواء جسما سألناه عما في داخل الزّق المنفوخ ما هو؟ وعما يلقى الذي يجري فرسا جوادا بوجهه وجسمه؟ فإنه لا شك في أنه جسم قوي متكسر محسوس.

وبرهان آخر : وهو أن كل أحد يدري أن الطول والعرض والعمق لو كان لكل واحد منهما طول وعرض وعمق لاحتاج كل واحد منهما أيضا إلى طول آخر وعرض آخر وعمق آخر وهكذا مسلسلا إلى ما لا نهاية له ، وهذا باطل فبطل قول إبراهيم وهشام وبالله تعالى التوفيق.

وأما قول ضرار : إن الأجسام مركبة من الأعراض ، فقول فاسد جدّا لأن الأعراض قد صحّ كما ذكرنا أنها لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا تقوم بنفسها ، وصح أن الأجسام ذات أطوال وعروض وأعماق قائمة بأنفسها ، ومن المحال أن يجتمع ما لا طول له ولا عرض ولا عمق مع مثله فيقوم منها ما له طول وعرض وعمق ، وإنما غلط فيها من توهم أن الأجسام مركبة من السطوح وأن السطوح مركبة من الخطوط ، والخطوط مركبة من النقط.

قال أبو محمد : وهذا خطأ على كل حال لأن السطوح المطلقة إنما هي تناهي الجسم وانقطاع تماديه من أوسع جهاته وعدم امتداده فقط ، وأما الخطوط المطلقة فإنما هي تناهي جهة السطح وانقطاع تماديها ، وأما النقط فهي تناهي جهات الجسم من أحد نهاياته كطرف السكين ونحوه. فكل هذه الأبعاد إنما هي عدم التمادي ومن المحال أن يجتمع عدم فيقوم منه موجود. وأما السطوح المجسمة والخطوط المجسمة والنقط المجسمة فإنما هي أبعاض الجسم وأجزاؤه ، ولا تكون الأجزاء أجزاء إلا بعد القسمة فقط على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.

٢٤٨

قال أبو محمد : وذهب قوم من المتكلمين إلى إثبات شيء سموه جوهرا ليس جسما ولا عرضا ، وقد ينسب هذا القول إلى بعض الأوائل. وحدّ هذا الجوهر عند من أثبته أنه واحد بالذات قابل للمتضادات قائم بنفسه لا يتحرك ، ولا له مكان ولا له طول ولا عرض ولا عمق ولا يتجزأ.

وحدّه بعض من ينتمي إلى الكلام : بأنه واحد بذاته لا طول له ولا عرض ولا عمق ولا يتجزأ. وقالوا إنه يتحرك وله مكان وأنه قائم بنفسه يحمل من كل عرض عرضا واحدا فقط كاللون والطعم والرائحة والمجسة.

قال أبو محمد : وكلا هذين القولين والقول الذي اجتمعا عليه في غاية الفساد والبطلان ، أول ذلك أنها كلها دعاوى مجردة لا يقوم على صحة شيء منها دليل أصلا لا برهاني ولا إقناعي بل البرهان العقلي والحس يشهدان ببطلان كل ذلك وليس يعجز أحد أن يدعي ما شاء ، وما كان هكذا فهو باطل محض وبالله تعالى نتأيد.

وأما نحن فنقول : إنه ليس في الوجود إلا الخالق وخلقه وأنه ليس الخلق إلا جوهرا حاملا لأعراضه وأعراضا محمولة في الجوهر لا سبيل إلى تعرّي أحدهما عن الآخر ، فكل جوهر جسم وكل جسم جوهر وهما اسمان معناهما واحد ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : ونجمع إن شاء الله تعالى كل شيء أوقعت عليه هاتان الطائفتان اسم جوهر لا جسم ولا عرض ونبين إن شاء الله تعالى فساد كل ذلك بالبراهين الضرورية كما فعلنا في سائر كلامنا وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : حققنا ما أوقع عليه بعض الأوائل ومن قلدهم اسم جوهر ، وقالوا إنه ليس جسما ولا عرضا ، فوجدناهم يذكرون الباري تعالى والنفس والهيولى والعقل والصورة وعبر بعضهم عن الهيولى بالطينة وبعضهم بالخميرة والمعنى في كل ذلك واحد إلا أن بعضهم قال : المراد بذلك الجسم متعريا من جميع أعراضه وأبعاده. وبعضهم قال : المراد بذلك الشيء الذي منه كون هذا العالم ومنه يكون على حسب اختلافهم في الخالق أو في إنكاره. وزاد بعضهم في الجوهر الخلاء والمدة اللذين لم يزالا عندهم يعني بالخلاء المكان المطلق لا المكان المعهود ويعني بالمدة الزمان المطلق لا الزمان المعهود.

قال أبو محمد : وهذه أقوال ليس شيء منها لمن ينتمي إلا الإسلام وإنما هي للمجوس والصابئين وللدهرية وللنصارى في تسميتهم الباري تعالى جوهرا فإنهم سموه في أمانيهم التي لا يصح عندهم دين لملكيّ ولا لنسطوري ولا ليعقوبي ولا هاروني

٢٤٩

إلا باعتقادها ، وإلا فهو كافر بالنصرانية قطعا ، حاشا تسميته الباري تعالى جوهرا ، فإنه للمجسمة أيضا ، وحاشا القول بأن النفس جوهر لا جسم ، فإنه قد قال به معمّر العطار أحد رؤساء المعتزلة ، وأما المنتمون إلى الإسلام فإن الجوهر الذي ليس جسما ولا عرضا ليس هو عندهم شيئا إلا الأجزاء الصغار التي لا تتجزأ وإليها تنحل الأجسام عندهم بزعمهم وقد ذكر هذا عن بعض الأوائل أيضا فهذه ثمانية أشياء كما ذكرنا لا نعلم أحدا سمى جوهرا ليس جسما ولا عرضا ولا غيرها إلا قوما جهّالا يظنون في القوى الذاتية أنها جواهر وهذا جهل منهم لأنها بلا خلاف محمولة فيما هي فيه غير قائمة حتما وهذا صفة العرض لا صفة الجواهر بلا خلاف.

قال أبو محمد : فأما الخلاء والمدة فقد تقدم إفسادنا لهذا القول في صدر ديواننا بالبراهين الضرورية وفي كتابنا الموسوم بالتحقيق في نقض كتاب العلم الإلهي لمحمد بن زكريا الطبيب فحللنا كلّ دعوى أوردها هو وغيره في هذا المعنى بأبين شرح والحمد لله رب العالمين كثيرا.

وأثبتنا في صدر كتابنا هذا وهنالك أنه ليس في العالم خلاء البتة وأنه كلّه كرة مصمتة (١) تخلخل فيها وأنه ليس وراء هذا خلاء ولا ملاء ولا شيء البتة وأن المدة ليست إلا مدة أحدث الله فيها الفلك بما فيه من الأجسام الساكنة والمتحركة وأعراضها ، وبينا في كتاب التقريب لحدود الكلام أن الآلة المسماة الزرّافة وسارقة الماء والآلة التي تدخل في إحليل من به أثر البول براهين ضرورية في تحقيق أن لا خلاء في العالم أصلا وأن الخلاء عند القائلين به إنما هو مكان لا تمكن فيه وهذا محال بما ذكرنا لأنه لو خرج الماء من الثقب الذي في أسفل سارقة الماء وقد سدّ أعلاها لبقي مكانه خاليا بلا متمكن فيه فإذا لم يكن ذلك أصلا ولا كان في بنية العالم وجوده وقف الماء باقيا لا ينهرق حتى إذا فتح أعلاها ووجد الهواء مدخلا خرج الماء وانهرق لوقته وخلفه الهواء ، وكذلك الزرّافة والآلة المتخذة لمن به أسر البول فإنه إذا حصلت تلك في داخل الإحليل وأول المثانة ثم جبذ الزر المغلق لبقها إلى خارج اتبعه البول ضرورة وخرج إذ لو لم يخرج لبقي ثقب الآلة خاليا لا شيء فيه ، وهذا باطل ممتنع. وقد بينا في صدر كتابنا كلّ ما اعترض به الملحدون المخالفون لنا في هذا المكان فأغنى عن إعادته.

__________________

(١) المصمت : الجامد لا جوف له كالحجر (المعجم الوسيط : ص ٥٢٢).

٢٥٠

فإن قال قائل : فالماء الذي اخترعه الله عزوجل من بين أصابع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتمر الذي اخترع له والثريد الذي اخترع له ، من أين اخترعه وهي أجسام محدثة والعالم عندكم ملاء لا خلاء فيه ولا تخلخل ولا يكون الجسمان في مكان واحد؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : لا يخلو هذا من أحد وجهين لا ثالث لهما :

إما أن يكون الله عزوجل أعدم من الهواء مقدار ما اخترع منه من التمر والماء والثريد ، وإما أن يكون الله عزوجل أحال أجزاء من الهواء ماء وتمرا وثريدا فالله أعلم أي ذينك كان والله على كل شيء قدير ، فسقط قولهم في الخلاء والمدة والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : وأما الصورة فكيفية بلا شك وهي تخليط الجواهر وتشكلها إلا أنها قسمان أحدهما ملازم كالصورة الكلية لا تفارق الجواهر البتة ولا توجد دونها ولا تتوهم الجواهر عارية عنها ، والآخر تتعاقب أنواعه وأشخاصه على الجواهر كانتقال الشيء عن تثليث إلى تربيع ونحو ذلك فصح أنها أعراض بلا شك وبالله تعالى التوفيق.

وأما العقل فلا خلاف بين أحد له حس سليم في أنه عرض محمول في النفس ، وكيفية برهان ذلك أنه يقبل الأشد والضعيف فنقول عقل أقوى من عقل وأضعف من عقل وله ضد وهو الحمق ، ولا خلاف في الجواهر أنها لا ضدّ لها ، وإنما التضاد في بعض الكيفيات فقط. وقد اعترض في هذا بعض من صح له علم الفلسفة فقال : ليس للعقل ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه. فقلت للذي ذكر لي هذا القول : إن هذه سفسطة وجهل ، ولو جاز له هذا التخليط لجاز لغيره أن يقول ليس للعلم ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه ، ولا لشيء من الكيفيات ضد ، ولكن لوجودها ضد وهو عدمها ، فيبطل التضاد من جميع الكيفيات ، وهذا كلام يعلم فساده بضرورة العقل ، ولا فرق بين وجود الضد للعقل وبين وجوده للعلم ولسائر الكيفيات وهي باب واحد كله وإنما هي صفات متعاقبة كلها موجودة فالعقل موجود ثم يعقبه الحمق وهو موجود ، كما أن العلم موجود ويعقبه الجهل ، وكما أن النجدة موجودة ويعقبها الجبن وهو موجود ، وهذا أمر لا يخفى على من له أقل تمييز ، وكذلك الجواهر لا تقبل الأشد والأضعف في ذواتها ، وهذا أيضا قول كل من له أدنى فهم من الأوائل. والعقل عند جميعهم هو تمييز الفضائل من الرذائل واستعمال الفضائل واجتناب الرذائل والتزام ما تحسن به المغبّة في دار البقاء وعالم الجزاء وحسن السياسة فيما يلزم المرء في دار الدنيا.

وبهذا أيضا جاءت الرسل عليهم‌السلام قال الله عزوجل : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) [سورة الحج : ٤٦].

٢٥١

وقال تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [سورة النور : ٦١].

وقال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [سورة الفرقان : ٤٤].

وقال تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [سورة يونس : ١٠٠].

وقال تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) [سورة المائدة : ٥٨].

وقال تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأنفال : ٥٥].

فصح أن العقل هو الإيمان وجميع الطاعات. وقال تعالى عن الكفار : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [سورة الملك : ١٠].

ومثل هذا في القرآن كثير. فصح أن العقل فعل النفس وهو عرض محمول فيها وقوة من قواها فهو عرض كيفية بلا شك وإنما غلط من غلط في هذا لأنه رأى لبعض الجهال المخلطين من الأوائل أن العقل جوهر وأن له فلكا فعوّل على ذلك من لا علم له وهذا خطأ كما أوردنا. وبالله تعالى التوفيق.

وأيضا فإن لفظة العقل غريبة أتى بها المترجمون عبارة عن لفظة أخرى يعبّر بها في اليونانية أو في غيرها من اللغات عما يعبر بلفظة العقل عنه في اللغة العربية ، هذا ما لا خفاء به عند أحد. ولفظة العقل في لغة العرب إنما هي موضوعة لتمييز الأشياء واستعمال الفضائل فصح ضرورة أنها معبّر بها عن عرض وكلّ مدّع خلاف ذلك رديء العقل عديم الحياء مباهت بلا شك. ولقد قال بعض النوكى والجهال : لو كان العقل عرضا لكانت الأجسام أشرف منه. فقلت للذي أتاني بهذا : وهل للجوهر شرف إلا بأعراضه ، وهل شرف جوهر قط على جوهر إلا بصفاته لا بذاته؟ وهل يخفى هذا على أحد؟ ثم قلنا : ويلزمهم هذا نفسه على قولهم السخيف في العلم والفضائل إذ لا يخالفون في أنها أعراض فعلى مقدمتهم السخيفة يجب أن تكون الأجسام كلها أشرف منها وهذا كما ترى.

وأما الهيولى : فهو الجسم نفسه الحامل لأعراضه كلها وإنما أفردته الأوائل بهذا الاسم إذ تكلموا عليه مفردا في الكلام عليه عن سائر أعراضه كلها من الصورة وغيرها مفصولا في الكلام عليه خاصة عن أعراضه ، وإن كان لا سبيل إلى أن يوجد خاليا عن أعراضه ولا متعريا منها أصلا ولا يتوهم وجوده كذلك ولا يتشكل في النفس ، ولا

٢٥٢

يتمثل ذلك أصلا ، بل هو محال ممتنع جملة ، كما أن الإنسان الكلي وجميع الأجناس والأنواع ليس شيء منها غير أشخاصه فقط فهي الأجسام بأعيانها إن كان النوع نوع أجسام وهي أشخاص الأعراض إن كان النوع نوع أعراض ولا مزيد. لأن قولنا الإنسان الكليّ يزيد النوع إنما معناه أشخاص الناس فقط لا أشياء أخر وقولنا الحمرة الكلية إنما معناه أشخاص الحمرة حيث وجدت فقط فبطل بهذا تقدير من ظن من أهل الجهل أن الجنس والنوع والفصل جواهر لا أجسام وبالله تعالى التوفيق.

ولكن الأوائل سمّتها وسمّت الصفات الأوليات الذاتيات جوهريات لا جواهر وهذا صحيح لأنها منسوبة إلى الجواهر لملازمتها لها لا تفارقها البتة ولا يتوهم مفارقتها لها وبالله تعالى التوفيق.

فبطل قولهم في الخلاء والمدة والصورة والعقل والهيولى والحمد لله رب العالمين.

وأما الباري تعالى فقد أخطأ من سمّاه جوهرا من المجسمة ومن النصارى لأن لفظة الجوهر لفظة عربية ومن أثبت الله عزوجل ففرض عليه إذ أقر أنّه خالقه وإلهه ومالك أمره أن لا يقدم عليه في شيء إلا بعهد منه تعالى ، ولا يخبر عنه إلا بعلم متيقن ، ولا علم هاهنا إلا بما أخبر به عزوجل فقط فصح يقينا أن تسمية الله عزوجل جوهرا والإخبار عنه بأنه جوهر حكم عليه تعالى بغير عهد منه وإخبار عنه عزوجل بالكذب الذي لم يخبر قط تعالى به عن نفسه ولا سمى به نفسه وهذا إقدام لم يأتنا قط به برهان بإباحته. وأيضا فإن الجوهر حامل لأعراض ما ولو كان الباري تعالى حاملا لعرض لكان مركّبا من ذاته وأعراضه وهذا باطل.

وأما النصارى فليس لهم أن يتسوروا على اللغة العربية فيصرفوها عن موضوعها فبطل أن يكون تعالى جوهرا لبراءته عن حد الجوهر وبطل أن يسمى جوهرا لأنه تعالى لم يسم نفسه به وبالله تعالى التوفيق.

فبطل قول من سمى الله تعالى جوهرا أو أخبر أنه تعالى جوهر ولله تعالى الحمد. فلم يبق إلا النفس والجزء الذي لا يتجزأ ونحن إن شاء الله عزوجل نتكلم فيهما كلاما متيقنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال أبو محمد : اختلف الناس في النفس فذكر عن أبي بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم إنكار النفس جملة ، وقال : لا أعرف إلا ما شاهدته بحواسّي ، وقال جالينوس وأبو الهذيل محمد بن الهذيل العلاف : النفس عرض من الأعراض ثم اختلفا

٢٥٣

فقال جالينوس هي مزاج مجتمع يتولد من تركيب أخلاط الجسد. وقال أبو الهذيل هي عرض كسائر أعراض الجسم. وقالت طائفة : النفس هي النسيم الداخل الخارج بالتنفس فهي النفس ، قالوا : والروح عرض وهو الحياة فقط فهو غير النفس وهذا قول الباقلاني ومن اتبعه من الأشعرية.

وقالت طائفة : النفس جوهر ليست جسما ولا عرضا ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا هي في مكان ولا تتجزأ وأنها هي الفعّالة المدبرة وهي الإنسان وهو قول بعض الأوائل وبه يقول معمّر بن عمرو العطار أحد شيوخ المعتزلة. وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرّة بالمعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان عاقلة مميزة مصرفة للجسد.

قال أبو محمد : وبهذا نقول والنفس والروح اسمان مترادفان لمسمّى واحد ومعناهما واحد.

قال أبو محمد : وأما قول أبي بكر بن كيسان فإنه يبطله النص وبرهان العقل ، أما النص فقول الله عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [سورة الأنعام : ٩٣] الآية.

فصح أن النفس موجودة وأنها غير الجسد وأنها الخارجة عند الموت.

قال أبو محمد : وأما البرهان العقلي فإنا نرى المرء إذا أراد تصفية عقله وتصحيح رأيه أو فك مسألة عويصة عكس ذهنه وأفرد نفسه عن حواسها الجسدية وترك استعمال الجسد فقط جملة وتبرأ منه حتى إنه لا يرى من بحضرته ولا يسمع ما يقال أمامه فحينئذ يكون رأيه وفكره أصفى ما كان.

فصحّ أن الفكر والذكر ليسا للجسد المتخلي منه عند إرادتهما. وأيضا فالذي يراه النائم مما يخرج حقا على وجهه وليس ذلك إلا إذا تخلّت النفس عن الجسد فبقي الجسد كجسد الميت ونجده حينئذ يرى في الرؤيا ويسمع ويتكلم ويذكر وقد بطل عمل بصره الجسدي وعمل أذنيه الجسدية ، وعمل ذوقه الجسدي ، وكلام لسانه الجسدي.

فصحّ يقينا أن العقل المبصر السامع المتكلم الحساس الذائق هو شيء غير الجسد ، فصح أنه المسمى نفسا إذ لا شيء غير ذلك. وكذلك ما تتخيله نفس الأعمى والغائب عن الشيء مما قد رآه قبل ذلك فيتمثله ويراه في نفسه كما هو.

فصح يقينا أن هاهنا متمثلا مدركا غير الجسد إذ لا أثر للجسد ولا للحواس

٢٥٤

في شيء مما ذكرنا البتة. ومنها أنك ترى المريد يريد بعض الأمور بنشاط فإذا اعترضه عارض ما كسل ، والجسم بحسبه كما كان لم يتغير منه شيء فعلمنا أن هاهنا مريدا للأشياء غير الجسد. ومنها أخلاق النفس من الحلم والصبر والحسد والعقل والطيش والخرق والنّزق والعلم والبلادة وكل هذا ليس لشيء من أعضاء الجسد فإذ لا شك في ذلك فإنما هو كله للنفس المدبرة للجسد. ومنها ما يرى من بعض المحتضرين ممن قد ضعف جسده وفسدت بنيته وتراه حينئذ أحدّ ما كان ذهنا وأصحّ ما كان تمييزا ، وأفضل طبيعة وأبعد عن كل لغو وأنطق بكل حكمة ، وأصحّهم نظرا وجسده حينئذ في غاية الفساد وبطلان القوى.

فصح أن المدرك للأمور المدبر للجسد الفعّال المميز الحيّ هو شيء غير الجسد وهو الذي يسمى نفسا وصح أن الجسد مؤذ للنفس وأنها مذ حلت في الجسد فكأنها وقعت في طين غمر فأنساها شغلها بها كل ما سلف لها.

وأيضا فلو كان الفعل للجسد لكان فعله متماديا وحياته متصلة في حال نومه وموته ، ونحن نرى الجسد حينئذ صحيحا سالما لم ينتقص منه شيء من أعضائه قد بطلت أفعاله كلها جملة.

فصح أن الفعل والتمييز إنما كان لغير الجسد وهو النفس المفارقة له وأن الفعّال الذاكر فرّ منه وتبرأ منه. وأيضا فإننا نرى أعضاء الجسد تذهب عضوا عضوا بالقطع أو الفساد والقوى باقية بحسبها والأعضاء قد ذهبت وفسدت بالجذام وبالجدري وبالقطع والجسد قد نقص وفسد باقيه ونجد الذهن والتدبير والعقل وقوى النفس باقية أوفر ما كانت.

فصح ضرورة أن الفعّال العالم الذاكر المدبر المريد هو غير الجسد كما ذكرنا وأن الجسد موات فبطل قول ابن كيسان والحمد لله رب العالمين. وأما قول من قال إنها مزاج كما قال جالينوس فإن كل ما ذكرنا مما أبطلنا به قول أبي بكر بن كيسان ، فإنه يبطل أيضا قول جالينوس.

وأيضا فإن العناصر الأربعة التي منها تركب الجسد وهي التراب ، والماء ، والهواء ، والنار ، فإنها كلها موات بطبعها ، ومن الباطل الممتنع والمحال الذي لا يجوز البتة أن يجمع موات وموات وموات وموات فيقوم منها حي.

وكذلك محال أن تجتمع فيقوم منها حارّ أو حوارّ فيجتمع منها بارد ، أو حي وحي وحي فيقوم منها موات ، فبطل أن تكون النفس مزاجا ، وبالله تعالى التوفيق.

وأما قول من قال إنها عرض فقط ، وقول من قال : إنما النفس النسيم الداخل

٢٥٥

والخارج من الهواء ، وأن الروح هو عرض وهي الحياة ، فإن كل هذين القولين يبطلان بكل ما ذكرنا في إبطال قول الأصم بن كيسان ، وأيضا فإن أهل هذين القولين ينتمون إلى الإسلام ، والقرآن يبطل قولهم نصا قال الله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة الزمر : ٤٢].

فصح ضرورة أن الأنفس غير الأجساد ، وأن الأنفس هي المتوفاة في النوم والموت ، ثم ترد عند اليقظة ، وتمسك عند الموت ، وليس هذا التوفي للأجساد أصلا ، وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن العرض لا يمكن أن يتوفى فيفارق الجسم الحامل له ويبقى كذلك ثم يردّ بعضه ويمسك بعضه ، هذا ما لا يكون ولا يجوز لأن العرض يبطل بمزايلته الحامل له. كذلك لا يمكن أن يظنّ ذو مسكة من عقل أن الهواء الداخل والخارج هو المتوفى عند النوم وكيف ذلك وهو باق في حال النوم كما كان في حال اليقظة ولا فرق ..؟ وكذلك قوله عزوجل : (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) [سورة الأنعام : ٩٣]. فإنه لا يمكن أن يعذب العرض ولا الهواء. وأيضا فإن الله عزوجل يقول : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [سورة الأعراف : ١٧٢].

قال أبو محمد : هذه آية ترفع الإشكال جملة ، وتبين أن النفس غير الجسد ، وإنما هي العاقلة المخاطبة المكلفة ، لأنه لا يشك ذو حس سليم في أن الأجساد حين أخذ الله عليها هذا العهد كانت مبددة في التراب والماء والهواء والنار ، ونص الآية يقتضي ما قلنا فكيف وفيها نص أن الإشهاد إنما وقع على النفوس ...؟ وما أدري كيف ينشرح نفس مسلم بخلاف هذه النصوص ...؟ وكذلك إخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه رأى عند سماء الدنيا ليلة أسري به عن يمين آدم وعن يساره نسم بنيه ، فأهل السعادة عن يمينه وأهل الشقاء عن يساره عليه‌السلام» (١). ومن الباطل أن تكون الأعراض باقية هنالك أو أن يكون النسيم هنالك ، وهو هواء متردد في الهواء.

قال أبو محمد : ولو كان ما قاله أبو الهذيل والباقلاني ومن قلدهما حقا ، لكان الإنسان يبدل في كل ساعة ألف ألف روح وأزيد من ثلاثمائة ألف نفس ، لأن العرض

__________________

(١) رواه البخاري في الصلاة باب ١ ، وأحاديث الأنبياء باب ٥. ومسلم في الإيمان حديث ٢٦٣. وأحمد في المسند (٥ / ١٤٣).

٢٥٦

عندهم لا يبقى وقتين بل يفنى ويتجدد عندهم أبدا ، فروح كل حيّ على قولهم في كل وقت غير روحه التي كانت قبل ذلك ، وهكذا تتبدل أرواح الناس عندهم بالخطاب ، وكذلك بيقين يشاهد كل أحد أن الهواء الداخل بالتنفس ثم يخرج هو غير الهواء الداخل بالتنفس الثاني. فالإنسان يبدل على قول الأشعرية أنفسا كثيرة في كل وقت ونفسه الآن غير نفسه آنفا ، هذا حمق لا خفاء به. فبطل قول الفريقين بنص القرآن والسنة ، والإجماع والمشاهدة والمعقول ، والحمد لله رب العالمين.

هذا مع تعريهما من الدليل جملة ، وأنها دعوى فقط وما كان هكذا فهو باطل.

وقد صرح الباقلاني عند ذكره لما يعترض في أرواح الشهداء وأرواح آل فرعون فقال : هذا يخرج على أحد وجهين بأن يوضع عرض الحياة في أقل جزء من أجزاء الجسم. وقال بعض من شاهدناه منهم : توضع الحياة في عجب الذنب واحتج بالخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب» (١).

قال أبو محمد : وهذا تمويه من المحتج بهذا الخبر ، لأنه ليس في الحديث لا نص ولا دليل ولا إشارة يمكن أن يتأول على أن عجب الذنب يحيا ، وإنما في الحديث أن عجب الذنب لا يأكله التراب ، وأنه منه خلق الجسد وفيه يركب فقط ، فظهر تمويه هذا القائل وضعفه ، والحمد لله رب العالمين.

قال الباقلاني : وأما أن يخلق لتلك الحياة جسد آخر ، فلا.

قال أبو محمد : وهذا مذهب أهل التناسخ بلا مئونة ، واحتج لذلك بالحديث المأثور : أن نسمة المؤمن طير يعلق من ثمار الجنة ، ويأوي إلى قناديل تحت العرش (٢). وفي بعضها : أنها في حواصل طير خضر (٣).

قال أبو محمد : ولا حجة له في هذا الخبر ، لأن معنى قوله عليه‌السلام طائر يعلق هو على ظاهره لا على ظن أهل الجهل ، وإنما أخبر عليه‌السلام أن نسمة المؤمن

__________________

(١) تقدم تخريجه في هذا الجزء.

(٢) رواه النسائي في الجنائز باب ١١٧. وابن ماجة في الزهد باب ٣٢. ومالك في الجنائز حديث ٤٩. وأحمد في المسند (٣ / ٤٥٥ ، ٤٥٦ ، ٤٦٠).

(٣) رواه بلفظ : «... أرواحهم في جوف طير خضر» مسلم في الإمارة حديث ١٢١. وأبو داود في الجهاد باب ٢٥. والترمذي في تفسير سورة ٣ باب ١٩. وابن ماجة في الجنائز باب ٤ ، والجهاد باب ١٦. والدارمي في الجهاد باب ١٨. وأحمد في المسند (٦ / ٣٨٦).

٢٥٧

طائر بمعنى أنها تطير في الجنة فقط ، لا أنها تنسخ في صور الطير. فإن قيل : إن النسمة مؤنثة قلنا قد صح عن عربي فصيح أنه قال : قد أتتك كتابي فاستخففت بها ، فقيل له أتؤنث الكتاب؟ فقال : أو ليس صحيفة؟ وكذلك النسمة روح فتذكّر لذلك ، وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر ، فإنها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها ، والحديثان معا حديث واحد وخبر واحد.

قال أبو محمد : ولم يحصل من هذين الوجهين الفاسدين إلا على دعوى كاذبة بلا دليل يشبه الهزل أو على كفر مجرد في المصير إلى قول أصحاب التناسخ وعلى تحريف الحديث عن وجهه ونعوذ بالله من الخذلان. فبطل هذان القولان والحمد لله رب العالمين.

وأما قول من قال إن النفس جوهر لا جسم من الأوائل ومعمّر وأصحابه ، فإنهم موّهوا بأشياء إقناعيات فوجب إيرادها ونقضها ليظهر البرهان على وجه الإنصاف للخصم وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد رحمه‌الله : قالوا : لو كان النفس جسما لكان بين تحريك المحرّك رجله وبين إرادته تحريكها زمان على قدر حركة الجسم وتنقله ، إذ النفس هي المحركة للجسد والمريدة لحركته ، قالوا : فلو كان المحرك للرجل جسما لكان لا يخلو إمّا أن يكون حاصلا في هذه الأعضاء ، وإما جائيا إليها ، فإن كان جائيا إليها ، احتاج إلى مدة ولا بد ، وإن كان حاصلا فيها فنحن إذا قطعنا تلك العصبة التي بها تكون الحركة لم يبق منها في العضو الذي كان يتحرك شيء أصلا ، فلو كان المحرك حاصلا فيه لبقي منه شيء في ذلك العضو.

قال أبو محمد : وهذا لا معنى له لأن النفس لا تخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها ، إما أن تكون متخللة لجميع الجسد من خارج كالثوب ، وإما أن تكون متخللة لجميعه من داخل كالماء في المدرة ، وإما أن تكون في مكان واحد من الجسد وهو القلب والدماغ وتكون قواها منبثة في جميع الجسد ، فأي هذه الوجوه كان فتحريكها لما يريد تحريكه من الجسد يكون مع إرادتها لذلك متلازمان كإدراك البصر لما يلاقي الجسد في البعد بلا زمان ، وإذا قطعت العصبة لم ينقطع ما كان من جسم النفس متخللا لذلك العضو إن كانت متخللة لجميع الجسد من داخل ، أو متخللة له من خارج ، بل تفارق العضو الذي يبطل حسه في الوقت وينفصل عنه بلا زمان ، وتكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء الذي ملئ ماء. وأما إن كانت النفس

٢٥٨

ساكنة في موضع واحد من الجسد فلا يلزم على هذا القسم أن يسلب من العضو المقطوع ، بل يكون فعلها حينئذ في تحريكها الأعضاء كفعل حجر المغناطيس في الحديد وإن لم يلصق به يتلازمان فبطل هذا الإلزام الفاسد والحمد لله رب العالمين.

وقالوا : لو كانت النفس جسما لوجب أن نعلم ببعضها أو بكلها.

قال أبو محمد : وهذا سؤال فاسد بعينه والجواب وبالله تعالى التوفيق أنها لا تعلم إلا بكلها أو ببعضها ، لأن كل بسيط غير مركب من طبائع شتى ، فهو طبيعة واحدة وما كان طبيعة واحدة فقوته في جميع أبعاضه وفي بعض أبعاضه سواء كالنار تحرق بكلها وببعضها ، ثم لا ندري ما وجه هذا الاعتراض علينا بهذا السؤال ، ولا ما وجه استدلالهم منه على أنها غير جسم ولو عكس عليهم في إبطال دعواهم أنها جوهر لا جسم لما كان بينهم وبين السائل لهم بذلك فرق أصلا.

وقالوا : إن من شأن الجسم أنك إذا زدت عليه جسما آخر زاد في كميته وثقله قالوا : فلو كانت النفس جسما ثم داخلت الجسم الظاهر لوجب أن يكون الجسد حينئذ أثقل منه دون النفس ونحن ونجد الجسم إذا فارقته النفس أثقل منه إذا كانت النفس فيه.

قال أبو محمد : هذا شغب فاسد ومقدمة باطلة كاذبة ، لأنه ليس كل جسم كما ذكروه من أنه إذا زيد عليه جسم آخر كان أثقل منه وحده ، وإنما يعرض من هذا في الأجسام الثقال التي تطلب المركز والوسط فقط ، يعني التي في طبعها أن تتحرك سفلا وترسب من المائيات والأرضيات ، وأما التي تتحرك بطبعها علوّا فلا يعرض ذلك لها بل الأمر بالضد ، وإذ أضيف جسم منها إلى جسم ثقيل خففه فإنك ترى أنك لو نفخت زقّا من جلد ثور أو جلد بعير لو أمكن حتى يمتلئ هواء ثم وزنته فإنك لا تجد على وزنه زيادة على مقدار وزنه لو كان فارغا أصلا ، وكذلك ما صعب من الزقاقة ولو أنه ورقة سوسنة منفوخة ، ونحن نجد الجسم العظيم الذي إذا أضفته إلى الجسم الثقيل خففه جدا ، فإنك لو رميت الزق غير المنفوخ في الماء لرسب فإذا نفخته ورميت به خف وعام ولم يرسب ، ولذلك يستعمله العائمون لأنه يرفعهم عن الماء ويمنعهم من الرسوب ، وهكذا النفس مع الجسد وهو باب واحد كله ، لأن النفس جسم علوي فلكي أخف من الهواء وأطلب للعلو فهي تخفف الجسد إذا كانت فيه ، فبطل تمويههم والحمد لله رب العالمين.

وقالوا أيضا : لو كانت النفس جسما لكانت ذات خاصة ، إما خفيفة وإما ثقيلة ، وإما حارة وإما باردة ، وإما لينة وإما خشنة.

٢٥٩

قال أبو محمد : نعم هي خفيفة في غاية الخفة ذاكرة عاقلة مميزة حية ، هذه خواصها وحدودها التي بانت بها عن سائر الأجسام المركبات ، مع سائر أعراضها المحمولة فيها من الفضائل والرذائل ، وأما الحر واليبس والبرد والرطوبة واللين والخشونة فإنما هي من أعراض عناصر الأجرام التي دون الفلك خاصة ، ولكن هذه الأعراض المذكورة مؤثرة في النفس اللذة أو الألم ، فهي منفعلة لكل ما ذكرنا ، وهذا يثبت أنها جسم يحمل الأعراض.

وقالوا أيضا : إن كل جسم كيفياته محسوسة ، وما لم تكن كيفياته محسوسة فليس جسما ، وكيفيات النفس إنما هي الفضائل والرذائل ، وهذان الجنسان من الكيفيات ليسا محسوسين فالنفس ليست جسما.

قال أبو محمد : وهذا شغب فاسد ومقدمة كاذبة ، لأن قولهم ما لا تحسّ كيفياته فليس جسما دعوى كاذبة بلا برهان أصلا ، لا عقلي ولا حسي ، وما كان هكذا فهو قول ساقط مطرح لا يعجز عن مثله أحد ، ولكنا لا نقنع بهذا دون أن نبطل الدعوى ببرهان حسي ضروري بعون الله تعالى ، وهو أن الفلك جسم ، وكيفياته غير محسوسة ، وأما اللون اللازوردي الظاهر فإنما يتولد فيما دونه من امتزاج بعض العناصر ووقوع خطّ البصر عليها ، وبرهان ذلك تبدّل ذلك اللون بحسب العوارض المولدة له ، فمرة تراه أبيض صافي البياض ، ومرة ترى فيه حمرة ظاهرة ، فصح أن قولهم دعوى مجردة كاذبة وبالله تعالى التوفيق.

وأيضا فإن الجسم تتفاضل أنواعه في وقوع الحواس عليه ، فمنه ما يدرك لونه وطعمه وريحه ومنه ما لا يدرك منه إلا المحسة فقط كالهواء ، ومنها النار في عنصرها لا تقع عليها شيء من الحواس أصلا بوجه من الوجوه ، وهي جسم عظيم المساحة محيط بالهواء كله ، فوجب من هذا أن الجسم كلما زاد لطافة وصفاء لم تقع عليه الحواس ، وهذا حكم النفس وما دون النفس فأكثره محسوس للنفس لا حسّ البتة إلا النفس ولا حساس إلا هي ، فهي حساسة لا محسوسة ، ولم يجب قط لا بعقل ولا بحس أن يكون كل حساس محسوسا ، فسقط قولهم جملة والحمد لله رب العالمين.

وقالوا : إن كل جسم فإنه لا يخلو من أن يقع تحت جميع الحواس أو تحت بعضها والنفس لا تقع تحت كل الحواس ولا تحت بعضها فالنفس ليست جسما.

قال أبو محمد : وهذه مقدمة فاسدة كما ذكرنا آنفا لأن ما عدم اللون من الأجسام لم يدرك بالبصر كالهواء وكالنار في عنصرها وأن ما عدم الرائحة لم يدرك

٢٦٠