الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

تعالى قط مجاهدا ولا صابرا ولا علم له جهادا ولا صبرا وإنما علمه غير مجاهد وغير صابر ، ولم يزل تعالى يعلم أن من كان منهم سيجاهد وسيصبر فإنه لم يزل يعلم أنه سيجاهد وسيصبر فإذا جاهد وصبر علمه حينئذ صابرا مجاهدا. والعلم لا يستحيل لأنه ليس شيئا غير الباري تعالى ، وإنما استحال المعلوم فقط. ثم نسألهم : هل يعلم الله تعالى لحية الأطلس وقنا الأفطس أم لا يعلم ذلك؟ وهل يعلم الله تعالى أولاد العقيم ، وإيمان الكافر ، وكفر المؤمن ، وكذب الصادق ، وصدق الكاذب ، أم لا يعلم شيئا من ذلك؟ فإن قالوا : إن الله تعالى لا يعلم للعقيم أولادا ، وإنما يعلمه لا ولد له ، ولا يعلم لحية الأطلس بل يعلمه غير ذي لحية ، صدقوا وعادوا إلى الحق وبالله تعالى التوفيق.

٢٢١

الكلام في المعاني على قول معمّر

قال أبو محمد : وأما معمّر ومن اتبعه فقالوا : إنا وجدنا المتحرك والساكن فأيقنا أن معنى حدث في المتحرك به فارق الساكن في صفته ، وأن معنى حدث في الساكن به أيضا فارق المتحرك في صفته ، وكذلك علمنا أن في الحركة معنى به فارقت السكون ، وأن في السكون معنى به فارق الحركة.

وكذلك علمنا أن في ذلك المعنى الذي خالفت به الحركة السكون ، معنى به فارق المعنى الذي به فارقه السكون ، وهكذا أبدا أوجبوا أن في كل شيء في هذا العالم من جوهر أو عرض أي شيء كان معاني فارق بكل معنى منها كل ما عداه في العالم ، وكذلك أيضا في تلك المعاني لأنها أشياء موجودة متغايرة ، وأوجبوا بهذا وجود أشياء في زمان محدود في العالم لا نهاية لعددها.

قال أبو محمد : هذه جملة كل ما شغبوا به إلا أنهم فصّلوها ومدوها في الكفر والكافر ، والإيمان والمؤمن ، وفي غير ذلك مما هو المعنى الذي أوردناه بعينه ، ولا زيادة فيه أصلا.

قال أبو محمد : وهذا ليس شيئا لأننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق : العالم كله قسمان جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد ولا ثالث في العالم غير هذين القسمين ، هذا أمر يعرف بضرورة العقل وضرورة الحس ، فالجواهر مغايرة بعضها لبعض بذواتها التي هي أشخاصها يعني بالغيريّة فيها ، وتختلف أيضا بجنسها ، وهي أيضا مفترق بعضها من بعض بالعرض المحمول في كل حال من الجواهر. وأما الأعراض : فمغايرة للجواهر بذواتها بالغيرية فيها ، وكذلك هي أيضا بعضها مغاير لبعض بذواتها ، وبعضها مفارق لبعض بذواتها ، وإن كان بعض الأعراض أيضا قد تحمل الأعراض كقولنا حمرة مشرقة ، وحمرة كدرة ، وعمل سيّئ ، وعمل صالح ، وقوة شديدة ، وقوة دونها في الشدة ، ومثل هذا كثير إلا أن كل هذا يقف في عدد متناه لا يزيد. هذا أمر يعلم بالحس والعقل ، فالمتحرك يفارق الساكن هذا بحركته وهذا بسكونه والحركة تفارق السكون بذاتها ، ويفارقها السكون بذاته وبالنوعية والغيرية ، والحركة إلى الشرق تفارق الحركة

٢٢٢

إلى الغرب بكون هذه إلى الشرق وكون هذه إلى الغرب بذاته وبالغيريّة فقط وهكذا في كل شيء.

فكل شيئين وقعا تحت نوع واحد مما يلي الأشخاص فإنهما يختلفان بغيريتهما ، فإن كانا وقعا تحت نوعين فإنهما يختلفان بالغيريّة في الشخص وبالغيرية في النوع أيضا ، والغيريّة أيضا لها نوع جامع لجميع أشخاصها إلا أن كل ذلك واقف عند حدّ من العدد لا يزيد ولا بد. ثم نسألهم : خبّرونا عن المعاني التي تدّعونها في حركة واحدة أيما أكثر أهي أم المعاني التي تدعونها في حركتين؟ فإن أثبتوا قلة وكثرة تركوا مذهبهم وأوجبوا النهاية في المعاني التي نفوا النهاية عنها ، وإن قالوا : لا قلة ولا كثرة هاهنا كابروا وأتوا بالمحال الناقض أيضا لأقوالهم ، لأنهم إذا أوجبوا للحركة معنى أوجبوا للحركتين معنيين وهكذا أبدا ، فوجبت الكثرة والقلة ضرورة لا محيد عنها.

قال أبو محمد : فلم يكن لهم جواب أصلا إلا أن بعضهم قال : أخبرونا أليس الله تعالى قادرا على أن يخلق في جسم واحد حركات لا نهاية لها؟

قال أبو محمد : فجواب أهل الإسلام في هذا السؤال : نعم. وأما من عجّز ربه فأجابوا بلا ، وسقط هذا السؤال عنهم ، وكان سقوط الإسلام عنهم بهذا الجواب أشد من سقوط سؤال أصحاب معمّر.

قال أبو محمد : فتمادى سؤالهم لأهل الحق فقالوا : فأخبرونا أيما أكثر ما يقدر الله تعالى عليه من خلق لحركات في جسمين أو ما يقدر عليه من خلق الحركات في جسم واحد؟ فكان جواب أهل الحق في ذلك أنه لا يقع عدد على معدوم ، ولا يقع العدد إلا على موجود معروف ، والذي يقدر الله تعالى عليه ولم يفعله فليس هو بعد شيئا ولا له عدد ولا هو معدوم ولا نهاية لقدرة الله تعالى ، وأما ما يقدر عليه تعالى ولم يفعله فلا يقال فيه إن له نهاية ولا أنه لا نهاية له ، وأما كل ما خلق تعالى فله نهاية بعد ، وكذلك كل ما يخلق فإذا خلقه حدثت له نهاية حينئذ لا قبل ذلك. وأما المعاني التي تدّعونها فإنكم تزعمون أنها موجودة قائمة فوجب أن تكون لها نهاية ، فإن نفيتم النهاية عنها لحقتم بأهل الدهر وكلمناكم بما كلمناهم به مما قد ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق.

ثم لو تثبت لكم هذه العبارة من قول القائل إنّ ما يقدر الله تعالى عليه لا نهاية لعدده ، وهذا لا يصح ، بل الحق في هذا أن يقول : إن الله تعالى قادر على أن يخلق ما لا نهاية له في وقت ذي نهاية ومكان ذي نهاية ، ولو شاء أن يخلق ذلك في وقت غير

٢٢٣

ذي نهاية ، ومكان غير ذي نهاية لكان قادرا على ذلك لما وجب من ذلك إثبات ما ادعيتم من وجود معان في وقت واحد ولا نهاية لها ، إذ ليس هاهنا عقل يوجب ذلك ، ولا قرآن يوجب ذلك ، ولا خبر يوجب ذلك ، وإنما هو قياس منكم ، إذ قلتم لمّا كان قادرا على أن يخلق ما لا نهاية له قلنا : إنه قد خلق ما لا نهاية له ، فهذا قياس والقياس كله باطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا ، لأنه بزعمكم قياس موجود على معدوم وقياس وتشبيه لما قد خلقه بزعمكم على ما لم يخلقه ، وهذا في غاية الفساد ، ولا فرق بينكم في هذا القياس الفاسد وبين من يقول : إن في بلد كذا قوما يشمّون من عيونهم ، ويسمعون من أنوفهم ، ويذوقون من آذانهم ، ويبصرون من ألسنتهم ، فإذا كذّب في ذلك وسئل برهانا على دعواه قال أتقرون أن الله تعالى قادر على خلق ذلك فقلنا له نعم ، قال هذا دليل على صحة دعواي. بل أنتم أسوأ حالا لأن هذا أخبر عن متوهم لو كان كيف كان يكون ، وأنتم تخبرون عن غير متوهم في النفس ولا متشكل في العقل وهو إقراركم بوجود معان لا نهاية لعددها في وقت واحد.

قال أبو محمد : فبطل هذا القول والحمد لله رب العالمين. وكان يكفي من بطلانها أنها دعوى لا برهان على صحتها وهي دعوى فاسدة غير ممكنة بل هي محال لا يتوهم ولا يتشكل وبالله تعالى التوفيق.

٢٢٤

الكلام في الأحوال مع الأشعرية ومن وافقهم

قال أبو محمد : وأما الأحوال التي ادعتها الأشعرية فإنهم قالوا : إن هاهنا أحوالا ليست حقّا ولا باطلا ، ولا هي مخلوقة ولا هي غير مخلوقة ، ولا هي موجودة ولا هي معدومة ، ولا هي معلومة ولا هي مجهولة ، ولا هي أشياء ولا هي لا أشياء.

وقالوا : من هذا علم العالم بأن له علما ووجودا لوجوده ، قالوا : فإن قلتم : إن لكم علما بأن لكم علما بالباري تعالى وبما تعلمونه ، وأن لكم وجودا لوجودكم ما تجدونه ، سألناكم ألكم علم بعلمكم بأن لكم علما؟ وهل لكم وجود لوجودكم ما تجدونه؟ فإن أقررتم بذلك لزمكم أن تسلسلوا هذا أبدا إلى ما لا نهاية له ودخلتم في قول أصحاب معمّر والدهرية ، وإن منعتم من ذلك سألتم عن صحة الدليل على صحة منعكم ما منعتم من ذلك ، وصحة إيجابكم ما أوجبتم من ذلك. وكذلك قالوا في قدم القديم وحدث المحدث ، وبقاء الباقي ، وفناء الفاني ، وظهور الظاهر ، وخفاء الخافي ، وقصد القاصد ، ونية الناوي ، وزمان الزمان ، وما أشبه ذلك ، وقالوا : لو كان للباقي بقاء ولبقاء الباقي بقاء ، وهكذا أبدا إلى ما لا نهاية له ، قالوا : أفهذا يوجب وجود أشياء لا نهاية لها؟ وهذا محال. وهكذا قالوا في قدم القديم ، وقدم قدمه ، وقدم قديم قدمه إلى ما لا نهاية له ، وفي حدوث المحدث ، وحدوث حدثه ، وحدوث حدث حدثه ، إلى ما لا نهاية له ، وهكذا قالوا في زمان الزمان ، وزمان زمان الزمان إلى ما لا نهاية له ، وفي فناء الفاني وفناء فنائه وفناء فناء فنائه إلى ما لا نهاية له ، وكذلك ظهور الظاهر ، وظهور ظهوره ، وظهور ظهور ظهوره ، إلى ما لا نهاية له ، وكذلك القصد ، والقصد إلى القصد ، والقصد إلى القصد إلى القصد ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، وكذلك النية ، والنية للنية ، والنية للنية للنية ، إلى ما لا نهاية له ، وكذلك تحقيق الحق ، وتحقيق تحقيق الحق ، إلى ما لا نهاية له.

قال أبو محمد رضي الله عنه : أفكار السوء إذا ظن صاحبها أنه يدقق فيها فهي أضرّ عليه لأنها تخرجه إلى التخليط الذي ينسبونه إلى السوفسطائية وإلى الهذيان المحض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

قال أبو محمد : والكلام في هذا أبين من أن يشكل على عامي فكيف على

٢٢٥

فهم فكيف على عالم؟ والحمد لله. ونحن نتكلم على هذا إن شاء الله عزوجل كلاما ظاهرا لائحا لا يخفى على ذي حس سليم وبالله تعالى نتأيد.

فنقول وبالله تعالى التوفيق : أما القدم فإنه من صفات الزمن ومن فيه تقول ملك أقدم من ملك ، وزمان أقدم من زمان ، وشيخ أقدم من شيخ ، أي أنه متقدم بزمانه عليه ، والزمان متقدم بذاته على الزمان ليس في العالم قديم قدم الأزمان. هذا هو حكم اللغة التي لا يوجد فيها غيره أصلا ، فالقدم هو المتقدم ، والتقدم متقدم بنفسه على غيره فقط ، لأن القدم موجود معلوم وهي صفة المتقدم فلا يجوز إنكاره وأما قدم القديم فباطل لأنه لم يأت به نص ولا قام بوجوده دليل ، وما كان هكذا فهو باطل. وأما وجود الموجود فبضرورة الحسن ندري أن الموجود حق ، وأنه يقتضي واجدا وأن الواجد يقتضي وجودا لما وجد ، هو فعل الواجد وصفته فهو حق لما ذكرنا. ووجود الواجد يوجد بذاته لا بوجود هو غيره لأن وجود الوجود لم يأت به نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل.

وأما البارئ عزوجل فإنه يجد نفسه ويعلمها ويجد ما دونه ويعلمه بذاته لا بوجود هو غيره ، ولا بعلم هو غيره فقط ، وكذلك العالم منا يقتضي علما ولا بدّ هو فعل العالم وصفته المحمولة فيه عرضا بيقين ، ويزيد ويذهب ويثبت أطوارا. هذا ما لا شك فيه. والعالم منا يعلم أنه يحمل علما بعلمه ذلك لا بعلم هو غير علمه ، لأن العلم بالعلم لم يوجب وجوده نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل ، وكذلك الباقي مثاله بلا شك بقاء هو اتصال وجوده مدة بعد مدة ، وهذا معنى صحيح لا يجوز أن ينكره عاقل ، فأما بقاء البقاء فلم يأت بإيجاب وجوده نص ولا قام به برهان ، وما كان هكذا فهو باطل ، ولا يجوز أن يوصف الله بالبقاء ولا بأنه باق ، كما لا يوصف بالخلد ولا بأنه خالد ، ولا بالدّوام ولا بأنه دائم ، ولا بالثّبات ولا بأنه ثابت ، ولا بطول العمر ، ولا بطول المدة ، لأنّ الله عزوجل لم يسمّ نفسه بشيء من ذلك ، لا في القرآن ولا على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا قاله قط أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا قام به برهان بل البرهان قام ببطلان ذلك لأن كل ما ذكرنا من صفات المخلوقين ، ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بشيء من صفات المخلوقين إلا أن يأتي نص بأن يسمى باسم ما فيوقف عنده.

ولأن كل ما ذكرناه أعراض فيما هي فيه ، والله تعالى لا يحمل الأعراض ، وأيضا فإنه عزوجل لا في زمان ، ولا يمر عليه زمان ، ولا هو متحرك ولا ساكن ، لكن يقال لم يزل الله تعالى ولا يزال ، وأما الفناء فإنه مدة للعدم بعدّها أجزاء الحركات والسكون ولا يجوز أن يكون للمدة مدة لكنها مدة في نفسها ولنفسها فالقول بالزمان حق لأنه

٢٢٦

محسوس معلوم وأما القول بزمان الزمان فهو شيء لم يأت به نص ولا قام بصحته برهان ، وما كان هكذا فهو باطل. وأما ظهور الظاهر فهو متيقن معلوم ، والظهور صفة الظاهر وفعله ، وتقول : ظهر يظهر ظهورا ، والظهور معلوم ظاهر بنفسه ، ولا يجوز أن يقال إن للظهور ظهورا لأنه لم يأت به نص ولا قام بصحته برهان ، وما كان هكذا فهو باطل. وأما خفاء الخافي فهو عدم ظهوره ، والعدم ليس شيئا كما قدمنا. وأما القصد إلى الشيء والنية له فإنما هما فعل القاصد والناوي وإرادتهما الشيء ، والقول بهما واجب لأنهما موجودان بالضرورة يجدهما كل أحد من نفسه ويعلمهما من غيره علما ضروريا. وأما القصد إلى القصد والنية للنية فباطل لأنه لم يأت بهما نص ولا أوجبهما دليل ، وما كان هكذا فهو باطل والقول به لا يجوز. فهذا وجه البيان فيما خفي عليهم حتى أتوا فيه بهذا التخليط والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : ثم نقول لهم أخبرونا إذا قلتم هذه الأحوال أهي معان ومسميات مضبوطة محدودة متميز بعضها من بعض؟ أم ليست معاني أصلا ، ولا لها مسمّيات ، ولا هي مضبوطة ولا محدودة ، ولا متميز بعضها من بعض؟ فإن قالوا ليست معاني أصلا ، ولا لها مسميات ، ولا هي مضبوطة ولا محدودة ، ولا متميز بعضها من بعض ولا لتلك الأسماء مسميات أصلا ، قيل لهم فهذا هو معنى العدم حقا فلم قلتم إنها ليست معدومة؟ ثم لم سميتموها أحوالا وهي معدومة؟ ولا تكون التسمية إلا شرعية أو لغوية وتسميتكم هذه المعاني أحوالا ليست تسمية شرعية ولا لغوية ولا مصطلحا عليها لبيان ما يقع عليه ، فهي باطل محض بيقين. فإن قالوا هي معان مضبوطة ولها مسميات محدودة متميزة بعضها من بعض قيل لهم : هذه صفة الموجود ولا بدّ فلم قلتم إنها ليست موجودة؟ وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : ويقال لهم أيضا هذه الأحوال التي تقولون أمعقولة هي أم غير معقولة؟ فإن قالوا : هي معقولة كانوا قد أثبتوا لها معاني وحقائق من أجلها عقلت فهي موجودة ولا بدّ ، والعدم ليس معقولا ، لا كنه ولا معنى لهذه اللفظة أصلا وبالله تعالى التوفيق.

ويقال لهم أيضا : هل الأحوال في اللغة وفي المعقول إلا صفات لذي حال؟ وهل الحال في اللغة إلا بمعنى التحول من صفة إلى أخرى؟ يقال هذه حال فلان اليوم ، وكيف كانت حالك أمس؟ وكيف يكون الحال غدا؟ فإذ الأمر هكذا ولا بد فهذه الأحوال موجودة حقّا مخلوقة ولا بد ، فظهر فساد قولهم وأنّه من أسخف الهذيان والمحال الممتنع الذي لا يرضى به عاقل.

٢٢٧

ويقال لهم أيضا قبل كل شيء وبعده : فمن أين سميتم هذا الاسم يعني الأحوال؟ ومن أين قلتم لا هي معلومة ، ولا هي مجهولة ، ولا حق ، ولا باطل ، ولا مخلوقة ، ولا غير مخلوقة ، ولا معدومة ، ولا موجودة ولا هي أشياء ولا غير أشياء؟ أي دليل حدا بكم إلى هذا الحكم أقرآن أم سنة أم إجماع أم قول مقدّم ، أم لغة ، أم ضرورة عقل ، أم دليل إقناعي أم قياس؟ فهاتوه. ولا سبيل باستخفاف أهل العقول لمن قال بهذا الجنون ولا مزيد ، ونعوذ بالله من الخذلان. وما ينبغي لهم بعد هذا أن ينكروا على من أتى بما لا يعقل ككون الجسم في مكانين ، والجسمين في مكان واحد ، وكون شيء قائما قاعدا وكون أشياء غير متناهية في وقت واحد ، فإن قالوا : هذا كفر ، قيل لهم بل الكفر بما جئتم به لأنه إبطال الحقائق كلّها ، والعجب كل العجب أنهم لا يجوّزون قدرة الله تعالى على ما هو محال عندهم ، وقد أتوا في هذا الفصل بعين المحال. ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : وكلامهم في هذه المسألة كلام ما سمع بأسخف منه ، ولا قول السوفسطائية ، ولا قول النصارى ، ولا قول الغالية ، على أن هذه الفرق أحمق الفرق أقوالا. أما السوفسطائية فإنهم قطعوا على أن الأشياء باطل لا حق ، أو أنها حق عند من هي عنده حق ، وباطل عند من هي عنده باطل ، وأيها لا ندري. وأما النصارى والغالية فإن كانت هاتان الفرقتان قد أتتا بالعظائم فإنهم قطعوا بأنها حق.

وأما هؤلاء المخاذيل فإنهم أتوا بقول حققوه وأبطلوه ولم يحققوه ولا أبطلوه ، فكل ذلك معا في وقت واحد من وجه واحد وهذا لا يأتي به إلا مبرسم ، أو مخبول ، أو ماجن يريد أن يضحك من معه.

قال أبو محمد : ونحن نتكلّف بيان هذا التخليط الذي أتوا به وإن كان مكتفيا بسماعه ، ولكن التزيد من إبطال الباطل ما أمكن حسن فنقول وبالله تعالى التوفيق : إن قولهم : لا هي حق ولا هي باطل ، فإنّ كل ذي حسن سليم يدري أن كل ما لا يكون حقا فهو باطل ، وما لم يكن باطلا فهو حق ، هذا لا يعقل غيره ، فكيف وقد قال الله عزوجل : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [سورة يونس : ٣٢] وقال تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [سورة الأنفال : ٨] وقال تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الزمر : ٩] وقال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [سورة الفرقان : ٢] وقال تعالى : (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) وقال تعالى : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) [سورة الأعراف : ٤٤ ، ٤٥].

قال أبو محمد : وهؤلاء قوم ينتمون إلى الإسلام ويصدقون القرآن ، ولو لا ذلك ما

٢٢٨

احتججنا عليهم به ، فقد قطع الله تعالى أنه ليس إلا حق أو باطل ، وليس إلا علم أو جهل ، وهو عدم العلم ، وليس إلا وجود أو عدم ، وليس إلا شيء مخلوق أو الخالق أو لفظة العدم التي لا تقع على شيء ولا على مخلوق فقد أكذبهم الله عزوجل في دعواهم. ولا شك يدري ذو حس سليم أن ما لم يكن باطلا فهو حق ، وما لم يكن حقا فهو باطل ، وما لم يكن معلوما فهو مجهول ، وما لم يكن مجهولا فهو معلوم ، وما لم يكن شيئا فهو شيء ، وما لم يكن لا شيئا فهو شيء ، وما لم يكن موجودا فهو معدوم ، وما لم يكن معدوما فهو موجود ، وما لم يكن مخلوقا فهو غير مخلوق ، وما لم يكن غير مخلوق فهو مخلوق ، هذا كله معلوم ضرورة لا يعقل غيره ، فإذ هو كذلك فلا فرق بين ما قالوه في هذه القضية وبين القول اللازم لهم ضرورة وهو أن تلك الأحوال معدومة موجودة معا ، حق باطل معا ، معلومة مجهولة معا ، مخلوقة غير مخلوقة معا ، شيء لا شيء معا ، وهذا هو نفس قولهم ومقتضاه لأنهم إذا قالوا ليست حقا فقد أوجبوا أنها باطل ، وإذ قالوا ولا هي باطل فقد أوجبوا أنها حق ، وهكذا في سائر ما قالوه ، فاعجبوا لعقول رسخ هذا فيهم وسخموا (١) به ورقهم. وعجب آخر وهو قولهم إن هاهنا أحوالا ، ولفظة «هاهنا» معناه الإثبات بلا شك فهي موجودة ثابتة بلا شك.

قال أبو محمد : ولم يتخلصوا بهذا من قول معمّر في وجوب وجود أشياء لا نهاية لها ، أو أن يصيروا إلى قولنا في إبطال هذه التي يسمونها أحوالا وإعدامها جملة ، وما نعلم هوسا إلا وقد انتظمته هذه المقالة ونعوذ بالله من الخذلان.

مسألة أخرى

: قال أبو محمد : قالت الأشعرية ليس في العالم شيء له بعض أصلا ، ولا شيء له نصف ، ولا ثلث ، ولا ربع ، ولا خمس ، ولا سدس ، ولا سبع ، ولا ثمن ، ولا تسع ، ولا عشر ، ولا جزء أصلا ، واحتجوا في هذا بأن قالوا : يلزم من قال إن الواحد عشر العشرة وجزء من العشرة أن يقول ولا بد : إن الواحد عشر من نفسه ، وجزء من نفسه ، وبعض نفسه ، وهو جزء لغيره ، وبعض لغيره وعشر لغيره ، لأن العشرة تسعة وواحد ، فلو كان الواحد عشر العشرة وبعضا للعشرة وجزءا للعشرة لكان عشرا لنفسه وللتسعة التي هي غيره ولكان بعضا لنفسه وللتسعة التي هي غيره.

قال أبو محمد : وهذا خبط شديد أول ذلك أنه رد على الله تعالى مجرد ،

__________________

(١) سخّموا : سوّدوا (المعجم الوسيط : ص ٤٢٢).

٢٢٩

وتكذيب للقرآن ، وخلاف للّغة بل لجميع اللغات ، ومكابرة للعقول وللحواس قال تعالى : (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) [سورة البقرة : ٧٦] وقال تعالى : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [سورة الأنعام : ١١٢] وقال تعالى : (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ فَلَهَا النِّصْفُ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ) [سورة النساء : ١١].

فقد كذبوا القرآن نصّا. ثم هذا موجود في كلّ طبيعة ، وفي كل لغة ، ومحسوس بالحواس. ثم يقال لهم : لا فرق بينكم وبين من صحح ولم ينكر كون الشيء بعض نفسه وبعض غيره ، وجزءا لنفسه وجزءا لغيره وعشر نفسه وعشرا لغيره ، واحتج في تصحيح ذلك بالحجة التي رمتم بها إبطال ذلك ولا مزيد وكلا كما منكسع (١) في ظلمة الخطأ. ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق : ليس الأمر كما ظننتم بل الأسماء موضوعة للتفاهم ولتمييز بعض المسميات من بعض ، فالعشرة اسم للعشرة أفراد مجتمعات في العدد ، وكذلك لتسعة وواحد ، ولثمانية واثنين ، ولسبعة وثلاثة ، ولستة وأربعة ، ولخمسة وخمسة ، قال تعالى : (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [سورة البقرة : ١٩٦].

وهكذا جميع الأعداد لا ينكر ذلك إلا مخذول منكر للمشاهدة فبالضرورة ندري أن كل جزء من تلك الجملة فهو بعض لها ، وعشر لها ، ومسمّى منها بتسمية ما ، ولا يقال هو جزء لنفسه ولا جزء لغيره ولا أنه بعض لنفسه ، ولا أنه بعض لغيره ، ولا عشر لنفسه ولا عشر لغيره. ومثل هذا «البلق» الذي هو اسم لاجتماع السّواد والبياض معا ، فالبياض بلا شك بعض البلق ، والسواد بعض البلق ، وليس البياض جزءا لنفسه وللسواد ، ولا بعضا لنفسه وللسواد ، وكل واحد منهما جزء للبلق. وكذلك الإنسان اسم للجملة المجتمعة من أعضائه ، ولا شك في أن العين بعض الإنسان وجزء من الإنسان ، ولا يحتمل أن يقال العين بعض نفسها ، وبعض الأذن واليد ، ولا أن يقال الأذن جزء لنفسها وللعين وللأنف ، وهكذا في سائر الأعضاء ، فعلى قول هؤلاء النوكى يلزمهم ألا تكون العين بعض الإنسان ، أو أن يقولوا إن العين بعض نفسها وبعض الأذن ، ومن أبطل الأبعاض والأجزاء فقد أبطل الجمل ، لأن الجمل ليست شيئا البتة غير أبعاضها ، ومن أبطل الجمل فقد أبطل الكل والجزء وأبطل العالم بكل ما فيه ، وإذا بطل العالم بطل الدين والعقل وهذه حقيقة السفسطة ، وما نعلم في الأقوال أحمق من هذه المسألة ومن التي قبلها نعوذ بالله من الخذلان.

__________________

(١) يقال : تكسّع في ضلاله : ذهب (المعجم الوسيط : ص ٧٨٧).

٢٣٠

خلق الله عزوجل العالم في كل وقت

وزيادته في كل دقيقة

قال أبو محمد : وذكر عن النظام أنه قال : إن الله تعالى يخلق كل ما خلق في وقت واحد دون أن يعدمه. وأنكر عليه هذا القول بعض أهل الكلام.

قال أبو محمد : وقول النظام هاهنا صحيح لأننا إذا أثبتنا أن خلق الشيء هو الشيء نفسه فخلق الله تعالى قائم في كل موجود أبدا ما دام ذلك الموجود موجودا. وأيضا فإنا نسأل ما معنى قولكم خلق الله تعالى أمر كذا؟ فجوابهم أن معنى خلقه أنه تعالى خرّجه من العدم إلى الوجود. فنقول لهم : أليس معنى هذا القول منكم أنه أوجده ولم يكن موجودا؟ فمن قولهم نعم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق :

فالخلق هو الإيجاد عندكم بلا شك ، فأخبرونا أليس الله تعالى موجدا لكل موجود أبدا مدة وجوده؟ فإن أنكروا ذلك أحالوا وأوجبوا أن الأشياء موجودة وليس الله تعالى موجدا لها الآن ، وهذا تناقض. وإن قالوا : نعم فإن الله موجد لكل شيء موجود أبدا قلنا لهم هذا هو الذي أنكرتم بعينه قد أقررتم به ، لأن الإيجاد هو الخلق نفسه والله تعالى موجد لكل ما يوجد في كل وقت أبدا وإن لم يفنه قبل ذلك ، والله تعالى خالق لكل مخلوق في كل وقت وإن لم يفنه قبل ذلك. وهذا لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق.

وبرهان آخر وهو قول الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [سورة الأعراف : ١١].

وصح البرهان بأن الله تعالى خلق التراب والماء اللّذين يتغذّى آدم وبنوه بما استحال عنهما وصارت فيهم دما وأحاله الله تعالى منيّا ، فثبت بهذا يقينا أن جميع أجساد الحيوان والنوامي كلها متفرقة ، ثم جمعها الله تعالى فقام منها الحيوان والنوامي وقال عزوجل : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [سورة المؤمنون : ١٤] وقال تعالى : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) [سورة الزمر : ٦].

فصح أن في كل حين يحيل الله أحوال مخلوقاته فهو خلق جديد ، فالله تعالى يخلق في كل حين جميع العالم مستأنفا دون أن يفنيه وبالله تعالى نتأيد.

٢٣١

الكلام في الحركات والسكون

قال أبو محمد : ذهبت طائفة إلى أنه لا حركة في العالم ، وأن كل ذلك سكون ، واحتجوا بأن قالوا : وجدنا الشيء ساكنا في المكان الأول ساكنا في المكان الثاني وهكذا أبدا ، فعلمنا أن كل ذلك سكون وهذا قول منسوب إلى معمّر بن عمرو العطار ، مولى بني سليم أحد رؤساء المعتزلة. وذهبت طائفة إلى أن لا سكون أصلا ، وإنما هي حركة اعتماد ، وهذا قول منتسب إلى إبراهيم بن سيار النظام. واحتج غير النظام من أهل هذه المقالة بأن قال : السكون إنما هو عدم الحركة ، والعدم ليس شيئا. وقال بعضهم : هو ترك الحركة وترك الفعل ليس فعلا ولا هو معنى. وذهبت طائفة إلى إبطال الحركة والسكون معا ، وقالوا : إنما يوجد متحرك وساكن فقط وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم. وذهبت طائفة إلى أن الجسم في أول خلق الله تعالى له ليس ساكنا ولا متحركا. وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون إلا أنها قالت : إن الحركات أجسام ، وهو قول هشام بن الحكم شيخ الإمامية ، وجهم بن صفوان السمرقندي. وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون وأن كل ذلك أعراض وهذا هو الحق.

فأما من قال بنفي الحركة وأن كل ذلك سكون فقولهم يبطل بأننا قد علمنا أن السكون إنما هو إقامة في المكان ، وأن الحركة نقلة عن ذلك المكان وزوال عنه ، ولا شك في أن الزوال عن الشيء هو غير الإقامة فيه ، فإذ الأمر كذلك فواجب أن يكون لهذين المعنيين المتغايرين لكل واحد منهما اسم غير اسم الآخر كما هما متغايران ، فاتفق في اللغة أن يسمى أحدهما حركة ، ويسمى الآخر سكونا. وأما قولهم إن كلّ حركة فهي سكون في المكان الثاني فليس كذلك ، لأن السكون إقامة لا نقلة فيها فإذا وجدت نقلة متصلة لا إقامة فيها فهي غير الإقامة التي لا نقلة فيها ، ونوع آخر له أيضا أشخاصه غير أشخاص النوع الآخر ، وبيقين ندري أن الشيء المتحرك من مكان إلى مكان فإنه وإن جاوز كلّ مكان يمر عليه فإنه غير واقف ولا مقيم. وهذا ما لا شك فيه يعرف ذلك بضرورة الحس ، فصح أن الحركة معنى وأن السكون معنى آخر.

وأما من قال إن السكون حركة اعتماد فاحتجاج لا يعقل فلا وجه للاشتغال به.

٢٣٢

وأما حجة من احتج بأن السكون عدم الحركة والعدم ليس شيئا ، فليس كما قال لأنه عقب الحركة إقامة موجودة ظاهرة ، فهي وإن كان معها وبوجودها عدمت الحركة فليس هي عدما ، كما أن القيام معنى صحيح موجود وإن كان قد عدمت معه سائر الحركات والأعمال من القعود والاتكاء والاضطجاع. ويقال لهم : وما الفرق بينكم وبين من قال بل الحركة ليست معنى لأنها عدم السكون؟ فهذا ما لا انفكاك عنه ، وكذلك من قال أيضا إن المرض ليس معنى لأنه عدم الصحة ، والصحة ليست معنى لأنها عدم المرض ، ومثل هذا كثير جدا. وفي هذا إبطال الحقائق كلّها. وأما من قال إن التّرك ليس معنى فخطأ ، لأن كلّ من دون الله تعالى فإنه إن ترك معنى ما وفعلا ما فلا بد له ضرورة من فعل آخر ومعنى آخر ، هذا أمر يوجد بالمشاهدة والحس لا يمكن غير ذلك ، فصح أن ترك من دون الله تعالى لفعل ما هو أيضا فعل صحيح بوجوده منذ سمي تاركا لما ترك ، وليس الله تعالى كذلك ، بل لم يزل غير فاعل ولم يمكن بذلك فاعلا للترك لأن ترك الإنسان للفعل كما بينت عرض موجود فيه وهو حامل له ، ولو كان لترك الله تعالى للفعل معنى لكان قائما به تعالى ، ومعاذ الله من هذا ومن أن يكون عزوجل حاملا لعرض.

فلو كان أيضا قائما بنفسه لكان جوهرا ، أو الترك ليس جوهرا ، ولو كان قائما بغيره عزوجل لكان تعالى فاعلا له غير تارك ، فصح الفرق وبالله تعالى التوفيق.

وأما من أبطل الحركة والسكون معا : فقول فاسد أيضا لأنه أثبت المتحرك والساكن مع ذلك ، وبيقين يدري كل ذي حسّ سليم أن من تحرّك سكن ، فإن تلك العين المتحركة ثم الساكنة هي عين واحدة وذات واحدة لم تتبدل ذاتها ، وإنما يتبدل عرضها المحمول فيها ، فبالضرورة ندري أنه حدث فيه ، أو له ، أو منه معنى من أجله استحق أن يسمى متحركا ، وأنه حدث فيه أو له أو منه أيضا معنى من أجله استحق أن يسمى ساكنا ، لو لا ذلك لم يكن بأن يسمى متحركا أحق منه بأنه يسمى ساكنا ، هذا أمر محسوس مشاهد ، فذلك المعنى هو الحركة أو السكون ، فصح وجودهما ضرورة ، ولا فرق بين من أثبت الساكن والمتحرك ، ونفى الحركة والسكون ، فلا فرق بينه وبين من أثبت الضارب والقائم والآكل ، وأبطل الضرب والأكل والقيام ، وهذه سفسطة سقيمة وبالله تعالى التوفيق.

وأما من قال إن الجسم في أول خلق الله عزوجل له ليس ساكنا ولا متحركا فكلام فاسد أيضا ، لأنه لا يتوهم ولا يعقل معنى ثالث ليس حركة ولا سكونا ، هذا شيء لا يتشكل في النفس ولا يثبته عقل ولا سمع. وأيضا فإنه قول لا دليل عليه فهو

٢٣٣

باطل. ولا شك في أن الله تعالى إذا خلق الجسم فإنما يخلقه في زمان ومكان وإذ لا شك في ذلك فالجسم في أول حدثه ساكن في المكان الذي خلقه الله تعالى فيه ولو طرفة عين ، ثم إما يتصل سكونه فيه فتطول إقامته فيه ، وإما أن ينتقل عنه فيكون متحركا عنه. فإن قال قائل بل هو متحرك لأنه خارج عن العدم إلى الوجود. قيل له : هذا منك تسمية فاسدة لأن الحركة في اللغة وهي التي يتكلم عليها إنما هي نقلة من مكان إلى مكان ، والعدم ليس مكانا ، ولم يكن المخلوق شيئا قبل أن يخلقه الله تعالى. فحال خلقه هي أول أحواله التي لم يكن هو قبلها فكيف أن يكون له حال قبلها فلم ينتقل أصلا بل ابتدأه الله تعالى الآن.

وأما الجسم الكلي الذي هو جرم العالم جملة وهو الفلك الكلي فكل جزء منه مقدر مفروض فإن أجزاءه المحيطة به من أربع جهات ، والجزء الذي يليه في جهة عمق الفلك هو مكانه ، ولا مكان له من الصفحة التي لا تلي الأجزاء التي ذكرنا والله تعالى يمسكه بقوته كما شاء ولا يلاقيه من صفحته العليا شيء أصلا ، ولا هنالك مكان ولا زمان ولا خلاء ولا ملاء.

قال أبو محمد : ورأيت لبعض النوكى ممن ينتمي إلى الكلام قولا طريفا وهو أنه قال : إن الله تعالى إذ خلق الأرض خلق جرما عظيما يمسكها لئلا تنحدر سفلا ، فحين خلق ذلك الجرم أعدمه وخلق آخر وهكذا أبدا بلا نهاية ، لأنه زعم لو أبقاه وقتين لاحتاج إلى ممسك وهكذا أبدا إلى ما لا نهاية له ، كأن هذا الأنوك لم يسمع قول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [سورة فاطر : ٤١].

فصح أن الله تعالى يمسك الكل كما هو دون عمد ولا زيادة ولا جرم آخر ولو أن هؤلاء المخاذيل إذ عدموا العلم تمسكوا باتّباع القرآن والسكوت عن الزيادة والخبر عن الله تعالى بما لا علم لهم به لكان أسلم لهم في الدين والدنيا ، ولكن من يضلل الله فلا هادي له ونعوذ بالله من الضلال.

وأما من قال : إن الحركات أجسام فخطأ لأن الجسم في اللغة اسم موضوع للطويل العريض العميق ذي المساحة وليست الحركة كذلك فليست جسما ، ولا يجوز أن يوقع عليها اسم جسم إذ لم يأت ذلك في اللغة ولا في الشريعة ولا أوجبه دليل ، وإذ صح أنها ليست جسما فهي بلا شك عرض.

وأما من قال إن الحركة ترى فقول فاسد لأنه قد صح أن البصر لا يقع في هذا

٢٣٤

العالم إلّا على لون في ملون فقط ، وبيقين ندري أن الحركة لا لون لها فإذ لا لون لها فلا سبيل إلى أن ترى وإنما علمنا كون الحركة لأننا رأينا لون المتحرك في مكان ما ثم رأيناه في مكان آخر علمنا أن ذلك الملون قد انتقل عن مكان إلى مكان بلا شك ، وهذا المعنى هو الحركة أو بأن يحس الجسم منتقلا من مكان إلى مكان فيدري حينئذ من لامسه وإن كان أعمى أو مطبق العينين أنه تحرك ، وبرهان ما قلناه أن الهواء لمّا لم يكن له لون لم يره أحد ، وإنما يعلم من تموجه وتحرّكه وملاقاته بأنه متنقل وهو هبوب الرياح. وكذلك أيضا علمنا حركة الصوت بإحساسنا الصوت يأتي من مكان ما إلى مكان ما ، وكذلك القول في حركة المشموم من الطيب والنتن ، وحركة المذوق فبطل قول من قال إن الحركات ترى وصح أن الحركة ليست لونا ولا لها لون ، ولو كان هذا لأمكن لآخر أن يدّعي أنه يسمع الحركة وهذا خطأ لأنه لا يسمع إلا الصوت ، ولأمكن لآخر أن يدّعي أن الحركة تلمس وهذا خطأ وإنما نلمس المحسة من الخشونة والإملاس أو غير ذلك من المحسات ، والحق من هذا إنما هو أن الحركة تعرف وتوجد بتوسط كل ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : والحركات النقلية المكانية تنقسم قسمين لا ثالث لهما ، إما حركة ضرورية وإما اختيارية.

فالاختيارية هي فعل النفوس الحية من الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان كله ، وهي التي تكون إلى جهات شتّى على غير رتبة معلومة الأوقات وكذلك السكون الاختياري.

والحركة الضرورية تنقسم قسمين لا ثالث لهما إما طبيعية وإما قسرية. والاضطرارية : هي الحركة الكائنة ممن ظهرت منه عن غير قصد منه إلينا.

وأمّا الطبيعية فهي حركة كل شيء غير حيّ بما بناه الله عليه كحركة الماء إلى وسط المركز ، وكحركة الأرض كذلك وكحركة الهواء والنار إلى مواضعهما ، وكحركة الأفلاك والكواكب دورا ، وكحركة عروق الجسد النوابض ، والسكون الطبيعي هو سكون كل ما ذكرنا في عنصره.

وأما القسرية فهي حركة كل شيء دخل عليه ما يحيل حركته عن طبيعته أو عن اختياره إلى غيرها ، كتحريك المرء قهرا ، وتحريكك الماء علوّا ، والحجر كذلك وكتحريك النّار سفلا ، والهواء كذلك وكتصعيد الهواء الماء ، وكعكس الشمس الشمس بحر النار ، والسكون القسريّ هو توقيف الشيء في غير عنصره أو توقيف المختار كرها وبالله تعالى التوفيق.

٢٣٥

الكلام في التولد

قال أبو محمد : تنازع المتكلمون في معنى عبروا عنه بالتولد ، وهو أنهم اختلفوا في من رمى سهما فخرج به إنسانا أو غيره ، وفي حرق النار ، وتبريد الثلج ، وسائر الآثار الظاهرة من الجمادات ، فقالت طائفة : ما تولد من ذلك عن فعل إنسان أو حيّ فهو فعل الإنسان والحي. واختلفوا فيما تولد من غير حي ، فقالت طائفة : هو فعل الله وقالت طائفة من تولد من غير حي فهو فعل الطبيعة. وقال آخرون : كل ذلك فعل الله عزوجل.

قال أبو محمد : فهؤلاء مبطلون للحقائق غائبون عن موجبات العقول.

قال أبو محمد : والأمر أبين من أن يطول فيه الخطاب والحمد لله رب العالمين. والصّواب في ذلك أن كلّ ما في العالم من جسم أو عرض في جسم أو أثر من جسم فهو خلق الله عزوجل فكل ذلك فعل الله تعالى بمعنى أنه خلقه ، وكل ذلك مضاف بنص القرآن وبحكم اللغة إلى ما ظهر منه من حي أو جماد. قال تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [سورة الحج : ٥].

فنسب عزوجل الاهتزاز والإنبات والربو إلى الأرض. وقال تعالى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [سورة المؤمنون : ١٠٤] فأخبر تعالى أن النّار تلفح.

وقال تعالى : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) [سورة الكهف : ٢٩] فأخبر عزوجل : أنّ الماء يشوي الوجوه.

وقال تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [سورة النساء : ٩٢] فسمى تعالى المخطئ قاتلا وأوجب عليه حكما ، وهو لم يقصد قتله قط لكنه تولد عن فعله.

وقال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [سورة فاطر : ١٠] فأخبر تعالى أن الكلم يصعد ، وأن العمل يرفع الكلم والعلم عرض من الأعراض.

وقال تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ) [سورة آل عمران : ١٤٤] وقال تعالى : (عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ) [سورة التوبة : ١٠٩].

٢٣٦

ولم تختلف أمة ولا لغة في صحة قول القائل مات فلان ، وسقط الحائط ، فنسب الله تعالى وجميع خلقه الموت إلى الميت ، والسقوط إلى الحائط ، والانهيار إلى الجرف ، لظهور كل ذلك منها ليس في القرآن ولا في السنن ولا في اللغات ولا في العقول شيء غير هذا الحكم ، ومن خالف هذا فقد اعترض على الله تعالى وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى جميع الأمم وعلى جميع عقولهم ، وهذه صفة من عظمت مصيبته بنفسه ، ومن لا دين له ، ولا عقل ولا حياء ، ولا علم ، وصح بكل ما ذكرنا أنّ إضافة كل أمر في العالم إلى الله تعالى هي على غير إضافته إلى من ظهر منه ، وإنما إضافته إلى الله تعالى لأنه خلقه ، وأما إضافته إلى من ظهر منه أو تولد عنه فلظهوره منه اتباعا للقرآن ، ولجميع اللغات ، ولسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكل هذه الإخبارات ، وكلتا هاتين الإضافتين حقّ لا مجاز في شيء من ذلك ، لأنه لا فرق بين ما ظهر من حيّ مختار أو من غير حيّ ولا مختار في أن كل ذلك ظاهر مما ظهر منه ، وأنه مخلوق لله تعالى إلا أن الله تعالى خلق في الحي اختيارا لما ظهر منه ، ولم يخلق اختيارا في ما ليس حيّا ولا مريدا. فما تولد عن فعل فاعل فهو فعل الله تعالى بمعنى أنه خلقه ، وهو فعل ما ظهر منه بمعنى أنه ظهر منه. قال الله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [سورة الأنفال : ١٧]. وقال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [سورة الواقعة : ٦٣ ، ٦٤].

وهذا نص قولنا وبالله تعالى التوفيق.

٢٣٧

الكلام في المداخلة والمجاورة والكمون

قال أبو محمد : ذهب القائلون بأن الألوان أجسام إلى المداخلة ومعنى هذه اللفظة أن الجسمين يتداخلان فيكونان جميعا في مكان واحد.

قال أبو محمد : وهذا كلام فاسد لما سنبينه إن شاء الله تعالى في باب الكلام في الأجسام والأعراض من ديواننا هذا وبالله نتأيد.

من ذلك أن كل جسم فله مساحة وإذا كان كذلك فله مكان ولا بدّ ، وإذ له مكان بقدر مساحته ولا بدّ فإن كل جسم زيد عليه جسم آخر ، فإن ذلك الجسم الزائد يحتاج إلى مكان زائد من أجل مساحته الزائدة ، هذا أمر يعلم بالمشاهدة فإن اختلاط الأمر على من لم يتمرّن في معرفة حدود الكلام من أجل ما يرى في الأجسام المتخلخلة من تخلل الأجسام المائعة لها فإنما هذا لأن في خلال أجزاء تلك الأجسام المتخلخلة خروقا صغارا مملوءة هواء فإذا صبّ عليها الماء أو مائع ما ملأ تلك الخروق ، وخرج عنها الهواء الذي كان فيها ، وهذا ظاهر للعين محسوس خروج الهواء عنها بنفاخات وصوت من كل ما يخرج عنه الهواء مسرعا. والذي ذكرنا فإنه إذا تم خروج الهواء عنه وزيد في عدد المائع ربا واحتاج إلى مكان زائد. وأما الذي ذكرنا قبل فإنه في الأجسام المكتنزة كما صبّ على ماء ، أو دهن على دهن ، أو دهن على ماء وهكذا في كل شيء من هذه الأنواع وغيرها.

فصح يقينا أن الجسم إنما يكون في الجسم على سبيل المجاورة ، كل واحد في حيز غير حيز الآخر وإنما تكون المداخلة بين الأعراض والأجسام وبين الأعراض والأعراض ، لأن العرض لا يشغل مكانا فنجد اللون والطعم والمحسة والرائحة والحر والبرد والسكون ، كل ذلك مداخل للجسم ، ومداخل بعضه بعضا ، ولا يمكن أن يكون جسم واحد في مكانين ، ولا جسمان في مكان واحد. ثم إن المجاورة بين الجسمين تنقسم ثلاثة أقسام إحداها : أن يخلع أحد الجسمين كيفياته ويلبس كيفية الآخر ، كنقطة رميتها في دن خل أو دن مرت أو في لبن أو في مداد أو شيء يسير من بعض هذه في بعض أو من غيرها كذلك ، فإن الغالب منها يسلب المغلوب كيفياته الذاتية والغيرية

٢٣٨

ويذهبها عنه ويلبسه كيفيات نفسه الذاتية والغيرية. والثاني : أن يخلع كل واحد منهما كيفياته الذاتية والغيرية ويلبسا معا كيفيات أخر كماء الزاج إذا جاور الماء العفص ، وكجسم الجير إذا جاور جسم الزرنيخ وكسائر المعاجن كلها والدقيق والماء وغير ذلك.

والثالث : أن لا يخلع واحد منهما عن نفسه كيفية من كيفياته لا الذاتية ولا الغيرية بل يبقى كل واحد منهما كما كان كزيت أضيف إلى ماء ، وكحجر إلى آخر ، وثوب إلى ثوب. فهذا حقيقة الكلام في المداخلة والمجاورة.

وأما الكمون : فإن طائفة ذهبت إلى أن النار كامنة في الحجر ، وذهبت طائفة إلى إبطال هذا ، وقالت إنه لا نار في الحجر أصلا ، وهو قول ضرار بن عمرو.

قال أبو محمد : وكل طائفة منهما فإنها تفرط على الأخرى فيما تدّعي عليها ، فضرار ينسب إلى مخالفيه أنهم يقولون إن النخلة بطولها وعرضها وعظمها كامنة في النواة ، وأن الإنسان بطوله وعرضه وعمقه وعظمه كامن في المنيّ. وخصومه ينسبون إليه أنه يقول : إنه ليس في النار حر ، ولا في العنب عصير ، ولا في الزيتون زيت ، ولا في الإنسان دم.

قال أبو محمد : وكلا القولين جنون محض ومكابرة للحواس والعقول ، والحق من ذلك أن في الأشياء ما هو كامن كالدم في الإنسان ، والعصير في العنب ، والزيت في الزيتون ، والماء في كل ما يعتصر منه ، وبرهان ذلك أن كل ما ذكرنا إذا خرج ما كان كامنا فيه ضمر الباقي لخروج ما خرج منه وخف وزنه لذلك عما كان عليه قبل خروج الذي خرج منه.

ومن الأشياء ما ليس كامنا كالنار في الحجر والحديد ، لكن في الحجر الزناد والحديد الذكر قوة إذا تضاغطا احتدم ما بينهما من الهواء فاستحال نارا وهكذا يعرض لكل شيء متحرق فإن رطوباته تستحيل نارا ثم دخانا ثم هواء ، إذ في طبع النار استخراج ناريات الأجسام وتصعيد رطوباتها حتى يفنى كل ما في الجسم من الناريات والمائيات عنه بالخروج ، ثم لو نفخت دهرك على ما بقي من الأرضية المحضة وهو الرماد لم يحترق ولا اشتعل إذ ليس فيه نار فتخرج ، ولا ماء فيصعد.

وكذلك دهن السراج فإنه كثير الناريات بطبعه فيستحيل بما فيه من المائية اليسيرة دخانا هوائيا ، وتخرج ناريته حتى يذهب كلّه. وأما القول في النوى والبذور والنطف ، فإن في النواة وفي البذر وفي النطفة طبيعة خلقها في كل ذلك الله تعالى ، وهي قوة تجتذب الرطوبات الواردة عليها من الماء والزبل ولطيف التراب الوارد كل

٢٣٩

ذلك على النواة والبذر ، فيحيل كل ذلك إلى ما في طبعها إحالته إليه فيصير عودا ولحاء وورقا وزهرا وثمرا وخصوصا وكرما ، ومثل الدم الوارد على النطفة فتحيله طبيعته التي خلقها الله فيه لحما ، ودما وعظما ، وعصبا وعروقا وشرايين وعضلا وغضاريف وجلدا وظفرا وشعرا وكل ذلك خلق الله تعالى ، فتبارك الله أحسن الخالقين ، والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : وذهب الباقلاني وسائر الأشعرية إلى أنه ليس في النار حر ، ولا في الثلج برد ، ولا في الزيتون زيت ، ولا في العنب عصير ، ولا في الإنسان دم ، هذا أمر ناظرنا عليه من لقيناه منهم.

والعجب كل العجب قولهم هذا التخليط وإنكارهم ما يعرف بالحواس وضرورة العقل ، ثم هم يقولون مع هذا إن للزجاج والحصى طعما ورائحة وإن لقشور العنب رائد وإن للفلك طعما ورائحة ، وهذه إحدى عجائب الدنيا.

قال أبو محمد : وما وجدنا لهم في ذلك من حجة غير دعواهم أن الله تعالى خلق كل حر نجده في النار عند مسنا إياها ، وكذلك خلق البرد في الثلج عند مسنا إياه ، وكذلك خلق الزيت عند عصر الزيتون والعصير عند عصر العنب ، والدم عند القطع والشرط.

قال أبو محمد : فإذا تعلقوا من هذا بحواسهم فمن أين قالوا إن للزجاج طعما ورائحة ، وللفلك طعما ورائحة ...؟ وهذا موضع تشهد الحواس بتكذيبهم في أحدهما ولا تدرك الحواس الآخر. ويقال لهم : لعل الناس ليس في الأرض منهم أحد ، وإنما خلقهم الله عند رؤيتكم لهم ، ولعل بطونكم لا مصارين فيها ، ورءوسكم لا أدمغة فيها ، لكن الله خلق كل ذلك عند الشدخ والشق.

قال أبو محمد : وقول الله تعالى يكذبهم إذ قال تعالى : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [سورة الأنبياء : ٦٩].

فلو لا أن النار تحرق بحرها ما كان يقول الله تعالى هذا.

وإذ يقول عزوجل : (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) [سورة التوبة : ٨١] فصح أن النار موجودة.

وكذلك أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نار جهنم أشدّ حرّا من نارنا هذه تسعين درجة. وقال تعالى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) [سورة المؤمنين : ٢٠].

٢٤٠