الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

حيث ما كان من قرطاس أو في شيء منقوش فيه أو مذكور بالألسنة ، ومن لم يجل اسم الله عزوجل كذلك ولا أكرمه فهو كافر بلا شك. فالآية على ظاهرها دون تأويل فبطل تعلقهم بها جملة ولله تعالى الحمد ، وكل شيء نص الله تعالى عليه أنه تبارك فذلك حق له ، ولو نص تعالى بذلك على أي شيء كان من خلقه كان ذلك واجبا لذلك الشيء. وأما قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فهو أيضا على ظاهره دون تأويل لأن التسبيح في اللغة التي بها أنزل القرآن وبها خاطبنا الله عزوجل إنما هو تنزيه الشيء عن السوء ، وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء عن كل سوء ، حيث كان ، من كتاب أو منطوقا به. ووجه آخر أن معنى قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ومعنى قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [سورة الواقعة : ٧٤] معنى واحد وهو أن يسبح الله تعالى باسمه إذ لا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا بتوسط اسمه ، فكلا الوجهين صحيح حق وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص ، ولا فرق بين قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) وبين قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) [سورة الطور : ٤٨ ، ٤٩].

والحمد بلا شك غير الله تعالى وهو تعالى يسبح بحمده ، كما يسبح باسمه ولا فرق ، فبطل تعلقهم بهذه الآية والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : أما قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) [سورة يوسف : ٤٠].

فقول الله عزوجل حق على ظاهره ولهذه الآية وجهان كلاهما صحيح ، أحدهما : أن معنى قول عزوجل : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً). أي إلا أصحاب أسماء ، برهان هذا قوله تعالى إثر ذلك متصلا بها : (سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) فصح يقينا أنه تعالى لم يعن بالأسماء هاهنا ذوات المعبودين لأن العابدين لها لم يحدثوا قط ذوات المعبودين ، بل الله تعالى توحّد بإحداثها. هذا ما لا شك فيه. والوجه الثاني : أن أولئك الكفار إنما كانوا يعبدون أوثانا من حجارة أو بعض المعادن أو من خشب ، وبيقين ندري أنهم قبل أن يسموا تلك الجمل من الحجارة ومن المعادن ومن الخشب باسم اللات والعزّى ومناة ، وهبل ، وودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسرا وبعل ، قد كانت ذواتها بلا شك موجودات قائمة وهم لا يعبدونها ولا تستحق عندهم عبادة فلما أوقعوا عليها هذه الأسماء عبدوها حينئذ ، فصح يقينا أنهم لم يقصدوا بالعبادة إلا أسماء كما قال الله عزوجل لا الذوات المسميات.

٢٠١

فعادت الآية حجة عليهم ، وبرهانا على أن الاسم غير المسمى بلا شك ، وبالله التوفيق.

وأما قولهم : إن الاسم مشتق من السمو ، وقول بعض من خالفهم مشتق من الوسم فقولان فاسدان كلاهما باطل ، افتعله أهل النحو ، لم يصح قط عن العرب شيء منهما وما اشتق لفظ الاسم قط من شيء ، بل هو اسم موضوع مثل حجر ، ورمل ، وخشبة وسائر الأسماء لا اشتقاق لها ، وأول ما تبطل به دعواهم هذه الفاسدة أن يقال لهم : قال الله عزوجل : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة : ١١١].

فصح أن من لا برهان له على صحة دعواه فليس صادقا في قوله ، فهاتوا برهانكم على أن الاسم مشتق من السمو أو من الوسم ، وإلا فهي كذبة كذبتموها على العرب وافتريتموها عليهم أو على الله تعالى الواضع للغات كلها ، وقول عليه تعالى أو على العرب بغير علم ، وإلّا فمن أين لكم أن العرب اجتمعوا فقالوا نشتق لفظة اسم من السمو أو من الوسم ....؟ والكذب لا يستحله مسلم ، ولا يستسهله فاضل ، ولا سبيل لهم إلى برهان أصلا بذلك. وأيضا فلو كان الاسم مشتقا من السمو كما تزعمون فتسمية العذرة ، والكلب ، والجيفة ، والقذر ، والشرك والخنزير والخساسة رفعة لها وسموّ لهذه المسميات ، وتبّا لكل قول أدى إلى هذا الهوس البارد. وأيضا فهبك أنه قد سلّم لهم قولهم أن الاسم مشتق من السمو ، أيّ حجة في ذلك على أن الاسم هو المسمى ...؟ بل هو حجة عليهم لأن ذات المسمى ليست مشتقة أصلا ولا يجوز عليها الاشتقاق من السمو ولا من غيره فصح بلا شك أن ما كان مشتقا فهو غير ما ليس مشتقا ، والاسم بإقرارهم مشتق والذات المسماة غير مشتقة.

فالاسم غير الذات المسماة ، وهذا يلوح لكل من نصح نفسه أن المحتج بمثل هذا السفه عيّار مستهزئ بالناس ، متلاعب بكلامه ، ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : وهذا قول يؤدي من اتبعه وطرده إلى الكفر المجرد ، لأنهم قطعوا أن الاسم مشتق من السموّ وقطعوا أن الاسم هو الله نفسه ، فعلى قولهم المهلك الخبيث أن الله مشتق وأن ذاته نفسها مشتقة ، وهذا ما لا ندري كافرا بلغه ، والحمد لله على ما منّ به من الهدى. وأيضا فإن الله تعالى يقول : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إلى قوله تعالى (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [سورة البقرة : ٣١ ـ ٣٣].

قال أبو محمد : فلا يخلو أن يكون الله عزوجل علم آدم الأسماء كلّها ، كما

٢٠٢

قال عزوجل ، إما بالعربية ، وإما بلغة أخرى ، أو بكل لغة ، فإن كان عزوجل علمه الأسماء بالعربية ، فإن لفظة اسم من جملة ما علمه لقوله تعالى الأسماء كلها ، ولأمره تعالى آدم بأن يقول للملائكة : أنبئوني بأسماء هؤلاء.

فلا يجوز أن يخصّ من هذا العموم شيء أصلا ، بل هو لفظ موقف عليه كسائر الأسماء ولا فرق ، وهو من جملة ما علمه الله تعالى آدم عليه‌السلام ، إلا أن يدّعوا أن الله تعالى اشتقه فالقوم كثيرا ما يستسهلون الكذب على الله تعالى والإخبار عنه بما لا علم لهم به ، فصح يقينا أن لفظة الاسم لا اشتقاق لها ، وإنما هي اسم مبتدأ كسائر أسماء الأنواع والأجناس ، وإن كان الله تعالى علم آدم الأسماء كلها بغير العربية فإن اللغة العربية موضوعة للترجمة عن تلك اللغة يدل كل اسم من تلك اللغة على اسم من العربية موضوع للعبادة عن تلك الألفاظ ، وإذا كان هذا فلا مدخل للاشتقاق في شيء من الأسماء أصلا لا لفظة اسم ولا غيرها. وإن كان تعالى علمه الأسماء بالعربية وبغيرها من اللغات غير العربية فلفظة اسم من جملة ما علمه وبطل أن يكون مشتقا أصلا ، والحمد لله رب العالمين ، فبطل قولهم في اشتقاق الاسم وعاد حجة عليهم وبالله تعالى التوفيق.

وأما بيت لبيد : فإنه يخرج على وجهين : أحدهما أن السلام اسم من أسماء الله عزوجل ، قال تعالى : (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) [سورة الحشر : ٢٣].

ولبيد رحمه‌الله مسلم صحيح الصحبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمعناه : «ثم اسم الله عليكما حافظ لكما» والوجه الثاني : أنه أراد بالسلام التحية ، ولبيد لا يقدر هو ولا غيره على إيقاع معنى التحية عليهما ، وإنما يقدر على ذلك الله تعالى بلا خلاف من أحد ، وإنما يقدر لبيد وغيره على إيقاع اسم التحية والدعاء بها فقط ، فأي الأمرين كان فاسم السلام في بيت لبيد هو غير السلام ، فالاسم في ذلك البيت غير المسمى ولا بد. ثم لو صح ما يدعونه على لبيد ولا يصح لكان قول عائشة رحمها الله إنما أهجر اسمك بيانا أن الاسم غير المسمى وأن اسمه عليه‌السلام غيره لأنها أخبرت أنها لا تهجره وإنما تهجر اسمه وهي رضوان الله عليها ليست في الفصاحة دون لبيد ، وهي أولى بأن تكون حجة من لبيد فكيف وقول لبيد حجة عليهم لا لهم ..؟ والحمد لله رب العالمين. وقد قال رؤبة «باسم الّذي في كلّ سورة اسمه» (١) ورؤبة ليس دون لبيد في

__________________

(١) ويروى : «سمه» وهو شاهد على أن «سم» لغة في «اسم». والرجز بلا نسبة في أسرار العربية

٢٠٣

الفصاحة ، وذات الباري تعالى ليست في كل سورة ، وإنما في السورة اسم الله تعالى فلا شك أن الذي في السورة غير الذي ليس فيها.

وقال أبو ساسان حضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي لابنه غيّاظ :

وسمّيت غيّاظا ولست بغائظ

عدوّا ولكن الصّديق تغيظ(١)

فصرح بأن الاسم غير المسمى تصريحا لا يحتمل التأويل ، بخلاف ما ادعوه على لبيد ، وأما قول سيبويه : إن الأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء فلا حجة لهم فيه ، فبيقين ندري أنه أراد أحداث أصحاب الأسماء ، برهان ذلك قوله في غير موضع من كتابه أمثلة الأسماء من الثلاثي ، والرباعي ، والخماسي ، والسداسي ، والسباعي ، وقطعه بأنّ السداسيّ والسّباعيّ من الأسماء مزيدان ولا بدّ ، وأنّ الثلاثيّ من الأسماء أصلي ولا بدّ ، وأنّ الرباعي والخماسي من الأسماء يكونان أصليين ، كجعفر وسفرجل ، ويكونان مزيدين ، وأن الثنائيّ من الأسماء منقوص مثل يد ، ودم ، ولو تتبعنا قطعه على أن الأسماء هي الأبنية المسموعة الموضوعة ليعرف بها المسميات لبلغ أزيد من ثلاثمائة موضع. أفلا يستحي من يدري هذا من كلام سيبويه إطلاقا لعلمه بأن مراده لا يخفى على أحد قرأ من كتابه ورقتين؟ ونعوذ بالله من قلة الحياء.

وأول سطر من كتاب «سيبويه» بعد البسملة : هذا باب علم ما الكلم من العربية ، فالكلم : اسم ، وفعل ، وحرف ، جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ، فالاسم : رجل وفرس. فهذا بيان جليّ من «سيبويه» ، ومن كل من تكلم في النحو قبله وبعده ، على أن الأسماء هي بعض الكلام ، وأن الاسم هو كلمة من الكلم ، ولا خلاف بين أحد له حس سليم في أن المسمّى ليس كلمة ، ثم قال بعد أسطر يسيرة : والرفع والجر والنصب والجزم بحروف الإعراب ، وحروف الإعراب الأسماء المتمكنة ، والأفعال المضارعة ، وأسماء الفاعلين. وهذا منه بيان لا إشكال فيه أن الأسماء غير الفاعلين وهي التي تضارعها الأفعال التي في أوائلها الزوائد الأربع ، وما قال قط من يرمي بالحجارة : إن الأفعال تضارع المسلمين. ثم قال : والنصب في الأسماء : رأيت زيدا ، والجر : مررت

__________________

(ص ٨) والإنصاف (ص ١٦) وشرح شافية ابن الحاجب (٢ / ٢٥٨) وشرح شواهد الشافية (ص ١٧٦) وشرح المفصل (١ / ٢٤) ولسان العرب (١٤ / ٤٠١ ، ٤٠٢ ـ مادة سما) والمقتضب (١ / ٢٢٩) والمنصف (١ / ٦٠) ونوادر أبي زيد (ص ١٦٦).

(١) البيت في لسان العرب (٧ / ٤٥ ـ مادة غيظ) و (٧ / ٤٥٤ ـ مادة فيظ) و (١٣ / ١٢٤ ـ مادة حضن) وتاج العروس (٢٠ / ٢٥٠ ـ مادة غيظ) ومقاييس اللغة (٤ / ٤٠٥).

٢٠٤

بزيد ، والرفع : هذا زيد. وليس في الأسماء جزم لتمكنها ، وإلحاق التنوين ، وهذا كله بيان أن الأسماء : هي الكلمات المؤلفة من الحروف المقطعة ، لا المسمّون بها ، ولو تتبع هذا في أبواب الجمع وأبواب التصغير ، والنداء والترخيم ، وغيرها لكثر جدّا ، وكاد يفوت التحصيل.

قال أبو محمد : فسقط كل ما شغب به القائلون بأن الاسم هو المسمّى ، وكل قول سقط احتجاج أهله وعري عن برهان فهو باطل.

ثم نظرنا فيما احتج به القائلون إن الاسم غير المسمّى فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [سورة الأعراف : ١٨٠].

قالوا : والله عزوجل واحد ، والأسماء كثيرة ، وقد تعالى الله عن أن يكون اثنين ، أو أكثر ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة غير واحد ، من أحصاها دخل الجنة» (١).

قالوا : ومن قال : إن خالقه أو معبوده تسعة وتسعون فهو شرّ من النصارى الذين لم يجعلوه إلّا ثلاثة.

قال أبو محمد : وهذا برهان ضروري لازم. ورأيت لمحمد بن الطيب الباقلاني ، ولمحمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني : أنه ليس لله تعالى إلا اسم واحد فقط.

قال أبو محمد : وهذا معارضة وتكذيب لله عزوجل ، وللقرآن ، ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولجميع العالمين ، ثم عطفا فقالا : معنى قول الله عزوجل : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما» إنما هو التسمية لا الأسماء.

قال أبو محمد : وكان هذا التقسيم أدخل في الضلال من ذلك الإجمال ، ويقال لهم : فعلى قولكم هذا ، أراد الله تعالى أن يقول : لله التسميات الحسنى ، فقال : (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، وأراد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول إن لله تسعة وتسعين تسمية ، فقال : «إن لله تسعة وتسعين اسما» أعن غلط وخطأ قال الله تعالى ذلك ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أم عن عمد ، ليضل بذلك أهل الإسلام؟ أم عن جهل باللغة التي تنبهتما لها أنتما؟

ولا بدّ من أحد هذه الوجود ضرورة لا محيد عنها ، وكلها كفر مجرد ، ولا بدّ لهم من أحدها أو ترك ما قالوه من الكذب على الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٢٠٥

هذا ودعواهم في ذلك ظاهرة الكذب بلا دليل ، ولا يرضى بهذا لنفسه عاقل.

قال أبو محمد : الاسم غير المسمّى ، فهو شيء ثالث غير الاسم وغير المسمى ، فذات الخالق تعالى هي الله المسمّى. والتسمية : هي تحريكنا عضل الصدر واللسان عند نطقنا بهذه الحروف وهي غير الحروف ، لأن الحروف هي الهواء المندفع بالتحريك فهو المحرّك بفتح الراء ، والإنسان هو المحرّك بكسر الرّاء ، والحركة هي فعل المحرّك في دفع المحرّك ، وهذا أمر معلوم بالحس ، مشاهد بالضرورة ، متفق عليه في جميع اللغات.

واحتجوا أيضا بقول الله تعالى : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) [سورة مريم : ٧].

وهذا نص لا يحتمل تأويلا في أن الاسم هو (الياء والحاء والياء والألف) ولو كان الاسم هو المسمى لما عقل أحد معنى قوله تعالى : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) ولا فهم ، ولكان فارغا حاشا لله من هذا. ولا خلاف في أن معناه لم يعلق هذا الاسم على أحد قبله.

وذكروا أيضا قول الله عزوجل عن نفسه : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [سورة مريم : ٦٥] وهذا نص جليّ على أن أسماء الله تعالى التي اختص بها لا تقع على غيره ، ولو كان ما يدعونه لما عقل هذا اللفظ أحد أيضا ، حاشا لله من هذا.

واحتجوا أيضا بقول الله تعالى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [سورة الصف : ٦] وهذا نص على أن الاسم هو (الألف ، والحاء ، والميم ، والدال) إذا اجتمعت. واحتجوا أيضا بقول الله عزوجل : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، إلى قوله : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) [سورة البقرة : ٣١ ـ ٣٣].

وهذا نصّ جليّ على أن الأسماء كلها غير المسمّيات ، لأن المسميات كانت أعيانا قائمة ، وذوات ثابتة ، تراها الملائكة ، وإنما جهلت الأسماء فقط التي علمها الله آدم ، وعلمها آدم الملائكة ، وذكروا قول الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة الإسراء : ١١٠].

وهذا ما لا حيلة لهم فيه ، لأن لفظة (الله) هي غير لفظة (الرحمن) بلا شك وهي بنص القرآن أسماء الله تعالى. والمسمّى واحد لا يتغاير بلا شك.

وذكروا قول الله عزوجل : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [سورة الأنعام : ١٢١]. وهذا بيان أيضا جليّ مجمع عليه من أهل الإسلام أن الذي عنده التذكية فهو الكلمة المجموعة من الحروف المقطعة ، مثل (الله الرحمن الرحيم) وسائر أسمائه عزوجل.

٢٠٦

واحتجوا من الإجماع بأن جميع أهل الإسلام لا نحاشي منهم أحدا قد أجمعوا على القول بأن من حلف باسم من أسماء الله عزوجل فحنث فعليه الكفارة ، ولا خلاف في أن ذلك لازم فيمن قال والله ، أو والرحمن أو والصّمد ، أو أي اسم من أسماء الله عزوجل حلف بها ، وسبحان من خلق عقولا لا يدخل فيها تخطئة ما جاء به الله عزوجل في القرآن ، وما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أجمع عليه أهل الإسلام وما أصفق عليه أهل الأرض قاطبة من أن الاسم هو الكلمة المجموعة من الحروف المقطعة ، وتصويب الباقلاني ، وابن فورك ، في أن ذلك ليس هو الاسم وإنما هو التسمية ، والحمد لله الذي لم يجعلنا من أهل هذه الصفة المرذولة ولا من هذه العصابة المخذولة. واحتجوا أيضا بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أرسلت كلبك فذكرت اسم الله فكل» (١) فصح أن اللفظ المذكور هو اسم الله تعالى. وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن له أسماء هي أحمد ، ومحمد ، والعاقب ، والحاشر ، والماحي. فيا لله ويا للمسلمين أيجوز أن يظن ذو مسكة عقل أن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمس ذوات؟ تبارك الذي يخلق ما لا نعلم.

وذكروا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تسمّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي» (٢). فصح أن الاسم هو الميم والحاء والميم والدال بيقين لا شك فيه. واحتجوا بقول عائشة رضي الله عنها بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قال لها عليه‌السلام : «إذا كنت راضية عنّي قلت لا وربّ محمّد ، وإذا كنت ساخطة قلت لا وربّ إبراهيم» قالت : أجل يا رسول الله ما أهجر إلّا اسمك (٣). فلم ينكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها هذا القول ، فصح أن اسمه غيره بلا شك لأنها لم تهجر ذاته وإنما هجرت اسمه. واحتجّوا أيضا بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحب الأسماء إلى الله عزوجل عبد الله وعبد الرحمن ، وأصدق الأسماء همام

__________________

(١) رواه البخاري في الذبائح (باب ١ و ٢ و ٩) ومسلم في الصيد (حديث ٣ ـ ٦) وأبو داود في الأضاحي (باب ٢٢) والنسائي في الصيد (باب ٦ و ٧ و ٨) والدارمي في الصيد (باب ١) وأحمد في المسند (٤ / ٢٥٦ ، ٣٨٠).

(٢) رواه البخاري في العلم (باب ٣٨) والمناقب (باب ٢٠) والخمس (باب ٧) والبيوع (باب ٤٩) والأدب (باب ١٠٦ ، ١٠٩) ومسلم في الأدب (حديث ١ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٨) وأبو داود في الأدب (باب ٦٦) وابن ماجة في الأدب (باب ٣٣) ، والدارمي في الاستئذان (باب ٥٨) وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٨ ، ٢٦٠ ، ٢٧٠ ، ٢٧٧ ، ٣١٢ ، ٣٩٣ ، ٣٩٥ ، ٤٥٥ ، ٤٥٧ ، ٤٦١ ، ٤٧٠ ، ٤٧٨ ، ٤٩١ ، ٤٩٩ ، ٥١٩ ، ٣ / ١١٤ ، ١٢١ ، ١٧٠ ، ١٨٩ ، ٢٩٨ ، ٣٠١ ، ٣٠٣ ، ٣١٣ ، ٣٦٩ ، ٣٧٠ ، ٣٨٥).

(٣) رواه البخاري في النكاح (باب ١٠٨) والأدب (باب ٦٣) ومسلم في فضائل الصحابة ،

٢٠٧

والحارث ...» (١) وروي : «أكذبها خالد ، ومالك» ، وهذا كله سبق أن الاسم غير المسمى ، فقد يسمى عبد الله وعبد الرحمن من يبغضه الله عزوجل ، وقد يسمى من يكون كذّابا الحارث وهماما ، ويسمى الصادق خالدا ومالكا ، فهم بخلاف أسمائهم. واحتجوا أيضا بأن قالوا قد أجمعت الأمم كلها على أنه إذا سئل المرء ما اسمك؟ قال : فلان فإذا قيل له كيف سميت ابنك وعبدك؟ قال : سميته فلانا ، فصح أن تسميته هي اختياره وإيقاعه ذلك الاسم على المسمى فصح يقينا أن التسمية غير الاسم وغير المسمى ، وأن الاسم غير المسمى. واحتجوا من طريق النظر بأن قالوا إنهم يقولون إن اسم الله تعالى هو الله نفسه ، ثم لا يسألون بأن يقولوا أسماء الله تعالى مشتقة من صفاته فعليم مشتق من علم ، وقدير من قدرة ، وحيّ من حياة ، فإذا اسم الله هو الله ، واسم الله مشتق ، فالله تعالى على قولكم مشتق وهذا كفر بارد ، وكلام سخيف لا مخلص لهم فيه ، فصحت البراهين المذكورة من القرآن والسنن ، والإجماع والعقل ، واللغة والنحو ، على أن الاسم غير المسمى بلا شك. ولقد أحسن أحمد بن حداد ما شاء أن يحسن إذ يقول :

هيهات يا أخت آل بما غلطت

في الاسم والمسمى

لو كان ذاك وقيل سم

مات إذن من يقول سما

قال أبو محمد : وبلغني وأخبرني أبو عبد الله القطان السابح أنّه شاهد بعضهم قد كتب الله في سحاءة وجعل يصلي إليها قال فقلت له : ما هذا ...؟ قال : معبودي. قال : فنفخت فيها فطارت فقلت له قد طار معبودك قال فضربني.

قال أبو محمد : وموهوا فقالوا فأسماء الله عزوجل إذن مخلوقة إذ هي كثيرة ، وإذ هي غير الله تعالى؟ قلت لهم وبالله تعالى التوفيق : إن كنتم تعنون الأصوات التي هي حروف الهجاء والمخطوط به في القرطاس فما يختلف مسلمان في أن كل ذلك مخلوق ، وإن كنتم تريدون الإيهام والتمويه بإطلاق الخلق على الله تعالى فمن أطلق ذلك فهو كافر ، بل إن أشار مشير إلى كتاب مكتوب فيه «الله» أو بعض أسماء الله تعالى أو إلى كلامه إذ قال يا الله وقال بعض أسمائه عزوجل فقال أهذا مخلوق أو أهذا ليس ربكم أو تكفرون بهذا ...؟ لما حل لمسلم إلا أن يقول حاشى لله من أن

__________________

(حديث ٨٠) وأحمد في المسند (٦ / ٦١).

(١) رواه البخاري في الأدب (باب ١٠٥ ، ١٠٦) ومسلم في الأدب (حديث ٢) وابن ماجة في الأدب (باب ٣٠) والترمذي في الأدب (باب ٦٤) والدارمي في الاستئذان (باب ٢٠) وأحمد في المسند (٢ / ٢٤ ، ١٢٨).

٢٠٨

يكون مخلوقا بل هو ربّي وخالقي ، أؤمن به ولا أكفر به ، ولو قال غير هذا لكان كافرا حلال الدم لأنه لا يمكن أن يسأل عن ذات البارى تعالى ولا عن الذي هو ربنا عزوجل وخالقنا والذي هو المسمى بهذه الأسماء ، ولا إلى الذي يخبر عنه ولا إلى الذي يذكر ألا يذكر أسمه ولا بد ، فلما كان الجواب في هذه المسألة يموهه أهل الجهل بإيصال ما لا يجوز إلى ذات الله عزوجل لم يجز أن يطلق الجواب في ذلك البتة إلا بتقسيم كما ذكرنا ، وكذلك لو كتب إنسان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم أو نطق بذلك ثم قال لنا هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم ليس رسول الله؟ وأ تؤمنون بهذا أو تكفرون به ..؟ لكان من قال ليس رسول الله وأنا أكفر به كافرا حلال الدم بإجماع أهل الإسلام ، لكن يقول بل هو رسول الله ، ونحن نؤمن به. ولا يختلف اثنان في أن الصوت المسموع والخط المكتوب ، ليس هو الله ولا رسول الله ، وبالله تعالى التوفيق.

فإن قالوا : إن أحمد بن حنبل ، وأبا زرعة عبيد الله بن عبد الكريم ، وأبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الراوين رحمهم‌الله يقولون إن الاسم هو المسمى. قلنا لهم : إن هؤلاء رضي الله عنهم وإن كانوا من أهل السنة ومن أئمتنا فليسوا معصومين من الخطأ ، ولا أمرنا الله تعالى عزوجل بتقليدهم واتباعهم في كل ما قالوه ، وهؤلاء رحمهم‌الله أراهم اختيار هذا القول قولهم الصحيح أن القرآن هو المسموع من القراء ، والمخطوط في المصاحف نفسه ، وهذا قول صحيح ولا يوجب أن يكون الاسم هو المسمى على ما قدمنا في هذا الباب ، وفي باب الكلام في القرآن ، والحمد لله رب العالمين ، وإنما العجب كله ممن قلب الحق وفارق هؤلاء المذكورين حيث أصابوا وحيث لا يحل خلافهم وتعلق بهم حيث وهموا ، من هؤلاء المنتمين إلى الأشعري ، القائلين بأن القرآن لم ينزل قط إلينا ولا سمعناه قط ، ولا نزل به جبريل قط على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الذي في المصاحف هو شيء آخر غير القرآن ، ثم أتبعوا هذه الكفرة الصلعاء بأن قالوا : إن اسم الله هو الله وأنه ليس لله إلا اسم واحد ، وكذّبوا الله تعالى ورسوله في أن لله أسماء كثيرة تسعة وتسعين ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : ولو أن إنسانا يشير إلى كتاب مكتوب فيه الله ، فقال هذا ليس ربي وأنا كافر بهذا لكان كافرا ، ولو قال هذا المداد ليس ربي وأنا كافر بربوبية هذا الصوت لكان صادقا ، وهذا لا ينكر وإنما نقف حيث وقفنا. ولو أن إنسانا قال محمد رسول الله رحمه‌الله لم يبعد من الاستخفاف ، فلو قال اللهم ارحم محمدا وآل محمد لكان محسنا. ولو أن إنسانا يذكر من أبويه العضو المستور باسمه عاقّا أتى كبيرة وإن كان صادقا ، وبالله تعالى التوفيق.

٢٠٩

الكلام في قضايا النجوم والكلام في هل يعقل

الفلك والنجوم أم لا

قال أبو محمد : زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل وأنها ترى وتسمع ، ولا تذوق ولا تشم ، وهذه دعوى بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل مردود عند كل طائفة بأول العقل ، إذ ليست أصح من دعوى أخرى تضادها وتعارضها ، وبرهان صحة الحكم بأن الفلك والنجوم لا تعقل أصلا : هو أن حركاتها أبدا على رتبة واحدة لا تتبدل عنها وهذه صفة الجماد المدبّر الذي لا اختيار له. فقالوا : الدليل على هذا أن الأفضل لا يختار إلا أفضل العمل. فقلنا لهم : ومن أين لكم بأن الحركة أفضل من السكون الاختياري؟ لأننا وجدنا الحركة حركتين ، حركة اختيارية واضطرارية ، ووجدنا السكون سكونين اختياريا واضطراريا ، فلا دليل على أن الحركة الاختيارية أفضل من السكون الاختياري ، ثم من أين لكم بأن الحركة الدورية أفضل من سائر الحركات يمينا أو يسارا أو أمام أو وراء؟ ثم من أين لكم بأن الحركة من شرق إلى غرب كما يتحرك الفلك الأكبر أفضل من الحركة من غرب إلى شرق ، كما تتحرك سائر الأفلاك وجميع الكواكب ، فلاح أن قولهم مخرفة فاسدة ، ودعوى كاذبة مموهة.

قال بعضهم : لمّا كنّا نحن نعقل وكانت الكواكب تدبرنا كانت أولى بالعقل والحياة منّا. فقلنا : هاتان دعوتان مجموعتان في نسق ، إحداهما القول بأنها تدبرنا فهي دعوى كاذبة بلا برهان على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله ، والثانية الحكم بأن من يدبرنا أحق بالعقل والحياة منا ، فقد وجدنا التدبير يكون طبيعيا ويكون اختياريا ، فلو صح أنها تدبرنا لكان تدبيرا طبيعيا كتدبير الغذاء لنا ، وكتدبير الهواء والماء لنا ، وكل ذلك ليس حيّا ولا عاقلا بالمشاهدة. وقد أبطلنا الآن أن يكون تدبير النجوم اختياريا بما ذكرنا من جريها على حركة واحدة ورتبة واحدة ، لا تنتقل عنها أصلا. وأما القول بقضايا النجوم فإنا نقول في ذلك قولا لائحا ظاهرا إن شاء الله تعالى.

قال أبو محمد : أما معرفة قطعها في أفلاكها وآحاد ذلك ومطالعها ، وأبعادها ، وارتفاعاتها واختلاف مراكز أفلاكها ، فعلم حسن صحيح رفيع يشرف به الناظر فيه على

٢١٠

عظيم قدرة الله عزوجل ، وعلى يقين تأثيره وصنعته واختراعه تعالى للعالم وما فيه ، الذي يضطر كل ذلك إلى الإقرار بالخالق ولا يستغنى عن ذلك في معرفة القبلة وأوقات الصلوات ، وينتج من هذا معرفة رؤية الأهلة لفرض الصوم والفطر والكسوفين ، برهان ذلك قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) [سورة المؤمنين : ١٧] وقال تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [سورة يس : ٣٩ ، ٤٠] وقال تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [سورة البروج : ١]. وقال تعالى : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [سورة يونس : ٥].

وهذا هو نفس ما قلناه وبالله تعالى التوفيق.

وأما القضاء بها : فالقطع به خطأ لما نذكره إن شاء الله تعالى. وأهل القضاء ينقسمون قسمين أحدهما : القائلون بأنها والفلك عاقلة مميزة فاعلة مدبرة دون الله تعالى أو معه ، وأنها لم تزل. فهذه الطائفة كفار مشركون حلال دماؤهم وأموالهم بإجماع الأمة ، وهؤلاء عنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يقول : «إن الله عزوجل قال : أصبح من عبادي كافر بي مؤمن بالكوكب» (١).

وفسره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه القائل مطرنا بنوء كذا وكذا. وأما من قال بأنها مخلوقة وأنّها غير عاقلة لكن الله عزوجل خلقها وجعلها دلائل على الكوائن فهذا ليس كافرا ولا مبتدعا ، وهذا هو الذي قلنا فيه إنه خطأ ، لأن قائل هذا إنما يحيل على التجارب فما كان من تلك التجارب ظاهرا إلى الحسّ كالمد والجزر الحادثين عند طلوع القمر واستوائه وأفوله وامتلائه ونقصانه ، وكتأثيره القمر في قتل الدّابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوؤه وكتأثير في القرع والقثاء المسموع لنموها مع القمر صوت قوي ، وكتأثيره في الدماغ والدم والشعر ، وكتأثير الشمس في عطش الحر وتصعيد الرطوبات ، وكتأثيرها في أعين السنانير بين غدوة ونصف النهار وبالعيش ونصف الليل وسائر ما يوجد حسّا فهو حق لا يدفعه ذو حسّ سليم ، فكل ذلك خلق الله عزوجل فهو خلق القوى وما يتولد منها وما يوجد بها كما قال تعالى : (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها)

__________________

(١) رواه البخاري في الأذان باب ١٥٦ ، والاستسقاء باب ٢٨ ، والمغازي باب ٣٥. ومسلم في الإيمان حديث ١٢٥ ، وأبو داود في الطب باب ٢٢. ومالك في الاستسقاء حديث ٤. وأحمد في المسند (٤ / ١١٧).

٢١١

[سورة فاطر : ٩](فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [سورة الأعراف : ٥٧](فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [سورة ق : ٩].

وأما ما كان من تلك التجارب خارجا عما ذكرنا فهي دعاوى لا تصح لوجوه : أحدها أن التجربة لا تصح إلا بتكرّر كثير موثوق بدوامه تضطر النفوس إلى الإقرار به ، كاضطرارنا إلى الإقرار بأن الإنسان إن بقي ثلاث ساعات تحت الماء مات ، وإن أدخل يده في النار احترق ، ولا يمكن هذا في القضاء بالنجوم لأن النصب الدالة عندهم على الكائنات لا تعود إلا في عشرات الآلاف من السنين لا سبيل إلى أن تصح فيها تجربة ولا إلى أن تبقى دورة تراعي تكرار تلك الأدوار ، وهذا برهان مقطوع به على بطلان دعواهم في صحة القضاء بدلائل النجوم.

وبرهان آخر : وهو أن شروطهم في القضاء لا يمكنهم الإحاطة بها أصلا من معرفة مواقع السهام ، ومطارح الشعاعات ، وتحقيق الدرج النيرة والمظلمة والآثار ، والكواكب السارية وسائر شروطهم التي يقرون أنه لا يصح القضاء إلا بتحقيقها.

وبرهان ثالث : وهو أنه ما دام يشتغل المعدّل في تعديل كوكب زلّ عنه سائر الكواكب ولو دقيقة ولا بد ، وفي هذا فساد القضاء بإقرارهم.

وبرهان رابع : وهو ظهور يقين الباطل في دعواهم إذ جعلوا طبع زحل البرد واليبس ، وطبع المريخ الحر واليبس ، وطبع القمر البرد والرطوبة ، وهذا الصفات إنما هي للعناصر التي دون فلك القمر ، وليس شيء منها في الأجرام العلوية لأنها خارجة عن محل حوامل هذه الصفات ، والأعراض لا تتعدى حواملها ، والحوامل لا تتعدى مواضعها التي رتبها الله فيها.

وبرهان خامس : وهو ظهور كذبهم في قسمتهم الأرض على البروج والدراري ، ولسنا نقول في المدن التي يمكنهم فيها دعوى أن بناءها كان في طالع كذا ، ونصبة كذا ، لكن في الأقاليم والقطع من الأرض التي لم يتقدم كون بعضها كون بعض فظهر كذبهم فيما عليه بنوا قضاياهم في النجوم ، وكذلك قسمتهم أعضاء الجسم والفلزات على الدراري أيضا.

وبرهان سادس : أننا نرى نوعا وأنواعا من أنواع الحيوان قد فشا فيها الذبح ، فلا يكاد يموت شيء منها إلا مذبوحا كالدجاج ، والحمام ، والضأن والمعز والبقر التي لا يموت حتف أنفه إلا في غاية الشذوذ ، ونوعا وأنواعا لا تكاد تموت إلا حنف أنوفها كالحمر ، والبغال ، وكثير من السباع ، وبالضرورة يدري كل أحد أنها قد تستوي أوقات

٢١٢

ولاداتها فبطل قضاؤهم بما يوجب الموت الطبيعي ، وبما يوجب الموت الكرهي ، لاستواء جميعها في الولادات واختلافها في أنواع المنايا.

وبرهان سابع : وهو أننا نرى الخصاء فاشيا في سكان الإقليم الأول وسكان الإقليم السابع ولا سبيل إلى وجوده البتة في سكان سائر الأقاليم ، ولا شك ولا مرية في استوائهم في أوقات الولادة فبطل يقينا قضاؤهم بما يوجب الخصاء وبما لا يوجبه بما ذكرنا من تساو في أوقات التكون والولادة واختلافهم في الحكم ، ويكفي من هذا أن كلامهم في كل ذلك دعوى بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل مع اختلافهم فيما يوجبه الحكم عندهم ، والحق لا يكون في قولين مختلفين. وأيضا : فإن المشاهدة توجب أننا قادرون على مخالفة أحكامهم متى أخبرونا بها فلو كانت حقا وحتما ما قدر أحد على خلافها وإذا أمكن خلافها فليست حقا ، فصح أنها تخرّص كالطرق بالحصى والضرب بالحب ، والنظر في الكف والزجر والطيرة وسائر ما يدعي أهله فيه تقديم المعرفة بلا شك ، وما يحصى ما شاهدناه وما صح عندنا مما حققه حذاقهم من التعديل في الموالد ، والمناخات ، وتحاويل السنين ثم قضوا به فأخطئوا وما تقع إصابتهم من خطأهم إلا في جزء يسير ، فصح أنه تخرص لا حقيقة فيه لا سيما دعواهم في إخراج الضمير فهو كله كذب لمن تأمله ، وبالله تعالى التوفيق.

وكذلك قولهم في الغيبيات أيضا ولو أمكن تحقيق تلك التجارب في كل ما ذكرنا لصدقناها وما يبدو منها ولم يكن ذلك علم غيب لأن كلّ ما قام عليه دليل من خط أو كف أو زجر أو تطير فليس غيبا لو صح وجه كل ذلك ، وإنما الغيب وعلمه : فهو أن يخبر المرء بكائنة من الكائنات دون صناعة أصلا من شيء مما ذكرنا ولا من غيره فيصيب الجزئي والكلي ، وهذا لا يكون إلا لنبي وهي معجزة حينئذ. وأما الكهانة فقد بطلت بمجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان هذا من أعلامه وآياته وبالله تعالى التوفيق.

٢١٣

الكلام في خلق الله تعالى للشيء أهو المخلوق نفسه أم غيره ...؟

وهل فعل من دون الله تعالى هو المفعول أم غيره ...؟

قال أبو محمد : ذهب قوم إلى أن خلق الشيء هو غير الشيء المخلوق ، واحتج هؤلاء بقول الله عزوجل : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [سورة الكهف : ٥١].

قال أبو محمد : ولا حجة لهم في هذه الآية لأن الإشهاد هاهنا هو الإحضار بالمعرفة ، وهذا حق لأن الله تعالى لم يحضرنا عارفين ابتداء خلق السماوات والأرض وابتداء أنفسنا ، ووجدنا من قال : إن خلق الشيء هو الشيء نفسه يحتج بقول الله عزوجل : (هذا خَلْقُ اللهِ) [سورة لقمان : ١١] الآية.

وهذه إشارة إلى جميع المخلوقات فقد سمى الله تعالى جميع المخلوقات كلها خلقا له ، وهذا برهان لا يعارض.

قال أبو محمد : ثم نسأل من قال إن خلق الشيء غير الشيء ، فنقول له : أخبرنا عن خلقه الله تعالى لما خلق أمخلوق هو أيضا أم غير مخلوق؟ ولا بد من أحد الأمرين فإن قالوا : هو غير مخلوق أوجبوا بإزاء كل مخلوق شيئا موجودا غير مخلوق ، وهذا مضاهاة لقول الدّهرية ، والبرهان قد قام بخلاف هذا. وقال عزوجل : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [سورة الفرقان : ٢].

وإن قالوا : بل خلق الله تعالى لما خلق مخلوق ، قلنا : خلقه تعالى لذلك الخلق أبخلق أم بغير خلق؟ فإن قالوا بغير خلق قيل لهم من أين قلتم إن خلقه الأشياء بخلق هو غير المخلوق وقلتم في خلقه لذلك الخلق إنه بغير خلق؟ وهذا تخليط. وإن قالوا : بل خلقه بخلق. سألناهم أبخلق هو هو أو بخلق هو غيره؟ وهكذا أبدا فإن وقفوا في شيء من ذلك فقالوا : خلقه هو هو سألناهم عن الفرق بين ما قالوا إن خلقه هو غيره وبين ما قالوا إن خلقه هو هو. فإن تمادوا وأخرجوا إلى الوجود أشياء لا نهاية لها فهذا محال ممتنع. وقد قطع بهذا معمّر بن عمرو العطار ، أحد رؤساء المعتزلة ، وسنذكر كلامه بعد هذا إن شاء الله تعالى متصلا بهذا الباب وبالله تعالى نتأيد. وأيضا فإن

٢١٤

الجميع يطبقون على أن الله عزوجل خلق ما خلق بلا معاناة ، فإذ لا شكّ في ذلك فقد صح يقينا أنه لا واسطة بين الله وبين ما خلق ، ولا ثالث في الوجود غير الخالق والمخلوق ، وخلق الله تعالى ما خلق حق موجود ، وهذا بلا شك مخلوق وهو بلا شك ليس هو الخالق فهو المخلوق نفسه بيقين لا شك فيه ، إذ لا ثالث هاهنا أصلا وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وكل من دون الله تعالى يفعله هو مفعوله نفسه لا غير لأنه لا يفعل أحد دون الله تعالى إلا حركة أو سكونا أو تأثيرا أو معرفة أو فكرة أو إرادة ، ولا مفعول لشيء دون الله تعالى إلا ما ذكرنا فهي مفعولات الفاعلين وهي أفعال الفاعلين ولا فرق ، وما عدا هذا فإنما هو مفعول فيه كالمضروب والمقتول ، أو مفعول به كالسوط والإبرة وما أشبه ذلك ، أو مفعول له كالمطاع والمخدوم ، أو مفعول من أجله كالمكسوب والمحبوب فهذه أوجه المفعولات.

قال أبو محمد : وأما سائر أفعال الله تعالى فبخلاف ما قلنا في الخلق ، بل هي غير المفعول فيه ، أو له ، أو به ، أو من أجله ، وذلك كالإحياء فهو غير المحيا بلا شك ، وكلاهما مخلوق لله تعالى وخلقه تعالى لكل ذلك هو المخلوق نفسه كما قلنا ، وكالإماتة فهي غير الممات ولو كان غير هذا أو كان الإحياء هو المحيا ، والإماتة هي الممات ، وبيقين ندري لو أن المحيا هو الممات نفسه لوجب أن يكون الإحياء هو الإماتة ، وهذا محال. وكالإبقاء هو غير المبقى للبرهان الذي ذكرنا ، وبيقين ندري أن الشيء غير أعراضه التي هي قائمة به وقتا ، وفانية عنه تارة ، وبالله تعالى التوفيق.

٢١٥

الكلام في البقاء والفناء

والمعاني التي يدّعيها معمّر والأحوال التي تدّعيها الأشعرية ، وهل المعدوم شيء أم ليس شيئا ..؟ ومسألة الأجزاء وهل يتجدد خلق الله تعالى للأشياء أم لا يتجدد ..؟

قال أبو محمد : ذهب قوم إلى أن البقاء والفناء صفتان للباقي والفاني ، لا هما الباقي ولا الفاني ولا هما غير الباقي والفاني.

قال أبو محمد : وهذا قول في غاية الفساد لأن القضية الثانية تنقض الأولى ، والأولى تنقض الثانية ، لأنه إذا قال : ليست هي هو فقد أوجب أنها غيره ، وإذا قال ليست غيره فقد أوجب أنه هو ، وهذا تناقض ظاهر ، وأيضا فإنه لا فرق بين قول القائل : ليس هو هو ولا غيره ، وبين قوله هو هو وهو غيره ، والمعنى في كلتا القضيتين سواء. وأيضا فلو كان البقاء ليس هو الباقي ولا هو غيره ، والفناء ليس هو الفاني ، ولا هو غيره ، والباقي هو الفاني نفسه ، والباقي ليس هو الباقي ولا هو غيره ، وهذا يزيد من الجنون ومن التناقض. وذهب معمّر إلى أن الفناء صفة قائمة بغير الفاني.

قال أبو محمد : وهذا تخليط لا يعقل ولا يتوهم ولا يقوم عليه دليل أصلا ، وما كان هكذا فهو باطل. والحقيقة في ذلك ظاهرة وهي أن البقاء هو وجود الشيء وكونه ثابتا قائما مدة زمان ما فإذ هو قائم كذلك فهو صفة موجودة في الباقي ، محمولة فيه ، قائمة به موجودة بوجوده فانية بفنائه ، وأما الفناء فهو عدم الشيء وبطلانه جملة وليس هو شيئا أصلا والفناء المذكور ليس موجودا في شيء البتة من الجواهر وإنما هو عدم العرض فقط كحمرة الخجل إذا ذهبت ، عبّر عن المعنى المراد بالإخبار عن ذهابها بلفظة الفناء ، وكالغضب يفنى ويعقبه رضى وما أشبه ذلك. ولو شاء الله أن يعدم الجواهر لقدر على ذلك ولكنه لم يوجد ذلك إلى الآن ولا جاء به نص فنقف عنده فالفناء عدم كما قلنا.

٢١٦

الكلام في المعدوم أهو شيء أم لا

قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد اختلف الناس في المعدوم أهو شيء أم لا؟ فقال أهل السنة وطوائف من المرجئة كالأشعرية وغيرهم ليس شيئا ، وبه يقول هشام بن عمرو الفوطي ، أحد شيوخ المعتزلة ، وقال سائر المعتزلة المعدوم شيء. وقال عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط أحد شيوخ المعتزلة : إن المعدوم جسم في حال عدمه ، إلا أنه ليس متحركا ولا ساكنا ولا مخلوقا ولا محدثا في حال عدمه.

قال أبو محمد : واحتج من قال إن المعدوم شيء بأن قالوا : قال الله عزوجل (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [سورة الحج : ١].

فقالوا : فقد أخبر الله عزوجل بأنها شيء وهي معدومة ، ومن الدليل على أن المعدوم شيء أنه يخبر عنه ، ويوصف ، ويتمنى ، ومن المحال أن يكون ما هذه صفته ليس شيئا.

قال أبو محمد : أما قول الله عزوجل : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) فإن هذه القضية موصولة بقوله تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى).

فإنما تم الكلام عند قوله (يَوْمَ تَرَوْنَها) ، فصح أن زلزلة الساعة يوم ترونها شيء عظيم ، وهذا هو قولنا. ولم يقل تعالى قط إنها الآن شيء عظيم. ثم أخبر تعالى بما يكون يومئذ من ذهول المرضعات ، ووضع الأحمال وكون الناس سكارى من غير خمر ، فبطل تعلقهم بالآية. وما نعلم أنهم شغبوا بشيء غيرها. وأما قولهم إن المعدوم يخبر عنه ويوصف ويتمنى ويسمّى به ، فجهل شديد وظن فاسد ، وذلك أن قولنا في شيء نذكر أنه معدوم ونخبر عنه أنه معدوم ، ويتمنى به إنما هو أن يذكر اسم ما فذلك الاسم موجود وبلا شك يعرف ذلك بالحس كقولنا العنقاء وابن آوى وحبير وابن عرس ونبوة مسليمة ، وما أشبه ذلك. ثم كل اسم ينطق به ويوجد ملفوظا أو مكتوبا فإنه ضرورة لا بد له من أحد وجهين إما أن يكون له مسمى وإما أن يكون ليس له مسمى ، فإن كان له مسمى فهو موجود وهو شيء حينئذ وإن كان ليس له مسمى فإخبارنا بالمعدوم ،

٢١٧

وتمنينا للمريض الصحة إنما هو إخبار عن ذلك الاسم الموجود وأنه ليس له مسمى ولا تحته شيء وتمنّ منّا لأن يكون تحته مسمى ، فهكذا هو الأمر لا كما ظنه أهل الجهل ، فصح أن المعدوم لا يخبر عنه ولا يتمنى. ونسألهم عمن قال ليت لي ثوبا أحمر ، وغلاما أسود. أخبرونا هل الثّوب المتمنّى به عندكم أحمر أم لا؟ فإن أثبتوا معنى وهو الثوب أثبتوا عرضا محمولا فيه وهو الحمرة ، فوجب أن المعدوم يحمل الأعراض. وإن قالوا لم يتمن شيئا أصلا ، صدقوا وصح أن المعدوم لا يتمنى لأنه ليس شيئا. ولا فرق بين قول القائل تمنيت لا شيء وبين قوله لم أتمن شيئا بل هما متلائمان بمعنى واحد. وهذا أيضا يخرّج على وجه آخر ، وهو أن يتمنى شيئا موجودا في العالم كثوب موجود أو غلام موجود ، وأما من أخرج لفظة التمنّي لما ليس في العالم فلم يتمن شيئا. وأما قولهم يوصف فطريق عجب جدّا لأن معنى قول القائل يوصف إخبار بأن له صفة محمولة فيه موجودة به ، فليت شعري كيف يحمل المعدوم الصفات من الحمرة والخضرة ، والقوة والطول العرض؟ إن هذا لعجب جدا فظهر فساد ما موّهوا به والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : فإذا قد عري قولهم من الدليل فقد صح أنه دعوى كاذبة ثم نقول وبالله تعالى التوفيق : من البرهان على أن المعدوم اسم لا يقع على شيء أصلا قول الله عزوجل : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [سورة مريم : ٩] وقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [سورة الإنسان : ١] وقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [سورة الفرقان : ٢] وقال عزوجل : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [سورة القمر : ٤٩].

فيلزمهم ولا بد إن كان المعدوم شيئا أن لا يكون مخلوقا بعد ، وهم لا يختلفون في أن المخلوق موجود وقد وجد وقتا من الدهر ، فالمعدوم على هذا موجود وقد كان موجودا وهذا خلاف قولهم ، وهذا غاية البيان في أن المعدوم ليس شيئا.

قال أبو محمد : ونسألهم ما معنى قولنا شيء؟ فلا يجدون بدّا من أن يقولوا : إنه الموجود وأن يقولوا : هو كل ما يخبر عنه ، فإن قالوا هو الموجود صاروا إلى الحق ، وإن قالوا هو كل ما يخبر عنه قلنا لهم : إن المشركين يخبرون عن شريك لله عزوجل قال تعالى : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) [سورة النحل : ٢٧].

قال أبو محمد : وهذا معدوم لا مدخل له في الحقيقة ، واسم لا مسمى تحته ، فإن قالوا : إن شركاء الله تعالى أشياء كانوا قد أفحشوا ، وأيضا فإنه قد اتفقت جميع

٢١٨

الأمم لا نحاشي أمة على القول إن المعدوم ليس شيئا أو لا شيء ، أو ما يعبر به في كل لغة عن شيء وعن لا شيء إلا أن المعنى واحد ، فلو كان المعدوم شيئا لكان ما اجتمعوا عليه بلا شيء وليس شيئا ولم يكن شيئا باطلا ، وهذا رد على جميع عقول أهل الأرض مذ كانوا إلى أن يفنى العالم ، فصح أن الموجود هو الشيء فإذ هو الشيء فبضرورة العقل ندري أن اللاشيء هو المعدوم. ثم نسألهم : أيقولون إن المعدوم عظيم أو صغير أو حسن أو قبيح أو طويل أو قصير أو ذو لون في حال عدمه؟ فإن أبوا من هذا تناقض قولهم وسئلوا عن الفرق بين قولهم إنه شيء وبين قولهم إنه حسن أو قبيح أو صغير أو كبير ، وكيف قالوا إنه شيء ثم قالوا إنه ليس حسنا ولا قبيحا ولا صغيرا ولا كبيرا؟ فإن قالوا : نعم أوجبوا أن المعدوم يحمل الأعراض والصفات ، وهذا تخليط ناهيك به. وسئلوا في ما ذا يحمل الصفات أفي ذاته أو في ما ذا ....؟ فإن قالوا في ذاته أوجبوا أن له ذاتا وهذه صفة الموجودة ضرورة. وإن قالوا بل يحمل الصفات في غيره كان ذلك أيضا عجبا زائدا ومحالا لا خفاء به.

قال أبو محمد : ونسألهم هل الإيمان موجود من أبي جهل أو معدوم؟ فإنّ قولهم بلا شك إنه معدوم منه ، فنسألهم عن إيمان أبي جهل المعدوم أحسن هو أم قبيح؟ فإن قالوا : لا حسن ولا قبيح قلنا لهم : أيكون يعقل إيمان ليس حسنا؟ هذا عظيم جدّا وإن قالوا بل هو حسن أوجبوا أنه حامل للحسن. وكذلك نسألهم عن الكفر المعدوم من الأنبياء عليهم‌السلام أقبيح هو أم لا؟ فإن قالوا : لا ، أوجبوا كفرا ليس قبيحا ، وإن قالوا : بل هو قبيح أوجبوا أن المعدوم يحمل الصفات. ونسألهم عن ولد العقيم المعدوم منه أصغير هو أم كبير أم عاقل أم أحمق؟ فإن منعوا من وجود شيء من هذه الصفات له كان عجبا أن يكون ولد لا صغير ولا كبير ولا حي ولا ميت ، وإن وصفوه بشيء من هذه الصفات أتوا بالزيادة من المحال. ونسألهم عن الأشياء المعدومة ألها عدد أم لا عدد لها؟ فإن قالوا : لا عدد لها كانوا قد أتوا بالمحال إذ أقروا بأشياء لا عدد لها ، وإن قالوا بل لها عدد كان ذلك عجبا جدا ومحالا لا خفاء به. وسألناهم عن الأولاد المعدومين من العاقر والعقيم كم عددهم؟ ونسألهم عن الأشياء المعدومة أهي في العالم ومن العالم أم ليست في العالم ولا من العالم؟ فإن قالوا : هي في العالم ومن العالم ، سألناهم عن مكانها فإن حددوا لها مكانا وإن قالوا لا مكان لها ، قيل وكيف يكون شيء في العالم لا مكان له فيه ولا حامل.

قال أبو محمد : ويلزمهم أن المعدومات إذا كانت أشياء لا عدد لها ولا نهاية ولا مبدأ فإنها لم تزل. وهذه دهرية محققة وكفر مجرد أن تكون أشياء لا تحصى كثرة

٢١٩

لم تزل مع الله تعالى. ونعوذ بالله من مثل هذا الهوس.

قال أبو محمد : وقد ادّعوا أن المعدوم يعلم وهذا جهل منهم بحدود الكلام لا سيما ممن أقر بأن المعدوم لا شيء ، وادّعى مع ذلك أنه يعلم ، فألزمناهم على ذلك أنهم يعلمون لا شيء ، وأن الله تعالى يعلم لا شيء. فجسر بعضهم على ذلك ، فقلنا له : إن قولك علمت لا شيء ، وعلم الله تعالى لا شيء ، ملائم لقولك لم أعلم شيئا ، ولقولك لم يعلم الله تعالى شيئا ، لا فرق بين معنى القضيتين البتة بل هما واحد وإن اختلفت العبارتان ، وإذ هو كذلك فقد صح أن المعدوم لا يعلم فإن ألزمنا على هذا وسألنا هل يعلم الله تعالى الأشياء قبل كونها أم لا؟ قلنا لهم : لم يزل الله تعالى يعلم أن ما يخلقه أبدا إلى ما لا نهاية له فإنه سيخلقه ويرتبه على الصفات التي يخلقها فيه إذا خلقه ، وأنه سيكون شيئا إذا كوّنه ، ولم يزل عزوجل يعلم أن ما لم يخلق بعد فليس هو شيئا حتى يخلقه ، ولم يزل تعالى يعلم أنه لا شيء معه وأنّه سيكوّن الأشياء أشياء إذا خلقها ، لأنه تعالى إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علمها على خلاف ما هي عليه فلم يعلمها بل جهلها ، وليس هذا علما بل هو ظن كاذب وجهل. وبرهان هذا قول الله عزوجل : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [سورة الأنفال : ٢٣].

و «لو» في لغة العرب التي خاطبنا الله تعالى بها : حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح أنه تعالى لم يسمعهم لأنه لم يعلم فيهم خيرا إذ لا خير فيهم ، فصح أن المعدوم لا يعلم أصلا ولو علم لكان موجودا ، وإنما يعلم الله تعالى أن لفظة المعدوم لا مسمّى لها ، ولا شيء تحتها ، ويعلم عزوجل الآن أن الساعة غير قائمة ، وهو الآن تعالى لا يعلمها قائمة ، بل يعلم أنه سيقيمها فتقوم فتكون قيامة وساعة ، ويوم جزاء ، ويوم بعث ، وشيئا عظيما ، حين يخلق كل ذلك لا قبل أن يخلقه ، فأما علمه أنه سيقيمها فتقوم فهو موجود حقّ ، فهذا معنى إطلاق العلم على ما لم يكن بعد من المعدومات كما أننا لا نعلم الشمس الآن طالعة طلوعها في غد ، بل نعلم أنها ستطلع غدا وكذلك لا نعلم موت الأحياء الآن ، بل نعلم أن الله تعالى سيخلق موتهم فيعلمه موتا لهم إذا خلقه لا قبل ذلك. وبالله تعالى التوفيق. وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [سورة آل عمران : ١٤٢].

فهذا نص جلي على أن المعدوم لا يعلم لأن الله تعالى أخبر أنه لا يدخل الجنة من لا يعلمه الله تعالى مجاهدا لا صابرا ، فصح أن من لم يجاهد ولا صبر فلم يعلمه

٢٢٠