الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

تفنى بقطع الأكوان عنها من حيث لا يصح لها وجود لا في مكان ولا فيما يقدّر تقدير المكان ، فإذا لم يلحق فيها شيء من الأكوان فعدم ما كان يخلق فيها منها أوجب عدمها. هذا نص كلامه وهذا قول الدهرية نصّا ، إذ قالت بأفعال لا فاعل لها ، وهو يقول بأن فناء الجواهر والأعراض هو فناء وإعدام لا فاعل لهما ، وأن الله تعالى لم يفن الفاني ونعوذ بالله من هذا الضلال والإلحاد المحض. وقالوا بأجمعهم : ليس لله تعالى على الكفار نعمة دينية أصلا. وقال الأشعري شيخهم : ولا له عزوجل على الكفار نعمة دنيوية أصلا. وهذا تكذيب منه ومن أتباعه الضلال لله عزوجل إذ يقول : (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [سورة إبراهيم : ٢٨] وإذ يقول عزوجل : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة البقرة : ٤٧]. وإنما خاطب تعالى بهذا كفارا جحدوا نعمة الله تعالى تبكيتا لهم. وأما الدنيوية فكثير قال تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) إلى قوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) [سورة عبس : ١٧ ـ ٢٤] الآية ومثله في القرآن كثير. وقال الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن في باب مترجم «بالدلالة على أن القرآن معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وذكر سؤال الملحدين عن الدليل على صحة ما ادعاه المسلمون من أن القرآن معجز ، فقال الباقلاني : يقال لهم : أما معنى وصف القرآن وغيره من آيات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه معجز فإنما معناه أنه مما لا يقدر العباد عليه ، وإن لم يكونوا عاجزين على الحقيقة ، وإنما صار وصف القرآن وغيره ، من آيات الرسل عليهم‌السلام كعصا موسى ، وخروج الناقة من الصخرة ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، بأنه معجز وإن لم يتعلق به عجز عاجز ـ على وجه التشبيه بما يعجز عنه العاجز من الأمور التي صح عجزهم عنها ، وقدرتهم عليها ، لأنهم لما لم يقدروا على معارضة آيات الرسل عبر عن عدم قدرتهم على ذلك بالعجز عنه تشبيها بالمعجوز عنه. قال الباقلاني ومما يدل على أن العرب لا يجوز أن تعجز عن مثل القرآن أنه قد صح وثبت أن العجز لا يكون عجزا إلا عن موجود ، فلو كانوا على هذا الأصل عاجزين عن مثل القرآن وعصا موسى ، وإحياء الموتى ، وخلق الأجسام والأسماع والأبصار ، وكشف البؤس والعاهات لوجب أن يكون ذلك المثل موجودا فيهم ومنهم كما أنهم لو كانوا قادرين على ذلك لوجب أن يكون ذلك منهم ولمّا لم يكن ذلك كذلك ثبت أنه لا يجوز عجز العباد على الحقيقة عن مثل القرآن مع عدمه منهم ، وكونه غير موجود لهم ، ولا عن قلب عصا موسى حية ، ولا عن مثل ذلك.

١٦١

قال أبو محمد : أينتظر كفر بعد هذا الكفر في تصريحه أن العباد والعرب لا يجوز أن يعجزوا عن مثل القرآن ، ولا عن قلب العصا حية؟! ولا يغتر ضعيف بقوله إنهم غير قادرين على ذلك فإنما هو على قوله المعروف من أن الله لا يقدر على غير ما فعل وظهر منه فقط. ومن عظيم المحال قوله في هذا الفصل : إنه لا يجوز أن يعجز العاجز إلا عن ما يقدر عليه مع أن هذا الكلام منه موجب أنهم إن عجزوا عن مثل القرآن قدروا عليه ، وما يمترى في أنه كان كائدا للإسلام ملحدا لا شك فيه فهذه الأقوال لا ينطلق بها لسان مسلم. ومن أعظم البراهين على كفر الباقلاني وكيده للدين قوله في فصل آخر من الباب المذكور ، في الكتاب المذكور : إنه لا يجب على من سمع القرآن من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أن يبادر إلى القطع على أنه له آية وأنه على يده ظهر ومن قبله نجم حتى يسأل أهل النواحي والأطراف ونقلة الأخبار ويتعرف حال المتكلمين بذلك اللسان في الآفاق ، فإذا علم بعد التثبت والنظر أنه لم يسبقه إلى ذلك أحد لزمه حينئذ اعتقاد نبوته.

قال أبو محمد : وهذا إنسان خاف معاجلة الأمثلة بالرجم كما يرجم الكلب إن صرح بأن نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم باطل ، فصرح لهم بما يؤدي إلى ذلك من قرب ، إذ أوجب بأن لا يقرّ أحد بنبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بأنه أتى بالقرآن ، ولا بأنه آية من آياته تدل على صحة نبوته ، إلا حتى يسأل أهل النواحي والأطراف ، وينتظر الأخبار ويتعرف حال المتكلمين بالعربية في الآفاق.

قال أبو محمد : فأحال والله على عمل لا نهاية له ولو عمر الإنسان عمر نوح عليه‌السلام ، لأن سؤال أهل النواحي والأطراف لا ينقضي في ألف عام ، وانتظار الأخبار ليس له حدّ ، وليت شعري متى يصل المحدود وطالب المعاش إلى طرف من هذا المجال ...؟ لأن أهل النواحي هم من بين صدر الصين إلى آخر الأندلس ، إلى بلاد الزنج ، إلى بلاد الصقالبة فما بين ذلك ، فلاح كفر هذا الجاهل الملحد وكيده للإسلام لكل من له أدنى حس.

قال أبو محمد : مع ضعف كيده في ذلك قال الله تعالى : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [سورة النساء : ٧٦] ويكفي من كل هذر أتى به في هذا الفصل الملعون قائله أن من له علم قويّ بالعربية والأخبار يكفيه تيقن عجز العرب عن معارضته فمن بعدهم إلى اليوم ، وأنه من عنده ضرورة لأنه لم ينزل القرآن جملة فيمكن فيه الدعوى من أحد وإنما نزل مقطعا في كل قصة تنزل يتنزل فيها قرآن ، وهذه ضرورة موجبة أنه

١٦٢

من عنده عليه‌السلام ظهر بوحي الله تعالى إليه ، وبما فيه من الغيوب التي قد ظهر إنذاره بها ، وأما من لا علم له باللغة والأخبار فيكفيه إخبار من يقع له العلم بخبره بأن العرب عجزت عن مثله ، وأنه أتى به مفصلا عند حلول القصص التي أنزل الله تعالى فيها الآية والآيتين ، والكلمة والكلمتين ، من القرآن والسورة ، حتى تمّ كما هو ، فهذا هو الحق لا ذلك الإلحاد المحض والكلام الغث السخيف.

ومن كفراتهم الصّلع (١) قول السّمناني إذ نصّ على أن الباقلاني كان يقول : إن جميع المعاصي كلها لا نجد شيئا منها مما يجب أن يستغفر الله منه جائز وقوعها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاشى الكذب في البلاغ فقط. وقال الباقلاني : إذا نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلا على أنه منسوخ ، إذ قد يفعله عاصيا لله عزوجل. قال الباقلاني : وليس على أصحابه فرضا أن ينكروا ذلك عليه. قال السّمناني في كتاب الإمامة : لو لا دلالة العقل على وجوب كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوما في البلاغ عن الله عزوجل لما وجب كونه معصوما في البلاغ ، كما لا يجب فيما سواه من أفعاله وأقواله. وقال أيضا في مكان آخر منه ، وكذلك يجوز أن يكفر النبي بعد أداء الرسالة.

قال أبو محمد : بالله الذي لا إله إلا هو ما قال هذا القول ناصرا له وداعيا إليه مسلم قط ، وما كان قائله إلا كافرا ملحدا ، فاعلموا أيها الناس أنه قد جوّز على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكفر والزنا ، واللياطة ، والبغاء ، والسرقة ، وجميع المعاصي ، فأي كيد للإسلام يا للناس أعظم من هذا ...؟؟ وأما صاحبه ابن فورك فإنه منع من هذا وأنكره ، وأجاز على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صغار المعاصي كقبول النساء والتعريض لهن ، وتفخيذ الصبيان ، ونحو ذلك. وأما شيخهما ابن مجاهد البصري ـ ليس بالمقرى (٢) ـ فإنه منع من كل ذلك وحاشى لله من أن يجوّز من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذنبا بعمد لا صغيرا ولا كبيرا ، لقول الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [سورة الأحزاب : ٢١] ومن المحال أن يأمرنا الله تعالى أن نتأسّى بعاص في معصية صغرت أو كبرت ، واعجبوا لاستخفاف هذا الملحد بالدين وبالمسلمين ، إذ يقول هاهنا إنه ليس فرضا على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينكروا عليه عصيان ربه ، ومخالفة أمره الذي أمرهم به ، وهو يقول في نصره للقياس إن قياس من قاس من الصحابة وسكوت من سكت منهم عن إنكاره دليل على وجوب

__________________

(١) الصلع : جمع صلعاء. والصلعاء : الداهية الشديدة ، على المثل ، أي أنه لا متعلق منها. انظر لسان العرب (٨ / ٢٠٥ ـ مادة صلع).

(٢) قوله «ليس بالمقرىء» ، أي هو غير ابن مجاهد المقرئ المشهور.

١٦٣

الحكم بالقياس ، لأنهم لا يقرون على منكر فما وجب إقرارهم على المنكر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاشى لله من هذا ، وأنكر إقرارهم على القياس لو كان منكرا ، فجمع في هذا المناقضة والكذب في دعوى القياس على الصحابة ، ودعوى معرفة جميعهم بقياس من قاس منهم ودعوى أنهم لم ينكروه ، وهذه صفات الكذّابين المتلاعبين بالدّين. ومن طوامّهم ما حكاه السّمناني عن الباقلاني أنه قال : واختلفوا في وجوب كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل أهل وقته في حال الرسالة وما بعدها إلى حين موته ، فأوجب ذلك قائلون وأسقطه آخرون. قال الباقلاني : وهذا هو الصحيح وبه نقول.

قال أبو محمد : هذا والله الكفر الذي لا خفاء به إذ جوز أن يكون أحد ممن في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما بعده أفضل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنكرنا على أحمد بن خابط إلا دون هذا ، إذ قال : إن أبا ذر كان أزهد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا مع قول هذا المستخف الباقلاني الذي ذكره عنه السّمناني في كتابه الكبير في كتاب الإمامة منه أن من شرط الإمام أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه.

قال أبو محمد : يا للعبارة بالدين يجوز عند هذا الكافر أن يكون في الناس غير الرسل أفضل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يجوز عنده أن يلي الإمامة أحد يوجد في الناس أحد أفضل منه؟! ثم حمقه أيضا في هذا حمق عتيق ، لأنه تكليف ما لا يطاق ، ولا سبيل إلى القطع بفضل أحد على أحد إلا بنص من الله تعالى ، فكيف يحاط بالأفضل من قريش وهم مبثوثون من أقصى السند وكابل ومكران إلى الأشبونة ، إلى سلا فسواحل البحر المحيط ومن سواحل بحر اليمن ، إلى ثغور أرمينية وأذربيجان فما بين ذلك؟ اللهم العن من لا يستحيي! ومن العجب أن هذا النذل الباقلاني قطع بخلاف الإجماع وقد أجاز مالك لمن قرأ عند أبي حنيفة في إجازته القراءة بالفارسية ، وصرح بأن ترتيب الآيات في القرآن إجماع ، وقد أجاز مالك لمن قرأ عند غروب الشمس وطلوعها فجاءت آية سجدة أن يصل التي قبلها بالتي بعدها ، أفلا يستحي هذا الجاهل من أن يصف في قوله بأن بسم الله الرحمن الرحيم آية من أم القرآن ، وأن داود خالف الإجماع في قوله بإبطال القياس ، أفلا يستحي هذا الجاهل من أن يصف العلماء بصفته مع عظيم جهله بأن عاصما وابن كثير وغيرهما من القراء وطائفة من الصحابة تقول بقول الشافعي الذي جعله خلافا للإجماع ، وأنه لم يأت قط عن أحد من الصحابة إيجاب الحكم بالقياس من طريق تثبت ، وأنه قد قال بإنكاره ابن مسعود ومسروق والشعبي وغيرهم؟ ولكن من يضلل الله فلا هادي له. ومن عجائبه قوله : إن العامي إذا نزلت به

١٦٤

النازلة ففرضه أن يسأل أفقه أهل بلده ، فإذا أفتاه فهو فرضه ، فإن نزلت به تلك النازلة ثانية لم يجز له أن يعمل بتلك الفتيا ، لكن يسأل ثانية إما ذلك الفقيه وإما غيره ، ففرضه أن يعمل بالفتيا الثانية ، وهكذا أبدا.

قال أبو محمد : هذا تكليف ما لا يطاق إذ وجب على كل واحد من العامة أن يسأل أبدا عن كل ما ينوبه في صلاته وصيامه وزكاته ونكاحه وبيوعه ، وتكرار السؤال عن كل ذلك كل يوم بل كل ساعة فهل في الحماقة أكثر من هذا؟ ونعوذ بالله من الخذلان.

١٦٥

ذكر شنع لقوم لا تعرف فرقهم

قال أبو محمد : ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل ، وقالوا : من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها ، من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك ، وحلت له المحرمات كلها ، من الزّنا والخمر وغير ذلك ، واستباحوا بهذا نساء غيرهم ، وقالوا : إننا نرى الله ونكلمه ، وكل ما قذف في نفوسنا فهو حق. ورأيت لرجل منهم يعرف «بابن شمعون» كلاما نصه أن لله تعالى مائة اسم ، وأن الموفي مائة هو ستة وثلاثون حرفا ، ليس منها في حروف الهجاء شيء إلا واحد فقط ، وبذلك الواحد يصل أهل المقامات إلى الحق. وقال أيضا : أخبرني بعض من رسم لمجالسة الحق أنه مدّ رجله يوما فنودي ما هكذا يجالس الملوك ، فلم يمدّ رجله بعدها ، يعني أنه كان مديما لمجالسة الله تعالى.

وقال أبو حاضر النصيبي من أهل نصيبين ، وأبو الصبّاح السمرقندي وأصحابهما : إن الخلق لم يزالوا مع الله ، وقال أبو الصبّاح : لا تحل ذبائح أهل الكتاب ، وخطّأ فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قتال أهل الردّة ، وصوّب قول الصحابة الذين رجعوا عنه في ترك حربهم. وقال أبو شعيب القلال : إن ربه جسم في صورة إنسان لحم ودم ، ويفرح ويحزن ويمرض ويفيق. وقال بعض الصوفية : إن ربّه يمشي في الأزقة حتى إنه يمشي في صورة مجنون يتبعه الصبيان بالحجارة ، حتى يدموا عقبيه ، فاعلموا رحمكم الله أن هذه كلها كفرات صلع ، وأقوال أقوام يكيدون الإسلام. وصدق القائل :

شهدت بأن ابن المعلم هازل

بأصحابه والباقلاني أهزل

وما جعل الملعون في ذاك دونه

وكلهم في الإفك والكفر منزل

والله ما هم مع المغرورين بهم في قولهم عنهم وحسن الظن بهم ، إلا كما قال الآخر :

وساع مع السلطان يبغي عليهم

ومحترس من مثله وهو حارس

فاعلموا رحمكم الله أن جميع فرق الضلالة لم يجر الله تعالى قط على أيديهم خيرا ، ولا فتح بهم من بلاد الكفر قرية ولا رفع للإسلام راية ، وما زالوا يسعون في قلب

١٦٦

نظام المسلمين ، ويفرقون كلمة المؤمنين ، ويسلّون السيف على أهل الدين ، ويسعون في الأرض مفسدين. أما الخوارج والشيعة : فأمرهم في هذا أشهر من أن يتكلف ذكره ، وما توصلت الباطنية إلى كيد الإسلام وإخراج الضعفاء عنه إلى الكفر إلا على ألسنة الشيعة ، وأما المرجئة فكذلك إلا أن الحارث بن سريج خرج بزعمه منكرا للجور ، ثم لحق بالترك فقادهم إلى أرض الإسلام فأنهب الديار ، وهتك الأستار ، والمعتزلة في سبيل ذلك إلا أنه ابتلي بتقليد بعضهم المعتصم والواثق جهلا ، وظنا أنهم على شيء وكان للمعتصم فتوح محمودة كبابل والمازيار وغيرهم. فالله الله أيها المسلمون تحفظوا بدينكم ، ونحن نجمع لكم بعون الله الكلام في ذلك ، الزموا القرآن وسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما مضى عليه الصّحابة رضي الله عنهم والتابعون وأصحاب الحديث عصرا عصرا ، الذين طلبوا الأثر فلزموا الأثر ، ودعوا كل محدثة فكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وبالله تعالى التوفيق.

تم الكلام في شنع المبتدعين من أهل الأهواء والنحل المضلة والحمد لله رب العالمين.

١٦٧

المعاني التي يسمّيها اهل الكلام اللطائف ، والكلام

في السحر وفي المعجزات التي فيها إحالة الطبائع

أيجوز وجودها لغير الأنبياء أم لا

قال أبو محمد : ذهب قوم إلى أن السحر قلب للأعيان وإحالة للطبائع ، وأنهم يرون أعين الناس ما لا يرى ، وأجازوا للصالحين على سبيل كرامة الله عزوجل لهم اختراع الأجسام وقلب الأعيان ، وجميع إحالة الطبائع ، وكل معجز للأنبياء عليهم‌السلام ، ورأيت لمحمد بن الطيب الباقلاني : أن الساحر يمشي على الماء على الحقيقة ، وفي الهواء ، ويقلب الإنسان حمارا على الحقيقة ، وأنّ كل هذا موجود من الصالحين على سبيل الكرامة ، وأنه لا فرق بين آيات الأنبياء وبين ما يظهر من الإنسان الفاضل ومن الساحر أصلا إلا بالتحدي ، فإن النبي يتحدى الناس بأن يأتوا بمثل ما جاء هو به ، فلا يقدر أحد على ذلك فقط ، وأن كل ما لم يتحدّ به النبي الناس فليست آية له ، وقطع بأن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على لسان متنبئ كاذب. وذهب أهل الحق إلى أنه لا يقلب أحد عينا ولا يحيل طبيعة إلا الله عزوجل لأنبيائه فقط سواء تحدّوا بذلك أو لم يتحدوا ، وكلّ ذلك آيات لهم عليهم‌السلام تحدّوا بذلك أم لا ، والتّحدي لا معنى له وأنه لا يمكن وجود شيء من ذلك لا لصالح ، ولا لساحر ، ولا لأحد غير الأنبياء عليهم‌السلام ، والله تعالى قادر على إظهار الآيات على أيدي الكذابين المدعين للنبوة ، ولكنه تعالى لا يفعل ذلك كما لا يفعل ما لا يفعل ما لا تريد أن يفعله من سائر ما هو قادر عليه.

قال أبو محمد : وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره ، برهان ذلك قول الله عزوجل : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [سورة الأنعام : ١١٥]. وقال تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [سورة البقرة : ٣١]. وقال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس : ٨٢].

فصح أن كل ما في العالم وبما قد رتبه الله عزوجل الرتب التي لا تتبدل ، وصح أن الله عزوجل أوقع كل اسم على مسماه فلا يجوز أن يوقع اسم من تلك

١٦٨

الأسماء على غير مسماه الذي أوقعه الله تعالى عليه ، لأنه كان يكون تبديلا لكلمات الله تعالى التي أبطل عزوجل أن تبدل ، ومنع من أن يكون لها مبدل ، ولو جاز أن تحال صفات مسمّى منها التي بوجودها فيه استحق وقوع ذلك الاسم عليه لوجب أن يسقط عنه ذلك الاسم الذي أوقعه الله تعالى عليه ، فإذ ذلك كذلك فقد وجب أن كل ما في العالم مما قد رتبه الله تعالى على ما هو عليه من فصوله الذاتية وأنواعه وأجناسه ، فلا يتبدل منه شيء قطعا إلا حيث قام البرهان على تبدله ، وليس ذلك إلا على أحد وجهين : إما استحالة معهودة جارية على رتبة واحدة ، وعلى ما بنى الله تعالى عليه العالم من استحالة المني حيوانا والنوى والبذور شجرة ونباتا وسائر الاستحالات المعهودات ، وإما استحالة لم تعهد قط ولا بنى الله تعالى العالم عليها ، وذلك قد صح للأنبياء عليهم‌السلام شواهد لهم على صحة نبوتهم ، وجد ذلك بالمشاهدة ممن شهدهم ، ونقل إلى من لم يشاهدهم بالتواتر الموجب للعلم الضروري ، فوجب الإقرار بذلك وبقي ما عدا أمر الأنبياء عليهم‌السلام على الامتناع فلا يجوز البتة وجود ذلك لا من ساحر ولا من صالح بوجه من الوجوه ، لأنه لم يقم برهان بوجود ذلك ولا صح قط به نقل ، وهو ممتنع في العقل كما قدمنا ، ولو كان ذلك ممكنا لاستوى الممتنع والممكن والواجب ، وبطلت الحقائق كلها ، وأمكن كل ممتنع ، ومن لحق هاهنا لحق بالسوفسطائية على الحقيقة. ونسأل من جوّز ذلك للساحر والفاضل : هل يجوز لكل أحد غير هذين أم لا يجوز إلا لهذين فقط؟ فإن قال إن ذلك لا يجوز إلا للساحر وللفاضل فقط ، وهذا هو قولهم ، سألناهم عن الفرق بين هذين وبين سائر الناس ، ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هؤلاء وبين غيرهم إلا بالدعوى التي لا يعجز عنها أحد ، وإن قالوا : إن ذلك جائز أيضا لغير الساحر والفاضل لحقوا بالسوفسطائية حقا ولم يثبتوا حقيقة ، وجاز تصديق من يدعي أنه يصعد إلى السماء ، ويرى الملائكة ، وأنه يكلم الطير ويجتني من شجر الخروب التمر والعناب ، وأن رجالا حملوا وولدوا وسائر التخليط الذي من صار إليه وجب أن يعامل بما هو أهله إن أمكن أو أن يعرض عنه لجنونه وقلة حيائه.

قال أبو محمد : لا فرق بين من ادعى شيئا مما ذكرنا لفاضل وبين دعوى الرافضة ردّ الشمس على عليّ بن أبي طالب مرتين حتى ادّعى بعضهم أن حبيب بن أوس (١) قال :

__________________

(١) هو أبو تمام. وانظر الأبيات في ديوانه (٢ / ٣١٩) بشرح الخطيب التبريزي.

١٦٩

فردّت علينا الشّمس واللّيل راغم

بشمس لهم من جانب الخدر تطلع

فضا ضوؤها صبغ الدّجنّة فانطوى

لبهجتها ثوب السّماء المجزّع

فو الله ما أدري أأحلام نائم

ألمت بنا أم كان في الركب يوشع؟

وكذلك دعوى النصارى لرهبانهم وقدمائهم فإنهم يدعون لهم من قلب الأعيان أضعاف ما يدعيه هؤلاء ، وكذلك دعوى اليهود لأحبارهم ورءوس المثايب عندهم أن رجلا منهم رحل من بغداد إلى قرطبة في يوم واحد ، وأنه أنبت قرنين في رأس رجل مسلم من بني الاسكندراني كان يسكن بقرطبة عند باب اليهود. وهذا كله باطل موضوع وبنو الاسكندراني كانوا أقواما أشرافا معروفين لم يعرف لأحد منهم شيء من هذا ، والحماقة لا حدّ لها ، وهذا برهان كاف لمن نصح نفسه.

قال أبو محمد : وأما السحر فإنه ضروب منه ما هو من قبل الكواكب ، كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينتفع إمساكه من لدغة العقرب ، ومن هذا الباب كانت الطلسمات ، وليست إحالة طبيعة ولا قلب عين ، ولكنه قوى ركبها الله عزوجل مدافعة لقوى أخرى كدفع الحر للبرد ، ودفع البرد للحر ، وكقتل القمر للدابة الدابرة الدبرة ، إذا لاقى الدبرة ضوءه إذا كانت دبرتها مكشوفة للقمر. ولا يمكن دفع الطلسمات لأننا قد شاهدنا آنفا آثارها ظاهرة إلى الآن من قرى لا تدخلها جرادة ولا يقع فيها برد وكسر قسطه التي لا يدخلها جيش إلا أن يدخلها كرها ، وغير ذلك كثير جدّا لا ينكره إلا معاند ، وهي أعمال قد ذهب من كان يحسنها جملة ، وانقطع من العالم ، ولم يبق إلا آثار صناعاتهم فقط. ومن هذا الباب كان ما تذكرة الأوائل في كتبهم في الموسيقا ، وأنه كان يؤلف به بين الطبائع ، وينافر به أيضا بينها ، ونوع آخر من السحر يكون بالرّقى وهو كلام مجمع من حروف مقطعة في طوالع معروفة أيضا ، فيحدث لذلك التركيب قوة تستثار بها الطبائع وتدافع قوى أخرى. وقد شاهدنا واختبرنا من كان يرقي الدمل الحادّ القويّ الظهور في أول ظهوره فييبس بدأ من يومه ذلك بالذبول ويتم يبسه في اليوم الثالث ، ويقلع كما تقلع قشرة القرحة إذا تم يبسها ، جربنا من ذلك ما لا نحصيه ، وكانت هذه المرأة ترقي أحد دملين قد دفعا على إنسان واحد ولا ترقي الثاني فييبس الذي رقت ويتم ظهور الذي لم ترق ، ويلقى حامله منه الأذى الشديد ، وشاهدنا من كان يرقي الورم المعروف بالخنازير فيندمل ما يفتح منها ويذبل ما لم ينفتح ويبرأ كل ذلك البرء التام ، كان لا يزال يفعل ذلك في الناس والدواب ، ومثل هذا كثير جدّا ، وقد أخبرنا من خبره عندنا كمشاهدتنا لثقته

١٧٠

وتجربتنا لصدقه وفضله ، أنه شاهد ما لا يحصي نساء يتكلمن على الذين يمخضون الزبد من اللبن بكلام فلا يخرج من ذلك اللبن زبد ولا فرق بين هذين الوجهين وبين ملاقاة فضلة الصفراء بالسقمونيا ، وملاقاة ضعف القلب بالكندر ، وكل هذه المعاني جارية على رتبة واحدة ، من طلب علم كل ذلك أدركه ، ومنه ما يكون بالخاصة كالحجر الجاذب للحديد وما أشبه ذلك ، ومنه ما يكون لطف يد كحيل أبي العجائب التي شاهدها الناس ، وهي أعمال لطيفة لا تحيل طبعا أصلا.

قال أبو محمد : وكل هذه الوجوه التي ذكرنا ليست من باب معجزات الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا من باب ما يدعيه أهل الكذب للسحرة وللصالحين ، لأن معجزات الأنبياء خارجة عن الرتب وعن طبائع كل ما في العالم وعن بنية العالم ، لا يجري شيء من ذلك على قانون ، ولا على سنن معلوم ، لكن قلب عين وإحالة صفات ذاتية كشق القمر ، وفلق البحر ، واختراع طعام وماء ، وقلب العصا حية ، وإحياء ميت قد أرم ، وإخراج ناقة من صخرة ، ومنع الناس من أن يتكلموا بكلام مذكور ومن أن يأتوا بمثله ، وما أشبه هذا من إحالة الصفات الذاتية ، التي بوجودها تستحق الأسماء ومنها تقوم الحدود ، وهذا بعينه هو الذي يدعيه المبطلون للساحر وللفاضل.

قال أبو محمد : وإنما يلوح الفرق جدا بين هذين السبيلين لأهل العلم بحدود الأسماء والمسميات ، وبطبائع العالم وانقسامه من مبدئه من أجناس أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاصه وما هو من أعراضه ذاتي وما هو منها غيري وما تسرع الاستحالة والزوال من الغيري منها وما يبطئ زواله منها ، وما يثبت منها ثبات الذاتي وإن لم يكن ذاتيا ، والفرق بين البرهان وبين ما يظن أنه برهان وليس برهانا. والحمد لله على ما وهب وأنعم به علينا لا إله إلا هو.

حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عبد البصير ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني ، عن بشير بن عمرو قال : ذكر الغيلان عند عمر بن الخطاب فقالوا إنهم يتحولون فقال عمر : إنه ليس أحد يتحول عن خلقه الذي خلق له لكن لهم سحرة كسحرتكم فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذّنوا. فهذا عمر رضي الله عنه يبطل إحالة الطبائع ، ويقول : إن السحر ليس فيه إحالة طبع ، وهذا نص قولنا ، والحمد لله رب العالمين كثيرا. وقد نص الله عزوجل على ما قلنا فقال تعالى : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [سورة طه : ٦٦]. فأخبر تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخيلا لا حقيقة له. وقال تعالى : (إِنَّما صَنَعُوا

١٧١

كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [سورة طه : ٦٩]. فأخبر تعالى أنه كيد لا حقيقة له.

فإن قيل : قد قال عزوجل : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [سورة الأعراف : ١١٦].

قلنا : نعم إنها حيل عظيمة وإثم عظيم ، إذ قصدوا بها معارضة معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم كادوا عيون الناس إذ أوهموهم أن تلك الحبال والعصي تسعى ، واتفقت الآيات كلها والحمد لله رب العالمين. وكان الذي قدر من لا يدري حيلهم من أنها تسعى ظنا أصله اليقين وذلك لأنهم رأوا صفات حيّات رقط طوال تضطرب ، فسارعوا إلى الظن ، وقدروا أنها ذات حيات ، ولو أنعموا النظر وفتشوها لوقفوا على الحيلة فيها ، وأنها ملئت زئبقا ولد فيها تلك الحركات ، كما يفعل العجائبي الذي يضرب بسكينه في جسم إنسان ، فيظن من رآه ممن لا يدري حيله أن السكين غاصت في جسم المضروب ، وليس كذلك بل كان نصاب السكّين مثقوبا فقط ، فغاصت السكين في النصاب ، وكإدخاله خيطا في حلقة خاتم ، ثم يمسك إنسان غير متهم طرفي الخيط بيديه ، ثم يأخذ العجائبي الخاتم الذي فيه الخيط بفيه ، وفي ذلك المقام أدخله تحت يده وكان في فيه خاتم آخر يرى من حضر حلقة الخاتم الذي في فيه يوهمهم أنه قد أخرجه من الخيط ، ثم يرد فمه إلى الخيط ويرفع يديه وفيه فينظر الخاتم الذي كان فيه الخيط ، وكذلك سائر حيلهم ، وقد وقفنا على جميعها ، فهذا هو معنى قوله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ). أي أنهم أوهموا الناس فيما رأوه ظنونا متوهمة لا حقيقة لها ، ولو فتشوها للاح لهم الحق. وكذلك قول الله عزوجل : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) [سورة البقرة : ١٠٢] فهذا أمره ممكن يفعله النّمام وكذلك ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحره لبيد بن الأعصم ، فولّد ذلك عليه مرضا حتى كان يظن أنه فعل الشيء وهو لم يفعله (١) ، فليس في هذا أيضا إحالة طبيعة ، ولا قلب عين ، وإنما هو تأثير بقوة لتلك الصناعة ، كما قلنا في الطلسمات

__________________

(١) نصّ الحديث كما رواه البخاري في كتاب الطب (باب ٤٧ ، حديث رقم ٧٥٦٣) عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخيّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله ، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو؟؟؟ لكنه دعا ودعا ، ثم قال : «يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ...» الحديث ، وهو طويل.

١٧٢

والرقى ولا فرق. ونحن نجد الإنسان يسبّ أو يقابل بحركة يغضب منها ، فيستحيل من الحلم إلى الطيش وعن السكون إلى الحركة والنزق حتى يقارب حال المجانين ، وربما أمرضه ذلك وقد قال عليه‌السلام : «إنّ من البيان لسحرا» (١) لأن من البيان ما يؤثر في النفس فيثيرها أو يسكنها عن ثوراتها ، ويحيلها عن عزماتها ، وعلى هذا المعنى استعملت الشعراء ذكر سحر العيون ، لاستمالتها للنفوس فقط.

قال أبو محمد : ويقال لمن قال إن السحر يحيل الأعيان ويقلب الطبائع : أخبرونا إذا جاز هذا فأي فرق بين النبي والساحر؟ ولعل جميع الأنبياء كانوا سحرة ، كما قال فرعون عن موسى عليه‌السلام (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [سورة طه : ٧١] و (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) [سورة الأعراف : ١٢٣]. وإذا جاز أن يقلب سحرة موسى عليه‌السلام عصيهم وحبالهم حيات ، وقلب موسى عليه‌السلام عصاه حيّة ، وكان كلا الأمرين حقيقة ، فقد صدق فرعون بلا شك في أنه ساحر مثلهم ، إلا أنه أعلم به منهم فقط ، وحاشا لله من هذا بل ما كان فعل السحرة إلا من حيل أبي العجائب فقط. فإن لجئوا إلى ما ذكره الباقلاني من التحدّي قيل لهم : هذا باطل من وجوه : أحدها أن اشتراط التحدّي في كون آية النبي آية دعوى كاذبة سخيفة لا دليل على صحتها ، لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من حجة عقل ، ولا قال بهذا أحد قط قول هذه الفرقة الضعيفة ، وما كان هكذا فهو في غاية السقوط والهجنة. قال الله عزوجل : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة النمل : ٦٤]. فوجب ضرورة أن من لا برهان له على صحة قوله فهو كاذب فيها غير صادق.

وثانيها : أنه لو كان ما قالوا : لسقطت أكثر آيات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كنبعان الماء من بين أصابعه ، وإطعامه المئين والعشرات من صاع شعير ، وعناق ، ومرة أخرى من كسر ملفوفة في خمار ، وكتفله في العين فجاشت بماء غزير إلى اليوم ، وحنين الجذع ، وتكلم الذراع وشكوى البعير والذئب ، والإخبار بالغيوب ، وتمر جابر ، وسائر معجزاته العظام ، لأنه عليه‌السلام لم يتحدّ بذلك كله أحدا ولا عمله إلا بحضرة أهل اليقين من

__________________

(١) رواه البخاري في الطب باب ٥١ (في الترجمة) والنكاح باب ٤٧. ومسلم في الجمعة حديث ٤٧. وأبو داود في الأدب باب ٨٦ ، و ٨٧. والترمذي في البر والصلة باب ٧٩. والدارمي في الصلاة باب ١٩٩. ومالك في الكلام حديث ٧. وأحمد في المسند (١ / ٢٦٩ ، ٢٧٩ ، ٣٠٣ ، ٣٠٩ ، ٣١٣ ، ٣٢٧ ، ٣٣٢ ، ٣٩٧ ، ٤٥٤ ، ٢ / ١٦ ، ٥٩ ، ٦٢ ، ٩٤ ، ٣ / ٤٧٠ ، ٤ / ٢٦٣).

١٧٣

أصحابه رضي الله عنهم ، ولم يبق له آية حاشى القرآن ، ودعاء اليهود إلى تمني الموت ، وشق القمر فقط ، وكفى نحسا بقول أدى إلى مثل هذا. فإن ادّعوا أنه عليه‌السلام تحدّى بها من حضر وغاب كذبوا واخترعوا هذه الدعوى لأنه لم يأت في شيء من تلك الأخبار أنه تحدّى بها أحدا ، وإن تمادوا على أن كل هذه ليست معجزات ولا آيات أكذبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله إذ فعل بعض ذلك : أشهد أني رسول الله.

والثالث وهو البرهان الدامغ : قول الله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأنعام : ١٠٩]. وقوله : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [سورة الإسراء : ٥٩].

فسمى الله تعالى تلك المعجزات المطلوبة من الأنبياء عليهم‌السلام آيات ، ولم يشترط عزوجل في ذلك تحديا من غيره ، فصح أن اشترط التّحدّي باطل محض ، وصح أنها إذا ظهرت فهي آية كان هنالك تحدّ أو لم يكن ، وقد صح إجماع الأمة المتيقن على أن الآيات لا يأتي بها ساحر ، ولا غير نبي ، فصح أن المعجزات إذ هي آيات لا تكون لساحر ولا لأحد ليس نبيا.

والرابع : أنه لو صح حكم التحدي لكان حجة عليه ، لأن التحدي عندهم يوجب أن لا يقدر على شيء مثل ذلك أحد ، إذ لو أمكن أن يوجد مثل ذلك من أحد لكان قد بطل تحديه وقيل له قد وجد من يعمل مثل عملك هذا ، إما صالح وإما ساحر.

والخامس : أنه لو كان ما قالوا ، وجاز ظهور معجزة من ساحر لا يتحدى بها ، أو فاضل لا يتحدى بها ، لأمكن أن يتحدى لهما بها بعد موتهما من ضل فيهما ، كما فعلت الغلاة بعليّ رضي الله عنه فعلى كل حال قولهم ساقط والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : وأما من ادعى أنه يشبه الساحر على العيون فيريهم ما لا ترى فإن هذه الطائفة لم تكتف بالكفر بإبطال النبوات ، إذ لعل ما أتى به النبي كان تشبيها على العيون لا حقيقة له حتى رامت إبطال الحقائق كلّها ، أوّلها عن آخرها ، ولحقت بالسوفسطائية لحاقا صحيحا بلا تكلف ، ويقال لهم : إذا جاز أن يشبّه على العيون حتى يريها المشبه عليها ما لا حقيقة له وما لا تراه ، فما يدريكم لعلكم كلكم الآن مشبّه عليكم ، ولعل بعض السحرة قد شبه عليكم فأراكم أنكم تتوضئون وتصلون ، وأنتم لا تفعلون شيئا من ذلك ، ولعلكم تظنون أنكم تزوجتم وإنما في بيوتكم ضأن ومعز وبقر ، ولعلكم الآن على ظهر البحر ، ولعل ما تعتقدون من الدين تشبيه عليكم؟ وهذا كلّه لا

١٧٤

مخلص لهم منه ، وقد عاب الله عزوجل من ذهب إلى هذا فقال : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [سورة الحجر : ١٥] فلو جاز أن يكون للسحر حقيقة تشبه ما يأتي به الأنبياء عليهم‌السلام وأمكن أن يشبه على البصر ، ما ذمّهم الله تعالى إن قالوا شيئا يمكن كونه ، لكنهم لما قالوا ما لا يمكن البتة وتعلقوا بذلك في دفع الحقائق ، عابهم الله تعالى بذلك وأنكر عليهم.

قال أبو محمد : وليس غلط الحواس في بعض الأوقات من باب التشبيه عليها في شيء ، لأن أحدنا قد يرى شخصا على بعد لا يشك فيه إلا أنه تنازع فقطع أنه إنسان أو أنه فلان فقطع بظنه ، ولو أنه لم يعمل ظنه ولا قطع به لكان باقيا على ما أدرك من الحقيقة ، وهكذا في كل ما حكم فيه المرء بظنه ، وأما ذو الآفة كمن فيه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها فهو أيضا كما ذكرنا دائما ، وإنما الماء المطل على حدقته يوهمه أنه رأى شيئا وقطع بذلك ، فإذا ثبت في كل ذلك لاح له الحق من الظن ، وكذلك من فسد مكان التخيل من دماغه ، فإن نفسه تظن ما تتوهمه فتقطع به ، ولو قوي تمييزها لفرقت بين الحق والباطل ، وهكذا القول في إدراك السمع والذوق وهذا كله يجري على رتب مختلفة ممن أعمل ظنه ، وعلى رتب غير مختلفة في حمل هذه الآفات ، بل هي ثابتة عند أهل التحقيق والمعرفة معروفة العلاج ، حتى يعود منها إلى صلاحه ما لم يستحكم فساده ، فلا يظن ظان أنه يمكن أن نكون في مثل حال هؤلاء إذ لو كان هذا لم نعرف شيئا من العلوم على رتبه وأحكامه الجارية على سنن واحد. وبالله تعالى التوفيق.

ثم نسألهم : بأي شيء تعرفون أنه لم يشبه على عيونكم؟ فقد عرفناكم نحن بما ذا نعرف أن حواسنا سليمة ما دامت سليمة ، وأن عقولنا سالمة ما دامت سالمة ، وبما ذا نعرف الحواس المدخولة والعقول المدخولة ، وغير المدخولة؟ وهو جري ما أدرك بالحواس السليمة والعقول السليمة على رتب محدودة معلومة لا تتبدل عن حدودها أبدا ، وجري ما أدرك بالحواس الفاسدة والعقول المدخولة على غير رتب محدودة ، فإنهم لا يقدرون على فرق أصلا ، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وكذلك ما ذكر عمن ليس نبيا من قلب عين أو إحالة طبيعة فهو كذب إلا ما وجد من ذلك في عصر نبي فإنه آية لذلك النبي وذلك الذي ظهرت عليه آية ، بمنزلة الجذع الذي ظهر فيه الحنين ، والذراع الذي ظهر فيه النطق ، والعصا

١٧٥

التي ظهرت فيها الحياة. وسواء كان الذي ظهرت فيه الآية صالحا أو فاسقا ، وذلك كنحو النور الذي ظهر في سوط عمرو بن حممة الدوسي ، وبرهان ذلك أنه لم يظهر بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو محمد : فإن قيل : إذا أجزتم أن تظهر المعجزة في غير نبي لكن في عصر نبي لتكون آية لذلك النبي ، فهلا أجزتموه كذلك بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتكون آية له أيضا ، ولا فرق بين الأمرين؟ قلنا : إنما أجزنا ذلك في الجماد وسائر الحيوان ، وفيمن شاء الله إظهار ذلك فيه من الناس لا يخصّ بذلك فاضل لفضله ، ولا يمنع ذلك في فاسق لفسقه ، أو كافر ، وإنما ننكر على من خص بذلك الفاضل فجعلها كرامة له ، فلو جاز ذلك بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأشكل الأمر ، ولم نكن في أمن من دعوى من ادّعى أنها آية لذلك الفاضل أو لذلك الفاسق ، أو لإنسان من الناس يدعيها آية له ، ولو كان ذلك لكان إشكالا في الدّين وتلبيسا من الله تعالى على جميع عباده ، أوّلهم عن آخرهم ، وهذا خلاف وعد الله تعالى لنا وإخباره بأنه قد بين علينا الرشد من الغيّ ، وليس كذلك ما كان في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لا يكون إلا من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبإخباره وإنذاره ، فبدت بذلك أنها له لا للذي ظهرت منه ، وهذا في غاية البيان والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : وأما الذي روي في الثلاثة أصحاب الغار وانفراج الصّخرة ثلثا ثلثا عند ما ذكروا من أعمالهم فلا تعلق لهم به ، لأن تكسير الصخرة ممكن في كل وقت ولكل أحد بلا إعجاز ، وما كان هكذا فجائز وجوده بالدعاء ، وبغير الدّعاء ، لكن وقع وفاقا لتمنّيه كمن دعا في موت عدوه أو تفريج غمّه أو بلوغ أمنيته في دنياه ، ولقد حدثني حكم بن منذر بن سعيد ، أن أباه رحمه‌الله كان في جماعة في سفر في صحراء فعطشوا وأيقنوا بالهلكة ، ونزلوا في ظل جبل ينتظرون الموت. قال : فأسندت رأسي إلى حجر ناتئ فتأذيت به فقلعته فاندفع الماء العذب من تحته ، فشربنا وتزودنا ، ومثل هذا كثير مما يفرج ، وحتى لو كانت معجزة لوجب بلا شك أن يكونوا أنبياء أو لنبي ممن في زمن نبي ، ولا بد مما قدمناه.

قال أبو محمد : ولا عجب أعجب من قول من يجيز قلب الأعيان للساحر ، وهو عندهم فاسق أو كافر ، ويجيز مثل ذلك للصالح وللنبي ، فقد جاز عندهم قلب الأعيان للنبي ، وللصالح ، وللفاسق ، وللكافر ، فوجب أن قلب الأعيان جائز من كل أحد وتبا لقول أدى إلى مثل هذا. وهم يجيزون للمغيرة بن سعيد وبيان ومنصور الكشف قلب الأعيان ، على سبيل السحر ، وقد جاء بعدهم من يدعي لهم النبوة بها ، فاستوى عند هؤلاء المخذولين النبي والساحر ، نعوذ بالله من الضلال المبين.

١٧٦

قال أبو محمد : فإن اعترضوا بقول الله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [سورة غافر : ٦٠] وبقوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [سورة البقرة : ١٨٦]. فهذا حق وإنما هو بلا شك في الممكنات التي علم الله تعالى أنها تكون لا فيما علم الله تعالى أنه لا يكون ولا في المحال. ونسألهم عمن دعا إلى الله تعالى في أن يجعله نبيا أو في أن ينسخ دين الإسلام ، أو بأن يعجل القيامة قبل وقتها ، أو أن يمسخ الناس كلهم قردة أو بأن يجعل له عينا ثالثة ، أو بأن يدخل الكفار الجنة والمؤمنين النار ، أو ما أشبه هذا ، فإن أجازوا كل هذا كفروا ، ولحقوا مع كفرهم بالمجانين ، وإن منعوا من كل هذا تركوا استدلالهم بالآيات المذكورة ، وصحّ أن الإجابة إنما تكون في خاصّ من الدعاء لا في العموم وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وصح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأسامة وخالد : «هلّا شققت على قلبه لتعلم أقالها متعوذا أم لا؟» (١).

قال أبو محمد : فلو جاز ظهور المعجزة على غير نبي على سبيل الكرامة ، لوجب القطع على ما في قلبه وأنه وليّ الله تعالى ، وهذا لا يعلم من أحد بعد الصحابة رضي الله عنهم الذين ورد فيهم النص.

وأما قول الباقلاني إن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على يد كذاب ، فهو داخل في جملة تعجيزه الباري تعالى ، وهو أيضا تعجيز سخيف داخل في جملة المحال ، ذلك أنه جعل الله تعالى قادرا على إظهار الآيات على كل ساحر ، فإن علم أنه يقول إنه نبي لم يقدر على أن يظهرها عليه ، وهذا قول في غاية الفساد ، لأن من قدر على شيء لم يجز أن يبطل قوته عليه علمه بأن ذلك الذي يظهر فيه الفعل يقول أنا نبي ، ولا يتوهم هذا ولا يتشكل في العقل ولا يمكن البتة ، وإنما هم قوم أهملوا

__________________

(١) رواه مسلم في الإيمان حديث ١٥٨ ، وأبو داود في الجهاد باب ٩٥ ، وابن ماجة في الفتن باب ١ ، وأحمد في المسند (٤ / ٤٣٩ ، ٥ / ٢٠٧) ، ولفظ الحديث عند مسلم : عن أسامة بن زيد قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سريّة ، فصبّحنا الحرقات من جهينة ، فأدركت رجلا فقال : لا إله إلا الله فطعنته ، فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقال لا إله إلّا الله وقتلته؟» قال : قلت : يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح. قال : «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟». فما زال يكرّرها عليّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ. قال : فقال سعد : وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين ـ يعني أسامة. قال : قال رجل : ألم يقل الله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله؟ فقال سعد : قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة ، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة.

١٧٧

حكم الله تعالى عليهم ، وأطلقوا حكمهم عليه تعالى ، وما في الكفر أقبح من هذا ولا أطم ولا أبرد.

قال أبو محمد : ورأيت للباقلاني في فصل من كلامه أن الناس ليسوا عاجزين عن مثل القرآن ولا قادرين عليه ، ولا هم عاجزون عن الصعود إلى السماء ، ولا عن إحياء الموتى ، ولا عن خلق الأجسام ولا اختراعها ولا قادرين على ذلك. هذا نص كلامه دون تأويل منا عليه ثم قال إن القدرة لا تقع إلا حين يقع العجز.

قال أبو محمد : وكل هذا هوس لا يأتي به إلا الممرور ، وأطم من ذلك احتجاجه بأن العجز لا يقع إلا حيث تقع القدرة ، ولا تدري في أيّ لغة وجدوا هذا الكذب أم في أي عقل وجدوا هذا السخف ، وما شك ذو علم باللغة من العامة والخاصة في بطلان قوله ، وفي أن العجز ضد القدرة ، وأن ما قدر الإنسان عليه فلم يعجز عنه في حين قدرته عليه ، وأن ما عجز عنه فلم يقدر عليه في حين عجزه عنه ، وأنّ نفي القدرة إثبات للعجز وأنّ نفي العجز إثبات للقدرة ، ما يجهل هذا عاميّ أصلا ، وهو أيضا معروف بأول العقل. والعجب أن يأتي بمثل هذه الدعاوى السخيفة دون دليل أصلا ، لكن حماقات وضلالات يطلقها هذا الجاهل وأمثاله من الفسّاق في دين الله تعالى فيتلقفها عنهم من أضله الله تعالى ، ونعوذ بالله من الخذلان. وقد قال الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) [سورة التوبة : ٢].

فاقتضى هذا أنّهم مقدور عليهم لله تعالى. وقال تعالى : (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) [سورة الأحقاف : ٣٢].

فوجب أنه مقدور عليه. وقال تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة البقرة : ٢٨٤] فصح أنه غير عاجز وبالله تعالى التوفيق.

١٧٨

الكلام في الجن ووسوسة الشيطان وفعله في المصروع

قال أبو محمد : لم ندرك بالحواس ولا علمنا وجوب كونهم ولا وجوب امتناع كونهم في العالم أيضا بضرورة العقل لكن علمنا بضرورة العقل إمكان كونهم ، لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها وهو عزوجل يخلق ما يشاء ، ولا فرق بين أن يخلق خلقا عنصرهم التراب والماء ، فيسكنهم الأرض والهواء والماء ، وبين أن يخلق خلقا عنصرهم النار والهواء ، فيسكنهم الهواء والنار والأرض ، بل كل ذلك سواء ممكن في قدرته ، لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عزوجل بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحيلة للطبائع بنص الله عزوجل على وجود الجن في العالم ، وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم ، وقد جاء النص بذلك وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة ، موعودة متوعدة متناسلة يموتون ، وأجمع المسلمون كلهم على ذلك ، نعم والنصارى ، والمجوس والصّابئون وأكثر اليهود حاشى السامرة فقط ، فمن أنكر الجن أو تأول فيهم تأويلا يخرجهم به عن هذا الظاهر فهو كافر مشرك حلال الدم والمال ، قال الله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [سورة الكهف : ٥٠].

قال أبو محمد : وهم يروننا ولا نراهم. قال الله تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [سورة الأعراف : ٢٧].

فصح أن الجن قبيل إبليس ، قال تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [سورة الكهف : ٥٠].

قال أبو محمد : وإذ أخبرنا الله عزوجل أننا لا نراهم فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب ، إلا أن يكون من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فذلك معجزة لهم كما نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تفلّت عليه شيطان ليقطع عليه صلاته ، قال «فأخذته فذكرت دعوة أخي سليمان ولو لا ذلك لأصبح موثقا يراه أهل المدينة» (١) أو كما

__________________

(١) رواه من حديث أبي هريرة البخاري في الصلاة باب ٧٥ ، وأحاديث الأنبياء باب ٤٠ ، وتفسير سورة ٣٨ باب ٢. وأحمد في المسند (٢ / ٢٩٨).

١٧٩

قال عليه‌السلام ، وكذلك في رواية عن أبي هريرة للذي رأى أنها هي معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية حتى بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه.

قال أبو محمد : وهم أجسام رقاق صافية هوائية لا ألوان لهم وعنصرهم النار ، كما أن عنصرنا التراب ، بذلك جاء القرآن قال عزوجل : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) [سورة الحجر : ٢٧]. والنار والهواء عنصران لا لون لهما ، وإنّما حدث اللون في النار المشتعلة عندنا لامتزاجها برطوبات ما تشتعل فيه من الحطب والكتان والأدهان وغير ذلك ، ولو كانت لهم ألوان لرأيناهم بحاسة البصر ، ولو لم يكونوا أجساما صافية رقاقا هوائية لأدركناهم بحاسة اللّمس. وصح النص بأنهم يوسوسون في صدور الناس ، وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (١) ، فوجب التّصديق بكل ذلك حقيقة ، وعلمنا أنّ الله عزوجل جعل لهم قوة يتوصلون بها إلى قذف ما يوسوسون به في النفوس ، برهان ذلك قول الله تعالى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [سورة الناس : ٤ ـ ٦].

وأخبر عزوجل أن الجن والناس يوسوسون في صدور الناس ونحن نشاهد الإنسان يرى من له عنده ثأر فيضطرب وتتبدل أعراضه وصورته وأخلاقه وتثور ناريته ، ويرى من يحب فيحدث له حال أخرى ويبتهج وينشط ، ويرى من يخاف فتحدث له حال أخرى ، من صفرة ورعشة وضعف نفس ، ويشير إلى إنسان آخر بإشارات يحيل بها طبائعه فيغضبه مرة ، ويخجله أخرى ، ويفزعه ثالثة ، ويرضيه رابعة ، وكذلك يحيله أيضا بالكلام إلى جميع هذه الأحوال ، فعلمنا أن الله عزوجل جعل للجن قوى يتوصلون بها إلى تغيير النفوس ، والقذف فيها بما يستدعونها إليه ، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ووسوسته ، ومن شرار الناس ، وعلى هذا جريه من ابن آدم مجرى الدم ، كما قال الشاعر :

وقد كنت أجري في حشاهن مرة

كجري معين الماء في قصب الآس

قال أبو محمد : وأما الصرع فإن الله عزوجل قال : (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [سورة البقرة : ٢٧٥] فذكر عزوجل أن تأثير الشيطان في المصروع إنما

__________________

(١) رواه البخاري في الأحكام باب ٢١ ، وبدء الخلق باب ١١ ، والاعتكاف باب ١١ و ١٢. وأبو داود في الصوم باب ٧٨ ، والسنة باب ١٧ ، والأدب باب ٨١. وابن ماجة في الصيام باب ٦٥. والدارمي في الرقاق باب ١٦. وأحمد في المسند (٣ / ١٥٦ ، ٢٨٥ ، ٣٠٩ ، ٦ / ٣٣٧).

١٨٠