الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

يزعم أنه لا سكون في شيء من العالم أصلا وأن كل سكون يعلم بتوسط البصر فهو حركة بلا شك. وكان معمر يزعم أنه لا حركة في شيء من العالم ، وأن كل ما يسميه الناس حركة فهو سكون. وكان عباد بن سلمان يقول : إن الأمة إذا اجتمعت وصلحت ولم تتظالم احتاجت حينئذ إلى إمام يسوسها ويدبرها ، فإن عصت وظلمت استغنت عن الإمام. وكان أبو الهذيل يقول إن الإنسان لا يفعل شيئا في حالة استطاعته وإننا إنما نفعل الاستطاعة بعد ذهابها فألزمه خصومه أن الإنسان إنما يفعل إذا لم يكن مستطيعا ، وأما إذا كان مستطيعا فلا ، ألزموه أن الميت يفعل كلّ فعل في عالم.

قال أبو محمد : وحماقاتهم أكثر من ذلك ونعوذ بالله من الخذلان.

١٤١

شنع المرجئة

قال أبو محمد : غلاة المرجئة طائفتان إحداهما : الطائفة القائلة بأن الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله تعالى ، وليّ الله عزوجل ، من أهل الجنة ، وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه وهم «بخراسان» «وبيت المقدس» والثانية : الطائفة القائلة إن الإيمان عقد بالقلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية ، وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام ، وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ، ومات على ذلك فهو مؤمن ، كامل الإيمان عند الله عزوجل ، وليّ لله تعالى ، من أهل الجنة ، وهذا قول «أبي محرز جهم بن صفوان السمرقندي» مولى بني راسب كاتب الحارث بن سريج التميمي ، أيام قيامه على نصر بن سيار بخراسان ، وقول أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي البشر الأشعري البصري وأصحابهما. فأما الجهمية فبخراسان ، وأما الأشعرية فكانوا ببغداد والبصرة ، ثم قامت لهم شوق بصقلية والقيروان وبالأندلس ، ثم رق أمرهم ، والحمد لله رب العالمين.

فمن فضائح الجهمية وشنعهم قولهم : بأن علم الله محدث مخلوق ، وأنه تعالى لم يكن يعلم شيئا حتى أحدث لنفسه علما علم به ، وكذلك قولهم في القدرة ، وقالوا أيضا : إن الجنّة والنار تفنيان ، ويفنى كل من فيهما ، وهذا خلاف القرآن والثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخلاف إجماع أهل الإسلام المتيقن.

وقال بعض الكرّامية : المنافقون مؤمنون من أهل الجنة ، وقد أطلق ذلك بالمرية محمد بن عيسى الصوفي الإلبيري ، وكانت ألفاظه تدل على أنّه يذهب مذهبهم في التجسيم وغيره ، وكان ناسكا متقللا من الدنيا واعظا مفوّها مهذارا قليل الصواب كثير الخطأ ، رأيته مرة وسمعته يقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يلزمه زكاة مال ، لأنه اختار أن يكون نبيا عبدا ، والعبد لا زكاة عليه ، ولذلك لم يورث ولا ورث ، فأمسكت عن معارضته لعامة كانت بحضرته ، فخشيت لغطهم وتشنيعهم بالباطل ، ولو يكن معي أحد إلا يحيى بن عبد الكبير بن واقد ، كنت أبيت أنا وهو معي متنكرين لنسمع كلامه ، وبلغني عنه شنع منها : القول بحلول الله فيما شاء من خلقه ، أخبرني عنه بهذا أبو

١٤٢

أحمد الفقيه المعافري عن أبي علي المقري وكان على بنت محمد بن عيسى المذكور ، وغير هذا أيضا ، ونعوذ بالله من الضلال.

وقالت طائفة من الكرامية : المنافقون مؤمنون مشركون من أهل النار ، وقالت طائفة منهم أيضا : من آمن بالله تعالى وكفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مؤمن كافر معا ، ليس مؤمنا على الإطلاق ولا كافرا على الإطلاق. وقال «مقاتل بن سليمان» وكان من كبار المرجئة : لا يضر مع الإيمان سيئة جلّت أو قلت أصلا ، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا. وكان مقاتل هذا مع جهم بخراسان في وقت واحد ، وكان يخالفه في التجسيم ، كان جهم يقول ليس الله تعالى شيئا ، ولا هو أيضا لا شيء ، لأنه تعالى خالق كل شيء فلا شيء إلا مخلوق. وكان مقاتل يقول : إن الله جسم لحم ودم على صورة الإنسان.

وقالت الكرّامية : إن الأنبياء يجوز منهم الكبائر والمعاصي كلها حاشا الكذب في البلاغ فقط فإنهم معصومون منه. وذكر لي «سليمان بن خلف الباجي» وهو من رءوس الأشعرية ، أن منهم من يقول أيضا : إن الكذب في البلاغ أيضا جائز من الأنبياء والرسل عليهم‌السلام. قال أبو محمد : وكل هذا كفر محض. وذكر عنهم «محمد بن الحسن بن فورك الأشعري» أنهم يقولون : إن الله تعالى يفعل كل ما يفعل في ذاته ، وأنه لا يقدر على إفناء خلقه كلّهم حتى يبقى وحده ، كما كان قبل أن يخلق ، وقالوا أيضا : إن كلام الله تعالى أصوات وحروف هجاء مجتمعة كلها أبدا لم تزل ولا تزال ، وقالوا أيضا : لا يقدر الله تعالى على غير ما فعل ، وقالوا أيضا إنه متحرك أبيض اللون. وذكر عنهم أنهم يقولون : إنه تعالى لا يقدر على إعادة الأجسام بعد بلائها لكن يقدر على أن يخلق مثلها. ومن حماقاتهم أنهم يجيزون كون إمامين وأكثر في وقت واحد. وأما الأشعرية فقالوا : إن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم ، وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولا حكاية ، والإقرار بأنه يدين بذلك ليس شيء من ذلك كفرا ، ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا : لكنه دليل على أن في قلبه كفرا. فقلنا لهم : وتقطعون بصحة ما دلّ عليه هذا الدليل؟ فقالوا : لا. وقالت الأشعرية : إن إبليس قد كفر ثم أعلن ذلك بعصيان الله تعالى في السجود لآدم عليه‌السلام ، فإن إبليس من حينئذ لم يعرف قط أن الله تعالى حق ، ولا أنه خلقه من نار ، ولا أنه خلق آدم من تراب وطين ، ولا عرف أن الله أمره بالسجود لآدم بعدها قط ولا عرف بعد هذا قط أن الله كرم آدم. ومن قولهم بأجمعهم : إن إبليس لم يسأل الله قط أن ينظره إلى يوم البعث ، فقلنا لهم : ويلكم إن هذا تكذيب لله عزوجل ، ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وردّ للقرآن قالوا لنا : إن إبليس إنما قال كل ذلك هازلا مستهزئا بلا

١٤٣

معرفة ولا اعتقاد ، فكان هذا أشنع كفر وأبرده بعد كفر الغالية من الرافضة ، وقالوا : إن إبليس لم يكفر بمعصيته الله تعالى في ترك السجود لآدم ولا بقوله عن آدم أنا خير منه وإنما كفر بجحد لله تعالى كان في قلبه.

قال أبو محمد : هذا خلاف للقرآن ، وتكهن لا يعرف صحته إلا من حدثه به إبليس عن نفسه ، على أن الشيخ غير ثقة فيما يحدث به.

وقالت الأشعرية أيضا : إن فرعون لم يعرف قط أن موسى إنما جاء بتلك الآيات من عند الله حقا ، وأن اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعرفوا قط أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا ، ولا عرفوا أنه مكتوب في التوراة والإنجيل ، وأن من عرف ذلك منهم وكتمه وتمادى على إعلان الكفر ، ومحاربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخيبر ومن بنى قريظة وغيرهم ، فإنهم كانوا مؤمنين عند الله عزوجل ، أولياء لله من أهل الجنة.

فقلنا لهم : ويلكم هذا تكذيب لله عزوجل إذ يقول : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [سورة الأعراف : ١٥٧](يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [سورة البقرة : ١٤٦] ، (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) [سورة الأنعام : ٣٣]. فقالوا لنا : معنى هذا أنهم وجدوا خطّا مكتوبا عندهم لم يفهموا معناه ، ولا دروا ما هو ، ونعم عرفوا صورته فقط ، ودروا أنه «محمد بن عبد الله بن عبد المطلب» كما يعرف الإنسان جاره فقط. فكان هذا كفرا باردا وتحريفا لكلام الله تعالى عن موضعه ، ومكابرة سمجة ، وحماقة ودفعا للضرورة. وقد تقصّينا الردّ على أهل هذه المقالة الملعونة في كتاب لنا رسمه كتاب «اليقين في النقض على الملحدين المحتجين عن إبليس اللعين وسائر الكافرين» تقصّينا فيه كلام رجل من كبارهم من أهل القيروان ، اسمه عطاف بن دوناس في كتاب ألفه في نصر هذه المقالة ، وكان لشيخهم الأشعري في إعجاز القرآن قولان أحدهما : كما يقول المسلمون إنه معجز النظم ، والآخر : إنما هو المعجز الذي لم يفارق الله عزوجل قط والذي لم يزل غير مخلوق ، ولا أنزل إلينا ولا سمعناه قط ، ولا سمعه جبريل ولا محمد عليهما‌السلام قط ، وأما الذي يقرأ في المصاحف ، ونسمعه من القرآن ، فليس معجزا بل مقدور على مثله ، وهذا كفر صريح وخلاف لله تعالى ولجميع أهل الإسلام. وقال كبيرهم وهو محمد بن الطيب الباقلاني : إن لله تعالى خمس عشرة صفة ، كلها قديمة لم تزل مع الله تعالى ، وكلها غير الله وخلاف الله تعالى ، وكل واحدة منهن غير الأخرى منها ، وخلاف لسائرها ، وأنّ الله تعالى غيرهن وخلافهن.

قال أبو محمد : هذا والله أعظم من قول النصارى ، وأدخل في الكفر والشرك ،

١٤٤

لأن النصارى لم يجعلوا مع الله تعالى إلا اثنين هو ثالثهما ، وهؤلاء جعلوا معه تعالى خمسة عشر هو السادس عشر لهم. وقد صرح الأشعري في كتابه المعروف بالمجالس بأن مع الله تعالى أشياء سواه ، لم تزل كما لم يزل.

قال أبو محمد : وهذا إبطال التوحيد علانية ، وإنما حملهم على هذا الضلال العظيم ظنهم أن إثبات علم الله وقدرته وعزته وكلامه لا يثبت إلا بهذه الطريقة الملعونة ، ومعاذ الله من هذا ، بل كل ذلك حق لم يزل غير مخلوق ، وليس شيء من ذلك غير الله تعالى ، ولا يقال في شيء من ذلك هو الله تعالى ، لأن هذه تسمية له عزوجل ، وتسميته لا تجوز إلا بنصّ ، وقد تقصينا الكلام في هذا في صدر ديواننا هذا والحمد لله رب العالمين.

وإنما جعلنا هاهنا شنع أهل البدع تنفيرا عنهم وإيحاشا للأغمار من المسلمين من الأنس بهم ، ومن حسن الظن بكلامهم الفاسد. ولقد قلت لبعضهم : إذا قلتم إن مع الله تعالى خمس عشرة صفة كلها غيره ، وكلها لم تزل ، فما الذي أنكرتم على النصارى إذ قالوا إن الله ثالث ثلاثة؟ فقالوا لي : إنما أنكرنا عليهم إذ جعلوا معه شيئين فقط ولم يجعلوا معه أكثر. ولقد قال لي بعضهم : اسم الله تعالى وهو قولنا «الله» عبارة تقع على ذات الباري بجميع صفاته ، لا على ذاته دون صفاته. فقلت له : أتعبد الله تعالى أم لا؟ فقال لي : نعم. فقلت له : فإنما تعبد إذن بإقرارك الخالق وغيره معه فيكفيك. فنفر نفرة ، وقال : معاذ الله من هذا ما أعبد إلا الخالق وحده. فقلت له : إنما تعبد إذن بإقرارك بعض ما يسمى به الله فنفر أخرى ، وقال : معاذ الله من هذا ، وأنا واقف في هذه المسألة. وقال شيخ لهم قديم وهو «عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري» : إن صفات الله تعالى ليست باقية ولا فانية ولا قديمة ولا حديثة ، لكنها لم تزل غير مخلوقة ، هذا مع تصريحه بأن الله تعالى قديم باق.

ومن حماقات الأشعرية قولهم : إن للناس أحوالا ومعاني لا معدومة ولا موجودة ، ولا معلومة ولا مجهولة ، ولا مخلوقة ولا غير مخلوقة ، ولا أزلية ولا محدثة ، ولا حق ولا باطل ، وهي علم العالم بأن له علما ، ووجود الواجد لوجوده كل ما يجد. هذا الذي سمعناه منهم نصا ، ورأيناه في كتبهم ، فهل في الرعونة أكثر من هذا ...؟ وهل يمكن للموسوس والمبرسم أن يأتي بأكثر من هذا ..؟ ولقد حاروني «سليمان بن خلف الباجي» كبيرهم في هذه المسألة في مجلس حافل فقلت له : هذا كما يقول العامة عندنا عشب لا من كرم ولا من دالية. ومن هوسهم قولهم : إن الحق غير الحقيقة ولا ندري في أي لغة وجدوا هذا ، أم في أي شرع وارد لقوه أم في أي طبيعة ظفروا به.

١٤٥

فقالوا : إن الكفر حقيقة وليس بحق ، وقلت : كلّا بل وجوده حق حقيقة ، ومعناه باطل ، لا حق ولا حقيقة. وقالوا كلهم : إن الله حامل لصفاته في ذاته ، وهذا نص قول «أبي جعفر السمناني المكفوف قاضي الموصل» وهو أكبر أصحاب الباقلاني مقدم الأشعرية في وقتنا هذا. وقال هذا السّمناني : إن من سمّى الله تعالى جسما من أجل أنه حامل لصفاته في ذاته فقد أصاب المعنى وأخطأ في التسمية فقط ، وقال هذا السّمناني : إن الله تعالى مشارك العالم في الوجود ، وفي قيامه بنفسه كقيام الجواهر والأجسام ، وفي أنه ذو صفات قائمة به موجودة بذاته ، كما ثبت ذلك فيما هو موصوف بهذه الصفات ، من جملة أجسام العالم وجواهره. وهذا نص كلام السمناني حرفا حرفا.

قال أبو محمد : ما أعلم أحدا من غلاة المشبهة أقدم على أن يطلق ما أطلق هذا المبتدع الجاهل ، الملحد المتهور ، من أن الله تعالى مشارك للعالم ، حاشى لله من هذا.

وقال السّمناني عن شيوخه من الأشعرية : إن معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله خلق آدم على صورته إنما هو على صفة الرحمن ، من الحياة والعلم ، والاقتدار واجتماع صفات الكمال فيه ، وأسجد له ملائكته ، كما أسجدهم لنفسه ، وجعل له الأمر والنهي على ذريته ، كما كان لله تعالى كل ذلك.

قال أبو محمد : هذا نص كلامه حرفا حرفا ، وهذا كفر صريح ، وشرك بواح ، إذ صرح بأنّ آدم على صفة الرحمن من اجتماع صفات الكمال فيهما ، فالله تعالى وآدم عنده مثلان متشابهان في اجتماع صفات الكمال فيهما ، ثم لم يقنع بهذه السوءة حتى صرح بأن سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله عزوجل ، وحاشى لله من هذا لأن سجود الملائكة لله تعالى سجود عبادة وديانة لخالقهم ، وسجودهم لآدم سجود سلام وتحية وتشريف منهم لآدم وإكرام له بذلك ، كسجود يعقوب لابنه يوسف عليهما‌السلام فقط. ثم زاد اللّعين كفرا على كفر بنصه أن الله تعالى جعل له الأمر والنهي على ذريته ، كما كان لله تعالى كل ذلك ، وهذا شرك لا خفاء به ، كشرك النصارى في المسيح ولا فرق. ونسأل الله العافية. وقال هذا السّمناني : إن مذهب شيوخه أنهم لا يقولون إن الأمر بالشيء دالّ على كونه مرادا للآمر قديما كان أو محدثا ، ولا يدل النهي على كونه مكروها ، هذا نص كلامه ، وهذا خلاف للإسلام وللإجماع والمعقول ، وتصريح بأن الله تعالى إذ أمرنا بالصّلاة والزكاة والحج والصيام والجهاد وشهادة الإسلام ، فليس في ذاك دليل على أنه يريد شيئا من ذلك ، وإذ نهى عن الكفر والزنا والبغا والسرقة وقتل النفس ظلما ، فليس ذلك دليلا على أنه يكره شيئا من ذلك. وما في الأقوال أنتن من هذا القول.

١٤٦

وقال هذا السمناني : إنه لا يصح القول بأن علم الله تعالى مخالف للعلوم كلها ولا أن قدرته مخالفة للقدرة كلها ، لأنها كلها داخلة تحت قولنا ووصفنا للقدرة والعلوم. هذا نص كلامه وهذا بيان بأن دينهم أن علم الله تعالى وقدرته من نوع علمنا وقدرتنا ، وإذ الأمر كذلك عنده فعلمنا وقدرتنا عرضان فينا مخلوقان ، فوجب ضرورة أن علم الله تعالى وقدرته عرضان في الله مخلوقان. ونص هذا السّمناني ، ومحمد بن فورك في صدر كلامه في كتاب أظنه «الأصول» : أن الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث ، قالوا ذلك في كلامهم في علم الله تعالى في تحديدهم لمعنى العلم بصفة يقع تحتها علم الله تعالى وعلوم الناس ، وهذا نص منهم على أن الله تعالى محدود واقع معنا تحت الحدود هو وعلمه وقدرته ، وهو شر من قول جهم شيخهم في الحقيقة ، وأبين من قول كل مشبه في الأرض. ونص هذا السّمناني على أن العالم والقادر والمريد من الله تعالى وخلقه ، إنما كان محتاجا إلى هذه الصّفات ، لكونه موصوفا بها لا لجوازها عليه. هذا نص كلامه ، وهذا تصريح منهم بلا تكلف ولا تأويل ، بأن الله تعالى عن كفر هذا الأرعن محتاج إلى الصفات ، وهذا كفر ما ندري أن أحدا بلغه. ونص هذا السّمناني أيضا على أن الله تعالى لما كان حيا عالما ، كان موصوفا بالحياة والعلم والقدرة والإرادة ، حتى لا يختلف الحال في ذلك في الشّاهد والغائب ، هذا نص كلامه وهذا تصريح منه على أن لله تعالى حالا لا يخالفه فيها خلقه ، بل هو وهم فيها سواء. ونص هذا السّمناني على أنه إذا كانت الصفات الواجبة لله تعالى في كونه عالما قادرا لا يغني وجوبها له عن ما هو مصحح لها من الحياة فيه ، كما لا يوجب غناه عما يوجب كونه عالما قادرا عن المقدرة والعلم.

قال أبو محمد : هذا نص جليّ على أن الله تعالى غير غني عن شيء هو غيره ، لأن الصفات عندهم هي غيره تعالى ، والله تعالى عندهم غير غنيّ عنها تعالى الله ، وإذا لم يكن غنيا عنها فهو فقير إليها هكذا قالت اليهود إن الله فقير ، تعالى الله عن هذا بل هو الغني جملة عن ما سواه ، وكل من دونه فقير إليه تعالى. وقال السمناني : إن قال قائل لم أنكرتم أن يكون الله مريدا لنفسه حسب ما قاله النّجار والجاحظ؟ قيل له : أنكرنا ذلك لما قدمنا ذكره ، من أن الواحد من الخلق مريد بإرادة ، ولا يخلو أن يكون حقيقة المريد من له الإرادة أو كونه مريدا وجود الإرادة له ، وأي الأمرين كان وجبت مساواة الغائب الشاهد في هذا الباب.

قال أبو محمد : وهذا نص جليّ على مساواة الله تعالى لخلقه عند هذا الجاهل. وهذا أعظم في الكفر من قول كلّ مجسم لأن جميع المجسمين لم يقدم أحد منهم

١٤٧

قط على القول بأن الله تعالى مساو لخلقه قبل هذه الفرقة الملعونة ، ثم العجب قطعهم بأن الله تعالى عزوجل غائب غير شاهد وحاشى لله عن هذا ، بل هو معنا وأقرب إلينا من حبل الوريد ، كما قال عزوجل إنه حاضر في العقول غير غائب. وقال الباقلاني : ما وجد في الله تعالى من التسميات فإنه لا يجوز إطلاقها عليه ، وإن لم يسمّ بذلك نفسه ما لم يرد شرع يمنع من ذلك.

قال أبو محمد : هذا نصّ منه على أن هاهنا معاني توجد في الله عزوجل مع الإلحاد في أسمائه ، إذ جاز تسميته بما لم يسمع به عزوجل نفسه ، تعالى الله عن هذا علوّا كبيرا. وقالوا كلهم : إن الله تعالى ليس له إلا كلام واحد ، وليس له كلمات كثيرة.

قال أبو محمد : هذا كفر مجرد لخلافه القرآن ، وتكذيب لله تعالى في قوله : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) [سورة الكهف : ١٠٩].

وإذ يقول تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [سورة لقمان : ٢٧]. مع أن قولهم ليس لله إلا كلام واحد ، قول أحمق لا يعقل ولا يقوم به برهان تشريعي ، ولا يتشكل في هاجس ولا يوجبه عقل ، إنما هو هذيان محض. ويقال لهم : لا يخلو القرآن عندهم من أنه كلام الله تعالى أو ليس هو كلام الله تعالى ، فإن قالوا : ليس هو كلام الله تعالى كفروا من قرب وكفى الله تعالى مئونتهم. وإن قالوا هو كلام الله فالقرآن مائة سورة وأربع عشرة سورة ، فيها ستة آلاف آية ونيف ، كل سورة منها عند أهل الإسلام غير الأخرى ، وكل آية غير الأخرى ، فكيف يقول هؤلاء النوكى (١) إنه ليس لله تعالى إلّا كلام واحد ...؟ أما إنّ هذا من الكفر البارد والقحة السمجة. ونعوذ بالله من الضلال. وقالوا كلهم إن القرآن لم ينزل به قط جبريل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام ، إنما نزل عليه بشيء آخر هو العبارة عن كلام الله وأن القرآن ليس عندنا البتة إلا على هذا المجاز ، وأن الذي نرى في المصاحف ونسمع من القرآن ونقرأ في الصلوات ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن البتة ، ولا شيء منه كلام الله تعالى البتة بل شيء آخر ، وأن كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله تعالى.

قال أبو محمد : وهذا من أعظم الكفر لأن الله تعالى قال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ

__________________

(١) النوكى : الحمقى.

١٤٨

فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [سورة البروج : ٢١ ، ٢٢] وقال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [سورة الشعراء : ٩٣] وقال تعالى : (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [سورة التوبة : ٦] وقال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [سورة العنكبوت : ٤٩].

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أحبّ أن أسمعه من غيري» (١) يعني القرآن. وقال عليه‌السلام : «الذي يقرأ القرآن مع السّفرة الكرام البررة» (٢). ونهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (٣) ، إلى إجماع عامة المسلمين وخاصتهم وجاهلهم وعالمهم على القول : حفظ فلان القرآن ، وقرأ فلان القرآن ، وكتب فلان القرآن في المصحف ، وسمعنا القرآن من فلان ، وهذا كلام الله تعالى في المصحف من أول أم القرآن إلى آخر قل أعوذ برب الناس. وقال السّمناني نصا إن الباقلاني وشيوخه قالوا إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أطلق القول بأنّ ما أنزل الله عليه هو القرآن ، وهو كلام الله تعالى إنما هو على معنى أنه عبارة عن كلام الله تعالى ، وأنه يفهم منه أمره ونهيه فقط.

قال أبو محمد : ويقال لهم أخبرونا عن قولكم إن الكتاب في المصحف والقراءة المسموعة في المحراب كل ذلك عبارة عن القرآن ما ذا تعنون بذلك؟ وهل هذا منكم إلا تمويه ضعيف وهل كلّ ما في المصحف إلا عبارة عن معانيه التي أرادها الله تعالى في شرع دينه من الصلاة والصيام والإيمان وغير ذلك ، وأخبار الأمم السالفة وصفة الجنة والنار والبعث وغير ذلك مما لا يختلف من أهل الإسلام أحد في أن المعبر عنه بذلك الكلام ليس هو كلام الله أصلا لأن ذات الجنة وذات النار وحركات المصلي وعمل الحاج وعمل الصائم ، وأجسام عاد وأشخاص ثمود ، ليس شيء من ذلك كلام

__________________

(١) رواه البخاري في تفسير سورة ٤ باب ٩ ، وفضائل القرآن باب ٣٢ و ٣٥. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث ٢٤٧ و ٢٤٨. وأبو داود في العلم باب ١٣. والترمذي في تفسير سورة ٤ باب ١١.

(٢) رواه بلفظ : «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة» البخاري في تفسير سورة ٨٠. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث ٢٤٤. وأبو داود في الوتر باب ١٤. والترمذي في ثواب القرآن باب ١٣. وابن ماجة في الأدب باب ٥٢. والدارمي في فضائل القرآن باب ١١ ، وأحمد في المسند (٦ / ٤٨ ، ٩٤ ، ٩٨ ، ١١٠ ، ١٧٠ ، ١٩٢ ، ٢٣٩ ، ٢٦٦).

(٣) رواه البخاري في الجهاد باب ١٢٩. ومسلم في الإمارة حديث ٩٢ و ٩٣ و ٩٤. وأبو داود في الجهاد باب ٨١. وابن ماجة في الجهاد باب ٤٥. ومالك في الجهاد حديث ٧. وأحمد في المسند (٢ / ٦ ، ٧ ، ١٠ ، ٥٥ ، ٦٣ ، ٧٦ ، ١٢٨).

١٤٩

الله عزوجل ولا قرآنا فمثبت أن ليس هو القرآن ولا هو كلام الله إلا العبارة المسموعة فقط ، والكلام المقروء والخط المكتوب في المصحف بلا شك ، إذ لم يبق غير ذلك أو الكفر وتكذيب الله تعالى ، وتكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن القرآن أنزل عليه ، وأننا نسمع كلام الله؟ فأوهمتم الضعفاء أن الذي هو كلام الله والقرآن عند جميع أهل الإسلام ليس هو القرآن ولا هو كلام الله ، ثم أوهمتموهم باستخفافكم أن حركات المتحركين وذات الجنة وذات النار ، هي كلام الله تعالى ، وهي القرآن ، فهل في الضلال والسخرية بضعفة المسلمين والهزء بآيات الله تعالى أكثر من هذا؟ ولقد أخبرني «عليّ بن حمزة المرادي الصقلي» الصوفي أنه رأى بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله قال فأكبرت ذلك وقلت له : ويحك هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى؟ فقال لي : ويلك والله ما فيه إلا السخام والسواد ، وأما كلام الله فلا. ونحو هذا من القول الذي هذا معناه. وكتب إليّ «أبو المرجى بن ندما المصري» أن بعض ثقات أهل مصر أخبره من طلاب السنن أن رجلا من الأشعرية قال له مشافهة : على من يقول إن الله تعالى قال قل هو الله أحد الله الصمد ، ألف لعنة.

قال أبو محمد : بل على من يقول إن الله عزوجل لم يقلها ألف ألف لعنة تترى ، وعلى من ينكر أننا نسمع كلام الله ونقرأ كلام الله ونحفظ كلام الله ونكتب كلام الله ألف ألف لعنة تترى من الله عزوجل ، فإن قول هذه الفرقة في هذه المسألة نهاية الكفر بالله تعالى ، ومخالفة للقرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومخالفة جميع أهل الإسلام قبل حدوث هذه الطائفة الملعونة.

قال أبو محمد : وقالت الأشعرية كلها إن الله تعالى لم يزل قائلا لكل ما خلق أو يخلق من المستأنف كن ، إلا أن الأشياء لم تكن إلا حين كونها. وهذا تكذيب منهم مكشوف لله عزوجل إذ يقول (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس : ٨٢] فبين الله تعالى أنه لا يقول للشيء كن إلا إذا أراد تكوينه ، وأنه إذا قال له (كُنْ) كان الشيء في الوقت بلا مهلة ، لأن هذا هو مقتضى الفاء في لغة العرب التي بها نزل القرآن ، فجمعوا إلى تكذيب الله عزوجل في خبريه جميعا إيجاب أزلية العالم ، لأن الله تعالى إذا كان لم يزل قائلا لما يكون (كُنْ) فإن التكوين لم يزل وهذه دهرية محضة ، ثم قال السّمناني بعد أسطر : لأنه لو وجب وجود ما وجد في الوقت الذي وجد فيه لأجل قول الله تعالى : (كُنْ) لوجب أن يوجد لأجل قول غيره له (كُنْ) لأن صفة الاقتضاء لا تختلف في ذلك بين القديم والمحدث.

قال أبو محمد : هذا نص كلام هذا الفاسق الملحد حرفا حرفا ، وهذا كفر

١٥٠

محض ، وحماقة لا خفاء بها ، أما الكفر فإبطاله أن وجود الأشياء في الأوقات التي وجدت فيها ، إنما وجدت لأجل قول الله تعالى لها كن ، وإيجابه أن الأشياء لم توجد في أحيان وجودها لقول الله تعالى لها كن. وهذا تكذيب لله تعالى صرف ، وخروج عن إجماع أهل الإسلام ، وكلّ من يصلي إلى القبلة قبلهم. ومن الكفر الصريح أيضا في هذا الكلام الملعون قوله : إن صفة الاقتضاء لا تختلف في ذلك بين القديم والمحدث ، فسوّى بين الله تعالى وخلقه ، وأما الحماقة فقوله : لو وجدت الأشياء من أجل قول الله تعالى لها (كُنْ) لوجب أن يوجد قول غيره لها «كن» فيا للمسلمين هل سمع في الحمق والرعونة وقلة الحياء أكثر من قول من سوّى بين قول الله عزوجل (كُنْ) إذا أراد تكوينه وبن قول غيره من الناس (كن) ..؟؟ وهذا أخبث من قول الدّهرية ونعوذ بالله من الضلال ، فلولا الخذلان ما انطلق بهذا النوك لسان من يقذف بالحجارة في الشوارع ، وما شبهت هذا الكلام إلا كلام النذل «أبي هاشم الجبائي» لو لم يجز لنا أن نسمّي الله عزوجل باسم حتى يأذن الله لنا في ذلك لوجب أن لا يجوز لله أن يسمي نفسه حتى يأذن له غيره في ذلك.

قال أبو محمد : وهذه أقوال لو قالها صبيان يسيل مخاطهم ليئس من فلاحهم ، وتالله لقد لعب الشيطان بهم كما شاء فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقالت الأشعرية كلها : إن الله لا يقدر على ظلم أحد البتة ، ولا يقدر على الكذب ، ولا على أن يقول المسيح ابن الله ، حتى يقول قبل ذلك. وقالت النصارى : وإنه لا يقدر على أن يقول عزير ابن الله حتى يقول قبل ذلك. وقالت النصارى : وإنه لا يقدر على أن يقول عزير ابن الله حتى يقول قبل لك. وقالت اليهود ، وإنه لا يقدر على أن يتخذ لهوا ، وإنه لا يقدر على أن يتخذ ولدا ، وإنه لا يقدر البتة على إظهار معجزة على يدي كذاب يدّعي النبوة ، فإن ادعى الإلهية كان الله تعالى حينئذ قادرا على إظهار المعجزات على يديه ، وإنه تعالى لا يقدر البتة على أن يقسم الجزء الذي لا يتجزأ ولا على أن يدعو أحدا إلى غير التوحيد ، وهذا نص كلامهم وحقيقة معتقدهم ، فجعلوه تعالى عاجزا متناهي القوة محدود القدرة ، يقدر مرة ولا يقدر أخرى ، ويقدر على شيء ولا يقدر على آخر ، وهذه صفة النقص ، وهم مع هذا يقولون : إن الساحر يقدر على قلب الأعيان ، وعلى أن يمسخ إنسانا فيجعله حمارا على الحقيقة ، وعلى المشي في الهواء وعلى الماء ، فكان الساحر عندهم أقوى من الله تعالى.

قال أبو محمد : وخشوا مبادرة أهل الإسلام لهم بالاصطلام (١) فجبنوا أن يصرحوا

__________________

(١) الاصطلام : الاستئصال (المعجم الوسيط : ص ٥٢١).

١٥١

بأن الله تعالى لا يقدر فقالوا لا يوصف بالقدرة على شيء مما ذكرنا.

قال أبو محمد : ولا راحة لهم في هذا لأننا نقول لهم : ولم لا نصفه بالقدرة على ذلك؟ ألأنه يقدر على كلّ ذلك ولأن له قدرة على ذلك؟ أم لأنه لا يقدر على كل ذلك ، ولا له قدرة على شيء من ذلك؟ ولا بد من أحدهما بضرورة العقل. وهنا ضلت حيلهم الضعيفة ، ولا بد لهم من القطع بأنه لا يقدر ، وبأنه لا قدرة له على ذلك. وإذ قد صرحوا بذلك فبالضرورة بأول العقل ومسموع اللغة كلاهما يوجب أن من لا يقدر على شيء فهو عاجز عنه ، وأن من لا قدرة له على شيء فصفة العجز والضعف لا حقة به ، فلا بد لهم ضرورة من إطلاق اسم العجز على الله تعالى ووصفه بأنه عاجز ، وهذا حقيقة مذهبهم يقينا إلا أنهم يخافون البوار إن أظهروه.

وقال هذا الباقلاني : لا فرق بين النبي والسّاحر الكذاب المتنبّئ فيما يأتيان به إلا التحدي فقط ، وهو قول النبي لمن بحضرته : هات من يعمل كعملي ، وهذا إبطال للنبوة مجرد. وقال الباقلاني وابن فورك وأتباعهما من أهل الضلالة والجهالة : ليس لله تعالى أسماء البتة وإنما له تعالى اسم واحد فقط ليس له اسم غيره ، وأن قول الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [سورة الأعراف : ١٨٠]. إنما أراد أن يقول : لله التسميات الحسنى فذروا الذين يلحدون في تسمياته. قالوا : وكذلك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد» (١). وإنما أراد أن يقول تسعة وتسعين تسمية فقال تسعة وتسعين اسما.

قال أبو محمد : ما في البرهان على قلة الحياء وفساد الدين واستسهال الكذب أكثر من هذا. وليت شعري من أخبرهم عن الله تعالى وعن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الإفك ، ثم ليت شعري إذ زعموا أن الله تعالى أراد أن يقول له التسميات الحسنى فقال له الأسماء الحسنى ، لأي شيء فعل ذلك أللكنة أم غفلة أم تعمد لإضلال عباده؟! ولا سبيل والله إلى رابع ، فاعجبوا لعظيم ما حل بهؤلاء القوم من الدعار والتبار والكذب على الله عزوجل جهارا وعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا رقبة ، ونعوذ بالله من الضلال ، مع أن هذا قول ما سبقهم إليه أحد. وقالوا كلهم : إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، ليس هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم لكنه كان رسول الله.

__________________

(١) رواه البخاري في التوحيد باب ١٢ ، والشروط باب ١٨ ، والدعوات باب ٦٩. ومسلم في الذكر والدعاء والاستغفار حديث ٥ و ٦. والترمذي في الدعوات باب ٨٢. وابن ماجة في الدعاء باب ١٠.

١٥٢

قال أبو محمد : فكذبوا القرآن في قول الله عزوجل (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح : ٢٩] وكذبوا الأذان وكذبوا الإقامة التي افترضها لله تعالى خمس مرات كل يوم وليلة على كل جماعة من المسلمين ، وكذبوا دعوة جميع المسلمين التي اتفقوا على دعاء الكفار إليها ، وعلى أنه لا نجاة من النار إلا بها ، وأكذبوا جميع أعصار المسلمين من الصحابة فمن بعدهم في إطباق جميعهم برّهم وفاجرهم على الإعلان بلا إله إلا الله محمد رسول الله ، ووجب على قولهم هذا الملعون أن يكذب المؤذنون والمقيمون ودعاة الإسلام في قولهم : محمد رسول الله ، وأن الواجب أن يقولوا : محمد كان رسول الله. وعلى هذه المسألة قتل الأمير محمود بن سبكتكين مولى أمير المؤمنين وصاحب خراسان رحمه‌الله ابن فورك شيخ الأشعرية ، فأحسن الله جزاء محمود على ذلك ولعن ابن فورك وأشياعه وأتباعه (١).

قال أبو محمد : إنما حملهم على هذا الكفر الفاحش قول لهم آخر في نهاية الضلال والانسلاخ من الإسلام ، وهو قولهم إن الأرواح أعراض تفنى ، ولا تبقى وقتين ، لأن روح كل واحد منا الآن هو غير روحه الذي كان له قبل ذلك بطرفة عين ، وأن كل واحد منا يبدل أزيد من ألف ألف روح في كل ساعة زمانية ، وأن النفس إنما هذا الهواء الخارج بالتنفس حارا بعد دخوله باردا ، وأن الإنسان إذا مات فني روحه وبطل ، وأنه ليس لمحمد ولا لأحد من الأنبياء عند الله تعالى روح ثابتة تنعم ، ولا نفس قائمة تكرّم ، وهذا خروج عن إجماع أهل الإسلام ، فما قال بهذا أحد ممن ينتمي إلى الإسلام قبل أبي الهذيل العلاف ، ثم تلاه هؤلاء ، وهذا خلاف مجرد للقرآن وتكذيب لله عزوجل إذ يقول (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) [سورة الأنعام : ٩٣] وإذ يقول عزوجل في آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) [سورة غافر : ٤٦] الآية. وإذ يقول عزوجل (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) [سورة البقرة : ١٥٤] وقال عزوجل : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

__________________

(١) انظر تفاصيل مقتل ابن فورك ومحنته في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (٤ / ١٣٠ ـ ١٣٣). وانظر ترجمة ابن فورك في إنباه الرواة (٣ / ١١٠) ووفيات الأعيان (٤ / ٢٧٢) والوافي بالوفيات (٢ / ٣٤٤) ومرآة الجنان (٣ / ١٧) وسير أعلام النبلاء (١٧ / ٢١٤) وطبقات الشافعية للإسنوي (٢ / ٢٦٦) والنجوم الزاهرة (٤ / ٢٤٠) وشذرات الذهب (٣ / ١٨١) وغيرها.

١٥٣

[سورة آل عمران : ١٦٩ ، ١٧٠] ولقوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة الزمر : ٤٢].

وخلاف للسنن الثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنقولة نقل التواتر من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنبياء عليهم‌السلام ليلة أسري به في السماء ، وما جرى له مع موسى عليه‌السلام في عدد الصلوات المفروضات وأن أرواح الشهداء نسمة تعلق في ثمار الجنة ، وما يلقى الروح عند خروجه من الفتنة والمساءلة له ، وإخباره عليه‌السلام أنه رأى عن يمين آدم نسم بنيه من أهل الجنة وعن يساره نسم بنيه من أهل النار (١) وسائر السنن المأثورة.

قال أبو محمد : ثم خجلوا من هذه العظيمة وتبرأ منهم إبليس الذي أورطهم فيها ، فشكوا فقالوا في كتبهم : فإن لم يكن هذا فإن الروح تنتقل عند خروجه من الجسم إلى جسم آخر. هكذا نص الباقلاني في أحد كتبه وأظنه الرسالة المعروفة «بالحرة» وهذا مذهب التناسخ بلا كلفة. وقال السّمناني في كتابه : إن الباقلاني وأصحابه قالوا : إن كل ما جاء في الخبر من نقل أرواح الشهداء إلى حواصل طير خضر وأن روح الميت ترد إليه في قبره ، وما جرى مجرى ذلك من وصف الروح بالقرب والبعد والحركة والانتقال والسكون والعذاب ، فكل ذلك محمول على أقل جزء من أجزاء الميت أو الشهيد أو الكافر ، وإعادة الحياة في ذلك الجزء.

قال أبو محمد : وهذا طريق من الهوس جدا ، وتطايب بالدين ، ولقد أخبرني ثقة من أصحابي أنه سمع بعض مقدميهم يقول إن الروح إنما تبقى في عجب الذنب لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلّ ابن آدم يأكله التّراب إلّا عجب الذّنب منه خلق وفيه يركب» (٢).

قال أبو محمد : وهذا التأويل أقرب إلى الهزل منه إلى أقوال أهل الإسلام ، ونعوذ بالله من الخذلان ، فإنما هذه تائر دون مذهبهم الخبيث الذي ذكرنا آنفا.

__________________

(١) حديث الإسراء الطويل رواه البخاري في الصلاة باب ١ ، وأحاديث الأنبياء باب ٥. ومسلم في الإيمان حديث ٢٦٣. وأحمد في المسند (٥ / ١٤٣).

(٢) رواه بأسانيد وطرق مختلفة : البخاري في تفسير سورة ٣٩ باب ٣ ، وسورة ٧٨ باب ١. ومسلم في الفتن حديث ١٤١ و ١٤٢ و ١٤٣. وأبو داود في السنّة باب ٢٢. والنسائي في الجنائز باب ١١٧. وابن ماجة في الزهد باب ٣٢. ومالك في الجنائز حديث ٤٩. وأحمد في المسند (٢ / ٣٢٢ ، ٤٢٨ ، ٤٩٩ ، ٣ / ٢٨).

١٥٤

وقالوا كلهم : إن النظر في دلائل الإسلام فرض وإنه لا يكون مسلما حتى ينظر فيها وإن من شروط الناظر فيها أن يكون ولا بد شاكّا في الله عزوجل وفي صحة النبوة ، ولا يصح النظر في دلائل النبوة ودلائل التوحيد لمن يعتقد صحتها.

قال أبو محمد : والله ما سمع قط بأقبح في الكفر من قول من أوجب الشك في الله تعالى وفي صحة النبوة فرضا على كل متعلم ، ولا نجاة له إلّا به ولا دين لأحد دونه ، وأن اعتقاد صحة التوحيد لله تعالى ، وصحة النبوة باطل لا يحل ، فحصل من كلامهم أن من لم يشك في الله تعالى ولا في صحة النبوة فهو كافر ، ومن شك فيهما فهو محسن مؤدّ ما وجب عليه ، وهذه فضيحة وحماقة اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول ومن كل قائل به. ثم لم يجدوا في أمد الاستدلال حدا فليت شعري على هذا القول الملعون هو معتقده والدّاعي إليه كيف يكون حال من قبل وصيتهم هذه التي هي وصية الشيطان الرجيم فيدين بالشك في الله تعالى وفي النبوة ، وامتد به أمد الاستدلال أياما وأشهرا أو ساعات مات فيها أين مستقره؟ ومصيره إلى النار والله خالدا مخلدا أبدا ، وبيقين ندري أن قائل هذه الأقوال مطالب للإسلام كما بدّ له مرصد لأهله داعية إلى الكفر ، ونعوذ بالله من الضلال.

وقالوا كلهم : إن إطعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المئين والعشرات من صاع الشعير ، مرة بعد مرة ، وسقيه الألف والألوف من ماء يسير ينبع من بين أصابعه ، وحنين الجذع ، ومجيء الشجرة ، وتكلم الذراع ، وشكوى البعير ، ومجيء الذنب ، ليس في شيء من ذلك دلالة على صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نبوته لأنه عليه‌السلام لم يتحدّ الناس بذلك ولا يكون عندهم آية إلا ما تحدّى به الكفار فقط ، وهذا تكذيب منهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله إذ فعل ذلك أشهد أني رسول الله ، وهذا أيضا قول افتروه ، خالفوا فيه جميع أهل الإسلام.

وقالوا كلهم : ليس لشيء من الأشياء نصف ، ولا ثلث ، ولا ربع ، ولا سدس ، ولا ثمن ، ولا عشر ولا بعض ، وأنه لا يجوز أن يقال الفرد عشر العشرة ولا أنه بعض الخمسة ، وحجتهم في ذلك أنه لو جاز أن يقال ذلك لكان عشرا لنفسه وبعض نفسه.

قال أبو محمد : وهذا جهل شديد لأنه إنما هو بعض من جملة يكون سائرها غيره ، وعشر جملة يكون سائرها غيره ، ونسوا أنفسهم فقالوا بالجزء الذي لا يتجزأ ، ونسوا إلزام أنفسهم أن يكون جزء لنفسه ، وكل هذا تكذيب لله عزوجل إذ يقول في القرآن (فَلَهَا النِّصْفُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ فَلَكُمُ الرُّبُعُ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ) [سورة النساء : ١١ ، ١٢](بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [سورة التوبة : ٧١] وهذا

١٥٥

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كبير مع مخالفتهم في ذلك جميع أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم ، ومخالفة كل لغة والمعقول والطبائع.

وقالوا كلهم : من قال إن النار تحرق أو تلفح ، أو أن الأرض تهتز أو تنبت شيئا ، أو أن الخمر تسكر ، أو أن الخبز يشبع ، أو أن الماء يروي ، أو أن الله تعالى ينبت الزرع والشجر بالماء ، فقد ألحد وافترى. وقال الباقلاني في آخر السفر الرابع من كتابه المعروف «بالانتصار في القرآن» : نحن ننكر فعل النار للتسخين والإحراق ، وننكر فعل الثلج للتبريد ، وفعل الطعام ، والشراب للشبع والري ، والخمر للإسكار ، كل هذا عندنا باطل محال ننكره أشد الإنكار ، وكذلك فعل الحجر لجذب شيء أو رده أو حبسه أو إطلاقه من حديد أو غيره هذا نص كلامه.

قال أبو محمد : وهذا تكذيب منهم لله عزوجل إذ يقول : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [سورة المؤمنين : ١٠٤] ولقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [سورة ق : ٩] وقوله تعالى : (أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) [سورة السجدة : ٢٧] الآية. وقوله تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [سورة الحج : ٥].

وقد صككت بهذا وجه بعض مقدميهم في المناظرة فدهش وبلد. وهو أيضا تكذيب لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يقول : «كلّ مسكر حرام» و «كلّ شراب أسكر حرام» (١) مع مخالفتهم لكل لغة ولكل ذي حس من مسلم وكافر ومكابرة العيان ،

__________________

(١) رواه بلفظ : «كل شراب أسكر فهو حرام» البخاري في الوضوء باب ٧١ ، والأشربة باب ٤ و ١٠. ومسلم في الأشربة حديث ٦٧ و ٦٨. وأبو داود في الأشربة باب ٥. والترمذي في الأشربة باب ٢. وابن ماجة في الأشربة باب ٩ و ١٠. ومالك في الأشربة حديث ٩. والدارمي في الأشربة باب ٨. وأحمد في المسند (٦ / ٣٦ ، ٩٧ ، ١٩٠ ، ٢٢٦). ورواه بلفظ : «كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام» البخاري في الأدب باب ٨٠ ، والأحكام باب ٢٢ ، والمغازي باب ٦٠. ومسلم في الأشربة حديث ٤٣ ، و ٧٤ و ٧٥. وأبو داود في الأشربة باب ٥ و ٧. والترمذي في الأشربة باب ١ و ٢. والنسائي في الأشربة باب ٤٠ و ٤٩ و ٥٣. وابن ماجة في الأشربة باب ٩ و ١٣ و ١٤. والدارمي في الأشربة باب ٨. ومالك في الضحايا حديث ٨. وأحمد في المسند (١ / ٢٧٤ ، ٢٨٩ ، ٣٥٠ ، ٢ / ١٦ ، ٢٩ ، ٣١ ، ٩١ ، ٩٨ ، ١٠٥ ، ١٥٨ ، ١٧١ ، ١٨٥ ، ٤٢٩ ، ٥٠١ ، ٣ / ٦٣ ، ٦٦ ، ١١٢ ، ١١٩ ، ٢٣٧ ، ٣٦١ ، ٤٢٢ ، ٤ / ٤١٠ ، ٤١٦ ، ٤١٧ ، ٥ / ٣٥٦ ، ٦ / ٣١٤ ، ٣٣٢). وروي أيضا في الصحاح بألفاظ أخرى من طرق متعددة.

١٥٦

وإبطال المشاهدة ، ثم أطرف شيء احتاجهم في هذه الطامة بأن الله عزوجل هو الذي خلق ذلك كله فقلنا لهم : أو ليس فعل كل حي مختار واختياره خلقا لله تعالى؟ فلا بدّ من قولهم نعم. فيقال لهم : فمن أين نسبتم الفعل إلى الأحياء وهي خلق الله تعالى ، ومنعتم من نسبة الفعل إلى الجمادات لأنه خلق الله تعالى ولا فرق ...؟ ولكنهم قوم لا يعقلون.

قال أبو محمد : وسمعت بعض مقدميهم يقول : إن من كان على معاصي خمسة من زنى وسرقة وترك صلاة وتضييع زكاة وغير ذلك ثم تاب عن بعضها دون بعض فإن توبته تلك لا تقبل ، وقد نص السّمناني على أن هذا قول الباقلاني وهو قول أبي هاشم الجبّائي ، ثم قال السّمناني : هذا فوق خارق للإجماع جملة ، وخلاف لدين الأمّة. هذا نص قول السّمناني في شيخه وشهدوا على أنفسهم (١) وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون (٢).

قال أبو محمد : هذا قول مخالف للقرآن والسنن ، لأن الله تعالى يقول : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة : ٧ ، ٨].

وقال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [سورة الأنبياء : ٤٧] الآية وقال تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [سورة آل عمران : ١٩٥]. وبالضرورة يدري كل ذي مسكة من عقل أن التوبة من الزنا خير كبير ، فهذا الجاهل يقول إنه لا يراه صاحبه ، وأنه عمل ضائع عند الله عزوجل من مسلم مؤمن ، ومعاذ الله من هذا. وسر هذا القول الملعون وحقيقته التي لا بد لقابله منه أنه لا معنى لمن أصرّ على الزنا أو شرب الخمر في أن يصلي ولا في أن يزكي ، فقد صار يأمر بترك الصلوات الخمس ، والزكاة ، وصوم رمضان والحج ، فعلى هذا القول وقائله لعائن الله تترى ما دار الليل والنهار. ونصّ السّمناني عن الباقلاني شيخه أنه كان يقول : إن الله لا يغفر الصغائر باجتناب الكبائر.

قال أبو محمد : وأنا سمعت بعض مقدميهم ينكر أن يكون في الذنوب صغائر ، وناظرته بقول الله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [سورة النساء : ٣١] وقلت : بالضرورة يدري كل ذي فهم أنه لا كبائر إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها ، وهي السيئات المغفورة باجتناب الكبائر بنص كلام الله تعالى فقولك هذا

__________________

(١) قال تعالى في سورة الأنعام الآية ١٣٠ : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).

(٢) نصّ الآية ٣٠ من سورة القلم : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ).

١٥٧

خلاف للقرآن مجرد. فخلط ولجأ إلى الحرد. وهذا منهم تكذيب لله تعالى ورد لحكمه بلا كلفة.

ومن شنعهم الممزوجة بالهوس وصفاقة الوجوه قولهم : إنه لا حرّ في النار ، ولا في الثّلج برد ، ولا في العسل حلاوة ، ولا في الصبر مرارة وإنما خلق الله تعالى كلّ ذلك عند اللمس والذوق. وهذا حمق عظيم ، قادهم إليه إنكارهم الطبائع وقد ناظرناهم على ذلك. هذا مع قول شيخهم الباقلاني إن لقشور العنب رائحة ، وللزجاج والحصى طعما ورائحة ، وزادوا حتى بلغوا إلى أن قالوا إن للفلك طعما ورائحة ، فليت شعري متى ذاقوه أو شموه أو من أخبرهم بهذا ..؟ وهذا لا يعرفه إلا الله ثم الملائكة الذين هنالك ، ولكن من ذاق طعم الزجاج وشم رائحته فغير منكر أن يدعي مشاهدة الفلك ، ولمسه وشمه وذوقه.

ومن شنعهم قولهم إن من كان الآن على دين الإسلام مخلصا بقلبه ولسانه مجتهدا في العبادة إلا أن الله عزوجل يعلم أنه لا يموت إلا كافرا فهو الآن عند الله كافر ، وأنّ من كان الآن كافرا يسجد للنار وللصليب ، أو يهوديا أو زنديقا ، مصرحين بتكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن في علم الله تعالى أنه لا يموت إلا مسلما ، فإنه الآن عند الله مسلم.

قال أبو محمد : ما قال هذا مسلم قط قبل هشام الفوطي ، وهذه مكابرة للعيان وتكذيب لله عزوجل مجرد ، كأنهم ما سمعوا قط قول الله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [سورة المنافقون : ٢] فسماهم مؤمنين ثم أخبر تعالى بأنه كفروا. وقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) [سورة البقرة : ٢١٧]. فجعل الإسلام دينا لمن كان عليه إذ كان عليه ، وإن ارتد معه ومات كافرا. وقوله تعالى مخاطبا للمسلمين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) [سورة النساء : ٩٤] ويلزمهم أن الذي يسلم أبوه ولا يسلم هو لأنه كان بالغا ثم مات أبوه فلم يرثه لكفره ثم أسلم ، أن يفسخوا حكمهم ويورثوه من أبيه ، لأنه عندهم كان إذ مات أبوه مؤمنا عند الله تعالى ، ويلزمهم أن من كان صبيا ثم عاش حتى شاخ أنه لم يكن عند الله قط إلا شيخا ، ولو جمع ما يدخل علمهم لقام منه سفر ضخم. وقالوا كلهم : إنه ليس على ظهر الأرض يهودي ولا نصراني يقر بقلبه أن الله تعالى حق.

قال أبو محمد : هذا تكذيب للقرآن على ما بينا قبل ومكابرة للعيان لأنا لا نحصي كم دخل في الإسلام منهم ، وصلح إيمانه وصار عدلا ، وكلهم لا يختلف في

١٥٨

أنه كان قبل إسلامه مقرا بالله عزوجل عالما به ، كما هو بعد إسلامه لم يزد في توحيده شيء ، فكابروا العيان وكذبوا الكواف بحمق وقلة حياء ، لا نظير له.

وقال الباقلاني في كتابه المعروف «بالانتصار في القرآن» : معنى قول الله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [سورة الزمر : ٧] وقوله تعالى : (لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [سورة البقرة : ٢٠٥] إنّما معناه لا يحب الفساد لأهل الصلاح. ولا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا ، ولم يرد أنه لا يرضاه لأحد من خلقه ولا يحبه لأحد منهم. ثم قال : وإن كان قد أحب ذلك ورضيه لأهل الكفر والفساد.

قال أبو محمد : وهذا تكذيب لله تعالى مجرد ، ثم أيضا أخبر بأن الكفار فعلوا من الكفر أمرا رضيه الله تعالى منهم وأحبه منهم ، فكيف يدخل هذا في عقل مسلم مع قوله تعالى : (اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [سورة محمد : ٢٨] ...؟ واعجبوا لظلمة جهله إذ لم يفرق بين إرادة الكفر والمشيئة والخلق له وبين الرضى والمحبة. وقال أيضا فيه : إن أقل من سورة من القرآن ليس معجزا أصلا ، بل هو مقدور على مثله. وقال أيضا في السفر الخامس من الديوان المذكور : إن قيل كيف تقولون أكان يجوز من الله تعالى أن يؤلف القرآن تأليفا آخر غير هذا يعجز الخلق عن مقابلته؟ قلنا : نعم هو تعالى قادر على ذلك ، وعلى ما لا غاية له من هذا الباب وعلى أقدار كثيرة وأعداد لا يحصيها غيره ، إلا إن كان تأليف الكلام ونظم الألفاظ لا بد أن يبلغ إلى غاية وحد لا يحتمل الكلام أكثر منه ولا أوسع ولا يبقى وراء تلك الأعداد والأوزان شيء تتناوله القدرة. قال : ولنا في هذه المسألة نظر في تأليف الكلام ونظم الأجسام وتصوير الأشخاص ، هل يجب أن يكون لا غاية لها أو ذات نهاية لا يحتمل المؤلف والمنظوم فوقها ولا ما هو أكثر منها أم لا ....؟

قال أبو محمد : هنا صرح بالشك في قدرة الله تعالى ألها نهاية كما يقول أبو الهذيل أخوه في الضلالة والكفر أم لا نهاية لها كما يقول أهل الإسلام ...؟ ونعوذ بالله من الضلال.

قال أبو محمد : ولقد أخبرني بعض من كان يداخلهم ، وكان له فيهم سبب قوي ، وكان من أهل الفهم والذكاء ، وكان يرى في باطن أمره عليهم ، أنهم يقولون إن الله تعالى مذ خلق الأرض فإنه خلق جسما عظيما ، يمسكها عن أن تهوي هابطة ، فلما خلق ذلك الجسم أفناه في الوقت بلا زمان ، وخلق آخر مثله يمسكها أيضا ، فلما خلقه أفناه إثر خلقه بلا زمان أيضا ، وخلق آخر وهكذا أبدا بلا نهاية.

١٥٩

قال لي : وحجتهم في هذا الوسواس والكذب على الله تعالى فيه مما لم يقله أحد قبلهم مما يكذبه الحس والمشاهدة ، أنه لا بد للأرض من جسم ممسك وإلا هوت ، فلو كان ذلك الممسك في وقتين أو مقدار طرفة عين لسقط هو أيضا معها ، فهو إذا خلق ثم أفني إثر خلقه ، ولم يقع لأن الجسم عندهم في ابتداء خلقه لا ساكن ولا متحرك.

قال أبو محمد : وهذا احتجاج للحمق بالحمق ، وما عقل أحد قط جسما لا ساكنا ولا متحركا ، بل الجسم في ابتداء خلق الله تعالى له في مكان محيط به من جهاته ولا شك ، ساكن في مكانه ثم تحرك ، وكأنهم لم يسمعوا لقول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [سورة فاطر : ٤١] فأخبر تعالى أنه ممسكها كما يشاء دون تكلف خلق آخر ، إذ لم يخبرنا الله تعالى به ولا جعل في العقول دليلا عليه. ولو أن قائل هذا الحمق وقف على الحق وطالع شيئا من براهين الهيئة ، لخجل مما أتى به من الهوس. ومن شنعهم قول هذا الباقلاني في كتابه المعروف «بالانتصار في القرآن» إن تقسيم آيات القرآن وترتيب مواضع سورة شيء فعله الناس وليس هو من عند الله تعالى ، ولا من أمور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو محمد : قد كذب هذا الجاهل وأفك ، أتراه ما سمع قول الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [سورة البقرة : ١٠٦] وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آية الكرسي وآية الكلالة (١) ، والخبر أنه عليه‌السلام كان يأمر إذا نزلت الآية أن تجعل في سورة كذا في موضع كذا (٢) ، ولو أن الناس رتبوا سورة لما تعدّوا أحد وجوه ثلاثة : إما أن يرتّبوها على الأول فالأول نزولا ، أو الأطول فما دونه ، أو الأقصر فما فوقه ، فإذ ليس ذلك كذلك فقد صح أنه أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي لا يعارض عن الله تعالى ، لا يجوز غير ذلك أصلا. ومن شنعهم قول الباقلاني في كتابه في مذاهب القرامطة قرب آخر الكتاب في باب ترجمته «ذكر جمل مقالات الدهرية والفلاسفة والثنوية» قال الباقلاني : فأما ما يستحيل بقاؤه من أجناس الحوادث وهي الأعراض ، فإنما يجب عدمها في الثاني من حال حدوثها من غير معدم ولا شيء يفنيها. هذا نص كلامه. وقال متصلا بهذا الفصل : وأما نحن فنقول إنها تفنى الجواهر ،

__________________

(١) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لكل شيء سنام ، وإن سنام القرآن سورة البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي». رواه الترمذي في ثواب القرآن باب ٢ (حديث ٢٨٨١) والدارمي في فضائل القرآن باب ١٣.

(٢) رواه أبو داود في الصلاة باب ١٢٢.

١٦٠