الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

من بين أصحابه رضي الله عنهم كمحنة عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه من الرسل عليهم‌السلام ، وهذه الفرقة باقية إلى اليوم فاشية عظيمة العدد يسمّون العليانية منهم كان إسحاق بن محمد النخعي الأحمر الكوفي ، وكان من متكلميهم ، وله في ذلك كتابه سماه «الصراط» نقضه عليه البهنكي والفياض بما ذكرنا ، ويقولون : إن محمدا رسول علي.

وقالت طائفة من الشيعة يعرفون بالمحمدية : إنّ محمدا عليه‌السلام هو الله. تعالى الله عن كفرهم ، ومن هؤلاء كان البهنكيّ والفياض بن علي وله في هذا المعنى كتاب سمّاه «القسطاس». وأبوه الكاتب المشهور الذي كتب لإسحاق بن كنداج أيام ولايته ، ثم لأمير المؤمنين المعتضد ، وفيه يقول البحتري القصيدة المشهورة التي أولها :

شط من ساكن الغوير مزاره

وطوته البلاد والله جاره (١)

والفياض هذا لعنه الله قتله القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب ، لكونه من جملة من سعى به أيام المعتضد ، والقصة مشهورة.

وفرقة ثالثة بإلاهية آدم عليه‌السلام والنبيين بعده نبيا نبيا إلى محمد عليه‌السلام ثم بإلاهية عليّ ثم بإلاهية الحسن ثم الحسين ، ثم محمد بن علي ، ثم جعفر بن محمد ، ووقفوا هاهنا ، وأعلنت الخطابية بذلك نهارا بالكوفة ، في ولاية عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، فخرجوا صدر النهار في جموع عظيمة في أزر وأردية محرمين ينادون بأعلى أصواتهم : لبيك جعفر لبيك جعفر قال ابن عياش وغيره كأنني أنظر إليهم يومئذ فخرج إليهم عيسى بن موسى فقاتلوه فقتلهم ، واصطلمهم (٢) ، ثم زادت فرقة على ما ذكرنا فقالوا بإلهية محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد ، وهم القرامطة. وفيهم من قال بإلاهية أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي وأبنائه بعده.

ومنهم من قال بإلهية أبي القاسم النجار القائم باليمن ، في بلاد همدان المسمى بالمنصور.

وقالت طائفة منهم : بإلاهية عبيد الله ثم الولادة من ولده إلى يومنا هذا.

وقالت طائفة بإلاهية أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد بالكوفة ، وكثر عددهم بها حتى تجاوزوا الألوف ، وقالوا هو إله ، وجعفر بن محمد إله ، إلا أن أبا

__________________

(١) ديوان البحتري (٢ / ٣٦٣).

(٢) اصطلمهم : استأصلهم وأبادهم (المعجم الوسيط : ص ٥٢١).

١٢١

الخطاب أكبر منه ، وكانوا يقولون : جميع أولاد الحسن أبناء الله وأحباؤه وكانوا يقولون : إنهم لا يموتون ، ولكنهم يرفعون إلى السماء ، وأشبه على الناس بهذا الشيخ الذي ترون.

ثم قالت طائفة منهم بإلاهية معمر بائع الحنطة بالكوفة ، وعبدوه ، وكان من أصحاب أبي الخطاب ، لعنهم الله أجمعين.

وقالت طائفة بإلاهية الحسين بن منصور حلّاج القطن ، المصلوب ببغداد ، بسعي الوزير ابن حامد بن العباس رحمه‌الله أيام المقتدر.

وقالت طائفة بإلاهية محمد بن علي الشلمغانيّ الكاتب المقتول ببغداد أيام الراضي ، وكان أمر أصحابه ، بأن يفسق الأرفع قدرا منهم به ليولج فيه النور.

وكل هذه الفرق ترى الاشتراك في النساء.

وقالت طائفة بإلاهية شباس المقيم في وقتنا هذا حيّا بالبصرة.

وقالت طائفة منهم بإلاهية أبي مسلم السّراج.

ثم قالت طائفة من هؤلاء بإلاهية المقنّع الأعور القصّار القائم بثأر أبي مسلم ، واسم هذا القصار هاشم ، وقتل لعنه الله أيام المنصور.

وقالت الراوندية بإلاهية أبي جعفر المنصور ، وأعلنوا بذلك فخرج إليهم المنصور فقتلهم وأفناهم إلى لعنة الله.

وقالت طائفة منهم بإلاهية عبد الله بن الحرب الكندي ، الكوفي ، وعبدوه ، وكان يقول بتناسخ الأرواح ، وفرض عليهم تسع عشرة صلاة في اليوم ، والليلة ، في كل صلاة خمس عشرة ركعة ، إلى أن ناظره رجل من متكلمي الصّفرية ، وأوضح له براهين الدين فأسلم وصحّ إسلامه ، وتبرأ من كل ما كان عليه ، وأعلم أصحابه بذلك ، وأظهر التوبة فتبرأ منه جميع أصحابه الذين كانوا يعبدونه ، ويقولون بإلاهيته ولعنوه وفارقوه ، ورجعوا كلهم إلى القول بإمامة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وبقي عبد الله بن الحرب من السبئية النصيرية على الإسلام ، وعلى مذهب الصّفرية إلى أن مات ، وطائفته إلى اليوم تعرف بالحربية. ومن السبئية القائلين بإلاهية عليّ طائفة تدعي النّصيرية ، وقد غلبوا في وقتنا هذا على جند الأردن بالشام ، وعلى مدينة الطبرية خاصة ، ومن قولهم : لعن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولعن الحسن والحسين ابني علي رضي الله عنهم ، وسبّهم بأقذع السب ، وقذفهم بكل بلية ، والقطع بأنها وابنيها رضي الله عنهم شياطين تصوروا في صورة الإنسان. وقولهم في عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل

١٢٢

علي رضي الله عن علي ولعنة الله على ابن ملجم ، فيقول هؤلاء إن عبد الرحمن بن ملجم المرادي أفضل أهل الأرض وأكرمهم في الآخرة لأنه خلّص روح اللاهوت مما كان يتشبّث فيه من ظلمة الجسد وكدره ، فاعجبوا لهذا الجنون ، واسألوا الله العافية من بلاء الدنيا والآخرة ، فهي بيده لا بيد أحد سواه ، جعل الله حظنا منها الأوفى ، واعلموا أن كل من كفر هذه الكفرات الفاحشة ممن ينتمي إلى الإسلام فإنما عنصرهم الشيعة والصوفية ، فإن من الصوفية من يقول : إنّ من عرف الله تعالى سقطت عنه الأعمال الشرعية. وزاد بعضهم : واتصل بالله تعالى.

وبلغنا أن بنيسابور اليوم في عصرنا هذا رجلا يكنى أبا سعيد أبي الخير هكذا معا من الصوفية مرة يلبس الصوف ، ومرّة يلبس الحرير المحرّم على الرجال ، ومرة يصلي في اليوم ألف ركعة ، ومرة لا يصلي لا فريضة ولا نافلة وهذا كفر محض ، ونعوذ بالله من الضلال.

١٢٣

ذكر شنع الخوارج

ذكر بعض من جمع مقالات المنتمين إلى الإسلام ، أن فرقة من الإباضية رئيسهم رجل يدعى زيد بن أبي أنيسة وهو غير المحدث المشهور ، كان يقول : إنّ في هذه الأمة شاهدين عليها وهو أحدهما ، والآخر لا يدري من هو؟ ولا متى هو؟ ولا يدري لعله قد كان قبله ، وأنّ من كان من اليهود والنصارى يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى العرب لا إلينا ، كما تقول العيسوية من اليهود ، قال : فإنهم مؤمنون ، أولياء الله تعالى ، وإن ماتوا على هذا العقد وعلى التزام شرائع اليهود والنصارى ، وأن دين الإسلام سينسخ بنبي من العجم يأتي بدين الصابئين ، وبقرآن آخر ينزل عليه جملة واحدة.

قال أبو محمد : إلّا أن جميع الإباضية يكفرون من قال بشيء من هذه المقالات ويبرءون منه ، ويستحلون دمه وماله.

وقالت طائفة من أصحاب الحارث الإباضي : إن من زنى أو سرق أو قذف فإنه يقام عليه الحد ثم يستتاب مما فعل ، فإن تاب ترك ، وإن أبي التوبة قتل على الرّدة.

قال أبو محمد : وشاهدنا الإباضية عندنا بالأندلس يحرمون طعام أهل الكتاب ، ويحرمون أكل قضيب التيس ، والثور والكبش ، ويوجبون القضاء على من نام نهارا في رمضان ، فاحتلم ، ويتيممون وهم على الآبار التي يشربون منها إلا قليلا منهم.

وقال أبو إسماعيل البطيحي وأصحابه ، وهم من الخوارج : إن لا صلاة واجبة إلا ركعة واحدة بالغداة ، وركعة أخرى بالعشي فقط ، ويرون الحج في جميع شهور السنة ، ويحرمون أكل السمك حتى يذبح ، ولا يرون أخذ الجزية من المجوس ويكفرون من خطب في الفطر والأضحى ، ويقولون : إن أهل النار في النار في لذّة ونعيم ، وأهل الجنة كذلك.

قال أبو محمد : وأصل أبي إسماعيل هذا من الأزارقة إلّا أنّه غلا عن سائر الأزارقة ، وزاد عليهم.

وقالت سائر الأزارقة ، وهم أصحاب نافع بن الأزرق ، بإبطال رجم من زنى وهو

١٢٤

محصن وقطعوا يد السارق من المنكب ، وأوجبوا على الحائض الصلاة والصيام في حيضها.

وقال بعضهم : لا ، ولكن تقضي الصلاة إذا طهرت كما تقضي الصيام ، وأباحوا دم الأطفال ممن لم يكن في عسكرهم ، وقتل النساء أيضا ممن ليس في عسكرهم وبرئت الأزارقة ممن قعد عن الخروج لضعف أو غيره ، وكفروا من خالف هذا القول بعد موت أول من قال به منهم ، ولم يكفروا من خالفه فيه في حياته وقالوا باستعراض كل من لقوه من غير أهل عسكرهم ويقتلونه إذا قال أنا مسلم ، ويحرمون قتل من انتمى إلى اليهود أو إلى النصارى أو إلى المجوس ، وبهذا شهد عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمروق من الدين كما يمرق السهم من الرّمية إذ قال عليه‌السلام : «إنهم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان» (١) وهذا من أعلام نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أنذر بذلك ، وهو من جزئيات الغيب فخرج نصّا كما قال.

قال أبو محمد : وقد بادت الأزارقة إنما كانوا أهل عسكر واحد أولهم نافع بن الأزرق ، وآخرهم عبيدة بن هلال اليشكري ، واتصل أمرهم بضعا وعشرين سنة إلّا أني أشك في صبيح مولى سوار بن الأشعر المازني مازن تميم أخرج برأي الأزارقة أيام هشام بن عبد الملك ، أم برأي الصّفرية؟ لأن أمره لم يطل فقد أسر إثر خروجه وقتل.

وقالت النجدات ، وهم أصحاب نجدة بن عامر الحنفي : ليس على الناس أن يتخذوا إماما إنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم.

وقالوا : من ضعف عن الهجرة إلى عسكرهم فهو منافق ، واستحلوا دماء القعدة وأموالهم ، وقالوا : من كذب كذبة صغيرة أو عمل ذنبا صغيرا فأصرّ على ذلك فهو كافر مشرك ، وكذلك أيضا في الكبائر ، وأن من عمل الكبائر غير مصرّ عليها فهو مسلم ، وقالوا : جائز أن يعذّب الله المؤمنين بذنوبهم لكن في غير النار وأما النار فلا.

وقالوا : أصحاب الكبائر منهم ليسوا كفارا ، وأصحاب الكبائر من غيرهم كفار. وقد بادت النجدات.

__________________

(١) جزء من حديث رواه البخاري في التوحيد باب ٢٣ ، وأحاديث الأنبياء باب ٦ ، والمغازي باب ٦١ ، وتفسير سورة ٩ باب ١٠. ومسلم في الزكاة حديث ١٤٣ و ١٤٤ ، و ١٤٥ ، و ١٤٦. وأبو داود في السنّة باب ٢٨. والنسائي في الزكاة باب ٧٩ ، وتحريم الدم باب ٢٦. وأحمد في المسند (٣ / ٤ ، ٧٣).

١٢٥

وقالت طائفة من الصّفرية بوجوب قتل كل من أمكن قتله من مؤمن عندهم أو كافر ، وكانوا يؤوّلون الحق بالباطل ، وقد بادت هذه الطائفة.

وقالت الميمونية وهم فرقة من العجاردة ، والعجاردة فرقة من الصّفرية ، بإجازة نكاح بنات البنات ، وبنات البنين ، وبنات بني الإخوة والأخوات. وذكر ذلك عنهم الحسين بن علي الكرابيسي ، وهو أحد الأئمة في الدين والحديث ، ولم يبق اليوم من فرق الخوارج إلا الإباضية والصفرية (١) فقط.

وقالت طائفة من أصحاب البيهسيّة وهم أصحاب أبي بيهس ، وهم من فرق الصّفريّة : إن كل صاحب كبيرة فيها حد فإنه لا يكفر حتى يرفع إلى الإمام ، فإذا أقام عليه الحد فحينئذ يكفر.

وقالت الرشيدية ـ وهم من فرق الثعالبة ، والثعالبة من فرق الصفرية : إن الواجب في الزكاة نصف العشر مما سقي بالأنهار والعيون.

وقالت العوفية ، وهم طائفة من البيهسية التي ذكرنا آنفا : إن الإمام إذا قضى قضية جور وهو بخراسان ، أو بغيرها حيث كان من البلاد ففي ذلك الحين نفسه يكفر هو وجميع رعيته حيث كانوا من شرق الأرض وغربها ، ولو بالأندلس واليمن فما بين ذلك من البلاد.

وقالوا أيضا : لو وقعت قطرة خمر في جبّ ما بفلاة من الأرض ، فإن كل من حضر على ذلك الجب فشرب منه وهو لا يدري بما وقع فيه فهو كافر بالله تعالى. قالوا : إلّا أن الله تعالى يوفق المؤمن لاجتنابه.

وقالت الفضيلية من الصّفرية : من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله بلسانه ولم يعتقد ذلك بقلبه ، بل اعتقد الكفر أو الدهرية ، أو اليهودية ، أو النصرانية ، فهو مسلم عند الله ، مؤمن ، ولا يضره إذا قال الحق بلسانه ما اعتقد بقلبه.

وقالت طائفة من الصفرية : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ بعث ففي حين بعثه في ذلك الوقت من ذلك اليوم لزم أهل المشرق والمغرب الإيمان به ، وأن يعرفوا جميع ما جاء به من الشرائع ، فمن مات منهم قبل أن يبلغه شيء من ذلك مات كافرا.

وقالت العجاردة ـ أصحاب عبد الكريم بن عجرد من الصّفريّة : إنّ من بلغ الحلم من أولادهم ، وبناتهم ، فهم برآء منه ومن دينه ، حتى يقر بالإسلام فيتولوه حينئذ.

__________________

(١) ذكر قبل أربعة أسطر أن الصفرية بادت. أو لعلّه يقصد أن طائفة منهم بادت ، وبقيت طائفة أخرى.

١٢٦

قال أبو محمد : فعلى هذا إن قتله قاتل قبل أن يلفظ بالإسلام فلا قود عليه ولا دية ، وإن مات لم يرث ولم يورث.

وقالت طائفة من العجاردة : لا نتولى أطفالنا قبل البلوغ ولا نبرأ منهم لكن نقف منهم حتى يلفظوا بالإسلام بعد البلوغ.

قال أبو محمد : والعجاردة هم الغالبون على خوارج خراسان ، كما أنّ النكار من الإباضية هم الغالبون على خوارج الأندلس.

وقالت المكرميّة ، وهم أصحاب أبي مكرم وهم من الثعالبة أصحاب ثعلبة وهم من الصّفرية ، وإلى قول الثعالبة رجع عبد الله بن إباض فبرئ منه أصحابه ، فهم لا يعرفونه اليوم ، ولقد سألنا من هو مقدمهم في علمهم ومذهبهم عنه فما عرفه أحد منهم. وكان من قول المكرمية هؤلاء : أن من أتى كبيرة فقد جهل الله تعالى ، فهو كافر ليس من أجل الكبيرة كفر ، لكن لأنه جهل الله عزوجل ، فهو كافر بجهله بالله تعالى.

وقالت طائفة من الخوارج : ما كان من المعاصي فيه حدّ كالزنى والسرقة والقذف فليس فاعله كافرا ، ولا مؤمنا ، ولا منافقا. وأمّا ما كان من المعاصي لا حدّ فيه فهو كفر وفاعله كافر.

وقالت الحفصية وهم أصحاب حفص بن أبي المقدام من الإباضية : من عرف الله تعالى وكفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كافر وليس بمشرك ، فإن جهل الله تعالى أو جحده فهو حينئذ مشرك.

وقال بعض أصحاب الحارث الإباضي : المنافقون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كانوا موحدين لله تعالى أصحاب كبائر. ومن حماقاتهم قول بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد ، فإنه كان يقول : كل ذنب صغير أو كبير ولو كان أخذ حبة خردل بغير حق أو كذبة خفيفة على سبيل المزاح فهي شرك بالله ، وفاعلها كافر مشرك مخلد في النار ، إلّا أن يكون من أهل بدر فهو كافر مشرك من أهل الجنة ، وهذا حكم طلحة والزبير رضي الله عنهما عندهم.

ومن حماقاتهم قول عبد الله بن عيسى ، تلميذ بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد المذكور ، فإنه كان يقول : إن المجانين والبهائم والأطفال ما لم يبلغوا الحلم فإنهم لا يألمون البتة لشيء مما ينزل بهم من العلل ، وحجته في ذلك أن الله تعالى لا يظلم أحدا ، وهو اللطيف الرحمن الرحيم فلو آلمهم بغير ذنب لكان ظالما لهم.

قال أبو محمد : لعمري لقد طرد أهل المعتزلة ، وإن من خالفه في هذا لمتلوث في الحماقة ، متسكع في التناقض.

١٢٧

ذكر شنع المعتزلة

قال أبو محمد : قالت المعتزلة بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الغطفانيّ الكوفي ومن وافقه كحفص الفرد ، وكلثوم وأصحابه : إن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم وعقودهم لم يخلقها الله عزوجل ، ثم اختلفوا :

فقالت طائفة : يخلقها فاعلوها دون الله تعالى.

وقالت طائفة : هي أفعال موجودة لا خالق لها أصلا.

وقالت طائفة : هي أفعال الطبيعة ، وهذا قول أهل الدّهر بلا تكلف.

وقالت المعتزلة كلها حاشا ضرار بن عمرو المذكور ، وحاشا أبا سهل بشر بن المعتمر البغدادي النخاس بالرقيق : إنّ الله عزوجل لا يقدر البتة على لطف يلطف به للكافر حتى يؤمن إيمانا يستحق به الجنة ، والله عزوجل ليس في قوته أحسن مما فعل بنا ، وأنّ هذا الذي فعل هو منتهى طاقته وآخر قدرته التي لا يمكنه ولا يقدر على أكثر.

قال أبو محمد : هذا تعجيز مجرد للباري تعالى ، ووصف له بالنقص ، وكلهم لا نحاشي أحدا يقول : إنه لا يقدر على المحال ، ولا على أن يجعل الجسم ساكنا متحركا معا في حال واحدة ، ولا على أن يجعل إنسانا واحدا في مكانين معا.

قال أبو محمد : وهذا تعجيز مجرد لله تعالى ، وإيجاب النهاية والانقضاء لقدرته تعالى عن ذلك.

وقال أبو الهذيل بن مكحول العلّاف مولى عبد القيس بصري أحد رؤساء المعتزلة ومقدّميهم : إنّ لما يقدر الله تعالى عليه آخرا ، ولقدرته نهاية لو خرج إلى الفعل ـ ولن يخرج ـ لم يقدر الله تعالى بعد ذلك على شيء أصلا ، ولا على خلق ذرّة فما فوقها ، ولا على إحياء بعوضة ميتة ، ولا على تحريك ورقة فما فوقها ، ولا على أن يفعل شيئا أصلا.

قال أبو محمد : وهذه حالة من الضعف والمهانة والعجز قد ارتفعت البق والبراغيث والدود مدة حياتها عنها ، وعن أن توصف بها ، وهذا كفر مجرد لا خفاء به.

١٢٨

وزعم أبو الهذيل أيضا : أن أهل الجنة وأهل النار تفنى حركاتهم حتى يصيروا جمادا لا يقدرون على تحريك شيء من أعضائهم ، ولا على البراح من مواضعهم وهم في تلك الحال متلذذون ومتألمون إلّا أنهم لا يأكلون ولا يشربون ، ولا يطئون بعد هذا أبدا ، وكان يزعم أيضا أن لما يعلمه الله عزوجل آخرا ونهاية ، وكلّا لا يعلم الله شيئا سواه.

وادّعى قوم من المعتزلة أنه تاب عن هذه الطّوامّ الثلاث.

قال أبو محمد : وهذا لا يصح ، وإنما ادّعوا ذلك حياء من هذه الكفرات الصلع لإمامهم إمام الضلالة.

وذكر عن أبي الهذيل أيضا أنه قال : إنّ الله تعالى ليس خلافا لخلقه ، وكان يكفّر من قال إن الله تعالى خلاف لخلقه. والعجب أنه مع هذا الإقدام العظيم ينكر التشبيه ، وهذا عين التشبيه لأنه ليس إلّا خلاف أو مثل أو ضدّ ، فإذا بطل أن يكون خلافا أو ضدّا فهو مثل ولا بدّ تعالى الله عن هذا علوّا كبيرا.

وكان أبو الهذيل يقول : إنّ الله لم يزل عليما ، وكان ينكر أن يقال : إن الله عزوجل لم يزل سميعا بصيرا.

قال أبو محمد : وهذا خلاف القرآن لأن الله تعالى قال : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [سورة النساء : ١٣٤].

كما قال : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [سورة النساء : ١٠٤].

وكلهم قال إنّ الله تعالى لم يزل يعلم أنّ من مات كافرا فإنه لا يؤمن أبدا وأنه تعالى حكم وقال : إنّ أبا لهب وامرأته سيصليان النار كافرين ، ثم قطعوا كلهم بأنّ أبا لهب وامرأته كانا قادرين على الإيمان وعلى ألّا تمسّهما النار ، وأنهما كان ممكنا لهما تكذيب الله عزوجل ، وأنهما كانا قادرين على إبطال علم الله عزوجل ، وعلى أن يجعلاه كاذبا في قوله ، هذا نصّ قولهم بلا تطويل.

قال : وكان إبراهيم بن سيّار النظام أبو إسحاق البصري مولى بني بحير بن الحارث بن عباد الضبعي أكبر شيوخ المعتزلة ، ومقدمة علمائهم يقول : إن الله تعالى لا يقدر على ظلم أحد أصلا ، ولا على شيء من الشر ، وأن النّاس يقدرون على كل ذلك ، وأنه تعالى لو كان قادرا على ذلك لكنا لا نأمن أن يفعله ، أو أنه قد فعله. فكان الناس عنده أتم قدرة من الله تعالى. وكان يصرّح بأن الله تعالى لا يقدر على إخراج أحد من جهنم ، ولا إخراج أحد من أهل الجنة عنها ، ولا على طرح طفل في جهنم ، وأنّ الناس وكل واحد من الجنّ والملائكة يقدرون على ذلك ، فكان الله عزوجل عنده أعجز من

١٢٩

كل ضعيف من خلقه ، وكان كل أحد من الخلق أتم قدرة من الله تعالى وهذا الكفر المجرد الذي نعوذ بالله منه.

ومن العجب اتفاق النظام والعلّاف شيخي المعتزلة على أنه ليس يقدر الله تعالى من الخير على أصلح ممّا عمل ، فاتفقا على أنّ قدرته على الخير متناهية.

ثم قال النظام : إنه تعالى لا يقدر على الشرّ جملة ، فجعله عديم قدرة على الشر جملة ، عاجزا عنه.

وقال العلّاف : بل هو قادر على الشر جملة فجعل ربه متناهي القدرة على الخير وغير متناهي القدرة على الشر. فهل سمع بأخبث صفة من الصفة التي وصف بها العلّاف ربه!!؟ وهل في الموصوفين أخبث طبيعة من الموصوف الذي ادّعى العلّاف أنه ربّه؟ ونعوذ بالله مما ابتلاهم به.

وأمّا أبو المعتمر معمّر بن عمرو العطار البصري مولى بني سليم أحد شيوخهم وأئمتهم فكان يقول بأن في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها ، ولا يحصيها الباري تعالى ولا أحد أيضا غيره ، ولا لها عنده تعالى مقدار ولا عدد ، وذلك أنه كان يقول : إن الأشياء تختلف بمعان فيها ، وأن تلك المعاني تختلف بمعان أخر فيها ، وتلك المعاني أيضا تختلف بمعان أخر فيها ، وهكذا أبدا بلا نهاية ، وهذا تكذيب واضح لله تعالى في قوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [سورة الرعد : ٨]. وفي قوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [سورة الجن : ٢٨].

وتوافقه الدّهرية في قولهم بوجود أشياء لا نهاية لها ، وعلى هذا طلبته المعتزلة بالبصرة عند السلطان حتى فرّ إلى بغداد ومات بها مختفيا عند إبراهيم بن السندي بن شاهك ، وكان معمر أيضا يزعم أن الله عزوجل لم يخلق شيئا من الألوان ولا طولا ولا عرضا ولا طعما ، ولا رائحة ولا خشونة ولا إملاسا ، ولا حسنا ، ولا قبحا ، ولا صوتا ، ولا قوة ولا ضعفا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا مرضا ولا صحة ولا عافية ولا سقما ، ولا عمّى ولا بكما ولا بصرا ولا سمعا ولا فصاحة ولا فسادا للثمار ولا صلاحا لها ، وأنّ كل ذلك فعل الأجسام التي وجدت فيها هذه الأعراض بطباعها.

فاعلموا أنّ هذا الفاسق قد أخرج نصف العالم عن خلق الله تعالى لأنه ليس العالم شيئا إلّا الجواهر الحاملة والأعراض المحمولة فقط ، فالنصف الواحد عنده غير مخلوق ، لعنه الله من مكذّب لله تعالى في نصّ قوله تعالى : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [سورة الملك : ٢].

١٣٠

وقد عورض معمر بهذه الآية فقال : إنما أراد أنه خلق الإماتة والإحياء. وذكر عنه أنه كان ينكر أن يكون الله عزوجل عالما بنفسه ، وذلك لأنّ العالم إنما يعلم غيره ، ولا يعلم نفسه ، وكان يزعم أنّ النفس ليست جسما ولا عرضا ، ولا هي في مكان أصلا ، ولا تماس شيئا ولا تباينه ولا تتحرك ولا تسكن.

قال أبو محمد : وهذا قول أهل الإلحاد محضا بلا تأويل يعني القائلين منهم بقدم النفس وأنها الخالقة للأشياء ، نعوذ بالله من الضلال.

وكان يقول : إن الله تعالى لا يعلم نفسه ولا يجهلها ، لأنّ العالم غير المعلوم ومحال أن يقدر على الموجودات أو أن يعلمها أو أن يجهلها.

وقال أبو العباس عبد الله بن محمد الأنباري المعروف بالناشئ لقبه شرشير في كتابه في المقالات : إن الله تعالى لا يقدر على أن يسوّي بنان الإنسان بعد أن سبق في علمه أنه لا يسويها.

قال أبو محمد : وهذا تكذيب محض لله تعالى في قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [سورة القيامة : ٣ ، ٤].

ورأيت للجاحظ في كتابه «البرهان» لو أن سائلا سأله وقال : أيقدر الله تعالى على أن يخلق قبل الدنيا دنيا أخرى؟ فجوابه نعم ، بمعنى أنه يخلق تلك الدنيا حين خلق هذه فتكون مثل هذه.

قال أبو محمد : هذا تعجيز منه للباري تعالى كما قدمنا إذ لم تحصل له تعالى قدرة على خلق دنيا قبل هذه إلّا على الوجه الذي ذكره ، وأمّا على غيره فلا. فإن قيل كيف تجيبون؟ قلنا : جوابنا : نعم. على الإطلاق.

فإن قيل لنا : كيف يصحّ هذا السؤال وأنتم تقولون إنه لا يجوز أن يقال إنّ قبل العالم شيئا لأن قبل وبعد من الزمان ولا زمان هنالك.

قلنا : معنى قولنا نعم. أي أنّه تعالى لم يزل قادرا على أن يخلق عالما لو خلقه لكان له زمان قبل زمان هذا العالم. وهكذا أبدا. وبالله تعالى التوفيق.

وأمّا ضرار بن عمرو ، فإنه كان يقول : إنّ ممكنا أن يكون جميع من في الأرض ممّن يظهر الإسلام كفارا كلهم في باطن أمرهم لأن كل ذلك جائز على كل واحد منهم في ذاته.

ومن حماقات ضرار أنه كان يقول : إنّ الأجسام إنما هي أعراض مجتمعة ، وأن

١٣١

النّار ليس فيها حر ، ولا في الثلج برد ، ولا في العسل حلاوة ، ولا في الصبر مرارة ، ولا في العنب عصير ، ولا في الزّيتون زيت ، ولا في العروق دم ، وأنّ كل ذلك إنما يخلقه الله عزوجل عند القطع والذّوق والعصر واللمس فقط.

وأمّا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري الكناني صليبة وقيل بل مولى ـ وهو تلميذ النظام ، وأحد شيوخ المعتزلة ـ فإنه كان يقول : إنّ الله تعالى لا يقدر على إفناء الأجسام البتة إلا أن يرققها ويفرق أجزاءها فقط ، وأمّا إعدامها فلا يقدر على ذلك أصلا.

وأمّا أبو معن ثمامة بن أشرس النميري صليبية بصري أحد شيوخ المعتزلة وعلمائهم فذكر عنه أنه كان يقول : إن العالم فعل الله عزوجل بطباعه تعالى الله عن هذا الكفر الشنيع علوّا كبيرا ، وكان يزعم أنّ المقلدين من اليهود والنّصارى والمجوس وعبّاد الأوثان لا يدخلون النّار يوم القيامة لكن يصيرون ترابا ، وأنّ كلّ من مات من أهل الإسلام والإيمان المحض والاجتهاد في العبادة مصرّا على كبيرة من الكبائر كشرب الخمر ونحوها ، وإن كان لم يواقع ذلك إلّا مرة في الدّهر فإنه مخلّد بين أطباق النيران أبدا مع فرعون وأبي لهب وأبي جهل.

قال أبو محمد : فأيّ كفر أعجب من قول من يقول إنّ كثيرا من الكفار لا يدخلون النار ، وأن كثيرا من المسلمين لا يدخلون الجنة.

وكان ثمامة يقول : إن إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجميع أولاد المسلمين الذين يموتون قبل الحلم وجميع مجانين الإسلام لا يدخلون الجنة أبدا ، ولكن يصيرون ترابا.

وأمّا هشام بن عمرو الفوطي أحد شيوخ المعتزلة : فكان يقول إذا خلق الله تعالى شيئا فإنه لا يقدر على أن يخلق مثل ذلك الشيء أبدا لكن يقدر على أن يخلق غيره ، والغيران عنده لا يكونان مثلين ، وكان لا يجيز لأحد أن يقول حسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا أنّ الله يعذب الكفار بالنار ، ولا أنه يحيى الأرض بالمطر ، ويرى هذا القول والقول بأن الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء ضلالا وإلحادا.

قال أبو محمد : وهذا ردّ على الله تعالى جهارا ، وكان يقول : لا يحل القول بشيء من هذا إلّا عند قراءة القرآن فقط ، وكان يقول : قولوا حسبنا الله ونعم المتوكل عليه ، وكان يقول : قولوا إن الله يعذّب الكفار في النار ، ويحيى الأرض عند نزول المطر. وكان لا يجيز القول بأن الله ألّف بين قلوب المؤمنين ولا أنّ القرآن عمّى على الكافرين ، وكان يقول : إنّ من هو الآن مؤمن عابد إلّا أن في علم الله أنه يموت كافرا

١٣٢

فإنه الآن عند الله كافر ، وأنّ من كان الآن كافرا مجوسيا أو نصرانيا أو دهريا أو زنديقا إلّا أن في علم الله عزوجل أنه يموت مؤمنا فإنه الآن عند الله تعالى مؤمن.

وأمّا عبّاد بن سلمان تلميذ هشام الفوطي المذكور فكان يزعم أن الله تعالى لا يقدر على غير ما فعل من الصلاح ، ولا يجوز أن يقال إنّ الله خلق المؤمنين ، ولا أنه خلق الكافرين ، ولكن يقال خلق الناس ، وذلك ـ زعم ـ لأن المؤمن عنده إنسان وإيمان ، والكافر إنسان وكفر ، وأن الله تعالى إنما خلق عنده الإنسان فقط ولم يخلق الإيمان ولا الكفر.

وكان يقول : إنّ الله تعالى لا يقدر على أن يخلق غير ما خلق ، وأنه تعالى لم يخلق المجاعة ولا القحط ، وكلهم يزعم أن الله تعالى لم يأمر الكفار قط بأن يؤمنوا في حال كفرهم ، ولا نهى المؤمنين قط عن الكفر في حال إيمانهم لأنه لا يقدر أحد قط على الجمع بين الفعلين المتضادّين.

قال أبو محمد : وهم يقرّون أن الله تعالى لم يزل يعلم أن من يؤمن بعد كفره فإنه لا يزال في كفره إلى أن يؤمن ، وأن من يكفر بعد إيمانه فإنه لا يزال في إيمانه حتى يكفر ، وأنّ من لا يؤمن من الكفار أبدا فإنه لا يزال في كفره إلى أن يموت ، وأنّ من لا يكفر من المؤمنين فإنه لا يزال في إيمانه إلى أن يموت ، وليس أحد من المأمورين يخرج عن أحد هذه الوجوه الأربعة ضرورة ، فإذا كان عندهم لم يؤمر قط كافر بالإيمان في حال كفره ، ولا نهي مؤمن عن الكفر في حال إيمانه ، فإن من لم يزل مؤمنا إلى أن مات لم ينهه الله عزوجل عن الكفر قط ، وأن من لم يزل كافرا إلى أن مات فإنّ الله لم يأمره قط بالإيمان ، وأن الله تعالى لم يأمر قط بالإيمان من آمن بعد كفره إلّا حين آمن ، ولا نهى قط عن الكفر من كفر بعد إيمانه إلا حين كفر ، وهذا تكذيب مجرد لله تعالى في أمره الكفار وأهل الكتاب بالإيمان ، ونهيه المؤمنين عن الكفر.

وكان بشر بن المعتمر أيضا يقول : إن الله تعالى لم يخلق قط لونا ولا طعما ولا رائحة ، ولا مجسّة ، ولا شدة ولا ضعفا ، ولا عمى ولا بصرا ، ولا سمعا ولا صمما ولا جبنا ولا شجاعة ، ولا كيسا ولا عجزا ، ولا صحة ولا مرضا ، وأنّ الناس يفعلون كل ذلك فقط.

وأمّا جعفر القصبي بائع القصب ، والأشجع وهما من رؤسائهم فكانا يقولان إن القرآن ليس هو الذي في المصاحف ، إنما في المصاحف شيء آخر وهو حكاية القرآن.

قال أبو محمد : وهذا كفر مجرد ، وخلاف جميع أهل الإسلام قديما وحديثا.

١٣٣

وكان عليّ الأسواري البصري أحد شيوخ المعتزلة يقول : إن الله عزوجل لا يقدر على غير ما فعل ، وأنّ من علم الله تعالى أنه يموت ابن ثمانين سنة فإن الله تعالى لا يقدر على أن يميته قبل ذلك ، ولا أن يبقيه بعد ذلك طرفة عين ، وأنّ من علم الله تعالى أنه يبرأ من مرضه يوم الخميس مع الزوال مثلا فإنّ الله تعالى لا يقدر أن يبرئه قبل ذلك لا بما قرب ولا بما بعد ، ولا على أن يزيد في مرضه طرفة عين فما فوقها ، وأن الناس يقدرون كل حين على إماتة من علم الله أنه لا يموت إلى وقت كذا ، وأن الله لا يقدر على ذلك ، وهذا كفر ما سمع قط بأفظع منه.

وأمّا أبو غفار أحد شيوخ المعتزلة : فكان يزعم أن شحم الخنزير ودماغه حلال.

قال أبو محمد : وهذا كفر صريح لا خفاء به ، وكان يزعم أن تفخيذ الرجال الذكور حلال ، وقد ذكر هذا عن ثمامة أيضا ، وهذا كفر محض.

وأما أحمد بن خابط ، والفضل الحدثي البصريان ، وكانا تلميذين لإبراهيم النظام فكانا يزعمان أن للعالم خالقين ، أحدهما قديم وهو الله تعالى ، والآخر محدث وهو كلمة الله عزوجل المسيح عيسى ابن مريم التي بها خلق العالم وكانا لعنهما الله يطعنان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتزويج ، وأن أبا ذر كان أزهد منه ، وكان أحمد بن خابط يزعم أن الذي يجيء يوم القيامة مع الملائكة صفا صفا في ظل من الغمام إنما هو المسيح عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، وأن الذي خلق آدم على صورته إنما هو المسيح عيسى ابن مريم ، وأنّ المسيح هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة.

وكان أحمد بن خابط لعنه الله يقول : إن في كل نوع من أنواع الطير والسمك وسائر حيوان البر حتى البق والبراغيث والقمل والقرود والكلاب والفيران والتيوس والحمير والدود والوزغ والجعلان أنبياء لله تعالى رسالة إلى أنواعهم مما ذكرنا ، ومن سائر الأنواع.

وكان لعنه الله يقول بالتناسخ والكرور ، وأن الله تعالى ابتدأ جميع الخلق فخلقهم كلهم جملة واحدة بصفة واحدة ، ثم أمرهم ونهاهم فمن عصى منهم نسخ روحه في جسد بهيمة ، فالقتّال يبتلى بالذبح كالغنم والإبل والبقر والدجاج وغير ذلك من البراغيث وكل ما يقتل في الأغلب.

وأن من كان منه مع فسقه وقتله للناس عفيفا كوفئ بالقوة على السفاد كالتيس والعصفور والكبش وغير ذلك.

ومن كان زانيا أو زانية كوفئا بالمنع من الجماع كالبغال والبغلات.

١٣٤

ومن كان جبارا كوفئ بالمهانة كالدود والقمل ، ولا يزالون كذلك حتى يقتص منهم ثم يردون فمن عصى منهم كرر أيضا كذلك هكذا أبدا حتى يطيع طاعة لا معصية معها فينتقل إلى الجنة من وقته أو يعصي معصية لا طاعة معها فينتقل إلى جهنم من وقته ، وإنما حمله على القول بكل هذا لزومه أصل المعتزلة في العدل وطرده إيّاه ومشيه معه.

واعلموا أن كل من لم يقل من المعتزلة بهذا القول فإنه متناقض تارك لأصلهم في العدل. وكان لعنة الله يقول : إن للثواب دارين أحدهما لا أكل فيها ولا شرب ، وهي أرفع قدرا من الثانية. والثانية فيها أكل وشرب وهي أنقص قدرا.

قال أبو محمد : هذا كله كفر محض ، وكان لهذا الكافر أحمد بن خابط تلميذ على مذهبه يقال له أحمد بن باسوس كان يقول بقول معلمه في التناسخ ثم ادّعى النبوة وقال : إنه المراد بقول الله عزوجل : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [سورة الصفّ : ٦].

وكان محمد بن عبد الله بن مسرة بن نجيح الأندلسي يوافق المعتزلة في القدر ، وكان يقول : إن علم الله تعالى وقدرته صفتان محدثتان مخلوقتان وأن لله تعالى علمين أحدهما أحدثه جملة وهو علم الكليات فهو علم الغيب كعلمه أنه سيكون كفار ومؤمنون ، والقيامة والجزاء ونحو ذلك. والثاني علم الجزئيات : وهو علم الشهادة وهو كفر زيد وإيمان عمرو ونحو ذلك فإنه لا يعلم الله تعالى من ذلك شيئا حتى يكون. وذكر قول الله عزوجل : (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [سورة التوبة : ٩٤].

قال أبو محمد : وهذا ليس كما ظنّ بل على ظاهره أنه يعلم ما تفعلون وإن أخفيتم ، ويعلم ما غاب عنكم مما كان أو يكون أو هو كائن.

قال أبو محمد : وإنما حمله على هذا القول طرده لأصول المعتزلة حقا فإن من قال منهم إن الله تعالى لم يزل يعلم أن فلانا لا يؤمن أبدا ، وأن فلانا لا يكفر أبدا ، ثم جعل الناس قادرين على خلاف علم الله تعالى فيهم فقد قطع بأنهم قادرون على تكذيب كلام ربهم ، وعلى إبطال ما لم يزل ، وهذا تناقض فاحش لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان.

وكان من أصحابه الأكابر جماعة يكفرون من قال إنه عزوجل لم يزل يعلم كل ما يكون قبل أن يكون.

وكان من أصحاب مذهبه رجل يقال له إسماعيل بن عبد الله الرعيني متأخر

١٣٥

الوقت ، وكان من المجتهدين في العبادة المنقطعين في الزهد وأدركته إلّا أني لم ألقه ، ثم أحدث أقوالا شنيعة فبرئ منه سائر المسرية وكفّروه إلّا من اتبعه منهم ممن أحدث قوله إن الأجساد لا تبعث أبدا ، وإنما تبعث الأرواح صحّ هذا عندنا عنه. وذكر عنه أنه كان يقول إنه حين موت الإنسان وفراق روحه لجسده تلقى روحه الحساب ويصير إمّا إلى الجنة أو إلى النار ، وأنه كان لا يقر بالبعث إلّا على هذا الوجه ، وأنه كان يقول إنّ العالم لا يفنى أبدا بل هكذا يكون الأمر بلا نهاية.

وحدثني الفقيه أبو أحمد المعافري الطليطلي صاحبنا أحسن الله ذكره قال أخبرني يحيى بن أحمد الطبيب وهو ابن ابنة إسماعيل الرعيني المذكور قال إنّ جدي كان يقول : إن العرش هو المدبّر للعالم ، وأن الله تعالى أجل من أن يوصف بفعل شيء أصلا ، وكان ينسب هذا القول إلى محمد بن عبد الله بن مسرة ويحتج بألفاظ في كتبه ليس فيها لعمري دليل على هذا القول. وكان يقول لسائر المسرية : إنكم لم تفهموا عن الشيخ ، فبرئت منه المسرية أيضا على هذا القول.

وكان أحمد الطبيب صهره ممن برئ منه وثبتت ابنته على هذه الأقوال متبعة لأبيها مخالفة لزوجها وابنها ، وكانت متكلمة ناسكة مجتهدة ، ووافقت أبا هارون بن إسماعيل الرّعيني على هذا القول فأنكره وبرئ من قائله ، وكذّب ابن أخيه فيما ذكر عن أبيه ، وكان مخالفوه من المسرية وكثير من موافقيه ينسبون إليه القول باكتساب النبوة ، وأن من بلغ الغاية من الصلاح وطهارة النفس أدرك النبوة وأنها ليست اختصاصا أصلا ، وقد رأينا منهم من ينسب هذا القول إلى ابن مسرة ويستدل على ذلك بألفاظ كثيرة في كتبه لعمري إنها لتشير إلى ذلك ، ورأينا سائرهم ينكر هذا فالله أعلم ، ورأيت أنا من أصحاب إسماعيل الرعيني المذكور من يصفه بفهم منطق الطير ، وبأنه كان ينذر بأشياء قبل أن تكون فتكون.

وأمّا الذي لا شك فيه فإنه كان عند فرقته إماما واجبة طاعته يؤدون إليه زكاة أموالهم ، وكان يذهب إلى أنّ الحرام قد عمّ الأرض ، وأنه لا فرق بين ما يكسبه المرء من صناعة أو تجارة أو ميراث أو بين ما يسلبه من الرفاق ، وأن الذي يحل للمسلم من كل ذلك قوته كيفما أخذه.

هذا أمر صحيح عندنا عنه يقينا ، وأخبرنا عنه بعض من عرف باطن أمورهم أنه كان يرى الدار دار كفر مباحة دماؤهم وأموالهم إلّا أصحابه فقط.

وصح عندنا عنه : أنه كان يقول بنكاح المتعة ، وهذا لا يقدح في إيمانه ولا في

١٣٦

عدالته لو قاله مجتهدا ، ولم تقم عليه الحجة بنسخه لو سلم من الكفرات الصلع التي ذكرنا ، وإنما ذكرنا ذلك عند ما جرى لنا من ذكره ، ولغرابة هذا القول اليوم وقلة القائلين به من الناس.

ورأيت لأبي هاشم بن عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي كبير المعتزلة وابن كبيرهم القطع بأن لله تعالى أحوالا مختصة به ، وهذه عظيمة جدّا إذ جعله حاملا للأعراض تعالى الله عن هذا الإفك.

ورأيت له القطع في كتبه كثيرا يردد القول بأنه يجب على الله أن يزيح علل العباد في كل ما أمرهم به ، ولا يزال يقول في كتبه إن أمر كذا لم يزل واجبا على الله تعالى.

قال أبو محمد : وهذا كلام تقشعر منه جلود المؤمنين ، ليت شعري من الموجب ذلك على الله تعالى ، والحاكم عليه بذلك والملزم له ما ذكر هذا النذل لزومه للباري تعالى ووجوبه عليه؟ فيا لله لمن قال إن الفعل أوجب ذلك على الله تعالى أو ذكر شيئا دونه تعالى ليصرحنّ بأن الله تعالى متعبد للذي أوجب عليه ما أوجب محكوم عليه مدبر ، وأنه للكفر الصراح ، ولئن قال إنه تعالى هو الذي أوجب ذلك على نفسه فالإيجاب فعل فاعل لا شك ، فإن كان الله لم يزل موجبا ذلك على نفسه فلم يزل فاعلا فالأفعال قديمة ولا بدّ لم تزل ، وهذه دهرية محضة ، وإن كان تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن موجبا له فقد بطل انتفاعه بهذا القول في أصله الفاسد لأنه قد كان تعالى غير واجب عليه ما ذكر.

ورأيت لبعض المعتزلة سؤالا سأل عنه أبا هاشم المذكور يقول فيه : ما بال كل من بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم داعيا إلى الإسلام إلى اليمن والبحرين وعمان والملوك وسائر البلاد ، وكل من يدعو إلى مثل ذلك إلى يوم البعث لا يسمّى رسول الله كما سمّى محمد عليه الصلاة والسلام ، إذ أمره الملك عن الله عزوجل بالدعاء إلى الإسلام والأمر واحد ، والعمل سواء؟

قال أبو محمد : فاعجبوا لتلاعب إبليس بهذه الفرقة الملعونة ، واسألوا الله العافية من أن يكلكم إلى أنفسكم ، فحقّ لمن دينه أن ربّه لا يقدر على أن يهديه ولا على أن يضله أن يتمكن الشيطان منه هذا التمكن.

ولعمري : إن هذا التشكيل لقد لزم أصل المعتزلة المضلّ لهم ، ولمن التزمه ، والمورد لجميعهم نار جهنم ، وهو قولهم : إنّ التسمية موكولة إلينا لا إلى الله عزوجل.

١٣٧

ورأيت لهذا الكافر أبي هاشم كلاما ردّ فيه بزعمه على من يقول : إنه ليس لأحد أن يسمي الله عزوجل إلا بما سمّى به نفسه ، فقال هذا النذل : لو كان هذا ولم يجز لأحد أن يسمّي الله تعالى إلّا بما سمّى به نفسه لكان غير جائز لله أن يسمي نفسه باسم حتى يسميه به غيره.

قال أبو محمد : فهل يأتي الممرور بأقبح من هذا الاستدلال؟ وهل في التسمية أكثر من هذا؟ ولكن من يضلل الله فلا هادي له. ونعوذ بالله من أن يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فنهلك.

وكان أبو هاشم أيضا يقول : إنه لو طال عمر المسلم المحسن لجاز أن يعمل من الحسنات والخير أكثر مما عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو محمد : لا والله ولا كرامة ، ولو عمّر أحدنا الدهر كلّه في طاعات متصلة ما وازى عمل امرئ صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير المنافقين والكفار المجاهرين ساعة واحدة فما فوقها ، مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه لو كان لأحدنا مثل أحد ذهبا فأنفقه ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه (١). فمتى يطمع ذو عقل أن يدرك أحدا من الصحابة مع هذا البون الممتنع إدراكه قطعا ...؟ وكان أبو هاشم المذكور يقول : إنه لا يقبل توبة أحد من ذنب عمله أي ذنب كان ، حتى يتوب من جميع الذنوب.

قال أبو محمد : وحقا أقول لقد طرد أصل المعتزلة الذي أصفقوا عليه من إخراج المرء عن الإسلام جملة بذنب واحد عمله يصرّ عليه ، وإيجابهم الخلود في النار عليه بذلك الذنب وحده ، فلو كان هذا لكان أبو هاشم صادقا إذ لا منفعة له عندهم في تركه كل ذنب ، وهو بذنب واحد يصر عليه خارج عن الإيمان مخلد بين أطباق النيران ، وما ينكر هذا عليه من المعتزلة إلّا جاهل بأصولهم أو عامد للتناقض. وكان يقول : إن تارك الصلاة وتارك الزكاة عامدا لكل ذلك لم يفعل شيئا ولا أذنب ولا عصى ، وأنه مخلد بين أطباق النيران أبدا على غير فعل فعله ولا على شيء ارتكبه.

قال أبو محمد : فهل في التجوير لله على أصولهم وهل في مخالفة الإسلام جهارا أكثر من هذا القول السخيف؟ وكان الذي حمله على قوله هذا أن ترك الفعل

__________________

(١) رواه البخاري في فضائل الصحابة باب ٥. ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٢١ و ٢٢٢. وأبو داود في السنّة باب ١٠. والترمذي في المناقب باب ٥٨. وابن ماجة في المقدمة باب ١١. وأحمد في المسند (٣ / ١١ ، ٥٤ ، ٦ / ٦).

١٣٨

ليس فعلا ، وجميع المعتزلة إلا هشام بن عمرو الفوطي ، يزعمون أن المعدومات أشياء على الحقيقة ، وأنها لم تزل وأنها لا نهاية لها.

قال أبو محمد : وهذه دهرية بلا مطل ، وأشياء لا نهاية لها لم تزل غير مخلوقة. وكان عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط من أكابر المعتزلة ببغداد ممن يقول : إن الأجسام المعدومة لم تزل أجساما بلا نهاية لها ، لا في عدد ولا في زمان غير مخلوقة. وقال محمد بن عبد الله الإسكافي أحد رؤساء المعتزلة : إن الله تعالى لم يخلق الطنابير ولا المزامير ولا المعازف.

قال أبو محمد : كان تمام هذا الكفر أن يقول : إن الله لم يخلق الخمر ولا الخنازير ولا مردة الشياطين. وقالت المعتزلة بأسرها حاشا بشر بن المعتمر ، وضرار بن عمرو : إنه لا يحل لأحد تمني الشهادة ولا أن يريدها ولا أن يرضاها لأنها تغلب كافر على مسلم ، وإنما يجب على المسلم أن يحبّ الصبر على ألم الجراح فقط إذا أصابته.

قال أبو محمد : وهذا خلاف دين الإسلام والقرآن والسنن والإجماع المتيقن ، وقالوا كلهم حاشا ضرار ، وبشر : إن الله لم يمت رسولا ولا نبيا ولا صاحبا ، ولا أمهات المؤمنين وهو يدري أنهم لو عاشوا فعلوا خيرا ، لكن أمات كل من أمات منهم إذ علم أنه لو أبقاه طرفة عين لكفر أو فسق ولا بد.

هذا قولهم في أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم ، وفاطمة بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعائشة ، وخديجة ، نعم وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموسى وعيسى ، وإبراهيم عليهم‌السلام. فاعجبوا لهذه الضّلالات الوحشية. وكان الجعد وهو من شيوخهم يقول : إذا كان الجماع يتولد منه الولد فأنا صانع ولدي ومدبره وفاعله ، ولا فاعل له غيري ، وإنما يقال إن الله خلقه مجازا لا حقيقة ، فأخذ أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي الطرف الثاني من الكفر ، فقال : إن الله تعالى خالق الحبل والولد فكل من فعل شيئا فهو منسوب إليه ، فالله تعالى هو محبل ، وهو أحبل مريم بنت عمران.

قال أبو محمد : يلزمه ولا بد إذا كان أولادنا خلقا لله تعالى أن نضيفهم إليه ، فيقول : هم أبناء الله ، والمسيح ابن الله ، ولا بدّ. وقال أبو عمرو أحمد بن موسى بن حدير صاحب السكة وهو من شيوخ المعتزلة في بعض رسائله التي جرت بينه وبين القاضي منذر بن سعيد رحمه‌الله : إن الله عاقل وأطلق عليه‌السلام. وقال بعض شيوخ المعتزلة : إن العبد إذا عصى الله عزوجل طبع على قلبه فيصير غير مأمور ولا منهيّ.

وأما حماقاتهم فإن أبا هذيل العلاف قال : من سرق خمسة دراهم غير حبة أو

١٣٩

قيمتها فهو مؤمن ، وليس فاسقا ولا يعذب على ذلك ، فإن سرق خمسة دراهم أو قيمتها فهو فاسق منسلخ من الإسلام ، مخلد أبدا في النيران إلا أن يتوب. وقال بشر بن المعتمر : إن سرق عشرة دراهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد ، فإن سرق عشرة دراهم خرج عن الإسلام ، ووجب عليه الخلود إلا أن يتوب.

وقال النظام : إن سرق مائتي درهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد وإن سرق مائتي درهم خرج عن الإسلام ولزمه الخلود ، إلا أن يتوب. وقال أبو بكر أحمد بن علي بن فيجور بن الإخشيد وهو من رؤسائهم الثلاثة الذين انتهت رياستهم إليهم وافترقت المعتزلة على مذاهبهم ، والثاني منهم أبو هاشم الجبائي والثالث عبد الله بن محمد البلخي المعروف بالكعبي. وكان والد أحمد بن علي المذكور أحد قواد الفراعنة ، وولي الثغور للمعتضد وللمكتفي. فكان من قول أحمد المذكور : من ارتكب كل ذنب في الدنيا من القتل فما دونه إلا أنه ندم إثر فعله له فقد صحت توبته وسقط عنه ذلك الذنب ، وهكذا أبدا متى عاد لذلك الذنب أو لغيره.

قال أبو محمد : هذا قول لم تبلغه جماهير المرجئة ، وهو مع ذلك يدعي القول بإنفاذ الوعد والوعيد ، وما على أديم الأرض مسلم لا يندم على ذنبه.

وقال أبو عبد الرحمن تلميذ أبي الهذيل : إن الحجة لا تقوم في الأخبار إلا بنقل خمسة يكون فيهم ولي الله ، لا أعرفه بعينه ، وعن كل واحد من أولئك الخمسة خمسة مثلهم ، وهكذا أبدا.

وقال صالح قبة تلميذ النظام : إن من رأى رؤيا أنه بالهند أو أنه قتل أو أي شيء رأى فإنه حق يقين كما رأى كما لو كان ذلك في اليقظة. وقال عبّاد بن سليمان : الحواس سبع. وقال النظام : الألوان جسم ، وقد يكون جسمان في مكان واحد ، وكان النظام يقول : لا تعرف الأجسام بالأخبار أصلا لكن كل من رأى جسما سواء كان المرئيّ إنسانا أو غير إنسان فإن الناظر إليه اقتطع منه قطعة اختلطت بجسم الرائي ، ثم كل من أخبره ذلك الرائي عن ذلك الجسم المخبر أيضا ، أخذ من ذلك الجسم قطعة وهكذا أبدا.

قال أبو محمد : وهذه قصة لو لا أنا وجدناها عنه من طريق تلاميذه المعظمين له ذكروها في كتبهم عنه ، ما صدقناها على ذي مسكة من عقل ، فألزمه خصومه على هذا أن قطعا من جبريل وميكائيل ومن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن موسى وعيسى وإبراهيم عليهم‌السلام في نار جهنم ، وأن قطعا من فرعون وإبليس وأبي لهب وأبي جهل في الجنة وكان

١٤٠