الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٣

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

معهم من الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين ، وهو قول عبد الله بن الزبير ، ومحمد والحسن بن علي ، وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار القائمين يوم الحرة ، رضي الله عنهم أجمعين ، وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عن جميعهم كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين ، كعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وسعيد بن جبير ، وأبي البختري الطائي ، وعطاء السلمي الأزدي ، والحسن البصري ، ومالك بن دينار ، ومسلم بن يسار ، وأبي الجوزاء ، والشعبي وعبد الله بن غالب ، وعقبة بن وشاج وعقبة بن عبد الغافر ، وعقبة بن مهان ، وماهان ، والمطرف بن المغيرة بن شعبة ، وأبي المعدل حنظلة بن عبد الله ، وأبي شيخ الهنائي وطلق بن حبيب ، والمطرّف بن عبد الله بن الشّخّير ، والنّضر بن أنس ، وعطاء بن السائب ، وإبراهيم بن يزيد التيمي ، وابن الجوساء ، وجبلة بن زحر وغيرهم ، ثم بعد هؤلاء من تابعي التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر ، وكعبيد الله بن عمر ، ومحمد بن عجلان ، ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهشيم بن بشير ، ومطر الوراق ، ومن خرج مع إبراهيم بن عبد الله ، وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة ، والحسن بن حي ، وشريك ، ومالك ، والشافعي وداود ، وأصحابهم.

فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث ، إمّا ناطق بذلك في فتاواه وإما فاعل لذلك بسلّ سيفه في إنكار ما رأوه منكرا.

قال أبو محمد : احتجت الطائفة المذكورة أولا بأحاديث فمنها : أنقاتلهم يا رسول الله؟ قال : «لا. ما صلوا». وفي بعضها : «إلّا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان» (١).

وفي بعضها وجوب الصبر وإن ضرب ظهر أحدنا وأخذ ماله (٢).

وفي بعضها : «فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فاطرح ثوبك على وجهك

__________________

(١) رواه من حديث عبادة بن الصامت البخاري في الفتن باب ٢ ، ومسلم في الإمارة حديث ٤٢ ، وأحمد في المسند (٥ / ٣١٤ ، ٣٢١).

(٢) عن حذيفة بن اليمان قال : قلت : يا رسول الله إنا كنّا بشرّ فجاء الله بخير فنحن فيه ، فهل من وراء هذا الخير شرّ؟ قال : «نعم» قلت : هل وراء ذلك الشرّ خير؟ قال : «نعم» قلت : فهل وراء ذلك الخير شرّ؟ قال : «نعم» قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال : «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ، فاسمع وأطع». رواه البخاري في الفتن باب ١١ ، والمناقب باب ٢٥. ومسلم في الإمارة حديث ٥١ و ٥٢. وأبو داود في الفتن باب ١. وأحمد في المسند (٥ / ٣٨٦ ، ٤٠٣ ، ٤٠٦).

١٠١

وقل : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار» (١).

وفي بعضها : كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» (٢). وبقول الله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) [سورة المائدة : ٢٧].

قال أبو محمد : كل هذا لا حجة لهم فيه لما قد تقصيناه غاية التقصي خبرا خبرا بأسانيدها ومعانيها في كتابنا الموسوم بالإيصال إلى فهم معرفة الخصال ، ونذكر منه إن شاء الله هاهنا جملا كافية وبالله تعالى نتأيّد.

أمّا أمره عليه‌السلام بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر ، فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق ، وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له. فإن امتنع من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله عزوجل ، وأمّا إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصّبر على ذلك ، برهان هذا قول الله عزوجل : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة : ٢].

وقد علمنا أن كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخالف كلام ربه تعالى قال الله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم : ٢ ، ٣].

وقال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء : ٨٢].

فصح أن كل ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه وحي من عند الله عزوجل لا اختلاف فيه ولا تعارض ولا تناقض ، فإذ هو كذلك فبيقين لا شك فيه يدري كل مسلم أن أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم حرام عليكم» (٣).

فإذ لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين فالمسلّم ماله للأخذ ظلما ، وظهره للضرب ظلما ، وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأيّ وجه أمكنه معاون لظالمه على الإثم والعدوان ، وهذا حرام بنصّ القرآن.

__________________

(١) جزء من حديث عن أبي ذرّ ، رواه أبو داود في الفتن باب ٢ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٠ ، وأحمد في المسند (٥ / ١٦٣).

(٢) جزء من حديث رواه الإمام أحمد في المسند (٥ / ٢٩٢) ولفظه فيه : «... فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعله».

(٣) جزء من حديث رواه البخاري في الفتن باب ٨ ، وأحمد في المسند (٥ / ٣٩).

١٠٢

وأما سائر الأحاديث التي ذكرنا ، وقصة ابني آدم فلا حجة في شيء منها ، أمّا قصّة ابني آدم فتلك شريعة أخرى غير شريعتنا ، قال الله عزوجل : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [سورة المائدة : ٤٨].

وأما الأحاديث : فقد صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده إن استطاع ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ، ليس وراء ذلك من الإيمان شيء» (١).

وصحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف ، وعلى أحدكم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (٢) ، وأنه عليه‌السلام قال : «من قتل دون ماله فهو شهيد ، والمقتول دون دينه شهيد ، والمقتول دون مظلمة شهيد» (٣).

وقال عليه‌السلام : «لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهنّ عن المنكر ، أو ليعمّنكم الله بعذاب من عنده» (٤).

فكان ظاهر هذه الأخبار معارضا للآخر ، فصحّ أن إحدى هاتين الجملتين ناسخة للأخرى ، لا يمكن غير ذلك ، فوجب النظر في أيهما هو الناسخ ، فوجدنا تلك الأحاديث التي فيها النهي عن القتال موافقة لمعهود الأصل ، ولما كانت الحال عليه في أول الإسلام بلا شك ، وكانت هذه الأحاديث الأخر واردة بشريعة زائدة وهي

__________________

(١) رواه مسلم في الإيمان حديث ٧٨. وأبو داود في الصلاة باب ٢٤٢ ، والملاحم باب ١٧. والترمذي في الفتن باب ١١. والنسائي في الإيمان باب ١٧. وابن ماجة في الإقامة باب ١٥٥. وأحمد في المسند (٣ / ١٠ ، ٢٠ ، ٤٩ ، ٥٢).

(٢) رواه البخاري في الأحكام باب ٤ ، والجهاد باب ١٠٨. ومسلم في الإمارة حديث ٣٩ ، ٤٠. وأبو داود في الجهاد باب ٨٧. والترمذي في الجهاد باب ٢٩. والنسائي في البيعة باب ٣٤. وابن ماجة في الجهاد باب ٤٠. وأحمد في المسند (٢ / ١٧ ، ١٤٢).

(٣) رواه من طرق وألفاظ متعددة : البخاري في المظالم باب ٣٣. ومسلم في الإيمان حديث ٢٢٦. وأبو داود في السنّة باب ٢٩. والترمذي في الديات باب ٢١. والنسائي في تحريم الدم باب ٢٢ و ٢٣ و ٢٤. وابن ماجة في الحدود باب ٢١. وأحمد في المسند (١ / ٧٩ ، ١٨٧ ، ١٨٨ ، ١٨٩ ، ١٩٠ ، ٣٠٥ ، ٢ / ١٦٣ ، ١٩٣ ، ١٩٤ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢١٠ ، ٢١٥ ، ٢١٧ ، ٢٢١).

(٤) رواه أبو داود في الفتن باب ١٦. والترمذي في الفتن باب ٩. وأحمد في المسند (٥ / ٣٨٨ ، ٣٩٠ ، ٣٩١).

١٠٣

القتال ، هذا ما لا يشكّ فيه ، فقد صح نسخ معنى تلك الأحاديث ورفع حكمها حين نطقه عليه‌السلام بهذه الأخر بلا شك ، فمن المحال المحرم أن يؤخذ بالمنسوخ ويترك الناسخ ، وأن يؤخذ الشك ويترك اليقين. ومن ادّعى أن هذه الأخبار بعد أن كانت هي الناسخة فعادت منسوخة فقد ادّعى الباطل ، وقفا ما لا علم له به وقال على الله عزوجل ما لم يعلم ، وهذا لا يحل. ولو كان هذا لما أخلى الله عزوجل هذا الحكيم عن دليل وبرهان يبيّن به رجوع المنسوخ ناسخا ، لقوله تعالى في القرآن : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٨٩].

وبرهان آخر : وهو أن الله عزوجل قال : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [سورة الحجرات : ٩].

ولم يختلف مسلمان في أنّ هذه الآية التي فيها فرض قتال الفئة الباغية محكمة غير منسوخة ، فصح أنها الحاكمة في تلك الأحاديث ، فما كان موافقا لهذه الآية فهو الناسخ الثابت ، وما كان مخالفا لها فهو المنسوخ المرفوع.

وقد ادّعى قوم أنّ هذه الآية وهذه الأحاديث في اللصوص دون السلطان.

قال أبو محمد : وهذا باطل متيقن ، لأنه قول بلا برهان ، وما يعجز مدّع عن أن يدعي في تلك الأحاديث أنها في قوم دون قوم ، وفي زمان دون زمان ، والدّعوى دون برهان لا تصح ، وتخصيص اللصوص بالدّعوى لا يجوز ، لأنه قول على الله تعالى بلا علم ، وقد جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن سائلا سأله عمن طلب ماله بغير حق فقال عليه‌السلام : «لا تعطه» قال : فإن قاتلني؟ قال : «قاتله» قال : فإن قتلته ، قال : «إلى النار» قال : فإن قتلني؟ قال : «فأنت في الجنة» (١).

أو كلاما هذا معناه.

وصحّ عنه عليه‌السلام أنه قال : «المسلم أخو المسلم ، لا يسلمه ، ولا يظلمه» (٢).

__________________

(١) رواه عن أبي هريرة مسلم في الإيمان حديث ٢٢٥.

(٢) رواه البخاري في المظالم باب ٣ ، والإكراه باب ٧. ومسلم في البرّ والصلة والآداب حديث ٥٨. وأبو داود في الأدب باب ٣٨. والترمذي في الحدود باب ٣. وأحمد في المسند (٢ / ٩١ ، ٤ / ١٠٤).

١٠٤

وقد صح أنه عليه‌السلام قال في الزكاة : «من سألها على وجهها فليعطها ، ومن سألها على غير وجهها فلا يعطها» (١). وهذا خبر ثابت رويناه عن طريق الثقات عن أنس بن مالك ، عن أبي بكر الصديق ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا يبطل تأويل من تأوّل أحاديث القتال عن المال على اللصوص ، لأن اللصوص لا يطلبون الزكاة ، وإنما يطلبها السلطان ، فافترض عليه‌السلام منعها إذا سألها على غير ما أمر به عليه‌السلام ، ولو اجتمع أهل الحق ما قاومهم أهل الباطل ، نسأل الله المغفرة والتوفيق.

قال أبو محمد : وأمّا ما اعترضوا به من فعل عثمان فما علم قط أنه يقتل ، وإنما كان يراهم يحاصرونه فقط ، وهم لا يرون هذا اليوم للإمام العدل ، بل يرون القتال معه ودونه فرضا ، فلا حجة لهم في أمر عثمان رضي الله عنه.

وقال بعضهم : إنّ في القتال إباحة الحريم وسفك الدماء ، وأخذ الأموال ، وهتك الأستار ، وانتثار (٢) الأمر.

فقال لهم الآخرون : كلّا لأنه لا يحل لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يهتك حريما ، ولا أن يأخذ مالا بغير حق ، ولا أن يتعرض لمن لا يقاتله ، فإن فعل شيئا من هذا فهو الذي فعل ما ينبغي أن يغير عليه ، وأمّا قتله أهل المنكر قلّوا أو كثروا فهذا فرض عليه.

وأمّا قتل أهل المنكر للناس ، وأخذهم أموالهم ، وهتكهم حريمهم فهذا كلّه من المنكر الذي يلزم الناس تغييره.

وأيضا : فلو كان خوف ما ذكروا مانعا من تغيير المنكر ومن الأمر بالمعروف ، لكان هذا بعينه مانعا من جهاد أهل الحرب ، وهذا ما لا يقوله مسلم ، وإن أدّى ذلك إلى سبي النصارى نساء المسلمين وأولادهم ، وأخذ أموالهم ، وسفك دمائهم ، وهتك حريمهم.

ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الجهاد واجب مع وجود هذا كله ، ولا فرق بين الأمرين ، وكل ذلك جهاد ودعاء إلى القرآن والسنة.

قال أبو محمد : ويقال لهم ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره ، والنصارى جنده ، وألزم المسلمين الجزية ، وحمل السيف على أطفال المسلمين ، وأباح

__________________

(١) رواه البخاري في الزكاة باب ٣٨ ، والنسائي في الزكاة باب ٥ و ١٠.

(٢) كانت في الأصل : «وانتشار» بالشين المعجمة. والصواب ما أثبتناه.

١٠٥

المسلمات للزنا ، وحمل السيف على كل من وجد من المسلمين ، وملك نساءهم وأطفالهم ، وأعلن العبث بهم ، وهو في كل ذلك مقرّ بالإسلام ، معلن به ، لا يدع الصلاة؟

فإن قالوا : لا يجوز القيام عليه. قيل لهم : إنه لا يدع مسلما إلا قتله جملة وهذا إن ترك أوجب ضرورة ألا يبقى إلّا هو وحده وأهل الكفر معه.

فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة ، وانسلخوا منه.

وإن قالوا : بل يقام عليه ويقاتل وهو قولهم. قلنا لهم : فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلّا واحدا ، وسبى من نسائهم كذلك ، وأخذ من أموالهم كذلك ، فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا. وإن أوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ، ولا نزال نحطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحد ، أو على الغلبة على امرأة واحدة ، أو على أخذ مال أو على انتهاك نسوة بظلم ، فإن فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكّموا بلا دليل ، وهذا ما لا يجوز ، وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق.

ونسألهم عمن قصد سلطانه الجائر الفاجر زوجته ، وابنته ، وابنه ، ليفسق بهم ، أو ليفسق به بنفسه ، أهو في سعة من إسلام نفسه ، وامرأته ، وولده ، وابنته ، للفاحشة ، أم فرض عليه أن يدفع من أراد ذلك منهم؟

فإن قالوا : فرض عليه إسلام نفسه وأهله ، أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم.

وإن قالوا : بل فرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل رجعوا إلى الحق ، ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك.

قال أبو محمد : والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قلّ أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه ، فإن امتنع وراجع الحق ، وأذعن للقود من البشرة ، أو من الأعضاء ، ولإقامة حدّ الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه.

فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ، ممن يقوم بالحق لقول الله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة : ٢].

ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع. وبالله تعالى التوفيق.

١٠٦

الكلام في الصّلاة خلف الفاسق والجهاد معه ، والحج معه ،

ودفع الزكاة إليه ، ونفاذ أحكامه من الأقضية

والحدود وغير ذلك

قال أبو محمد : ذهبت طائفة إلى أنه لا تجوز الصلاة إلّا خلف الفاضل ، وهو قول الخوارج والزيدية ، والروافض ، وجمهور المعتزلة ، وبعض أهل السنة. وقال آخرون : إلا الجمعة والعيدين وهو قول بعض أهل السنة.

وذهبت الصحابة كلهم دون خلاف من أحد منهم ، وجميع فقهاء التابعين كلهم دون خلاف من أحد منهم ، وأكثر من بعدهم ، وجمهور أصحاب الحديث ، وهو قول أحمد والشافعي وأبي حنيفة وداود وغيرهم ، إلى جواز الصلاة خلف الفاسق الجمعة وغيرها. وبهذا نقول. وخلاف هذا القول بدعة محدثة ، فما تأخر قط أحد من الصحابة الذين أدركوا المختار بن عبيد ، والحجاج ، وعبيد الله بن زياد وحبيش بن دلجة (١) وغيرهم عن الصلاة خلفهم ، وهؤلاء أفسق الفساق. وأمّا المختار فكان متهما في دينه ، مظنونا به الكفر.

قال أبو محمد : احتجّ من يقول بمنع الصلاة خلفهم بقول الله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة : ٢٧].

قال أبو محمد : فيقال لهم : كل فاسق إذا نوى بصلاته وجه الله عزوجل فهو في ذلك من المتقين ، فصلاته متقبلة. ولو لم يكن من المتقين إلّا من لا ذنب له ما استحق أحد هذا الاسم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الله عزوجل : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) [سورة النحل : ٦١].

ولا يجوز القطع على الفاسق بأنه لم يرد بصلاته وجه الله تعالى ، ومن قطع بهذا

__________________

(١) هو حبيش بن دلجة القيني من أهل الأردن. ولّاه القيادة مروان بن الحكم ، فاستولى على المدينة وجدّد البيعة فيها لمروان ، ثم تقدم إلى البصرة لحرب الحارث بن أبي ربيعة والتقى معه في الربذة ، فرماه يزيد بن سنان بسهم فقتله عام ٦٥ ه‍. انظر الكامل لابن الأثير (٣ / ٧٤ وما بعدها).

١٠٧

فقد قفا ما لا علم له به ، وقال ما لا يعلم ، وهذا حرام. وقال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [سورة الإسراء : ٣٦].

وقال عزوجل : (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [سورة النور : ١٥].

وقال بعضهم : إنّ صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام.

قال أبو محمد : وهذا غاية الفساد ، لأنه قول بلا دليل ، بل البرهان يبطله لقول الله عزوجل : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [سورة الأنعام : ١٦٤].

وقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الأنعام : ١٦٤].

ودعوى الارتباط هاهنا قول بلا برهان ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من إجماع ، ولا من معقول ، وهم قد أجمعوا على أنّ طهارة الإمام لا تنوب عن طهارة المأموم ، ولا قيامه عن قيامه ، ولا قعوده عن قعوده ، ولا سجوده عن سجوده ، ولا ركوعه عن ركوعه ، ولا نيّته عن نيته ، فما معنى هذا الارتباط الذي تدّعون إذن؟

وأيضا : فإن القطع على سريرة الذي ظاهره الفضل لا يجوز ، وإنما هو ظن فاستوى الأمر في ذلك في الفاضل والفاسق ، وصحّ أنه لا يصلّي أحد عن أحد ، وأن كل أحد يصلي عن نفسه. وقال تعالى : (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) [سورة الأحقاف : ٣١]. فوجب بذلك ضرورة أن كل داع دعا إلى خير من صلاة أو حج أو جهاد أو تعاون على بر وتقوى ، ففرض إجابته وعمل ذلك الخير معه ، لقول الله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة : ٢].

ومن دعا إلى منكر لم يحل لأحد إجابته إلى الإثم والعدوان ، بل فرض دفاعه ومنعه. وبالله تعالى نتأيد.

قال أبو محمد : وأيضا فإن الفسق منزلة نقص عمن هو أفضل منه ، والذي لا شكّ فيه أن النسبة بين أفجر فاجر من المسلمين وبين أفضل الصحابة رضي الله عنهم ، أقرب من النسبة بين أفضل الصحابة رضي الله عنهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما عري أحد من تعمّد ذنب وتقصير بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنّما يتفاضل المسلمون في كثرة الذنوب وقلتها ، وفي اجتناب الكبائر ومواقعتها. وأما الصغائر فما نجا منها أحد بعد الأنبياء عليهم‌السلام ، وقد صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلف أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف ، وبهذا صحّ أن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤمّ القوم أقرأهم فإن استووا فأفقههم (١)

__________________

(١) رواه من طرق وبألفاظ متعددة البخاري في الأذان باب ٥٤. وأبو داود في الصلاة باب ٦٠.

١٠٨

ندب لا فرض ، فليس لفاضل بعد هذا أن يمتنع من الصلاة خلف من هو دونه في القصوى من الغايات.

قال أبو محمد : وأما دفع الزكاة إلى الإمام ، فإن كان الإمام القرشي الفاضل ، أو الفاسق ، لم ينازعه فاضل فهي جائزة ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرضوا مصدّقيكم» (١).

ولا يكون مصدقا كل من سمى نفسه مصدقا ، لكن من قام البرهان بأنه مصدق بإرسال الإمام الواجبة طاعته له. وأما من سألها من هو غير الإمام المذكور ، أو غير مصدقه فهو عابر سبيل لا حق له في قبضها ، ولا يجزي دفعها إليه ، لأنه دفعها إلى غير من أمر بدفعها إليه ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (٢).

وهكذا القول في الأحكام كلها عن الحدود وغيرها إن أقامها الإمام الواجبة طاعته والذي لا بدّ منه فإن واقفت القرآن والسنة نفذت ، وإلّا فهي مردودة لما ذكرنا.

وإن أقامها غير الإمام أو وإليه فهي كلها مردودة ولا تحتسب بها ، لأنه أقامها من لم يؤمر بإقامتها ، فإن لم يقدر عليها الإمام فكل من قام بشيء من الحق حينئذ نفذ لأمر الله تعالى لنا بأن نكون قوّامين بالقسط ، ولا خلاف بين أحد من الأئمة إذا كان الإمام حاضرا متمكنا ، أو أميره أو وإليه ، فإنّ من بادر إلى تنفيذ حكم هو إلى الإمام فإنه إما مظلمة ترد ، وإما لغو لا ينفذ. على هذا جرى عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع عمّاله في البلاد بنقل جميع المسلمين عصرا بعد عصر ، ثم عمل جميع الصحابة رضي الله عنهم.

وأما الجهاد : فهو واجب مع كل إمام ، وكل متغلب ، وكل باغ ، وكل محارب

__________________

والترمذي في الصلاة باب ٦٠. والنسائي في الإمامة باب ٣ و ١١٥ و ٤٣ ، والقبلة باب ١٦. وابن ماجة في الأذان باب ٥ ، والإقامة باب ٤٦. وأحمد في المسند (٣ / ٤٨ ، ٥١ ، ٨٤ ، ١٦٣ ، ٤٧٥ ، ٤ / ١١٨ ، ١٢١ ، ٥ / ٧١ ، ٢٧٢).

(١) رواه مسلم في الزكاة حديث ٢٩ ، والنسائي في الزكاة باب ١٤ ، وأحمد في المسند (٤ / ٣٦٢). ولفظه عند مسلم : عن جرير بن عبد الله قال : جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : إنّ ناسا من المصدّقين يأتوننا فيظلموننا. قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرضوا مصدّقيكم». قال جرير : ما صدر عني مصدّق منذ سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عني راض.

(٢) تقدّم تخريجه في هذا الجزء.

١٠٩

من المسلمين ، لأنه تعاون على البر والتقوى ، وفرض على كل أحد الدعاء إلى الله تعالى وإلى دين الإسلام ، ومنع المسلمين ممن أرادهم. قال تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) الآية [سورة التوبة : ٥].

فهذا عموم لكل مسلم بنص الآية في كل مكان ، وكل زمان ، وبالله تعالى التوفيق.

ثم كتاب الإمامة والمفاضلة بحمد الله تعالى وشكره.

١١٠

ذكر العظائم المخرجة إلى الكفر أو إلى المحال من أقوال

أهل البدع ، المعتزلة والخوارج والمرجئة والشيعة

قال أبو محمد : قد كتبنا في ديواننا هذا من فضائح الملل المخالفة لدين الإسلام الذي في كتبهم من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، ما لا بقية لهم بعدها ، ولا يمتري أحد وقف عليها ، أنهم في ضلال وباطل. ونكتب إن شاء الله على هذه الفرق الأربع من فواحش أقوالهم ، ما لا يخفى على أحد قرأه أنهم في ضلال وباطل ، ليكون ذلك زاجرا لمن أراد الله توفيقه عن مضامنهم ، والتمادي فيهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لا نستحل ما يستحله من لا خير فيه من تقويل أحد ما لم يقله نصّا ، وإن آل قوله إليه ، إذ قد لا يلزم ما ينتجه قوله فيتناقض. فاعلموا أن تقويل القائل كافرا كان أو مبتدعا أو مخطئا ما لا يقوله نصّا كذب عليه ، ولا يحلّ الكذب على أحد ، لكن ربما دلّسوا المعنى الفاحش بلفظ ملتبس ، ليسهلوه على أهل الجهل ، ويحسن الظن بهم من أتباعهم ، وليبعد فهم تلك العظيمة على العامة من مخالفتهم كقول طوائف من أهل البدعة والضلالة : لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال ولا على الظلم ، ولا على الكذب ، ولا على غير ما علم أنه يكون ، فأخفوا عظيم الكفر في هذه القضية لما ذكرنا من تلبيس الأغمار من أتباعهم ، وتسكين الدهماء من مخالفتهم فرارا عن كشف معتقدهم صراحا الذي هو أنه تعالى لا يقدر على الظلم ولا قوة له على الكذب ، ولا به طاقة على المحال ، فلا بدّ لنا من إيضاح ما موهوه هكذا ، وإيراده بأظهر عباراته كشفا لتمويههم ، وتقربا إلى الله بهتك أستارهم وكشف أسرارهم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ذكر شنع الشيعة

قال أبو محمد : أهل الشنع من هذه الفرقة ثلاث طوائف :

أولها : الجاروديّة من الزيدية ، ثم الإمامية من الرافضة ، ثم الغالية.

فأمّا الجارودية : فإن طائفة منهم قالت : إن محمد بن عبد الله بن الحسن بن

١١١

الحسين بن علي بن أبي طالب ، القائم بالمدينة على أبي جعفر المنصور ، فوجّه إليه المنصور عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس ، فقتل محمد بن عبد الله بن الحسن رحمه‌الله ، فقالت هذه الطائفة : إن محمدا المذكور حي لم يقتل ، ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.

وقالت طائفة أخرى منهم : إن يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القائم بالكوفة أيام المستعين ، فوجه إليه محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بأمر المستعين ابن عمه الحسن بن إسماعيل بن الحسين وهو ابن أخي طاهر بن الحسين ، فقتل يحيى بن عمر رحمه‌الله. فقالت الطائفة المذكورة : إن يحيى بن عمر هذا حي لم يقتل ، ولا مات ، ولا يموت ، حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.

وقالت طائفة منهم : إن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، القائم بالطالقان أيام المعتصم ، حيّ لم يمت ، ولا قتل ، ولا يموت ، حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.

وقالت الكيسانية ، وهم أصحاب المختار بن أبي عبيد ، وهم عندنا شعبة من الزيدية وفي سبيلهم : إن محمد بن علي بن أبي طالب ، وهو ابن الحنفية ، حيّ بجبل رضوى (١) عن يمينه أسد وعن يساره نمر تحدثه الملائكة ، يأتيه رزقه غدوّا وعشيّا لم يمت ، ولا يموت ، حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.

وقال بعض الروافض الإمامية ، وهي الفرقة التي تدعى الممطورة : إنّ موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حيّ لم يمت ، ولا يموت ، حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.

وقالت طائفة منهم ، وهم الناووسية أصحاب ابن ناووس المصري ، مثل ذلك في أبيه جعفر بن محمد.

وقالت طائفة منهم مثل ذلك في أخيه إسماعيل بن جعفر.

وقالت السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي ، مثل ذلك في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وزادوا : أنه في السحاب.

__________________

(١) رضوى : جبل بين مكة والمدينة قرب ينبع على مسيرة يوم منها. انظر مراصد الاطلاع (ص ٦٢٠).

١١٢

فليت شعري!! في أي سحابة هو من السحاب؟ والسحاب كثير في أقطار الهواء مسخّر بين السماء والأرض ، كما قال الله عزوجل (١).

وقال عبد الله بن سبأ إذ بلغه قتل علي رضي الله عنه : لو أتيتمونا بدماغه في سبعين صرّة ما صدّقنا موته ، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.

وقال بعض الكيسانية : بأن أبا مسلم السّراج حيّ لم يمت ، وسيظهر ولا بدّ.

وقال بعض الكيسانية : بأن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، حيّ بجبال أصبهان إلى اليوم ، ولا بدّ له من أن يظهر ، وعبد الله هذا هو القائم بفارس أيام مروان بن محمد وقتله أبو مسلم بعد أن سجنه دهرا. وكان عبد الله هذا رديّ الدين معطّلا ، مستصحبا للدّهرية.

قال أبو محمد : فصار هؤلاء في سبيل اليهود القائلين بأن ملكيصيدق بن عامر ابن أرفخشذي بن سام بن نوح ، والعبد الذي وجه إبراهيم عليه‌السلام ليخطب ريقا بنت نتوال بن ناحور بن تارح ، على إسحاق ابنه عليه‌السلام ، وإلياس عليه‌السلام وفنحاس بن العازار بن هارون عليه‌السلام ، أحياء إلى اليوم ، وسلك هذا السبيل بعض نوكى (٢) الصوفية فزعموا أن الخضر ، وإلياس ، عليهما‌السلام حيّان إلى اليوم.

وادّعى بعضهم أنه يلقى إلياس في الفلوات ، والخضر في المروج والرياض ، وأنه متى ذكر خطر على ذاكره.

قال أبو محمد : فإن ذكر في شرق الأرض وغربها ، وشمالها ، وجنوبها ، وفي ألف موضع في دقيقة واحدة كيف يصنع؟

وقد لقينا من يذهب إلى هذا خلقا ، وكلمناهم ، منهم المعروف بابن نفق الليل المحدث «بطلبيرة» وهو مع ذلك من أهل العناية وسعة الرواية.

ومنهم : محمد بن عبد الله الكاتب ، وأخبرني أنه جالس الخضر وكلمه مرارا ، وغيره كثير. هذا مع سماعهم قول الله تعالى : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) [سورة الأحزاب : ٤٠].

__________________

(١) في الآية ١٦٤ من سورة البقرة : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

(٢) النوكى : الحمقى ، جمع أنوك.

١١٣

وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نبيّ بعدي» (١).

فكيف يستجيز مسلم أن يثبت بعده عليه‌السلام نبيا في الأرض حاشا ما استثناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآثار المسندة الثابتة من نزول عيسى ابن مريم عليه‌السلام في آخر الزمان ، وكفار برغواطه إلى اليوم ينتظرون صالح بن طريف (٢) ، الذي شرع لهم دينهم.

وقالت القطيعية (٣) من الإمامية من الرّافضة كلهم وهم جمهور الشيعة ومنهم المتكلمون ، والنظارون ، والعدد العظيم ، بأن محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، حيّ لم يمت ، ولا يموت حتى يخرج ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ، وهو عندهم المهدي المنتظر.

وتقول طائفة منهم : إن مولد هذا الذي لم يخلق قط في سنة ستين ومائتين سنة موت أبيه.

وتقول طائفة منهم : بل بعد موت أبيه بمدة.

وقالت طائفة منهم : بل في حياة أبيه ، ورووا ذلك عن حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى ، وأنها شهدت ولادته ، وسمعته يتكلم حين سقط من بطن أمه ، ويقرأ القرآن وأن أمه نرجس ، وأنها هي كانت القابلة.

وقال جمهورهم : بل أمه «صقيل».

وقالت طائفة : بل أمه سوسن. وكل هذا هوس. ولم يعقب الحسن المذكور لا ذكرا ولا أنثى. فهذا أول نوك (٤) الشيعة ، ومفتاح عظيماتهم وأخفها إن كانت مهلكة.

ثم قالوا كلهم إذ سئلوا عن الحجة فيما يقولون : حجتنا الإلهام ، وأن من خالفنا ليس لرشدة ، فكان هذا طريفا جدّا.

وليت شعري!! ما الفرق بينهم وبين عيّار مثلهم ، يدعي في إبطال قولهم الإلهام ، وأن الشيعة ليسوا رشدة ، أو أنهم نوكى ، أو أنهم جملة ذوو شعبة من جنون في رءوسهم؟

__________________

(١) جزء من حديث رواه البخاري في المغازي باب ٧٨ ، بلفظ : «ليس بعدي نبيّ».

(٢) صالح بن طريف البرغواطي : انتحل دينا وشرع للناس صلاة وصياما وزعم أنه أوحي إليه. مات نحو سنة ١٧٥ ه‍. انظر الأعلام للزركلي (٣ / ٢٧٦).

(٣) هم الاثنا عشرية من الإمامية. وسمّوا بالقطيعية ، أو بالقطيعية ، لأنهم ساقوا الإمامة من جعفر الصادق إلى ابنه موسى وقطعوا بموت موسى. انظر الفرق بين الفرق (ص ٤٣).

(٤) النوك : الحمق.

١١٤

وما قولهم فيمن كان منهم ثم صار في غيرهم؟ أو من كان في غيرهم ثم صار منهم؟ أتراه ينتقل من ولادة الغيّة إلى ولادة الرشدة ، ومن ولادة الرشدة إلى ولادة الغيّة؟

فإن قالوا : حكمه لما يموت عليه. قيل لهم : فلعلكم أولاد غية إذ لا يؤمن رجوع الواحد فالواحد منكم إلى خلاف ما هو عليه اليوم.

والقوم بالجملة ذوو أديان فاسدة ، وعقول مدخولة ، وعديمو حياء. ونعوذ بالله من الضلال.

وذكر عمرو بن بحر الجاحظ ، وهو إن كان أحد المجان ، ومن غلب عليه الهزل وأحد الضلال المضلين ، قال الله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) [سورة الإسراء : ٣٧] ، فإننا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتا لها ، وإن كان كثير الإيراد لكذب غيره ، قال : أخبرني أبو إسحاق إبراهيم النظام وبشر بن خالد أنهما قالا لمحمد بن جعفر الرافضي المعروف بشيطان الطاق : ويحك أما استحييت؟ أما اتقيت الله أن تقول في كتابك في الإمامة إن الله تعالى لم يقل قط في القرآن : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [سورة التوبة : ٤٠].

قالا : فضحك والله شيطان الطاق ، ضحكا طويلا ، حتى كأنّا نحن الذين أذنبنا.

قال النظّام : وكنا نكلم علي بن متيّم الصابوني ، وكان من شيوخ الرافضة ومتكلميهم فنسأله : أرأى أم سمع عن الأئمة؟ فينكر أن يقوله برأي ، فنخبره بقوله فيها قبل ذلك. قال : فو الله ما رأيته خجل من ذلك ، ولا استحيا لفعله هذا قط.

ومن قول الإمامية كلها قديما وحديثا أن القرآن مبدّل زيد فيه ما ليس منه ، ونقص منه كثير ، وبدّل منه كثير حاشا علي بن الحسن بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وكان إماميا فيهم يظاهر بالاعتزال ، ومع ذلك كان ينكر هذا القول ، ويكفر من قاله ، وكذلك صاحباه أبو يعلى ميلاد الطوسي ، وأبو القاسم الرازي.

قال أبو محمد : القول بأن بين اللوحين تبديلا كفر صريح (١) ، وتكذيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقالت طائفة من الكيسانية بتناسخ الأرواح ، وبهذا كان يقول السيد الحميري الشاعر لعنه الله ، ويبلغ الأمر بمن ذهب إلى هذا أن يأخذ أحدهم البغل ، والحمار ،

__________________

(١) تحرفت في الأصل المطبوع إلى «صحيح». والصواب ما أثبتناه.

١١٥

فيعذبه ، ويضربه ، ويعطشه ويجيعه ، على أن روح أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيه ، فاعجبوا لهذا الحمق الذي لا نظير له. وما الذي خص هذا البغل الشقي والحمار المسكين بنقله الروح إليه دون سائر البغال والحمير؟ وكذلك يفعلون بالعنز على أنّ روح أم المؤمنين رضي الله عنها فيها.

وجمهور متكلميهم كهشام بن الحكم الكوفي ، وتلميذه أبي علي الصّكاك (١) ، وغيرهما يقول بأن علم الله تعالى محدث ، وأنه لم يكن يعلم شيئا حتى أحدث لنفسه علما ، وهذا كفر صريح ، وقد قال هشام هذا في حين مناظرته لأبي الهذيل العلاف : إنّ ربه سبعة أشبار بشبر نفسه ، وهذا كفر صحيح.

وكان داود الجواربي من كبار متكلميهم ، يزعم أن ربه لحم ودم ، على صورة الإنسان.

ولا يختلفون في أن الشمس ردّت على عليّ بن أبي طالب مرتين ، أفيكون في صفاقة الوجه ، وصلابة الخدّ ، وعدم الحياء ، والجرأة على الكذب أكثر من هذا على قرب العهد وكثرة الخلق؟

وطائفة منهم تقول : إنّ الله تعالى يريد الشيء ويعزم عليه ، ثم يبدو له فلا يفعله ، وهذا مشهور للكيسانية ، ومن الإمامية من يجيز نكاح تسع نسوة. ومنهم من يحرّم الكرنب ، لأنه إنما نبت على دم الحسين ، ولم يكن قبل ذلك ، وهذا في قلة الحياء قريب مما قبله ، وكما يزعم كثير منهم أنّ عليا لم يكن له سمي قبله ، وهذا جهل عظيم ، بل كان في العرب كثير يسمون هذا الاسم ، كعلي بن بكر بن وائل وإليه يرجع كل بكري في العالم في نسبه ، وفي الأزد عليّ ، وفي بجيلة عليّ ، وغيرها ، كل ذلك في الجاهلية مشهور. وأقرب من ذلك عامر بن الطفيل يكنى أبا علي ، ومجاهراتهم أكثر مما ذكرنا.

ومنهم طائفة تقول بفناء الجنة والنار.

وفي الكيسانية من يقول : إن الدنيا لا تفنى أبدا. ومنهم طائفة تسمّى النحلية نسبوا إلى الحسن بن علي بن ورصند النحلي ، كان من أهل نفطة من عمل قفصة

__________________

(١) كذا في الأصل. وفي الفهرست للنديم : «السكّاك». وهو محمد بن الجليل السكّاك ، كان متكلما من أصحاب هشام بن الحكم ، وخالفه في أشياء إلا في أصل الإمامة. وله من الكتب : كتاب المعرفة ، كتاب في الاستطاعة ، كتاب الإمامة ، كتاب على من أبي وجوب الإمامة بالنصّ ، انظر الفهرست (ص ٢٢٥).

١١٦

وقسطيلية من كور إفريقية ثم نهض هذا الكافر إلى السوس في أقاصي بلاد المصامدة ، فأضلهم وأضل أمير السوس أحمد بن إدريس بن يحيى بن إدريس بن إدريس بن عبد الله ابن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فهم هنالك كثير سكان في ربض مدينة السوس ، معلنون بكفرهم ، وصلاتهم خلاف صلاة المسلمين ، لا يأكلون شيئا من الثمار ذبل أصله ، ويقولون إن الإمامة في ولد الحسن دون ولد الحسين.

ومنهم أصحاب أبي كامل ، ومن قولهم : إن جميع الصحابة رضي الله عنهم كفروا بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ جحدوا إمامة علي ، وأن عليا كفر إذا أسلم الأمر إلى أبي بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان. ثم قال جمهورهم : إن عليا ومن اتبعه رجعوا إلى الإسلام إذ دعا إلى نفسه بعد قتل عثمان ، وإذ كشف وجهه وسل سيفه وإنّه وإيّاهم كانوا قبل ذلك مرتدين عن الإسلام ، كفارا مشركين.

ومنهم من يردّ الذنب في ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لم يبين الأمر بيانا رافعا للإشكال.

قال أبو محمد : وكل هذا كفر صريح لا خفاء به فهذه مذاهب الإمامية ، وهي المتوسطة في الغلوّ من فرق الشيعة.

وأمّا الغالية من الشيعة فهم قسمان :

قسم أوجبت النبوة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغيره.

والقسم الثاني : أوجبوا الإلهية لغير الله عزوجل فلحقوا بالنصارى واليهود وكفروا أشنع الكفر.

فالطائفة التي أوجبت النبوة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرق ، فمنهم الغرابية وقولهم إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أشبه بعلي من الغراب بالغراب ، وأن الله عزوجل بعث جبريل عليه‌السلام بالوحي إلى علي ، فغلط جبريل عليه‌السلام بمحمد ، ولا لوم على جبريل في ذلك لأنه غلط.

وقالت طائفة منهم : بل تعمّد ذلك جبريل ، وكفّروه ولعنوه لعنهم الله.

قال أبو محمد : فهل سمع بأضعف عقولا ، وأتمّ رقاعة من قوم يقولون إنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يشبه عليّ بن أبي طالب في الناس!! أين يقع شبه ابن أربعين سنة من صبيّ ابن إحدى عشرة سنة ، حتى يغلط به جبريل عليه‌السلام ، ثم محمد عليه‌السلام فوق الرّبعة إلى الطول ، قويم القناة ، كثّ اللحية ، أدعج العينين ، ممتلئ السّاقين ، قليل

١١٧

شعر الجسد ، أفرع ، وعليّ دون الرّبعة إلى القصر ، منكبّ شديد الانكباب كأنه كسر ثم جبر ، عظم اللحية ، قد ملئت صدره من منكب إلى منكب إذا التحى ثقيل العينين ، دقيق السّاقين ، أصلع ، عظيم الصلع ، ليس في رأسه شعر إلّا في مؤخره يسير ، كثير شعر اللحية ، فاعجبوا لحمق هذه الطبقة.

ثم لو جاز أن يغلط جبريل ـ وحاشا لروح القدس الأمين ـ كيف غفل الله عزوجل عن تقويمه وتنبيهه فتركه على غلطه ثلاثا وعشرين سنة؟ ثم أظرف من هذا كله : من أخبرهم بهذا الخبر؟ ومن خرفهم بهذه الخرافة؟ وهذا لا يعرفه إلّا من شاهد أمر الله تعالى لجبريل عليه‌السلام ثم شاهد خلافه ، فعلى هؤلاء لعنة الله ولعنة اللاعنين ، والملائكة والناس أجمعين ، ما دام الله في عالمه خلق.

وفرقة قالت بأن عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر ، وعلي بن موسى ، ومحمد بن علي ، والحسن بن محمد ، والمنتظر ابن الحسن أنبياء كلهم.

وفرقة قالت بنبوة محمد بن إسماعيل بن جعفر فقط ، وهم طائفة من القرامطة.

وفرقة قالت بنبوة عليّ وبنيه الثلاثة ، الحسن والحسين ، ومحمد ابن الحنفية فقط وهم طائفة من الكيسانية.

وقد حوّم المختار حول أن يدّعي النبوة لنفسه ، وسجع أسجاعا وأنذر بالغيوب عن الله عزوجل ، واتبعه على ذلك طوائف من الشيعة الملعونة ، وقال بإمامة محمد ابن الحنفية.

وفرقة قالت بنبوة المغيرة بن سعيد مولى بجيلة بالكوفة ، وهو الذي أحرقه خالد ابن عبد الله القشريّ بالنّار ، وكان لعنه الله يقول : إنّ معبوده صورة رجل على رأسه تاج ، وأن أعضاءه على عدد حروف الهجاء ، الألف للسّاقين ونحو ذلك مما لا ينطلق لسان ذي شعبة من دين به ، تعالى الله عمّا يقول الكافرون علوّا كبيرا ، وكان لعنه الله يقول : إنّ معبوده لما أراد أن يخلق الخلق تكلم باسمه الأكبر فطار ، فوقع على تاجه ، ثم كتب بإصبعه أعمال العباد من المعاصي والطاعات فلما رأى المعاصي ارفضّ عرقا ، فاجتمع من عرقه بحران ، أحدهما ملح مظلم ، والثاني نيّر عذب ، ثم اطلع في البحر فرأى ظله فذهب ليأخذه فطار فأخذه فقلع عيني ذلك الظل ومحقه فخلق من عينيه الشمس وشمسا أخرى ، وخلق الكفار من البحر المالح ، وخلق المؤمنين من البحر العذب في تخليط لهم كثير.

وكان مما يقول : إن الأنبياء لم يختلفوا قط في شيء من الشرائع.

١١٨

وقد قيل إن جابر بن يزيد الجعفي الذي يروي عن الشعبي كان خليفة المغيرة ابن سعيد إذ أحرقه خالد بن عبد الله القشريّ ، فلما مات جابر خلفه بكر الأعور الهجري ، فلما مات فوضوا أمرهم إلى عبد الله بن المغيرة رئيسهم المذكور ، وكان لهم عدد ضخم بالكوفة ، وآخر ما وقف عليه المغيرة بن سعيد القول بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ، وتحريم ماء الفرات ، وكل ماء نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة ، برئت منه عند ذلك القائلون بالإمامة في ولد الحسين.

وفرقة قالت بنبوة بيان بن سمعان التميمي ، صلبه وأحرقه خالد بن عبد الله القسري مع المغيرة بن سعيد في يوم واحد ، وجبن المغيرة بن سعيد عن اعتناق حزمة الحطب جبنا شديدا حتى ضم إليها قهرا ، وبادر بيان بن سمعان إلى الحزمة فاحتضنها من غير إكراه ، ولم يظهر منه جزع ، فقال خالد لأصحابهما : في كل شيء أنتم مجانين؟ هذا كان ينبغي أن يكون رئيسكم لا هذا الفل. وكان بيان لعنه الله يقول : إن الله تعالى يفنى كله حاشا وجهه فقط ، وظن المجنون أنه تعلق في كفره هذا بقول الله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [سورة الرحمن : ٢٧].

ولو كان له أدنى عقل أو فهم لعلم أن الله تعالى إنما أخبر بالفناء عمّا على الأرض فقط بنص قوله الصادق : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ).

ولم يصف عزوجل بالفناء غير ما على الأرض ، ووجه الله تعالى هو الله ، وليس هو شيئا غيره ، وحاشا لله من أن يوصف بالتبعيض والتجزؤ ، هذه صفة المخلوقين المحدودين ، لا صفة من لا يحدّ ولا له مثل ، وكان لعنه الله يقول : إنه المعنيّ بقول الله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران : ١٣٨].

وكان يذهب إلى أن الإمام هو أبو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية ثم هي في سائر ولد عليّ كلهم.

وقالت فرقة منهم بنبوة أبي منصور المستنير العجلي وهو الملقب بالكشف ، وكان يقال إنه المراد بقول الله عزوجل : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) [سورة الطور : ٤٤].

وصلبه يوسف بن عمر بالكوفة ، وكان لعنه الله يقول : إنه عرج به إلى السماوات ، وأن الله تعالى مسح رأسه بيده ، وقال له أي بني ، اذهب فبلّغ عني ، وكان يمين أصحابه «لا والكلمة» ، وكان لعنه الله يقول : بأن أول من خلق الله تعالى فعيسى ابن مريم ثم علي بن أبي طالب ، وكان يقول بتواتر الرسل ، وأباح المحرّمات من الزنا ، والخمر ،

١١٩

والميتة ، والخنزير ، والدّم ، وقال إنما هم أسماء رجال ، وجمهور الرّافضة اليوم على هذا ، وأسقط الصلاة والزكاة والصيام والحج ، وأصحابه كلهم خناقون رضّاخون ، وكذلك أصحاب المغيرة بن سعيد ومعناهم في ذلك أنهم لا يستحلون حمل السلاح حتى يخرج الذي ينتظرونه فهم يقتلون الناس بالخنق وبالحجارة والخشبية بالخشب فقط. وذكر هشام بن الحكم الرافضي في كتابه المعروف بالميزان ، وهو أعلم الناس بهم لأنه جارهم بالكوفة ، وجارهم في المذهب : أن الكشفية خاصة يقتلون من كان منهم ومن خالفهم ، ويقولون نعجل المؤمن إلى الجنة ، والكافر إلى النار ، وكانوا بعد موت أبي منصور يؤدون الخمس مما يأخذون ممن خنقوه إلى الحسن بن أبي المنصور. وأصحابه فرقتان فرقة قالت : إنّ الإمامة بعد محمد بن علي بن الحسن ، صارت إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين.

وفرقة قالت : بل إلى أبي منصور الكشف ، ولا تعود في ولد عليّ أبدا.

وقالت فرقة بنبوة بزيغ الحائك بالكوفة وإن وقوع هذه الدعوى لهم في حائك لطريفة

وفرقة قالت بنبوة معمر بائع الحنطة بالكوفة.

وقالت فرقة بنبوة عمير التّبان بالكوفة ، وكان لعنه الله يقول لأصحابه : لو شئت أن أعيد هذا التبن تبرا لفعلت ، وقدم إلى خالد بن عبد الله القشريّ بالكوفة فتجلّد وسبّ خالدا ، فأمر خالد بضرب عنقه فقتل إلى لعنة الله.

وهذه الفرق الخمس كلها من فرق الخطابية.

وقالت فرقة من أوائل شيعة بني العباس بنبوّة عمار الملقب بخداش فظفر به أسد بن عبد الله أخو خالد بن عبد الله القسري فقتله إلى لعنة الله.

والقسم الثاني من فرق الغالية الذين يقولون بالإلهية لغير الله عزوجل فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري لعنه الله : أتوا إلي عليّ بن أبي طالب فقالوا مشافهة : أنت هو. فقال لهم : ومن هو؟ قالوا : أنت الله. فاستعظم الأمر ، وأمر بنار فأججت فأحرقهم بالنار ، فجعلوا يقولون وهم يرمون في النار : الآن صح عندنا أنك الله لأنه لا يعذّب بالنار إلّا الله ، وفي ذلك يقول عليّ رضي الله عنه :

لما رأيت الأمر أمرا منكرا

أججت نارا ودعوت قنبرا

يريد قنبرا مولاه ، وهو الذي تولّى طرحهم في النار ، نعوذ بالله من أن نفتتن بمخلوق ، أو يفتتن بنا مخلوق فيما جلّ أو دقّ ، فإنّ محنة أبي الحسن رضي الله عنه

١٢٠