الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

محترمين ، ثم جهّزهم تجهيزا ملوكيّا باذخا ليعودوا إلى رحاب أبيهم العظيم لتبشيره وللإتيان به إلى مصر مع جميع أهله وعياله ومن يلوذ به .. وكان يعقوب يقيم بالرملة من نواحي أرض كنعان ـ فلسطين ـ فأعطاهم قميصه المتوارث من جدّه إبراهيم عليه‌السلام وكانت فيه تعاويذ ، وهو القميص الذي ألبسه الله تعالى إبراهيم بواسطة جبرائيل عليهما‌السلام يوم ألقوه في النار فجعلها بردا وسلاما ، ثم ألبسه جبرائيل أيضا ليوسف يوم ألقاه إخوته في الجب فصار عليه الجب سلاما .. ثم قال يوسف (ع) لإخوته :

٩٣ ـ (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي) ... في بعض التفاسير أنه لمّا أمر الله أن يبشّر يعقوب بسلامة ولديه ، جاء جبرائيل وقال : يا يوسف إن هذا القميص فيه رائحة الجنّة ، وما وقع على مريض أو مبتلي إلّا شفاه الله وعافاه ، فأرسله إلى أرض كنعان حتى يلقى على عيني أبيك فيشفيهما الله تعالى ببركته. فلذا قال : اذهبوا بقميصي هذا فألقوه أي ضعوه على وجه أبي (يَأْتِ بَصِيراً) أي يعود حديد النظر سليم العينين (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أحضروهم جميعا. وقيل إن هذا الكلام كان منه معجزة لأنه لم يكن يعرف هذه الخصوصية بالقميص إلّا بواسطة الوحي السماوي.

وقال يوسف (ع) إنما يذهب بقميصي هذا إلى أبي من ذهب بقميصي الملطّخ بالدم يوم فارقت أبي. فقال يهودا : أنا ذهبت به يومئذ وأخبرته بقصة الذئب. قال يوسف (ع) : اذهب بهذا وأخبره أني حيّ فأفرحه كما أحزنته أول مرة. فما أسمى هذا الخلق حين ندرك أن يوسف قصد بذلك أن يهيء إرضاء والده عن يهودا الذي أحرق قلبه بادئ الأمر وأثار سخطه وألقى في قلبه ما أقرحه ، وقد كانت المظنّة أن لا يرضى عنه أبوه مطلقا. ولكن بهذه الوسيلة يمكن أن يرق قلب يعقوب فيعفو عن ولده مقابل البشارة التي تمحو غيظ القلب وألم النفس .. وهكذا أخذ يهودا القميص وخرج من بين إخوته وسار وحده حافيا حاسرا يغذ السير حتى أتى والده عليه‌السلام وكان يفصله عنه ثمانون فرسخا ، وقد بلغ من سرعته في السير

٨١

أنه لم يستوف الخبز الذي حمله معه كزاد للطريق ، ثم ورد عليه وبشّره بحياة يوسف وذكر له ما جرى بينه وبينهم من حديث.

* * *

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

٩٤ ـ (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ) ... فصلت أي انفصلت عن مصر وفارقتها من عند يوسف عليه‌السلام ، والعير هي قافلة الإبل التي كانت تحملهم مع ميرتهم متجهة نحو أرض كنعان. وحينئذ (قالَ أَبُوهُمْ) أي يعقوب (ع) قال للحاضرين في مجلسه من أهل بلده ولمن هم في خدمته : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) قال أبو عبد الله عليه‌السلام : وجد يعقوب ريح قميص يوسف وهو بفلسطين من مسيرة عشر ليال. وهي مسافة ثمانين فرسخا كما أسلفنا. وذكر أن ريح الصّبا استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص فأذن لها المولى عزوجل فأتته بها. وقيل إن كان محزون يستروح بريح الصّبا ولذا قال الشاعر :

فإن الصّبا ريح إذا ما تنسّمت

على نفس محزون تجلّت همومها

فقد تنشّق يعقوب عليه‌السلام ريح ابنه وذكر ذلك لمن كان بحضرته قائلا لهم : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي لو لا تضعيف رأيي وتسفيه قولي

٨٢

وتكذيب زعمي بنظركم ، والفند الكذب ، وهنا معناه : ذلك ثابت لو لا أنكم تنسبون ذلك إلى ضعف العقل. ويظهر من كلامه أن هذا الشيخ الجليل السامي المقام كان كلما ذكر يوسف نسبوه إلى السفه ورموه بالجنون بحيث صار يأنف من ذكره بحضورهم ، ولذا لم يتورع الذين سمعوا قوله ذاك أن قالوا له على الفور :

٩٥ ـ (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ :) أي أنهم أجابوه : إنك كما كنت قبل فراق يوسف مفرطا في حبه وإيثاره ، مبتعدا عن الصواب في أمره ، فإنك اليوم كذلك تتوقّع لقاءه بسبب إكثارك من ذكره. فكيف تلقاه بعد هذه المدة الطويلة ، وكيف تجد ريحه من مسافات متطاولة لا تعرف لها حدودا؟ ... قالوا ذلك معتقدين موت يوسف منذ سنين ، ولم يريدوا بلفظة : ضلالك ، معنى الضلال عن الدين والحق ، بل أرادوا أن أمانيه وآماله بلقاء يوسف بعد موته كانت خلاف الصواب وخلاف شأن الأنبياء.

٩٦ ـ (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) ... أي لما وصل إلى عنده يهودا حامل البشارة كما عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، لأن يوسف كلّفه بهذه المهمة وشرّفه بحمل هذا الخبر السارّ لمصلحة اقتضت اختياره دون غيره من إخوته كما ذكرنا سابقا ـ فلما وصل بالقميص (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) أي طرح القميص على وجه أبيه يعقوب عليه‌السلام وعلى عينيه الشريفتين (فَارْتَدَّ) أي عاد (بَصِيراً) سليم النظر صحيح العينين وعادت إليه جميع قواه كما بينّا ، ف ـ (قالَ) يعقوب للحاضرين في خدمته : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أما أخبرتكم (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف وعدم اليأس من روح الله عزّ اسمه والأمل بأن يجمع بيننا وبينه ليصدّق سبحانه رؤيا يوسف التي رآها من قبل ، وهذا كله أعرفه تماما وإن خفي عنكم واستبعدته عقولكم.

وقيل إن يعقوب قال للبشير : كيف يوسف؟ فقال : هو ملك مصر. قال يعقوب : ما أصنع بالملك؟ على أيّ دين تركته؟ قال : على الإسلام.

٨٣

قال : الآن تمّت النعمة. ثم إن أولاد يعقوب وصلوا وأخذوا يعتذرون ويطلبون العفو من أبيهم والمغفرة من الله :

٩٧ ـ (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) ... يعني اطلب من ربك أن يعفو عمّا فرّطنا بحقك وعمّا فرّطنا في يوسف ، وعما أذنبنا بالنسبة لمقام ربّنا حيث عصيناه وآذيناك وآذينا أخانا يوسف (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) آثمين فيما فعلناه.

٩٨ ـ (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) ... قد وعدهم بالاستغفار ولم يظهر من الآية الشريفة أنه عفا عنهم واستغفر لهم حالا ، إذ روي أنه أخرّ الاستغفار إلى السّحر من ليلة الجمعة ، كما روي أنه أجّله لسحر ليلته تلك. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خير وقت دعوتم الله فيه الأسحار وتلا هذه الآية في قول يعقوب : سوف أستغفر لكم ربي ، وقال (ص): أخّرهم إلى السّحر. ويحتمل قويّا أن التأخير كان لأمر آخر ، وهو أن يرى (ع) فيما إذ كان يوسف (ع) قد استغفر لهم وعفا عن حقه ورضي عنهم بعد ظلمه. وقد كان قوله هذا لهم حين أخذ يجهّز نفسه وثقله للتحرك نحو مصر للقاء ولديه.

وروي أن يوسف أعطى إخوته مائتي راحلة مع جميع ما يحتاجون إليه في السفر ، وجهّزهم للعودة بأهلهم إلى مصر ، ولذا أخذوا يتهيئون للرجوع إلى مصر بعد وصولهم إلى الرملة من أرض فلسطين ، فإن يعقوب كان مشتاقا يحنّ إلى ملاقاة يوسف من يوم ورود البشير عليه. فتأجيل الاستغفار لهم في هذه الحال محتمل مع هذه القرائن الحالية والمقامية ، ومن القريب للواقع أن يكون ذلك ، وليس هو اجتهاد في مقابل نصّ إذ على فرض صحة الروايات التي وردت في المقام ليس ما ذكرناه من الاحتمال مانعا من جمعه معها ، لأنه ليس فيها ما يستفاد منه أن السبب الوحيد في التأخير هو كون السّحر أحسن أوقات الدعاء ، فيمكن أن يكون لتوقّفه أمر آخر أيضا له مدخلية فيه أولا. وثانيا يمكن أن يكون أصل التوقف لما ذكرناه. وأما زمان الدعاء واختيار سحر الجمعة أو مطلق السّحر فأخر الاستغفار من حيث زمانه إلى

٨٤

إن يجيء ذلك السّحر لأنه خير أوقات الدعاء. وحين يبني الإنسان على الاستغفار يدعو في كل حين وأيّ حين إذا حصلت أسباب الاستغفار ومقتضياته ، فتأمّل مرادي إن كان قد قصر بياني.

وبعبارة أخرى إن للدعاء حيثيتين وجهتين ، إحداهما زمانية ، وأخرى علّية ، وكلّ واحدة غير الأخرى. ففي ما نحن فيه الروايات متكفلة للأولى ، وما ذكرناه للثانية ، فلا منافاة بينهما. وعلى فرض أن يراد منها الجهة الثانية أيضا فلا يستفاد منها الانحصار كما لا يخفى ، ويدل على ما ذكرناه من تأخير استغفاره لهم أو يشير إليه ، أنه ربما كان قد أحب أن يرى يوسف ويعرف إذا كان قد رضى وعفا عنهم ، وهل هم أهل للرضا والمغفرة أم لا.

وروي أن أبناء يعقوب قالوا لأبيهم ذلك وقد غلبهم الخوف والبكاء ، وذلك لا يغني عنهم شيئا إن لم يغفر لهم ، فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو ، ويوسف خلفه يؤمّن ، وقد قام أولاده خلفهما أذلّة خاشعين ، وبقوا على ذلك عشرين سنة حتى قلّ صبرهم فظنوا أنها الهلكة ، فنزل جبرائيل عليه‌السلام وقال : إن الله تعالى أجاب دعوتك في ولدك .. (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

* * *

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ

٨٥

إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠))

٩٩ ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) ... هذا الكلام جاء بعد حذف سكت عنه القرآن الكريم تقديره : لما خرج يعقوب وأهله عن أرضهم ، أتوا الأرض التي تحت سلطان يوسف وملكه من ناحية مصر ، وكان يوسف قد جاء مع أتباعه وأشياعه وبعض أهل مملكته ، فتلاقيا في مكان هيأه يوسف لاستقبالهم خارج مصر. فلمّا دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه أي ضمّ إليه أباه وأمه راحيل ـ كما في الرواية التي ذكرناها في أول السورة ـ وقيل بل هي خالته التي ربّته والمربّية تدعى أمّا ، وكان أبوه قد تزوجها بعد أمه ، وفي ذلك المنزل تعرّف يوسف إلى جميع أهله من جديد وأكرمهم ورحّب بهم واحدا بعد واحد مع أنه كان في ذلك المجلس مع الريّان ملك مصر وجميع وزرائه ، ومذ رآه والده في تلك الهيبة والجمال والعظمة سأل عنه من بين أشراف المملكة وقال : هل هذا فرعون مصر؟ فقال له أبناؤه : إنه ابنك يوسف ، فسجد شكرا لله وسجد مع نبيّ الله كل من كان معه.

وقد ذكر أصحاب السّير أن زليخا امرأة الريّان التي راودت يوسف سابقا قد كانت من المستقبلين وكانت قد أصبحت عمياء فقالت : سبحان من جعل العبيد ملوكا بطاعته ، وجعل الملوك عبيدا بمعصيته. وقد ذكر المؤرخون أنها كانت قد هزلت وضعفت بعد أن أسنّت ، وأنها قالت لقائدها أقعدني في طريق موكب يوسف ودلّني عليه حين يمر ، ففعل ، فقالت ما قالته فعرفها يوسف عليه‌السلام حين وقفت وقالت كلمتها فوقف احتراما لها ووقف العسكر بوقوفه ، وقال لها : يا زليخا كيف حالك؟ قالت : كما ترى. فقال أين جمالك؟ قالت : زال بفراقك. قال : أين مالك؟ قالت : أتلفته الحوادث. قال : فما أصابك في عينيك؟ قالت : أصابني فيهما ما أصابني من كثرة البكاء على فرقتك. قال : فهل بقي من محبتي مع تلك الحوادث والآلام في قلبك شيء؟ فقالت : كلّ يوم تتضاعف وتتزايد. ثم قالت تسبيحها الذي ذكرناه ، فنزل جبرائيل وقال : يا يوسف انتهى غمّها وأحزانها

٨٦

فادع الله أن يردّ عينيها وجمالها ويبدّل ضعفها بالقوة ويعطيها شبابها. فسأل الله ذلك كما أمر فأجاب الله دعاءه وتزوّجها بأمر منه سبحانه وولد منها ابنين وبنتا : ميشا ، وأفرايم ، ، وحنة زوجة أيوب عليه‌السلام.

والحاصل أن يوسف حين استقبال وفد النبوّة قال لأبيه ما قاله عن رؤياه الصادقة ، ثم لما ذهب التعب والعناء من وعثاء السفر (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أي في حال كونكم في أمن من خوف القحط والمشقة وجميع أصناف المكاره. وعن ابن عباس أن تعليق دخولهم مصر على المشيئة لأن الناس كانوا يخافون من دخول مصر بغير إجازة الفراعنة ، ولذا قال يوسف لأضيافه : لا تخافوا من حجب الإذن عنكم كبقية الواردين إلى مصر ، فإن إجازة الدخول بيدي ، وأنتم مأذونون فادخلوها بسلام وأمن وبلا إذن من غيري.

وقيل إنهم لمّا دخلوا مصر كانوا ثلاثا وسبعين نسمة. وأن بني : إسرائيل ـ وهم أبناء يعقوب وذراريهم ـ قد خرجوا مع موسى عليه‌السلام وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا ، ومائتا ألف امرأة وطفل. وكان فرعون في عهد موسى من أولاد الريان فرعون مصر في أيام يوسف.

وهكذا دخل يعقوب (ع) وأهله مصر ، فأنزلهم يوسف (ع) في دار الملك وقصر السلطنة.

١٠٠ ـ (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) ... أي فرفع يوسف أباه وخالته على سرير الملك. وذلك بعد أن دخل الجناح الخاصّ به وادّهن وتطيّب واكتحل ولبس ثياب العز بعد أن كان لا يتطيّب ولا يكتحل مدة فراق أبيه ، ثم دخل على هذه الهيئة الفتانة وقرّب إليه أبويه (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي سجدوا شكرا لله من أجله ومن أجل ما أعطاه من نعم (وَقالَ) يوسف (ع) : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) أي هذا تفسير الحلم الذي رأيته في منامي (مِنْ قَبْلُ) أي منذ زمن بعيد يوم كنت عندكم وحيث قصصت ذلك عليكم و (قَدْ جَعَلَها) أي الرؤيا (رَبِّي حَقًّا) يعني صدقا.

٨٧

قال علي بن إبراهيم : إن يحيى بن أكثم سأل مسائل وعرضها على أبي الحسن الهادي علي بن محمد الجواد عليهما‌السلام ، إحداها أن قال : أخبرني أسجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء. فأجاب أبو الحسن (ع) : أما سجود يعقوب وولده فإنه لم يكن ليوسف ، وإنما كان ذلك طاعة لله منهم وتحية ليوسف كما أن السجود من الملائكة كان منهم طاعة لله وتحية لآدم عليه‌السلام. ونحن نقول : كلا السجودين كانا عبودية لله وإجلالا لعظمته ، لا عبودية لآدم ولا ليوسف عليهما‌السلام ، وذلك كسجودنا على التربة الحسينية المشرّفة وغيرها مما يصحّ السجود عليه ، فإنه لا يجعل التربة ولا غيرها معبودا ولا صنما ولا وثنا كما يرمينا به غيرنا.

وقيل إنه كان بين رؤياه وبين تأويلها أربعون سنة ، وقيل ثمانون. فقد قال : هذا تأويل تلك الرؤيا قد تحقق والحمد لله (وَقَدْ أَحْسَنَ) الله تعالى (بِي) أي لطف بي (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) بعد تلك الفرية ، وتابع تعداد نعم الله عليه منذ إلقائه في الجب إلى يومه هذا حيث منّ سبحانه عليه بالحفظ (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) لأنهم كانوا من أصحاب المواشي يرتحلون في طلب الكلأ والمراعي لمواشيهم ينتجعون مواطن الخصب ـ جاء بكم إلى هذا الملك بعد البداوة (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي بعد أن أفسد الشيطان بينهم وتحرّش بهم فأوقعهم في الحسد فارتكبوا ما ارتكبوه ، وقد أزال الله تعالى ذلك كله (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) وقد شاء بلطفه أن جمع شملنا وألّف بيننا بعد تلك الوحشة فصار إخوتي أعضاد عملي وزينة مجلسي أقوياء بقوّتي وأصحاب شهامة وشجاعة وعزة لأنهم أولاد أنبياء ومن نبلاء الناس (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل إلّا ما فيه عين الحكمة وتمام المصلحة لأنه عالم بعواقب الأمور ومصائر الخلق.

وعن الإمام الهادي عليه‌السلام أن يعقوب قال لابنه : أخبرني ما فعل بك إخوتك حين أخرجوك من عندي. قال : يا أبت اعفني من ذلك. قال : أخبرني ببعضه. قال : إنهم لمّا أدنوني من الجب قالوا : انزع

٨٨

القميص. فقلت لهم : يا إخوتي اتّقوا الله ولا تجرّدوني. فسلّوا عليّ السكين وقالوا : لئن لم تنزع لنذبحنّك. فنزعت القميص وألقوني في الجب عريانا. قال : فشهق يعقوب شهقة وأغمي عليه. فلما أفاق قال : يا بنيّ حدّثني. قال : يا أبت أسألك بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إلّا أعفيتني ، فأعفاه .. وفي رواية : إن يوسف قال لأبيه : لا تسأل عن صنع إخوتي بي ، واسأل عن صنع الله بي.

أما لفظة : يا أبت فهي قراءة من قرأها بالإضافة إلى نفسه (يا أَبَتِ) فقد كسر التاء على الإضافة لياء المتكلم لأن ياء الإضافة تحذف في النداء. وأما إدخال تاء التأنيث في الأب (أبة) فانما تدخل في النداء خاصة وتلزم الأب عوضا عن ياء الإضافة. وقد يوقف عليها بالهاء فيقال : يا أبه ، لأن تاء التأنيث في الأسماء تبدل بالهاء حين الوقف.

أما من قرأ بالفتح : يا أبتا فإنه قد أبدل ياء الإضافة بألف.

* * *

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

١٠١ ـ (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) ... إن يوسف في ذلك المجلس الذي هيمن عليه الشكر لله والحمد له على مننه الجزيلة ، قد غمره الجوّ الإيماني الرائع ووقف حامدا خاشعا ضارعا معترفا بتتابع نعم الله عليه التي منها الملك والسياسة والتدبير بين الخلق وتعليمه وتفهيمه وتولّي أمره حيث لم يكله سبحانه إلى غيره ولم يعط أحدا كما أعطاه ـ قد خشع قلبه أكثر من أي وقت مضى وهو بين يدي ربّه وأبويه والنّعم محيطة به فتوجّه إليه تعالى معدّدا أفضاله قائلا : ربّ قد آتيتني من الملك مستعملا لفظة : من ، التي

٨٩

هي للتبعيض لأنه لم يكن له الملك كلّه بل كان له شيء منه فعن الإمام الباقر عليه‌السلام : إن الله تعالى لم يبعث أنبياء ملوكا إلا أربعة ... إلى أن قال : وأما يوسف فقد ملك مصر وبراريها ولم يتجاوزها إلى غيرها .. (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) فأفهمتني ما يؤدي بي إلى معرفة ما لا يعرفه غيري ، فسبحانك يا (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وخالقهما من العدم إلى الوجود : (أَنْتَ وَلِيِّي) أي متولّي أمري وناصري (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أي اقبضني إليك على الإيمان بك والتسليم إليك (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) واجعلني مع صالحي عبادك الذين ارتضيتهم. وقد قال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : لمّا جمع الله شمل يعقوب ، وأقرّ عين يوسف ، وأتمّ له رؤياه ، وّ وسّع عليه في ملك الدّنيا ونعيمها ، علم أن ذلك لا يبقى له ولا يدوم فطلب من الله نعيما لا يفنى ، واشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنّى الموت ودعا به ، ولم يتمنّ ذلك نبيّ لا قبله ولا بعده فقال : ربّ قد آتيتني إلخ .. فتوفاه الله بمصر وهو نبيّ فدفن في النيل في صندوق من رخام ، وذلك أنه لما مات تشاحّ الناس عليه وكان كلّ يحب أن يدفن في محلّته لما كانوا يرجون من بركته ، فرأوا أن يدفنوه في النيل فيمر الماء عليهم جميعا فيستفيدون من بركاته كلهم فكان قبره في النيل في صندوق من رخام.

وعاش يعقوب (ع) مائة وسبعا وأربعين سنة ، ودخل مصر على يوسف وهو ابن مائة وثلاثين سنة وكان بمصر سبع عشرة سنة ، ثم توفي ونقل إلى بيت المقدس في تابوت من ساج ووافق ذلك يوما مات فيه أخوه عيصو فدفنا في قبر واحد ، فمن ثم ينقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس.

وقد رجع يوسف (ع) من تشييعه إلى مثواه المذكور بوصية منه (ع) وعاش يوسف بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة. وعن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : عاش يعقوب مع يوسف عامين. وقال الراوي سألته : فمن كان الحجة لله في الأرض يعقوب أم يوسف؟ قال : كان الحجة يعقوب وكان الملك ليوسف ، وكان يوسف يعد يعقوب الحجّة ورسولا نبيّا ، أما تسمع

٩٠

قول الله : ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبيّنات؟.

ولمّا بعث موسى بن عمران عليه‌السلام أخرج يوسف (ع) من النيل وحمله إلى بيت المقدس ودفنه في مقابر آبائه الصالحين ، وكان بين يوسف (ع) وبين موسى أربعمائة سنة ، وكان يوسف (ع) من عظماء رجال الدّين والزهد والسياسة والتدبير. ويكفي في تدبيره أنه أبقى على نفوس أهل مصر مع براريها وبواديها وما حولها في سبع سنوات مجدبة وأبقى معهم وإلى جانبهم جميع أهل كنعان والشام ونواحيهما ، ولو لا حسن تدبيره وتقديره لهلك كلّهم أو جلّهم موتا من الجوع في هذه المدة الطويلة من الجدب والقحط ، ويكفيه أنه لعظيم لباقته ومقدرته ألجأ الريان ـ فرعون مصر إلى أن يخلع نفسه ـ وهو صاحب الجاه والسلطان في مصر وتوابعهما ـ وأن يتوّج يوسف بتاج الملك وأن يلبسه رداء الحكم مع أن فراعنة مصر كانت تهابهم سلاطين الأرض وملوك الدنيا ولا يدخل أحد مصر إلّا من بعد إذنهم وإجازتهم ، كما أن العزيز الذي كان وزير المالية من قبل الريان عزل نفسه أيضا وفوّض مفاتيح خزائن مصر إليه مع أن يوسف عليه‌السلام كان في الظاهر للناس عبده وهو مولاه قد اشتراه من تجار السيّارة التي ذكرها الله سبحانه سابقا ، كل ذلك بفضل الله عليه وبما أظهره من براعة السلوك وحسن الأخلاق والاستقامة وجميل السياسة مع أهل الملك والسلطان ومع سائر طبقات الناس على اختلاف عقائدهم وتشتّت آرائهم وأفكارهم ، فإنهم جميعا امتثلوا أوامره ونواهيه بشكل من الانقياد تتحيّر له العقول فليتأمل المفكّر وليعتبر المعتبر بما كان عليه يوسف من صفات الكمال والدّين ورسوخ العقيدة بمبدئه ومعاده ، يدلّنا على ذلك أنه عليه‌السلام قد خلع نفسه من ملكه العظيم مرتين : إحداهما بعد أن تمّت له السلطة ، واستقرّ له الأمر ، وخضع له كل أبيض وأحمر وأسود لأنه ملكهم واشتراهم نساء ورجالا في السنة السابعة من سنوات الجدب كما ذكرنا وصاروا إماء يفعل بهم فرعون مصر ما يشاء ، ثم قال للفرعون : هذا تاجك ولك سلطانك وملكك الذي فوّضت أمره إليّ فقبلته لمصلحة اقتضت قبولي ، فافعل الآن

٩١

ما شئت واحكم كما كنت سابقا ، فآمن فرعون بدين يوسف (ع) أي بدين يعقوب أبيه وقال : أنت أولى منّي بالملك وأجدر بالحكم فابق على ما أنت عليه من سياسة الدولة. وثانيتهما حين دعا ربّه قائلا : توفّني مسلما وألحقني بالصالحين ، فطلب منه سبحانه نزع ثوب الملوكية عنه ليلحق بصالحي آبائه في جنات الله ومرضاته بعد أن رأى ملك الدنيا زائلا ونعيمها باطلا وأن النعيم الدائم والملك الباقي هو في الآخرة. وقيل إنه بعد طلبه هذا لم يبق حيّا إلّا أياما قلائل ، وقد مدحه الإمام الصادق عليه‌السلام أيضا بأنه تمنّى الموت وهو في ذلك المقام السامي الرفيع ، ولم يتمنّ ذلك نبيّ قبله ولا بعده. ولعله يقصد أنه لم يتمنّ ذلك نبيّ ممّن أعطاهم الله الملك مع النبوّة ، فإن هذا التمني ـ مع الملك والطاعة المرضية والعمل المقبول ـ له أهمية عظمي. فيوسف عليه‌السلام ذو مقام سام وذو خصائص رفيعة عرفت أكثرها لم تكن لغيره من النبيّين ، ولذلك كان يذكره نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله في كثير من الموارد ويشير إلى صفاته الكريمة وأخلاقه السامية وأفعاله الطيبة. وفي الإكمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن أبيه ، عن جدّه ، عن رسول الله صلوات الله عليهم جميعا ، عاش يعقوب بن إسحاق مائة وأربعين سنة ، وعاش يوسف بن يعقوب مائة وعشرين سنة. وعن الصادق (ع) أن الله تعالى أوحى إلى موسى بن عمران أن أخرج عظام يوسف من مصر ، فاستخرجه من شاطئ النيل وكان لا يزال في صندوق المرمر ، فحمله إلى بيت المقدس كما أشرنا.

وعن الإمام الهادي عليه‌السلام : لما مات العزيز في السنين المجدبة افتقرت امرأته زليخا ، واحتاجت حتى سألت. فقالوا لها : لو قعدت للعزيز ـ أعني ليوسف (ع) ـ ومعنى قولهم : لو اعترضتيه في الطريق فقالت : أستحيي نه. فلم يزالوا بها حتى قعدت له. فأقبل يوسف في موكبه فقامت فقالت له (ما قد ذكرناه منذ قليل في حذره معها) فقال لها يوسف : أنت تيك؟ أي صاحبته في المراودة عن نفسه. فقالت : نعم. فقال لها : هل لك فيّ رغبة؟ قالت : دعني ، بعد ما كبرت؟ أتهزأ بي؟ قال : لا. قالت : نعم.

٩٢

فأمر بها فحوّلت إلى منزله وكانت هرمة ، فقال لها : ألست فعلت بي كذا وكذا؟ فقالت : يا نبيّ الله لا تلمني فإني بليت بثلاثة لم يبل بها أحد. قال : وما هي؟ قالت : بليت بحبّك ولم يخلق الله لك في الدنيا نظيرا ، وبليت بأنه لم يكن في مصر امرأة أجمل منّي ولا أكثر مالا منّي نزع عنّي ، وبليت بزوج عنّين. فقال لها يوسف : فما تريدين؟ فقالت : تسأل الله أن يرد عليّ شبابي. فسأل الله فرد عليها شبابها ، فتزوّجها وهي بكر ، وكان ذلك الدعاء والتزويج بإذن من الله وبمشيئته بمقابل تلك النفس الرياضية الشريفة من يوسف (ع) فإن حفظ النفس الأمّارة بالسوء ، وإرغام الشيطان في تلك المواقف الخطيرة التي ابتلي بها مع أجمل نساء زمانه وهو في عنفوان شبابه بلا مانع ولا رادع ومع وجود المقتضيات وتمام تهيّؤ الجهات الظاهرية ـ إن ذلك كان من أتمّ الجهاد النفسي الرائع ومن أفراد ومصاديق التقوى. فإن قضية يوسف (ع) مع امرأة العزيز قضية بلاء من النوع الثقيل ، وفتنة لا يتحمّلها ولا ينجو منها أكثر أهل الإيمان العادي الذين لم يبلغوا درجة الكمال ، واختبار لا يثبت أمامه إلّا أهل الورع العظيم ، لأن سهام الشيطان لا ينجو منها في ذلك الميدان إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان ومحضه إياه محضا ، لأن ذلك الموقف تكبو له الجياد وتنبو الصوارم ، وتنهزم أمامه القوى ، إلّا من عصم الله من عباده الذين اصطفى .. فلا جرم أن يكافئ الله نبيّه هذا عليه‌السلام في دار الدّنيا ويعود عليه بفضله على صبره ورضاه ، بل لا غرو أن يجازي تلك العبدة المبتلاة بما ذكرناه بعد أن رماها بالتأيم بعد العزّ وبالفقر بعد الغنى وبالذل بعد المجد الباذخ ، ثم بقيت على ما هي عليه بنتا باكرا حتى بلغت من الكبر عتيا دون أن ترخص نفسها ، فمنّ الله عليها بتحقيق رغبتها ، وألهم يوسف بالتزويج منها ، ومنّ عليها بالأولاد ذكورا وإناثا ، فسبحان من يعطي في الدنيا ما يعجز المرء عن شكره من النّعم والفضل ، ويعطي في الآخرة بغير حساب جودا منه وكرما وإحسانا.

هذا ، وبعد إتمام سرد قصة يوسف عليه‌السلام على سمع نبيّنا محمد

٩٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، توجّه سبحانه في خطابه إلى نبيّنا الكريم ، رسوله العظيم فقال له عزّ من قائل :

* * *

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨))

١٠٢ ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ... أي أن بيان قصة يوسف من أولها إلى آخرها هو من الأخبار الغيبية ومن الغيب الذي كنت تجهله ونحن نوحيه إليك فننزله عليك ونلهمك إياه ، وهي الآن بين يديك مفصلة لتكون من دلائل نبوّتك وإعجازك .. وسبب نزول هذه القصة بهذا الشكل ، أن جماعة من اليهود طلبوها من رسول الله (ص) لأنها مذكورة في توراتهم. وظنّ رسول الله (ص) أنهم يؤمنون بعد سماعها منه ولكنهم ـ بعد أن بيّنها ـ بقوا على كفرهم وإصرارهم ، ولذلك قال سبحانه : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي اتفقوا على هذا الأمر (وَهُمْ يَمْكُرُونَ)

٩٤

ويحتالون تخلصا من الإيمان به (ص) ولذلك نزلت الآية الشريفة التالية تسلية له.

١٠٣ ـ (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) ... الجارّ والمجرور يتعلّقان بأكثر ، والمعنى أنه مهما حرصت على توفير جوّ الإيمان للناس فإن أكثرهم لا يؤمنون. والحرص هو طلب الشيء بغاية الاجتهاد ونهاية الجد. وحرص الداعي لا يفيد إذا كان المدعوّ غير مجيب وغير متفكر بدعوة من يدعوه ، كفرا وجحودا كاليهود الذين لو كانوا عقلاء لعرفوا الحق وتقبّلوا الدعوة ولم يتمردوا على الله ورسوله. فدعهم وشأنهم لأن حسابهم علينا ، ولا تتعب نفسك بالحرص على إيمانهم ، لأنك :

١٠٤ ـ (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ... لست تطلب منهم أجرة دنيوية مادية تستفيدها في حياتك يا محمد (إِنْ هُوَ) أي هذا الذي ننزله عليك ، هو (ذِكْرٌ) تذكير لمن أراد أن يتفكّر ويتدبّر ، وتنبيه (لِلْعالَمِينَ) سائر الناس ، وما المال بغيتك حتى تظن أنه قد منعهم عن تصديقك مع أن دعوتك لا ترمي إلا إلى صلاحهم وإصلاحهم ، فهم جاحدون معاندون لا ينفع معهم إعذار ولا إنذار ...

١٠٥ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي كم من آية وحجة وبرهان (يَمُرُّونَ عَلَيْها) تعترضهم وتقع تحت أبصارهم دلالة على وحدانية الله عزوجل ، من الشمس والقمر ، والنجوم والسماوات والأرض ، وما فيها كلها من آيات باهرات ، بل من أنفسهم واختلاف ألوانهم وألسنتهم وطبائعهم ، ومن غير ذلك مما يرونه (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) مائلون ومنصرفون عن التفكر والتدبر والاعتبار.

أما كأيّن ، فأصلها ك ـ كاف التشبيه ـ و : أي ، يعني كأيّ. فالكفار قد وقفوا منك يا محمد عند تلاوة قصة يوسف كوقوفهم مقابل أيّ من الآيات التي يرونها فقد دخلت كاف الجر على أي واستعملت للعدد الكثير مثل : كم ، سواء بسواء ..

٩٥

١٠٦ ـ (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) ... فالأكثر منهم لا يصدّق بالدعوة إليه سبحانه (وَهُمْ مُشْرِكُونَ) والشّرك هنا شرك طاعة وليس شرك عبادة ، لأنهم يرتكبون المعاصي إطاعة للشيطان ، وبذلك أشركوا بطاعة الشيطان مع طاعة الرحمان. فهم يعبدون الله ويطيعون من سواه .. نعوذ بالله من ذلك.

١٠٧ ـ (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) ... يعني هل أمنوا جانب النقمة وأن تجيئهم غاشية : أي عقوبة تعمّ الجميع وتغطّي سوادهم ـ وهي من الغشاء ـ فلا تخلّي أحدا ، وتكون نوعا من عذاب الله كالخسف والرّمي بالحجارة من السماء وكالريح الصرصر وعذاب يوم الظّلة وغيرها. وعبارة : عذاب الله ، هي بيان للغاشية التي لا تكون إلّا عذابا عامّا كعذاب الاستئصال الشمولي الذي ربما كان أنسب من القوارع والصواعق والزلازل المكانية .. فالحاصل أنه هل اطمأنّ هؤلاء الكفرة أن يأتيهم عذاب من الله يعمّهم ويحيط ويحيق بهم (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أم أمنوا أن تقوم القيامة فجأة ومن غير ترقّب وانتظار (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لا يحسّون بحلولها وحدوثها؟ أي وهم غافلون عن قيام الساعة والوقوف للحساب بين يدي ربّ الأرباب. فعن ابن عباس : تهجم الصيحة بهم وهم في الأسواق والّلّقمة في فيهم والميزان بيدهم. أي غير مستعدّين لها.

١٠٨ ـ (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي ، أَدْعُوا إِلَى اللهِ) ... قل يا محمد لهؤلاء الكفرة ولغيرهم : هذه طريقي الواضحة ، وأنا أدعو الناس إلى الإيمان بالله عزّ وعلا. وقوله تعالى : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) أي بمعرفة تامة ، بيان لقوله : هذه سبيلي. وفي الآية الكريمة أن الدعوة للخلق إلى دين الله لا بد وأن تكون عن عقيدة جازمة وبصيرة تامة من الداعي. وهي حرفة الأنبياء وأوصيائهم صلوات الله عليهم .. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : العلماء أمناء الرّسل على عباد الله من حيث يحفظون لما يدعونهم إليه. وقال (ص) أيضا : من أراد أن ينظر إلى أهل الجنّة فلينظر إلى العلماء.

٩٦

أجل ، أمر الله سبحانه نبيّه أن يصرّح لهؤلاء الكفرة أن هذه طريقتي المستقيمة التي أدعو بها الناس إلى معرفة ربّهم وخالقهم ، أدعوهم (أَنَا وَ) يدعوهم (مَنِ اتَّبَعَنِي) من المؤمنين المصدقين (وَسُبْحانَ اللهِ) تنزيها له وتقديسا (وَما أَنَا) لست (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يعبدون غيره معه أو يطيعون الشيطان مع طاعة الرحمان.

* * *

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

١٠٩ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) ... أي إن كنت رجلا مرسلا من قبلنا ولم تكن ملكا كما طلب المعاندون ، فإننا لم نرسل قبلك إلّا رجالا ـ وهم جميع الأنبياء صلوات الله عليهم ـ وقد كنا (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ننزل عليهم الوحي على يد رسولنا الأمين جبرائيل (ع) وهم (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أهل المدن لا من سكان البوادي. وقد أشار سبحانه بهذا التخصيص لاعتبار أن أهل القرى والمدن أعلم وأفهم وأعقل من أهل البوادي وأليق بالإلهام ونقل الرسالة والإفهام ، فلم يبعث الله نبيّا من أهل البوادي قط ، لأنهم أهل جفاء وقسوة ، ولا من النساء قط لنقصان عقولهن وحظوظهن ، والنبوّة مقام رفيع ومنصب إلهيّ روحانيّ شريف ، لا يمنح للأدنياء كمن لم تطب مواليدهم ولو كانوا من أهل الإيمان والعدالة ، ولا للجن لأنهم خلقوا من نار ، ولأن الجنّيّ إذا أظهر معجزة فلربما اعتبرت سحرا لأن الجنّ يعلّمون الناس السحر والشعوذة والكهانة ، فهو ومنصب الإمامة للمنتجبين من الخلق المصطفين من الناس. لأن الله تعالى يباهي

٩٧

برسله وبأوصيائهم ملائكة السماء المقرّبين ، ويختارهم من صفوة العالمين ..

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء المعاندون أما جالوا (فِي الْأَرْضِ) وأجالوا أنظارهم فيما جرى فيها؟ وهل لم يتأمّلوا (فَيَنْظُرُوا) ويروا بعين عقلهم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كيف كانت نهاية من سبقهم من معاندي الرّسل ومكايديهم؟ .. فما بالهم يمضون سادرين في غيّهم مع أن التأمل في حال من سبقهم من الكفار ينبغي أن يحملهم على الاتّعاظ والإيمان (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من دار الدنيا (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) ما يغضب الله وتجنّبوه ، وعملوا بأوامره (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أيها الناس وتأخذون الدرس ممّن حلّت به النقمة حين أمعن في العناد؟

* * *

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

١١٠ ـ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) ... يعني لا تهتمّ يا محمد بمن لا يؤمن ، ودع الكافرين في غيّهم وعمهم وليس عليك من حسابهم من شيء ، ولا تتأذّ لما هم فيه ولو تأخرت نقمة الله منهم ، فإن أمر النقمة واقع لا محالة حتى إذا استيأس الرّسل وافترض يأس الأنبياء ـ والعياذ بالله ـ من جرّاء تأخر وعد الله سبحانه بالنّصر ، لأنهم يجوّزون البداء بالله تعالى في الأمور ، أو يحتملون امتداد الوقت لتمييز من يثبت على

٩٨

الإيمان ممن ينقلب على عقبيه (وَ) حتى لو (ظَنُّوا) من وراء هذه العوامل التي لله وحده فيها الخيار (أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) يقرأ الفعل بالتخفيف مبنيّا للمجهول ، أي أيقنوا أن أقوامهم كذبوهم وارتدوا عن إيمانهم فكأنهم كذّبوهم في دعوتهم إلى الله ... والضمير في : كذبوا ، راجع إلى الرّسل فلا يرد الإشكال بلزوم الإضمار ـ قبل الذكر حتى يحتاج إلى أن يجاب بأن ذكر الرّسل يدل على المرسل إليهم .. ففي تلك الحالة القصوى من أن الرّسل كادوا أن ييأسوا من نصر كلمة الله (جاءَهُمْ نَصْرُنا) أي ورد عليهم خبر صدق ما بعثناهم به حين أنذروا الناس وخوّفوهم النقمة ، فحلّت النقمة بالمكذّبين (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) أي خلص من الهلاك ونجا من العذاب من نريد من المؤمنين (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) أي لا يقف في وجه بلائنا والبؤس الذي ننزله مع نقمتنا ولا يرجعه قوة ولا شيء (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) إذا أنزلناه بهم.

١١١ ـ (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) ... في هذه الكريمة يؤكّد سبحانه أن ما أوردناه لهؤلاء الجهلة من قصص من سبقهم وحكايات حالهم ، ما فيه (عِبْرَةٌ) موعظة توجب الاعتبار (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ذوي العقول الكاملة لأنهم هم المنتفعون بالقصص دون غيرهم .. وهذا كاف بنظرنا ولا يهمّنا أمر من هم كالأنعام أو أضلّ سبيلا من الأنعام (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) أي أن القرآن ما كان قصة ولا خبرا مكذوبا مختلقا مخترعا (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) بل كان تصديقا وتأييدا لما سبقه من الكتب السّماويّة كالتوراة والإنجيل وما كان قبلهما من الزّبور وغيره (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا لكل ما يحتاج الإنسان إليه في أمور دينه ودنياه وشؤون معاشه ومعاده (وَهُدىً) دليلا يرشد الناس ويجنّبهم الضلال (وَرَحْمَةً) لطفا يشمل ببركة تعاليمه وينقذ من العذاب ويؤدي إلى النعيم وحسن الثواب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لجماعة يصدّقون بما جاء فيه. وقد خصّوا بالذّكر لأنهم هم المستفيدون منه والمنتفعون بفحوى ما جاء فيه.

* * *

٩٩
١٠٠