الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

للمسير تحرّكت عنده الرحمة والشفقة ، وحنّ عرق الأبوّة العطوفة ، فخاف عليهم من العين لأنهم أحد عشر رجلا ، شباب وكهول ذوو جمال وجاه وهيبة ورشد ، يبدو عليهم أثر النجابة ساطع البرهان ، ممّا خوّفه من الحسد حين يراهم الناس وحواشي الملك قادمين بهذا الحسن وتلك الكثرة والهيبة فلجأ الى توصيتهم بما يلي :

* * *

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩))

٦٧ ـ (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) ... أي قال يعقوب (ع) لبنيه : إذا وصلتم إلى مصر وأردتم الدخول إليها فلا تدخلوا جميعكم من باب واحد من أبواب مصر المشرعة لدخول الوافدين عليها ، إذ قيل إنه كان لمصر أربعة أبواب كبيرة للواردين عليها والخارجين منها. وقد اشتهر أمر أبناء يعقوب (ع) هناك أنهم من ذوي القربة والتكرمة من الملك وخاصّته وقد كان لهم ما لم يكن لغيرهم فخاف عليهم الإصابة بالعين كما قلنا وأوصاهم بالدخول من أكثر من بابين قائلا (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) منبّها إياهم أن تحذيره لهم من باب الحيطة عليهم ولكن التحذير لا

٦١

يغني عن التقدير من الله العزيز القدير والحذر لا يمنع القدر كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فهو القاضي المقدّر الفعّال لما يشاء والحاكم بما يريد ، والأمور تجري بحسب ما شاء وقدّر لا على ما دبّر الإنسان بعقله القاصر ف ـ (عَلَيْهِ) وحده (تَوَكَّلْتُ) أي فوّضت أمري فيكم (وَعَلَيْهِ) سبحانه (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) من المؤمنين به عزّ وعلا.

٦٨ ـ (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) ... أي حين دخولهم إلى مصر بحسب ما رأى لهم يعقوب عليه‌السلام وطبق ما وصّاهم به من قضاء الله تعالى وقدره (ما كانَ) أي يعقوب (يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي لم يكن ليدفع عنهم من شيء قدّره الله تعالى لهم بوصيته لأنه سبق وقال لهم : إن الحكم إلّا لله ، بل لم يكن ذلك منه (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) يعني أن في نفسه شيئا أخفاه عنهم وقد كان يقصد من وراء ذلك الإشفاق عليهم والرحمة بهم لما أصابه من قلق واضطراب حين مغادرتهم البلد فبإظهارها قضى حاجة له في نفسه وسكن هيجان عاطفته وهدأ قلقه فاستراح بعد إيصائهم بالدخول من أبواب متفرّقة. والاستثناء ـ بإلّا ـ هنا منقطع كما لا يخفى و (إِنَّهُ) أي يعقوب (لَذُو عِلْمٍ) معرفة تامة ويقين (لِما عَلَّمْناهُ) وفهّمناه بتعليمنا إياه بطريق الوحي ونصب الحجج والبراهين ، ولذا قال بعد التحذير : وما أغني عنكم من الله من شيء بتوصيتي وتحذيري إن أراد الله تعالى خلاف ذلك (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لا يعرفون مثل هذه الأسرار والحكم التي نعلّمها رسلنا.

٦٩ ـ (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) ... أي حين استأذنوا على يوسف ودخلوا عليه ، أدخل أخاه بنيامين إلى قربه ، وقرّبه في مجلسه ثم (قالَ) يوسف لأخيه : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف الذي يذكره أبوك كثيرا وتتحدّثون عنه مليّا (فَلا تَبْتَئِسْ) أي : لا تحزن ولا تخف بؤس شيء ولا

٦٢

تهتمّ (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما كان يفعله إخوتك سالفا معنا.

وفي العياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أن يوسف كان قد هيّأ لهم طعاما ، فلمّا دخلوا عليه قال : ليجلس كلّ بني أمّ على مائدة. قال : فجلسوا وبقي بنيامين قائما ، فقال له يوسف : ما لك لا تجلس؟ قال له : إنك قلت : ليجلس كلّ بني أمّ على مائدة ، وليس لي فيهم ابن أمّ فقال : أما كان لك ابن أمّ؟ قال بنيامين : بلى. قال يوسف : فما فعل؟ قال : زعم هؤلاء أن الذئب قد أكله. قال : فما بلغ من حزنك عليه؟ قال : ولد لي أحد عشر ابنا كلهم اشتققت له اسما من اسمه. فقال له يوسف : أراك قد عانقت النساء وشممت الولد من بعده! قال بنيامين : إن لي أبا صالحا وإنّه قال : تزوّج لعلّ الله أن يخرج منك ذرّية تثقل الأرض بالتسبيح. فقال له : تعال فاجلس معي على مائدتي. فقال إخوة يوسف : فضّل الله أخا يوسف حتى أن الملك قد أجلسه على مائدته! وحينئذ قال له : إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون.

وفي القمّي : ... فخرجوا ، وخرج معهم بنيامين ، وكان لا يؤاكلهم ، ولا يجالسهم ، ولا يكلّمهم. فلما وافوا مصر دخلوا على يوسف وسلّموا عليه فنظر يوسف إلى أخيه فعرفه وقد جلس بعيدا عنهم. فقال يوسف أنت أخوهم؟ قال : نعم. قال : فلم لا تجلس معهم؟ قال : لأنهم أخرجوا أخي من أمّي وأبي ثم رجعوا ولم يردّوه وزعموا أن الذئب أكله ، فآليت على نفسي أن لا أجتمع معهم على أمر ما دمت حيّا. قال : فهل تزوّجت؟ قال : بلى. قال : كم ولد لك؟ قال : ثلاثة بنين. قال : فما سمّيتهم؟ قال سمّيت واحدا منهم الذئب ، وواحدا القميص ، وواحدا الدم. قال وكيف اخترت هذه الأسماء؟ قال : لئلّا أنسى أخي ، كلّما دعوت واحدا من ولدي ذكرت أخي. قال لهم يوسف : أخرجوا وحبس بنيامين. فلمّا خرجوا من عنده قال يوسف : إني أنا أخوك إلخ ...

ويلاحظ أن يوسف عليه‌السلام قد أكّد كلامه بأنا بعد : إنّي حتى يقبل

٦٣

منه بنيامين قوله ، فإن العهد بينه وبين يوسف بعيد تمام البعد. هذا أولا ، وثانيا : أيّة مناسبة بين يوسف المفقود من زمن طويل ، والمظنون قتله ، وبين عرش الملك والسلطنة الكبيرة التي لم تر عين ولا سمعت أذن ولا خطر على بال أحد في ذلك العصر؟ ولذا ، فأيّ فرح ذاك الذي حصل لبنيامين ، وأي سرور؟ الله وحده يعلم.

هذا وقد قال له : أنا أحب أن تبقى معي وتكون عندي. فقال : إن إخوتي لا يدعوني فإن أبي قد أخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن يردّوني إليه. قال : أنا أدبّر الأمر ، فلا تنكر شيئا تراه ، ولا تخبر إخوتك. فقال : لا.

* * *

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥))

٧٠ ـ (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) ... أي لمّا هيّأ لهم ميرتهم ومتاعهم ، يعني كال لكل واحد حمل بعير ـ والجهاز هو حمل التاجر ـ (جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي وضع الماعون ـ الوعاء ـ الذي يكال به في حمل بعير أخيه بنيامين. وكان المكيال من ذهب مرصعا بالجواهر الثمينة ، وقيل إنه قبل استعماله للكيل كان يشرب به ولذا أطلق عليه اسم : السّقاية بهذا الاعتبار. وبعد أن تمّ ذلك حمّلوا جمالهم وانطلقوا في سفرهم وعودتهم

٦٤

وساروا قليلا (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي نادى مناد من خدم الملك الذي لم يعلم بواقع الأمر ، وقال : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي يا أصحاب الإبل : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) وهذا التأكيد لكونهم سارقين بإنّ وباللّام علّله الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله : ما سرقوا ، وما كذب يوسف. فإنما عنى سرقة يوسف من أبيه (ع) .. وقد كان هذا العمل من يوسف بأمر من الله تعالى فإنه شاء أن يفرّج عن نبيّه يعقوب وأن تنتهي محنته بعد أن وصل الأمر إلى غايته وبلغ أمده ، وقد كان من تفضّله سبحانه على العباد وأن يمدّهم بالفرج بعد الشّدة وأن ينعم عليهم باليسر بعد العسر.

٧١ ـ (قالُوا ، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ، ما ذا تَفْقِدُونَ؟) عند سماع النداء ، وقف إخوة يوسف وقالوا للمنادي ولمن تبعه عند سماع ندائه : ماذا افتقدتم ، وأي شيء ضاع منكم حتى اتّهمتمونا بالسّرقة؟ وجملة : وقد أقبلوا عليهم ، جملة معترضة ، تبيّن شدة اهتمام إخوة يوسف وخوفهم من هذه التهمة بالسرقة بعد ما رأوا من إكرام يوسف (ع) وحاشيته.

٧٢ ـ (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) ... أي أجاب ذووا النداء : قد افتقدنا صواع الملك : يعني صاعه الذي نكتال به والذي عبّر عنه سابقا بالسقاية. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام ، قال : صواع الملك الطاس الذي يشرب منه.

فإذا قيل : لم قالوا نفقد صواع الملك في هذه الآية ولم يقولوا : سرقتم صواع الملك ، مع أنه في الآية السابقة قال المنادي : إنكم لسارقون ، فنسبهم إلى السرقة؟ فالجواب أنه في الآية الأولى نسبهم للسرقة وعنى سرقة يوسف من أبيه. أما هنا فإنهم لم يسرقوا الصواع فعلا ، ولكنه جعل في رحل أحدهم بأمر الملك ومن حيث لا يعلم المؤذّن ولا من حوله ، فهو بعرفهم مفقود ولا يعلم أنهم هم الذين أخذوه .. وقيل أيضا : إن جملة : إنكم لسارقون ، استفهام محذوف ما يستفهم به من الحروف ، يعني : هل إنكم سارقون لما فقدناه؟ وهو وجيه أيضا.

٦٥

والحاصل أنه حصل النداء ، وقال المنادي من باب الإغراء والتطميع (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) مكافأة له على إرجاعه (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي كفيل للوفاء وإعطاء المكافأة.

٧٣ ـ (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) ... أي قال إخوة يوسف للمؤذّن ومن معه من عمّال الملك ـ مستشهدين بهم على براءتهم ممّا علموه عنهم في سفرتهم الأولى وفي سفرتهم هذه. وممّا لمسوه من أمانتهم وحسن سيرتهم معهم ـ قالوا لهم : نحلف لكم بالله أننا ما جئنا لنرتكب مثل هذا الجرم الشائن ولا لنرتكب فسادا في هذه البقعة من الأرض (وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي ولسنا بسارقين لما افتقدتم.

٧٤ ـ (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟) أي أن جماعة الملك سألوا إخوة يوسف : ماذا تقترحون من الجزاء للسارق إذا تبيّن كذبكم. والضمير في لفظة : جزاؤه ، يعود للسارق حين يعلم كما لا يخفى.

٧٥ ـ (قالُوا : جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) ... أجاب إخوة يوسف أن جزاء السارق في شرعة يعقوب النبيّ عليه‌السلام هو نفس السارق بحيث يحلّ استرقاقه. ولذا فإن من تجدون الصواع في حمل بعيره (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تأخذونه عبدا رقيقا ونحن في شرعنا (كَذلِكَ نَجْزِي) نعاقب (الظَّالِمِينَ) المتعدّين على حقوق غيرهم.

أما جملة : فهو جزاؤه ، فهي جواب للشرط المقدّر ، أو هي مؤكّدة لجملة ما قبلها ..

* * *

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ

٦٦

دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩))

٧٦ ـ (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) ... أي أن يوسف عليه‌السلام بدأ تفتيش أوعية إخوته ـ يعني متاعهم وأحمالهم ـ قبل أن يفتش عن الصواع في أمتعة أخيه بنيامين ، تضليلا لإخوته عن أن يظنّوا أن الأمر مفتعل فيما لو فتش رحل أخيه أولا ووجده فيه ـ فتّش أمتعتهم فلم يجد شيئا (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) أي وجد الصواع في الأكياس المحمّلة على بعيره. وقد أنّث الضمير في : استخرجها ، ليشير به الى السقاية المؤنثة لفظا ولو كان سبحانه قد سمّاها مرة سقاية ومرة صواعا .. وقيل إنه لمّا وجدها مع بنيامين أقبل عليه إخوته يقولون : فضحتنا وسوّدت وجوهنا! متى أخذت مع بنيامين أقبل عليه إخوته يقولون : فضحتنا وسوّدت وجوهنا! متى أخذت هذا الصاع؟ فقال : وضع هذا الصاع في رحلي ، الذي وضع الدراهم في رحالكم ، وما أنا بسارق (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي على هذا الشكل دبّرنا مكيدة لطيفة لعبدنا يوسف ، ونحن علّمناه إياها ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ فإن هذا العمل منه كان بإذن الله تعالى وبوحي منه لتبدأ مرحلة التفريج عن يعقوب (ع) ومثلها كان جواب إخوة يوسف حينما ألهموا أن يقولوا أن السارق يؤخذ في شرعنا ، ليتسنّى ليوسف أخذ أخيه بقولهم وحكمهم ، ولئلا يقولوا : إن الملك ظلمنا بأخذ أخينا أو بحبسه على الأقل. أما في دين الملك فكان أن يضرب السارق بالسوط ثم يغرّمه ضعف ما

٦٧

سرقه لا أن يستعبده ويسترقّه (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي أنه لم يكن ليحقّ ليوسف أن يأخذ أخاه إليه ويستبقيه عنده في شرع ملك مصر والحال كما ذكرنا من قصاصه وتغريمه فقط (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إلّا في حال أنّ الله تعالى يريد القضاء في هذه الواقعة بشكل يخوّل يوسف أخذ أخيه لمصلحة اقتضت ذلك في المقام. وعليه صدر حكم ملك مصر وجرى على غير شرعه وتمّ الظاهر الذي يبتغيه يوسف عليه‌السلام لأنه على شرع أبيه يعقوب عليه‌السلام وهو الذي أجراه في واقع الأمر.

أما لفظ الكيد فمعناه المكر والحيلة والخدعة ، وهي كلّها محال في حقه سبحانه وتعالى لأنها من الأوصاف المذمومة. ولكنها في بعض الموارد تنسب إليه وتعني حسن التدبير للمخرج من المآزق المستعصية ، وتحمل على غايات وأغراض مفيدة ولا تحمل على بداياتها. والمراد بالكيد هنا فضلا عمّا قلنا هو إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في مكروه عنده ولا سبيل له في دفعه : وذلك من أجل تحقيق مصالح تكمن وراء إيقاعه في ذلك المكروه.

وهكذا شاء الله سبحانه أن يكشف ليوسف طريقا لأخذ أخيه بفتوى بقية إخوته وعقّب جلّ وعلا على هذه النعمة بقوله الكريم : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) نرفع من نريد بالعلم والحكمة والتأييد كما رفعناه بالمرتبة والمقام والأحكام وبتأويل الرؤيا وبالنجاة من جميع المهالك والنصر في سائر المسالك (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أي أن إخوة يوسف هم علماء فعلا وفضلاء ؛ إلّا أن يوسف كان أعلم منهم وأعرف ، والله وحده هو الذي ليس فوقه عليم .. وفي الآية الكريمة دلالة على أنه تعالى عالم بالذات بجميع معلوماته ، لا أنه عالم بعلم قديم زائد على ذاته المقدّسة قائم بها قيام الصفة بموصوفها ، فإنه لو كان كذا ، ليمكن أن نتصوّر فوقه عالما. والتخصيص بعلم المخلوق خلاف ظاهر الكريمة.

والحاصل أنه عند استخراج الصواع من وعاء بنيامين ، اضطربت حال إخوته لهذه الفجأة المخجلة بعد ما رأوا من الإكرام والاحترام ما لا يوصف

٦٨

فأقبلوا على يوسف ليعتذروا ..

٧٧ ـ (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) ... الذين قالوا ذلك هم إخوة يوسف ، يعنون بقولهم هذا يوسف (ع) وقصة السرقة التي أشرنا إليها في الآية السادسة والثلاثين ، ويقصدون أن بنيامين إذا كان قد سرق ، فقد سرق أخ له (مِنْ قَبْلُ) وهو ما ذكرناه. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي سمع مقالتهم واحتفظ بتأثيرها في نفسه ولم يظهر لهم شيئا و (قالَ) في نفسه : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي أسوأ منزلة فيما فعلتم بأخيكم في سرقتكم له من أبيه ، وفي صنيعكم الشنيع به (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي أنه تعالى أعلم منكم بأن يوسف لم يسرق وكذا أخوه ، وليس الأمر كما فنّدتم.

٧٨ ـ (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) ... إنهم رقّوا في قولهم فخاطبوا الملك باستعطاف وقالوا : إن أبا بنيامين شيخ طاعن في السن ، وهو يتأذى لأخذه (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي خذ من شئت منّا عوضا عنه وأشفق على أبيه وارحمه على سنّه وجلال قدره فهو ثاكل قد فقد أخا له من قبل وهو يستأنس به عنه ، و (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إن فعلت وأخذت البديل عنه من بيننا.

٧٩ ـ (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا) ... أجاب يوسف (ع) : التجئ إلى الله سبحانه أن يعصمني من أخذ البريء مكان المذنب ، ولن نأخذ إلّا الذي وجدنا الصاع عنده ، وإن فعلنا غير ذلك (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) حتى في شرعكم وحكمكم نكون ظالمين للبريء. وقد قال (ع) : إلّا من وجدنا متاعنا عنده ، ولم يقل : إلّا من سرق ، لأن أخاه لم يكن سارقا بالفعل.

* * *

٦٩

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢))

٨٠ ـ (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) ... أي حينما يئسوا وأيأس بعضهم بعضا من إجابة يوسف لطلبهم وأخذ البديل عن بنيامين ، خلصوا نجيّا : يعني تسلّلوا وانفردوا جانبا يتناجون فيما بينهم ، يعني يتهامسون ويتشاورون. وهذا من تعابير القرآن الكريم التي تبلغ الغاية القصوى من الفصاحة ، لأنه ، مع غاية إيجازه ، يفيد معاني كثيرة لا تخفى على المتأمّل. فقد سمعوا قول يوسف ، وصمتوا ، وغادروا المكان ، واعتزلوا الناس ، وتناجوا فيما بينهم في مؤتمر فأوجز ذلك كله بكلمتين اثنتين ، ثم (قالَ كَبِيرُهُمْ) وهو كما عن الإمام الصادق عليه‌السلام : يهودا. وقيل : إن القائل هو : لاوى ، وقيل روبين ، قال : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) هل نسيتم عهد الله الذي قطعتموه لأبيكم؟ (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) ثم ألم تذكروا أنكم. قد تهاونتم قبل ذلك بأمر يوسف وأضعتموه هدرا؟ أفلا تذكرون ما كان منكم بشأنه؟ (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي لن أفارق وأغادر هذه الأرض التي نحن فيها ـ أرض مصر ـ (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) إلّا بعد أن يسمح لي أبي ويحلّني من ذلك

٧٠

العهد الذي واثقناه عليه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) أو يقضي الله سبحانه لي بالخروج بسبب من الأسباب كخلاص أخي أو غيره ، أو كالموت أو بما يكون لنا عذرا عند أبينا أو بما شاء (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) وقضاؤه خير قضاء لأنه خير حاكم ومقدّر. ثم قال كبيرهم هذا :

٨١ ـ (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا) ... أمرهم قائلا : عودوا إلى والدكم وأخبروه بما شاهدتم من وقوع الحادثة وإخراج الصاع من متاع أخيكم ، وقولوا له : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) أي أخذ الصاع خفية (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي لم نقل إلّا ما قد رأينا ، ولم نشهد إلّا بحسب ما ظهر من واقع الأمر والله أعلم بالباطن وهو الواقف على الغيب والمطّلع على السرائر ، ونحن لا ندري كيف حصل وجود الصاع في رحله (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي ما كنّا مطّلعين على ما خفي عنّا من ملابسات الأمر.

٨٢ ـ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) ... وقولوا لوالدنا : يا أبانا اسأل البلدة الّتي كنّا فيها في مصر وأرسل من تثق به ليسأل أهلها عن واقعة الحال وعن هذا الذي نقوله حتى تطمئنّ لشهادتنا ، أو المراد أن يسأل بعض أهل مصر من الذين صاروا إلى الناحية التي فيها أبوهم (وَ) قولوا له : ليسأل (الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي أصحاب العير : يعني القافلة التي كنّا معها من أهالي كنعان الذين هم من جيرانه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ونحن صادقون في قولنا مؤكّدا.

وفعلا أخذوا برأي كبيرهم هذا ، ومضوا في سفرهم حتى وصلوا إلى أرض كنعان ، وجاؤا أباهم وقصّوا عليه ما قاله لهم أخوهم الكبير ، فما قبل منهم يعقوب عليه‌السلام قولا لسوء سابقتهم لديه ، ولخيانتهم بيوسف مع معاهدتهم له بحفظه وبإرجاعه سالما بعد أن يرتع ويلعب معهم في البرّية. ولذا قال لهم :

* * *

٧١

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦))

٨٣ ـ (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) ... أي أن يعقوب (ع) قال : ليس الأمر كما تقولون ، بل سوّلت يعني زيّنت لكم أنفسكم أمرا أردتموه وسهّلته لكم فقرّرتموه واجتمعتم عليه لتنفذّوه في ابني بنيامين كما صنعتم بأخيه يوسف من قبل ، وإلّا فمن أين يدري ملك مصر أن جزاء السارق الاسترقاق؟ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي أن صبري صبر جميل أو : عليّ صبر جميل بحذف الخبر أو المبتدأ. فكأنّما ألقي على قلبه الشريف الصبر ، وألهم بأن حصول هذه المصيبة المؤلمة الموجعة على مصيبة كانت أعظم منها وأفجع ، علامة على قرب انتهاء محنته وغاية بليّته ، فإن العادة جرت أن المصائب إذا ازدادت ووصلت غايتها يعقبها الله سبحانه بالفرج ولذا قال (ع) : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي بيوسف وأخيه ويهودا الذي تخلّف في مصر حتّى يأذن له أبوه أو يحكم الله بأمره (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) الأدرى والأعلم بحالي وكيف تنقضي أيامي لفراقهم ، فهي أمرّ من الصبر والحنظل ، وهو (الْحَكِيمُ) الذي لم يقدّر لي ولأولادي إلا ما فيه المصلحة والحكمة والخير.

٨٤ ـ (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) ... أي وانصرف بوجهه

٧٢

عنهم ، وأدبر وأوى إلى بيت أحزانه معرضا عنهم وغير مهتمّ بما قالوه ، وقال من قلب مضطرم بنار الوجد : يا أسفى : أي واحزني على يوسف. والألف هنا قامت مقام ياء المتكلم. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه سئل : ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف وقد أخبره جبرائيل (ع) أنه لم يمت وأنه سيرجع إليه؟ فقال : إنه نسي ذلك .. فقد بكاه بكاء كثيرا (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي ذهب سوادهما من كثرة انهمار الدموع والبكاء (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي ممتلي بالغيظ ولكنه يكظمه : لا يظهره وإن كانت تترجم عنه عبراتا التي أتلفت عينيه.

٨٥ ـ (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) ... الّذين قالوا هم أولاده أو الناس قالوا ليعقوب : تفتأ تذكر يوسف : أي لا زلت تذكره ولا تنفكّ عن التحدّث به مع طول المدة (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً ، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي حتى تمرض وتشرف على الهلاك. والحرض من حرض يعني : فسد جسمه وعقله. فلا ينبغي لك أن تبكيه حتى تؤدي بنفسك إلى الهلاك ، وفي الخصال عن الإمام الصادق عليه‌السلام : البكّاؤون خمسة ... إلى أن قال : وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره حتى قيل له : تالله تفتأ تذكر يوسف ... وتلا الآية.

٨٦ ـ (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) ... البثّ هو الهمّ الذي لا يقدر الإنسان على الصبر عليه فيبوح به ، أي يبثّه وينشره. فهو ما أبداه الإنسان من همّه ، والحزن هو ما أخفاه وصبر عليه. فيعقوب (ع) شكا بثّه وحزنه إلى الله وقال لمن لامه : (وَ) أنا (أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أن حسن ظنّه بالله تعالى هو فوق ما يدركونه لأنه متوقّع أن يأتيه الفرج قريبا ـ كما قال ـ ومن حيث لا يحتسب. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام ـ كما في الكافي ـ : أن يعقوب لمّا ذهب منه بنيامين نادى بقلب كئيب : ... يا ربّ ، أما ترحمني ، أذهبت عينيّ وأذهبت ابنيّ؟ فأوحى الله تعالى إليه : لو أمتّهما لأحييتهما لك حتى أجمع بينك وبينهما ، ولكن تذكّر الشاة التي ذبحتها

٧٣

وشويتها وأكلت وفلان وفلان صائمان إلى جانبك لم تنلهما منها شيئا.

* * *

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

٨٧ ـ (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) ... ألهم الله سبحانه يعقوب أن ابنيه حيّان على ما يستفاد من الرواية التي ذكرناها آنفا عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، بل يستفاد من نفس الآية الكريمة أنه ألهم كونهما حيّين بدليل قوله : اذهبوا فتحسّسوا .. وبدليل قوله السابق : وأعلم

٧٤

من الله ما لا تعلمون ، فهو عالم قطعا بحياتهما ، ولذا أمر أبناءه بالرجوع إلى مصر ليتحسّسوا : أي يتفحّصوا عن يوسف وأخيه قائلا لهم : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي لا تقنطوا من رحمته تعالى ولا تقطعوا الأمل من فرجه. وقيل إنه لمّا أخبروه بسيرة الملك قال لعله يوسف لأن شمائله شمائل الأنبياء ، وبناء على ذلك قال اطلبوه وأخاه ، واستقصوا الأمر فإنه قد ألقي في روعي أن الذي احتبس بنيامين بمكيدة إخفاء الصاع في رحله لا بد أن يكون يوسف أو ذا علاقة به لأنه افتعل هذه القصة مع أخي يوسف من أمه دون سائر إخوته.

ولسائل أن يسأل : كيف خفي خبر يوسف طيلة هذه المدة مع قرب المسافة ، وكيف لم يعلم يوسف أباه بقصته وخبره لتسكن نفسه ويزول وجده؟. والجواب ـ كما عن الجبائي ـ أن يوسف قد وضع في البئر ، ثم نجّاه الله من الهلاك فبيع من عزيز مصر الذي ألزمه داره سنين ، ثم بعث إلى السجن بضع سنين أيضا ، فحيل بينه وبين الناس بذلك وانقطعت عنه الأخبار ، وتعسّر عليه الاتصال بأبيه إلى أن تمكّن من اصطناع هذه الطريقة وتدبّر إيصال خبره بأبيه على الوجه الذي أمكنه ، فإنه كان لا يأمن على وصول رسول يبعثه لأبيه فقد لا يمكّنه إخوته من الاتصال بأبيه لأنهم كانوا أقوياء ولا يحبون أن يفتضح أمرهم ، فهم لا يروحون إلى مصر للاتصال به ولو ماتوا جوعا ، ولا يدعون والدهم يعرف ويروح إليها ففي ذلك خزيهم وظهور مكرهم وكذبهم ، فعلّم الله سبحانه يوسف اصطناع هذه الحيلة لإيصال خبره إلى أبيه بطريقة لا يشعر بها إخوته ، وبحيث يكون مالهم جميعا إليه ليظهروا الندامة والتقصير بحقه ، وليعترفوا بكونهم خاطئين بأحسن الطرق وأبعدها عن أذهانهم.

وقد قال المرتضى قدّس الله سرّه : يجوز أن يكون ذلك ممكنا ، وهو عليه قادر ، حيث كان له عليه‌السلام السلطة التامة في ذاك اليوم ، لكن الله سبحانه أوحى إليه بأن يعدل عن اطلاعه على خبره تشديدا للمحنة على أبيه (ع) ورفعا لدرجته ، فهو سبحانه قد يصعّب التكليف على أوليائه وقد

٧٥

يسهّله عليهم ، والأمر إليه في كل حال.

وعن الباقر عليه‌السلام ، أنه سئل أن يعقوب حين قال لأولاده : اذهبوا فتحسّسوا من يوسف ، أكان علم أنه حيّ وقد فارقه منذ عشرين سنة وذهب بصره من الحزن؟ قال : نعم ، علم أنه حي. قيل : وكيف علم؟ قال : إنه دعا في السّحر أن يهبط عليه ملك الموت ، فهبط عليه تربال ، وهو ملك الموت ، فقال له تربال : ما حاجتك يا يعقوب؟ قال : أخبرني عن الأرواح التي تقبضها مجتمعة أو متفرقة؟ فقال : بل متفرقة روحا روحا. قال : فمّر بك روح يوسف؟ قال : لا. فعند ذلك علم أنه حيّ فقال لولده اذهبوا فتحسّسوا إلخ ... فائتمروا بأمره عليه‌السلام وسافروا إلى مصر بعد أن ألمح لهم بقوله : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) فكأنه أو شك أن يزرع في نفوسهم الأمل.

٨٨ ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) ... لقد طوى سبحانه جملة أشياء ـ وهذا من بلاغة القرآن وإعجازه ـ فلم يذكر أن أولاد يعقوب امتثلوا أمر أبيهم ، وسافروا ، ووصلوا إلى مصر ، بل قال تبارك وتعالى : فلمّا دخلوا على يوسف قالوا له : يا أيّها العزيز ـ وهو لقب لحاكم مصر ـ أي المنيع الجانب : قد مسّنا : أي أصابنا وأصاب أهلنا الضّر أي سوء الحال والشّدة (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ) سلع للبيع (مُزْجاةٍ) أي قليلة الاعتبار ، واللفظة مشتقة من الإزجاء بمعنى السّوق والدفع ومنه قوله تعالى : تزجي سحابا. ومعناها هنا : بضاعة في غاية الرّداءة لا يقبلها أحد في حال دفعها إليه بل يردّها حالا. وعن ابن عباس أن بضاعتهم كانت دراهم مغشوشة. وعن الإمام الرضا عليه‌السلام أنها كانت من المقل وكانت بلادهم بلاد المقل. فقالوا عنها إنها بضاعة ليست بذات قيمة (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) بأن تعطينا حاجة عيالنا الكثيرة ، واقبلها منّا (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بإطلاق سراح أخينا رحمة بأبيه وبنا (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) أي يثيبهم على إحسانهم. فرقّ يوسف لحالهم لمّا خاطبوه بهذه اللهجة المؤثّرة ولم يتمالك من أن لا يعرّفهم بنفسه إشفاقا على ضعف موقفهم ، فقال : يا إخواني :

٧٦

٨٩ ـ (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ؟) ... يعني هل عرفتم أهمية فعلكم مع يوسف وكيدكم له (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ!) حيث كنتم جاهلين مرتبته وقيمته!. وفي كتاب النبوّة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أن يعقوب كتب إلى يوسف :

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى عزيز مصر ، ومظهر العدل ، وموفي الكيل ، من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمان صاحب نمرود الذي جمع له النار ليحرقه بها فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأنجاه منها :

أخبرك أيها العزيز أنّا أهل بيت لم يزل البلاء علينا سريعا من الله ليبلونا عند السرّاء والضرّاء. وإن المصائب تتابعت عليّ سنين متطاولة. أولها : كان لي ابن سمّيته يوسف وكان سروري من بين ولدي ، وقرّة عيني ، وإن إخوته من غير أمه سألوني أن أبعثه معهم يرتع ويلعب ، فبعثته معهم بكرة فجاؤا عشاء يبكون وجاؤا على قميصه بدم كذب وزعموا أن الذئب أكله ، فاشتدّ لفقده حزني وكثر عن فراقه بكائي حتى ابيضّت عيناي من الحزن. وإنه كان له أخ ، وكنت به معجبا ، وكان لي أنيسا ، وكنت إذا ذكرت يوسف ضممته إلى صدري سكن بعض وجدي. وإن إخوته ذكروا لي أنك سألتهم عنه وأمرتهم أن يأتوك به فإن لم يأتوك به منعتهم الميرة ، وبعثته معهم ليمتاروا لنا قمحا ، فرجعوا إليّ وليس هو معهم وذكروا أنه سرق مكيال الملك. ونحن أهل بيت لا نسرق ، وقد حبسته عني وقد اشتدّ لفراقه حزني حتى تقوّس ظهري ، لذلك فمنّ عليّ بتخلية سبيله وإطلاقه من حبسك ، وطيّب لنا القمح ، واسمح لنا في العسر. وأوف لنا الكيل ، وعجّل سراح آل إبراهيم.

قال عليه‌السلام : فمضوا بكتابه حتى دخلوا على يوسف في دار الملك وقدّموا الكتاب إلى الملك. فأخذ الملك ـ أي يوسف ـ الكتاب وقبّله ووضعه على عينيه وبكى وانتحب حتى بلّت دموعه القميص الذي كان عليه ، ثم

٧٧

أقبل عليهم فقال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ .. إلخ.

وعن الباقر عليه‌السلام في حديث قال : ... واشتدّ حزن يعقوب حتى تقوّس ظهره ، وأدبرت الدنيا عنه وعن ولده حتى احتاجوا حاجة شديدة وفنيت ميرتهم. فعند ذلك قال يعقوب لولده : اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه إلخ ... فخرج منهم نفر وبعث معهم ببضاعة يسيرة وكتب معهم كتابا إلى عزيز مصر بتعطيفه على نفسه وولده ، وأوصى ولده أن يبدءوا بدفع كتابه قبل البضاعة (وذكر صفة الكتاب كما أثبتناه إلى قوله : وعجّل سراح آل إبراهيم ، ثم قال :) فلما مضى ولد يعقوب من عنده نحو مصر بكتابه ، نزل جبرائيل على يعقوب فقال له : يا يعقوب إن ربّك يقول لك : من ابتلاك بمصائبك التي كتبت بها إلى عزيز مصر؟ قال يعقوب : أنت بلوتني بها عقوبة منك وأدبا لي. قال الله : فهل كان يقدر على صرفها عنك أحد غيري؟ قال يعقوب : اللهم لا. قال : فما استحييت مني حين شكوت مصائبك إلى غيري ولم تستغث بي وتشكوا ما بك إلي؟ فقال يعقوب : أستغفرك يا إلهي وأتوب إليك ، وأشكو بثّي وحزني إليك. فقال الله تعالى : قد بلغت بك يا يعقوب وبولدك الخاطئين الغاية في أدبي. ولو كنت يا يعقوب شكوت مصائبك إليّ عند نزولها بك ، واستغفرت وتبت إليّ من ذنبك لصرفتها عنك بعد تقديري إياها عليك ، ولكن الشيطان أنساك ذكري فصرت إلى القنوط من رحمتي ، وأنا الله الجواد الكريم أحب عبادي المستغفرين التائبين الراغبين إليّ فيما عندي. يا يعقوب : أنا رادّ إليك يوسف وأخاه ، ومعيد إليك ما ذهب من مالك ولحمك ودمك ، ورادّ إليك بصرك ، ومقوّم لك ظهرك. وطب نفسا وقرّ عينا ، وإنما الذي فعلته بك كان أدبا منّي لك ، فاقبل أدبي.

والحاصل أنه لمّا بلغت الفرقة غايتها ، وأذن الله ليوسف أن يكشف عن أمره ويعرّف نفسه لإخوته ، جاء ذلك كلّه مقدمة لحصول وصال أبيه وإزالة ضرّه عليه‌السلام فقال بدوا : إخواني ـ على قول ـ فأفهمهم أنه أخوهم أولا ، ثم لما سألهم عمّا فعلوه بيوسف وأخيه الذي نسبه إليه ثانيا ، تبسّم

٧٨

فأبصروا ثناياه التي كانت كاللؤلؤ المنظوم فعرفوه من تبسّمه ، بل قيل إنه وضع تاج الملك عن رأسه فعرفوه لعلامة مميّزة في رأسه .. وعندئذ :

٩٠ ـ (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟) ... وهذا استفهام تقريري. وقرئ بغير استفهام على الإيجاب مع التأكيد الذي يدل على أنهم عرفوه بلا شبهة ـ إنّك لأنت يوسف ـ وبناء على استفهامهم أو تأكيدهم قال (ع) مقرّرا قولهم ومثبتا لما اعتقدوه من معرفتهم إياه : (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) كما ترون (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أنعم وتفضّل وزادنا فضلا بالاجتماع مع السلامة والكرامة (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) الله ويتجنّب سخطه (وَيَصْبِرْ) على البلايا وعن ترك المعاصي (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وفي ختام هذه الآية الكريمة تنبيه لنكتة دقيقة حيث وضع الاسم الظاهر مقام الضمير ليدل أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر .. فلما عرف الإخوة جلية الأمر أقبلوا عليه وتوجهوا نحو العرش الذي يتربع عليه بتمام الذل والخجل مع شيء من الرهبة والخوف ، ثم قالوا ما حكاه الله تعالى عن موقفهم الذليل :

٩١ ـ (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) ... أي أقسموا بالله أنه آثره ، يعني فضّله عليهم واختاره منهم بحسن الخلق والخلق وحسن السيرة والسريرة والمداراة والعدل معهم رغم أنهم عاملوه بقساوة فبادلهم باللطف وكريم الضيافة وإيفاء الكيل ، فاعترفوا بذنبهم كما اعترفوا له بالتفضل عليهم قائلين : (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي آثمين بما صنعنا بك وبما فعلناه معك من القبائح بجهلنا وبسوء سريرتنا. وإن ، مخفّفة عن إنّ الثقيلة. وقسمهم ـ تالله ـ ليعرف يوسف (ع) أن قولهم هذا يكشف عن صدقهم ويطابق واقع عقيدتهم ، لا أنه مكيدة ومداهنة كما سبق لهم أن فعلوا مع أبيه حين أخذوه معهم ليرتع ويلعب ثم فرّقوا بينه وبين أبيه ، فقد تمثّل لهم كلّ ما صدر منهم في تلك اللحظات وتوجّهوا نحو عرشه ليقبّلوا ركبته فقد ألقت هيبة يوسف وعظمة الملك خوفا في قلوبهم فاعترفوا بالذنب وأقرّوا بتفضيله من الله للفور وبلا تردد ولا مشاورة فيما بينهم ، بالرغم من أنهم أبناء أنبياء

٧٩

وربيبو عزّ ومجد ، فإن قول يوسف (ع) : إذ أنتم جاهلون ، أوحى إليهم بهذا الاعتراف الفوريّ الذي لم يكن منه بد ، قد لقّنهم وجه الاعتذار والمسارعة للاعتراف بالذنب والمبادرة للتسليم بفضله.

ولما أحسّ يوسف (ع) منهم الخجل والخوف لم يتركهم عرضة للوساوس وقتا ما ، بل أسرع في الصفح عنهم وقال :

٩٢ ـ (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ... أي لا توبيخ ولا تعيير ولا خوف عليكم في هذا الوقت من جرّاء ما فعلتم مع أبي ومعي ومع أخي ولو كنتم تظنون ذلك فكونوا آمنين مطمنّين. وبالفعل صدر الأمر الملكيّ بإخفاء أمر إخوته ، ولم يتكلم أحد بما جرى من أمرهم في رحلتهم السابقة التي فقد فيه الصاع. وفي هذا كمال السماحة وغاية الكرم والشهامة ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، فقد هدّأ خواطرهم وقال : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فلم يكتف بعفوه وتنازله عن حقه (ع) بل طلب لهم المغفرة والعفو من الله سبحانه وتعالى بلا تراخ ولا تأجيل ، فيا عجبا من حلم الأنبياء وخلقهم العظيم! فعن ابن عباس أن نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم فتح مكة أخذ بحلقة باب البيت الحرام : وكان أهل مكة قد التجأوا إلى الحرم خوفا من المسلمين ثم نادى (ص) : أيها الناس : الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده. ما ظنّكم بي مع ما صنعتم لي من تكذيبي وتبعيدي عن أهلي ووطني وأذيّتي؟ فقالوا : ما نظنّ بك إلّا خيرا حيث إنك كريم وصاحب خلق عظيم ، نعتمد على كرمك العميم ـ أنت أخ كريم وابن أخ كريم ـ. فقال بأبي وأمي : أنا عامل معكم ما عامل به أخي يوسف إخوته ، قال : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم .. اذهبوا فأنتم الطّلقاء.

والحاصل أن يوسف (ع) لمّا فرغ من أمر إخوته وأنزلهم منزل الإعزاز والإكرام ، عرّفهم أنهم إخوة هذا الذي أمدّه الله بمجد باذخ وسلطان عظيم وهم إلى جانب ذلك أولاد أنبياء مكرمين وقد صاروا في سلطانه معزّزين

٨٠