الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

لعلة إيجادهم (أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي الرب الفرد الصّمد الذي أمره نافذ في كل شيء لأنه قهّار متسلّط على الكائنات؟ فقد تدرّج في دعوتهما لإلزامهما الحجة فبيّن لهما أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة المتعددة ، ثم برهن على أن ما يسمّيه الناس آلهة ويعبدونها لا تستحق الألوهية ولا العبادة والتقديس ، ثم نصّ على ما هو الحقّ القويم والدّين المستقيم الذي لا يقبل العقل الحكيم والذوق السليم غيره ، ولا يرتضي العلم سواه بقوله :

٤٠ ـ (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) ... أي أن الآلهة التي تحصرون عبادتكم بها ليست سوى أسماء ـ يعني المسمّيات منها ، من أحجار وكواكب وغيرها ـ دعوتموها آلهة (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) واخترعتم لها الألوهية ضلالا وكفرا إذ (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) لم يأمر سبحانه بعبادتها ولا هي ذات قيمة وأثر لتستحق العبادة لأنها لا تسمع ولا تعقل ولا تملك ضرّا ولا نفعا (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقد (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أمر بعبادته وحده ونهى عن الشّرك به. وفي هذا بيان للحكم الذي حصر الله تعالى فيه العبادة به دون غيره (ذلِكَ) أي ما أشار إليه ، هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي طريقة العبادة ذات القيمة العظيمة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) بل يجهلون هذه الحقيقة ويضلّون عنها. ثم تابع حديثه معهما وانتقل إلى تعبير رؤياهما :

٤١ ـ (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) ... أي يا رفيقي الحبس (أَمَّا أَحَدُكُما) وهو ساقي الملك وصاحب شرابه «ف» إنه سينجو من السّجن (فَيَسْقِي رَبَّهُ) أي يقدّم لسيّده (خَمْراً) بعد نجاته والربّ هو السيد إذ يقال : ربّ الدار وربّ العائلة وربّ البلد. وهذه إشارة له بعودته إلى عمله وبظهور براءته (وَأَمَّا الْآخَرُ) أي الثاني (فَيُصْلَبُ) أي يحكم بالإعدام صلبا على الخشبة (فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ) تتغذّى الطيور الجارحة من لحمه و (مِنْ رَأْسِهِ) أثناء بقائه مصلوبا (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي انتهى تعبير رؤياكما وما سألتما عنه من تفسير لما رأيتماه في منامكما وقد أفتيتكما به.

فإنه (ع) لما أقام الحجة عليهما في التوحيد وأبطل دينهما وأثبت دين

٤١

الحق وأتمّ البيان ، عبّر عن رؤياهما بأخصر عبارة ووعد الساقي بالإفراج عنه بعد ثلاثة أيام فيخرج بأمر الملك ويعود إلى ما كان عليه وترتفع منزلته عنده ، ثم أخبر الطبّاخ بالبقاء في السجن ثلاثة أيام أيضا ولكن الملك يأمر بعدها بصلبه فيبقى مصلوبا إلى أن تأكل الطيور الجوارح من مخّه ولحم جسده.

وقيل إن صاحبي السّجن ما رأيا في النوم ولا راودهما حلم ، وإنّما اخترعا ذلك وقالاه بقصد امتحان يوسف (ع) لأنهما رأياه عليما بتعبير الرؤيا ، ثم لما فسّره لهما قالا له : إنما كنّا نتسلّى ونمازحك في الرؤيا فلذلك ردّ عليهما قائلا : قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ، أي أن الأمر نازل بكما لا محالة ، لأن قوله عليه‌السلام لهما جاء من جهة الوحي والإلهام.

٤٢ ـ (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) ... ظنّ : هنا بمعنى : علم واعتقد ، فقد قال للذي تأكد نجاته : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي ائت على ذكري وأنني حبست ظلما لكي يخلّصني من الحبس (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) اختلفوا في عودة الضمير الذي من آخر الفعل : أنساه. فقالوا : يرجع إلى يوسف ، أي أنساه الشيطان ذكر الله في تلك الحال حتى استغاث بمخلوق فالتمس من الساقي أن يذكره عند سيّده وكان من حقّه أن يستغيث بالله الذي أنجاه من المهالك والكرب العظام ويتوكّل عليه وحده «ف» لذلك (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) أي بقي سبع سنين بعد خمس سنين سبقتها وذلك هو المرويّ عن الإمامين السجّاد والصادق عليهما‌السلام. وقالوا : بل الضمير في : أنساه ، يرجع إلى الساقي الذي سها عن ذكر يوسف ونسيه سبع سنين.

واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة سببا لا أصالة بشرط أن لا يغفل الإنسان عن ذكر مسبّب الأسباب بالكلّية. ولمّا كانت حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، فإنه لا يجوز على مثل يوسف (ع) أن يستعين بغيره تعالى لا جرم صار يوسف مؤاخذا بترك ما هو أولى في

٤٢

حقه. وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : رحم الله يوسف لو لا الكلمة التي قالها لما لبث في السّجن هذه المدة الطويلة. وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : جاء جبرائيل (ع) وقال : يا يوسف من جعلك أحسن الناس؟ قال ربّي. قال : فمن حبّبك إلى أبيك؟ قال : ربّي. قال : فمن ساق إليك السيّارة؟ قال : ربّي. قال : فمن صرف عنك ـ القتل ـ؟ قال : ربّي. قال : فمن أنقذك من الجب؟ قال ربّي. قال : فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال : ربّي. قال : فإن ربّك يقول : ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث في السجن بما قلت بضع سنين ـ وفي رواية : بضع سنين أخرى ـ فبكى يوسف عند ذلك بكاء أبكى ببكائه أهل السجن ، فصالحهم على أن يبكي يوما ويسكت يوما ، فكان في اليوم الذي يسكت فيه أسوأ حالا. وقال الطبرسي رحمه‌الله : فلو صحّت هذه الرواية عوتب ـ عوقب ـ يوسف في ترك عادته الجميلة من الصّبر والتوكل على الله تعالى.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : لمّا انقضت المدة وأذن الله له في دعاء الفرج وضع خدّه على الأرض ثم قال : اللهم إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك ، فإنّي أتوجّه إليك بوجوه آبائي الصالحين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ففرّج عنه. فقيل للإمام عليه‌السلام : أندعو نحن بهذا الدعاء؟ قال : ادعوا بمثله : اللهم إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك ، فإني أتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمةعليهم‌السلام.

وهكذا أجاب الله ليوسف دعاءه وقرّب فرجه وهيّأ له أسبابه ، وإذا أراد الله بعبد خيرا هيّأ له الأسباب ، وذلك هو ما أشار به الله تعالى من قوله عزّ من قائل : وقال الملك إني أرى إلخ ... فيما يلي :

* * *

٤٣

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤))

٤٣ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) ... أي قال «الريان» ملك مصر : إني رأيت فيما يرى النائم أن سبع بقرات سمان : يعني متمتّعات بكامل صحتها ونشاطها والسّمن ظاهر عليها وقد رأيت أن هذه السّمان (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) أي سبع بقرات (عِجافٌ) أي هزيلات ضعيفات. والعجاف جمع عجفاء ، مؤنّث أعجف ، وهو من الشواذّ لأن أفعل وفعلاء لا يجمعان على وزن : فعال كما لا يخفى. (وَ) رأيت أيضا (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي هذه كانت جافّة ، وتلك كانت خضراء يانعة.

فالملك قد رأى في المنام سبع بقرات في غاية السّمن خرجت من جدول يابس ، حملت عليها سبع بقرات هزيلات للغاية فأكلتها ولم يظهر أنه قد زاد في حجم بطونها شيء. ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبّها ، وسبعا أخر يابسات جافّات ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبت عليها وجعلتها تحتها وسترتها وأخفتها. وقد استغنى عن بيان حال السنابل بذكر حال البقر ... عندئذ أفاق مرعوبا وجمع الحكماء والكهنة والمعبّرين من أهل مملكته وكان تعبير الرؤيا شائعا في زمانه وذكر لهم ما رآه في نومه وقال : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي يا أيها العلية من الناس ـ وقيل سمّوا بذلك لملاءتهم بما يلتمس عندهم من المعروف وجودة الرأي ولأنهم يملأون العيون والقلوب بما يملكون من معرفة ومواهب. قال لهم : (أَفْتُونِي) يعني أعطوني الفتيا

٤٤

والقول الصواب (فِي) تعبير (رُءْيايَ) ما رأيته في منامي (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي إن كنتم عالمين بتفسيرها وتأويلها.

ففكّروا في هذه الرؤيا العجيبة ، وعجزوا عن تفسيرها وجمدت قرائحهم عن الخوض في تأويلها ، عندئذ :

٤٤ ـ (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ... أي مجموعة منامات مختلطة لا يتميّز بعضها من بعض. والضّغث : قبضة الحشيش المختلطة رطبا ويابسا ، أو القبضة من القضبان الصغار التي يضرب بها. والأحلام جمع حلم ، وهو ما يراه النائم في نومه وقد شبّهوا أحلام الملك بالأضغاث لاختلاطها وتعسّر تمييزها ، ولأنها بادئ ذي بدء لا تتميّز فيما بينها ولا يعرف بعضها من بعض ، فقرّروا أنها خواطر كاذبة قد أضيفت بعضها إلى بعض واختلطت لتؤلّف مجموعة من الرؤيا الكاذبة ، فلا محصّل لها حتى يكون لها تعبير وتأويل (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) التي هي على هذا الشكل المختلط (بِعالِمِينَ) ولسنا بمعبّرين للأباطيل أيها الملك.

لكنّ الملك لم يقتنع بقولهم ولا اطمأنّ إلى تقريرهم ، بل اعتقد جازما أن لرؤياه تعبيرا مهمّا لم يتوصّلوا إلى معرفته ، فاغتمّ واهتم .. فلما رآه الساقي مهتمّا مضطربا من رؤياه ، غير مستريح إلى قول كهنته وحكمائه الذين ظهر عجزهم تذكّر يوسف عليه‌السلام وتعبيره الصادق للرؤيا ، وفطن لما حدث معه ، فقال :

* * *

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً

٤٥

فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

٤٥ ـ (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) ... أي قال للناس ، ذلك الساقي الذي نجا من السجن وخلص من الموت ، من ذينك السّجينين ، وادّكر : أي : تذكّر قول يوسف (ع) له : اذكرني عند ربّك. وادّكر أصله : اذتكر ، فأبدلت التاء دالا فصارت : اذدكر ، ثم أدغمت الذال بالدال فصارت : ادّكر ، أي تذكّر. ففطن لذلك بعد أمّة : يعني حين ومدة طويلة ، وقال : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي ابعثوني إلى من يعلم تأويل الرؤيا .. وقوله تعالى : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) ، جملة معترضة ، وفي الكلام حذف يدل المذكور عليه ، أي أن الساقي سمع قوله وأجيب طلبه وأرسل إلى السجن فأتى يوسف وقال : يا :

٤٦ ـ (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ) ... والساقي الذي تذكّر ما أوصاه به يوسف بعد مدة طويلة ، بحيث نسي الوصية ، فإنه بحسب القاعدة العرفية وحسن الأدب قد اعتذر ليوسف (ع) عن إهمال وصيّته بعد أن أنساه إياها الشيطان اللعين ، ثم لمّا آنس منه الصّفح قال بأدب : أيّها الصدّيق : أي كثير الصدق فيما يخبر به : والساقي عالم بذلك ، مجرّب لصدقه (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي دلّني على تفسير ذلك (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) يعني : عسى أن أعود إلى الناس فأخبرهم بما أعلمتني من التأويل الحقيقي لذلك الحلم العجيب ، فإن الملك ومن بحضرته من الكهنة والحكماء والمعبرّين قد عجزوا عن تأويله ف ـ (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) يعرفون تأويله الحقيقي ، ويعرفون فضلك ومكانتك ومكانك من السجن. فذكر له يوسف

٤٦

(ع) تعبير رؤيا الملك ، إذ :

٤٧ ـ (قالَ : تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) ... أي أنكم تزرعون كدأبكم وعادتكم المستمرة ، سبع سنين يصادفها الخصب والنّماء (فَما حَصَدْتُمْ) أي جنيتم من تلك الزّروع (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) اتركوه في قشّه كما تحصدونه ، ولا تفصلوا الحب عن القشّ والتّبن لئلا يفسد الحبّ فإن الفساد أسرع إلى الحبّ المعزول عن قشّه ، وبخلاف ذلك إذا بقي فيه. فدعوا حصادكم كما جمعتموه من الحقول واحفظوه على هذا الشّكل في المستودعات (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي ما يلزمكم للأكل في كل سنة فدوسوه واستخرجوا حبّة من قشه .. هذا تعبير للبقرات السّبع السّمان والسنبلات الخضر ، لأن السنة فسّرها بالبقرة ، والخصب فسّره بالسنبلة الخضراء.

٤٨ ـ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ) ... أي أنه يجيئكم بعد السنوات السبع المخصبة ، سبع سنوات شداد : مجدبة لا زرع فيها ولا ضرع ، وهي تفسير للبقرات العجاف والسنبلات اليابسات. وهذه السنوات القواحط (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي تأكلون فيهن ما ادّخرتم لهن وخبأتموه من المواسم الماضية. وقد أضاف الأكل للسنين لأنه يقع فيها ، قال الشاعر :

نهارك يا مغرور سهو وغفلة

وليلك نوم ، والرّدى لك لازم

(إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي تحفظونه للبذر والزراعة. وقد قال زيد بن أسلم : كان يوسف يصنع كل يوم طعام اثنين ، فيقرّ به إلى الرجل فيأكل نصفه ، حتى كان ذات يوم قرّب فيه الطعام إلى الرجل فأكله كلّه فقال يوسف : هذا أول يوم من السّبع الشّداد.

٤٩ ـ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) ... أي بعد ذلك الجدب الذي يستمرّ سبع سنين ، يجيء عام بركة وخصب يغاث : أي يمطر الناس. لأن الغيث هو المطر إذ ينقذ الناس من القحط والجوع ، وإنقاذهم بالمطر هو من الغوث الذي ينعم به سبحانه به على عباده. ففي ذلك العام يأتي الناس غوث ربّهم سبحانه (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي يستخرجون الخير مما

٤٧

يعصر كالزيتون والعنب والتمر ، فيحصلون على الزيت والدّبس والخلّ والخمر وغيره كالسمسم الذي يؤخذ زيته وكالذّرة وبزر الكتان وسواه. وقد روي عن الإمامين عليّ والصادق عليهما‌السلام قراءتهما بالبناء للمجهول : يعصرون : أي يمطرون بعد المجاعة. والدليل على ذلك قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً). وبناء على بناء للمجهول يصير هذا الذيل قرينة على أن قوله تعالى : (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) ، من الغوث لا من الغيث كما لا يخفى على المتأمل. لكن إذا نوقش سند الرواية فالحق أن يقال بكون يغاث من الغيث ، أي يمطر الناس فيترتّب على المطر نبت الزرع والأشجار وحصول الثمر ، ومن ثم يعصر الناس ما شاؤوا من شراب وزيوت. فالقراءة منحصرة على البناء للمعلوم ، والآية الكريمة تكنّي عن كثرة النّعم. وهذه الآية لا علاقة لها بتعبير الرؤيا ، ولكنها ممّا أطلع الله سبحانه يوسف عليه من علم الغيب لتكون دليلا على نبوّته حين حصولها بعد أن ينقضي الوقت الذي حدّد به تفسير الحلم ، ولتكون بشارة بعدم هلاك الناس في سنيّ القحط كما هو المترقّب عادة. لذا رجع الساقي إلى الملك وذكر له ما قاله يوسف في تأويل الرؤيا بحضور الحاشية وأكابر القوم وسائر المعبرّين والكهنة ، فاطمأنّ قلب الملك وارتاحت نفسه وذهبت دهشته وزال خوفه من زوال ملكه ، فأرجع الساقي حالا إلى السّجن وأمر بإخراج يوسف وإطلاق سراحه وإحضاره إليه ليستمع إلى التفسير والبيان من فمه.

* * *

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ

٤٨

امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣))

٥٠ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) ... أي جيئوني به حتى أسمع منه. وهنا يوجد حذف يدل عليه ما ذكر من الكلام في الآية الشريفة ، وهو أنهم أرسلوا بطلبه ووصل رسول الملك إليه وأبلغه أمره بالإفراج عنه وإحضاره اليه ف ـ (قالَ) يوسف للرسول : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) أي إلى سيّدك (فَسْئَلْهُ) واستفهم منه (ما بالُ النِّسْوَةِ) أي ما حال تلك النساء (اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) وجرحنها بالسكاكين حين خرج عليهن يوسف بأمر من امرأة العزيز. فقد كلّفه أن يلتمس الملك بتفحّص أحوال نساء المقرّبين من قصره ويستجلي قصة تقطيع أيديهن ليعلم براءتي وأن حبسي كان ظلما وعدوانا. ولم يفرد امرأة العزيز بالذكر مع أنها كانت سبب الأمر بحبسه مراعاة للأدب ولكونها زوجة الملك أو زوجة خلفه من جهة ، ولكون سائر أولئك النسوة طمعن فيه وراودنه عن نفسه من جهة ثانية ، ولتجيء شهادة جميعهن أحسن وأقوى عند الملك وقد شاء سلام الله عليه تقديم سؤال النسوة لفحص حالهن وسماع شهادتهن وتبرئته من التهمة قبل خروجه من السجن. وقد قال ابن عباس : لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ما زالت في نفس العزيز حالة تجعله يخطر في باله كلما رآه يقول : هذا الذي راود امرأتي وكان عاشقها فينظر إليه بعين الشك والريبة ويضمر له التهمة. فأحبّ يوسف أن يراه بعد أن يزول من قلبه ما كان فيه وبعد صفاء نفسه. لهذا كلّف رسول الملك بسؤال النسوة وقال : (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي أن الله مطّلع على حيل أولئك النسوة ومحاولاتهن ...

٤٩

٥١ ـ (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) ... هذا يعني أن الرسول أبلغ الملك قول يوسف ، فجمع الملك النساء وسألهنّ : ما خطبكنّ : أي شأنكنّ وحالكنّ إذ : يعني حين راودتنّ يوسف عن نفسه ورغبتنّ أنتنّ فيه وكيف حدث هذا الأمر؟ (قُلْنَ) للملك : (حاشَ لِلَّهِ) أي حاشا عظمة الله تعالى وتنزيها له عن أن يعجز عن خلق من هو مثل يوسف خلقا وخلقا وعفّة. والكلمة تعني : معاذ الله ممّا نسب إليه و (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي ما عرفنا له ذنبا ولا خيانة. وعند ما أدّت النساء هذه الشهادة ببراءته وتنزيهه أحسّت زليخا بإثم الكتمان الذي يبقي فكرة التهمة ، ف ـ (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) زليخا نفسها (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أي ظهر وثبت وانجلت الحقيقة (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وأعترف بذلك (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله السابق للعزيز هي راودتني عن نفسي .. فأرسل الملك إلى يوسف من يخبره أن النسوة اعترفن بذنبهنّ وبرّأنك واعترفن بأنك صادق مصدّق ، فاحضر إلى القصر حتى يتمّ عقابهن بحضرتك. فقال يوسف للرسول : ما كان غرضي من سؤال الملك أن يعاقبهنّ ، بل :

٥٢ ـ (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ... أي ذلك الذي فعلته كان ليعرف أنني أحفظ ، غيبته ، وأني أمين في الغيب والحضور (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا يهديهم بكيدهم ولا يجعله نافذا ولا يسدّدهم فيه. وفي هذا القول تعريض بامرأة العزيز وتأكيد لأمانته ، وأنه يعتقد بالله الذي لا يحب الخيانة ولا الفحشاء ولا الخائنين ، وهو عاصمه وحافظه في جميع أحواله إذ لو لا رحمته على العباد لكانوا مغلوبين لأهواء نفوسهم الأمّارة بالسوء. ثم التفت إلى أنه يظهر نعم الله عليه ولا يأخذه العجب بما هو فيه فيستدرك قائلا :

٥٣ ـ (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) ... أي لا أنزّهها ولا أزكّيها على سبيل العجب بالنفس (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي كثيرة الميل إلى الشهوات بطبعها (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) يستثني النفوس التي تنالها رحمة الله تعالى وعنايته

٥٠

فلا تأمر بالسوء (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز عن الذنوب بعد التوبة ويرحم العباد.

وقيل إن الآيتين السابقتين (٥٢ و ٥٣) من كلام زليخا ، وأنهما من تمام كلامها ، فبعد أن برّأت يوسف ، قالت لن أخونه بشهادة زور في غيبته ، ولا أبرّئ نفسي ، وخصوصا بعد قولها : الآن حصحص الحق. وهذا الرأي قد أخذ به القمي وعقّب أنها تقول : لا أكذب عليه في غيابه كما كذبت عليه في حضوره. والله أعلم بما أراد.

* * *

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

٥٤ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) ... أي أحضروه إليّ أجعله خالصا لنفسي أستقلّ به دون الآخرين. ويستفاد من قوله هذا أنه اعتبر يوسف بريئا حتى من النظر بشهوة ، وأن امرأته رمته بهذا البهتان وبرّأته منه أخيرا كما برّأته سائر النسوة اللّواتي راودنه عن نفسه صلوات الله عليه فحصل له الاطمئنان التام إليه وأعجب بهذا الفهم الحاذق وهذا الكلام الذي لا يصدر عن رجل عادي لا يزال في ريعان شبابه ، فاشتاق إلى رؤيته ومحادثته فأرسل بطلبه على الفور فحضر بعد أن علم مقصود الملك الحقيقي (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أي كلّم يوسف الملك أو العكس (قالَ)

٥١

له الملك : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) أي نؤكّد لك أنك منذ اليوم صرت عندنا ذا مكانة وشأن وقد مكّنتك في حكمي وجعلت سلطانك فيه كسلطاني ، وأنت عندي (أَمِينٌ) مؤتمن على كل شيء ، ذلك أنه رأى فيه الشاب الرشيد الذي يتمتع بامانة نادرة ، وبعقل رصين وتفكير حصيف ، ثم عرض عليه ما يريد من المناصب في مملكته ليكفّر عمّا سلف وليكافئ مواهبه ويستفيد ممّا منحه الله إياه من ملكات قادرة. عند ذلك :

٥٥ ـ (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) ... أي قال يوسف للملك : ولّني خزائن أرض مصر أي ما تنتجه وما يستهلكه الناس وما يباع في الحوانيت ويشترى ويخزن في المستودعات ، وعلى الداخل والخارج ، أو بعبارة أخرى : ولّني وزارة المال والاقتصاد ف ـ (إِنِّي حَفِيظٌ) شديد الحفظ والمحافظة عليها ، حريص على أن لا تقع فيها خيانة (عَلِيمٌ) بكيفية التصرّف فيها ، وبوجوه المصالح كلّها ومصالح الملك ـ وقيل عليم بكل لسان ولغة على ما في الرواية عن الإمام الرضا عليه آلاف التحية والسلام. ـ وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لولّاه من ساعته ، ولكنّه أخّر ذلك سنة.

وقد قال بعض المتبحرّين : استدلّ الفقهاء بهذه الآية على جواز الولاية من قبل الظالم إذا عرف المتولّي من حال نفسه أنه متمكّن من العدل كحال يوسف مع ملك مصر. ثم قال : والذي يظهر لي أن نبيّ الله أجلّ قدرا من أن ينسب إليه طلب الولاية من الظالم ، وإنما طلب إيصال الحق إلى مستحقه لأنه من وظائفه وتكاليفه.

وعن الإمام الرضا عليه‌السلام : فلمّا مضت السنون المخصبة وأقبلت السنون المجدبة ، أقبل يوسف عليه‌السلام على بيع الطعام ـ أي الحبوب ـ فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم إلّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الثانية بالحلى والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جوهر إلّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الثالثة بالدوابّ والمواشي حتى لم يبق بمصر

٥٢

وما حولها دابة ولا ماشية إلّا صارت في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا أمة إلّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الخامسة بالدّور والعقار حتى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا عقار إلّا صار في ملكية يوسف ، وفي السنة السادسة باعهم بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة حتى صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حرّ حتى صار عبد يوسف. فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم وقال الناس : ما رأينا وسمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما أعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا. ثم قال يوسف للملك : أيّها الملك ، في ما خوّلني ربّي من ملك مصر وأهلها ، أشر علينا برأيك. فإنّي لم أصلحهم لأفسد ، ولم أنجهم لأكون وبالا عليهم ، ولكنّ الله نجّاهم على يدي. قال له الملك : الرأي رأيك. قال يوسف : إني أشهد الله وأشهدك أيّها الملك قد أعتقت أهل مصر كلّهم ، ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ، ورددت عليك أيها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على أن لا تسير إلّا بسيرتي ولا تحكم إلّا بحكمي. قال الملك : إنّ ذلك لشرفي وفخري ألّا أسير إلّا بسيرتك ولا أحكم إلّا بحكمك ، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له. ولقد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنك رسوله. فأقم على ما ولّيتك فإنك لدينا مكين أمين.

٥٦ ـ (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) ... أي وبهذا الشكل الجليل الجميل ثبّتنا مكانة يوسف وأرسينا منزلته في أرض مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي يتّخذ منها منزلا يقيم فيه أينما يريد ، ويتصرّف على ما يهوى بلا مانع ولا زاجر بعد استيلائه على خزائنها وخيراتها بتمامها ، وبعد تفويض الأمر إليه من ناحية الملك. ولذا قال سبحانه وتعالى : كذلك (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي نشمل من نريد برأفتنا ورفقنا وتوفيقنا (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) لأننا نحفظ لهم إحسانهم ونثيبهم عليه في الدنيا والآخرة كرما منّا وتفضّلا :

٥٣

٥٧ ـ (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) .... يعني أنه تعالى مع جزيل عطائه في دار الدنيا ، يؤكّد أن الأجر في الآخرة أكبر وأكثر (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي الذين صدّقوا به وعملوا صالحا وتجنّبوا ما نهى عنه وما يغضبه.

وفي الأثر أن يوسف عليه‌السلام ، في تمام السنوات السبع المجدبة وكاملها ، وما شبع من الأطعمة. فقيل له : لماذا تجوع وفي يدك خزائن مصر؟ قال : حتى لا أنسى الجوعانين .. ولمّا حلّ القحط بأرض كنعان ـ فلسطين ـ ضاق الأمر بأولاد يعقوب فقالوا : يا أبانا إن في مصر ملك يبيع الطعام ويوفي الكيل ويكرم الفقراء وأهل الفاقة والحاجة ، فنحن نستأذنك أن نروح إليه ونأتي بطعام لأهلنا ، فأذن لهم من دون بنيامين الذي هو أخو يوسف من أبيه وأمه ، وكان أبوه يسلّي قلبه به عن فراق أخيه وقد استخلصه لنفسه دون إخوته العشرة الباقين. وهكذا بعث الإخوة العشرة من أبنائه ببضاعة يسيرة إلى مصر ، مع رفقة وجماعة خرجت إليها لتمتار القمح ، وذلك قوله عزّ من قائل :

* * *

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

٥٤

٥٨ ـ (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) ... جاؤا إلى مصر وهم من سكان فلسطين وحين صار الجدب ، حضروا لأخذ الميرة أي الطعام الذي يمتاره الإنسان ويجلبه من بلد إلى بلد. ودخلوا على يوسف (ع) (فَعَرَفَهُمْ) مع طول العهد (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي لم يعرفوه. وقيل كان بين أن قذفوه في الجب وبين أن دخلوا عليه أربعين سنة فلذلك أنكروه إذ رأوه على سرير الملك بثياب الملوك ولم يخطر ببالهم أنه وصل الى مثل هذه المرتبة ، ثم لم يتأملوا صورته مليّا إذ عليه حلية الملوك وهيبة السلطان مضافا إلى حسنه الفتّان الذي يبهر النظر ، ثم إنهم لم يروا في حياتهم ملكا ولا سرير ملك ولا شاهدوا مثل تلك الأبّهة والجلال بين تلك التشكيلات الملوكية من حول يوسف الذي زاده الله بسطة في العلم ومزيدا من الحسن وأدبا وحكمة ووقار نبوّة فتبارك الله أحسن الخالقين ... أجل ، فبمجرّد دخولهم عليه بهتوا ولم ينظروا فيه حق النّظر ولا تأمّلوه مليّا إذ لم يدر في خلد أحد منهم أنه يوسف ، ولذا فإنهم لما تردّدوا على بلاطه وألفوا النظر إليه عرفوه في المرة الثالثة كما سترى قريبا ، أما هو فقد عرفهم للحال لأن اهتمامه كان منصبّا نحوهم حين دخولهم فعرفهم من زيّهم وبعض ملامحهم.

وكان بين يوسف وبين أبيه مسيرة ثمانية عشر يوما لأن يعقوب عليه‌السلام كان يسكن أرض كنعان وكان المقل (١) موجودا في تلك البلاد فأخذ أبناؤه من ذلك المقل ليمتاروا به الطعام. وقد أخفى الله سبحانه يوسف ولم يطلع أباه على مكانه وسائر أموره لأن يوسف نفسه كان مأمورا بستر نفسه وكتمان أمره من عند ربه تعالى.

٥٩ ـ (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ) ... أي حينما أعد لهم الميرة المطلوبة وهيأ لهم ما يحتاجون إليه من لوازم سفرهم من زاد يلزمهم في الطريق بعد حسن ضيافة وعناية قال لهم جيئوني بأخ لكم (مِنْ

__________________

(١) المقل هو الكندر الذي يتدخن به اليهود وهو نافع للسعال والبواسير وتنقية الرحم وطرد الهوام وغيرها.

٥٥

أَبِيكُمْ) أي ليس من أمّكم بل من أم ثانية ، فأنا أحب أن تجيئوا به معكم إذا جئتم تمتارون وإنني سأكرمكم وأكرمه أيضا (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أعطيه كاملا زائدا ولا أنقصه (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي خير مستقبل للضيوف ومعتن براحتهم وضيافتهم ، يعني خير المضيفين.

٦٠ ـ (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ) ... أي إذا لم تحضروه لي معكم (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) فلا أعطيكم طعاما للسنة التالية ولا تدخلوا مملكتي (وَلا تَقْرَبُونِ) ولا تقربوا دياري. وفي هذا تأكيد عليهم لإحضار أخيه ، ويمكن أن يكون نفيا عطف على الجزاء : فلا كيل ، أي فلا كيل لكم عندي ولا قرب ولا منزلة لكم لديّ.

٦١ ـ (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) : أي أنهم أجابوا بأنهم سيحاولون ذلك مع أبيهم ويحاورونه بشأنه ، وأكّدوا له ذلك بقولهم : وإنّا لفاعلون.

٦٢ ـ (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) : ... فتياته أي : غلمانه المتصدّين للكيل وتسليم الحبوب ، والبضاعة هنا هي ثمن طعامهم وقد جاؤا به وقيل إنه كان نعالا وقيل أدما وقيل مقلا كما أشرنا إليه آنفا ، والرحال : جمع رحل وهو ما يحمله الإنسان في سفره وتر حاله. وهذا يعني أنه قال لغلمانه : ضعوا بضاعة إخوتي التي جاؤوا بها داخل أسباب سفرهم لتبقى لهم إمّا تفضلا عليهم ورحمة بهم ولئلا يأخذ الثمن منهم وهم في ضيق وعسر ، وإمّا خوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به ، وإما أنه استقبح أن يأخذ الثمن من آل يعقوب المؤمنين وخزائن مصر تحت يده يفعل بها ما يشاء وأهله في شدة يعانون القحط المهلك وهذا هو أحسن الوجوه والمختار عندي فلا بد أن ينكشف عند أبيه وإخوته أن صاحب الطعام كان من أهلهم وكان ينبغي أن لا يأخذ منهم ثمنا ويعاملهم معاملة الأجانب ، ومع ذلك كان يعتبرهم ضيوفا نزلوا عليه بعد انقطاع أربعين سنة فيما بينهم فلا يليق بالكريم أن يعامل إخوته الواردين عليه في سنة قحط

٥٦

وحاجة ، معاملة الغرباء ، وحاشا نبيّ الله من ذلك. ولذلك أمر بردّ البضاعة إليهم خفية عنهم وبحيث لا يرونها إلى بعد منقلبهم إلى أهلهم وبعد فتح الأحمال التي جاؤا بها من مصر ، وقد تعمّد ذلك معهم كيلا يخجلوا أو يتأثروا من ردها علنا أمام الملك وأعوانه من زعماء المملكة الذين كانوا في محضره. وهذا عمل بلغ غاية الحسن ووقع في محلّه ومن أهله بلا شك ، وهو بالتالي يصير سببا لإرضاء أبيه ولإدخال السرور عليه ولقبوله بإرسال أخيه الأصغر ـ بنيامين ـ مع إخوته في الرحلة الثانية ، إذ من المتوقع أن لا يسخو يعقوب عليه‌السلام بإرساله مع هؤلاء الإخوة بالنظر لسوء ما سبق عنده منهم في أبنه يوسف عليه‌السلام.

والحاصل أنه قال للعمّال : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) أي عسى أن يعرفوها حين يعودون إلى أهلهم ووطنهم. والأصوب عندي أن «لعلّهم» هنا بمعنى : كي ، أو للتحقيق ، فإنهم سيعرفونها. وفي قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ما يقوّي معنى : كي ، هنا كما هو الظاهر بعد التأمل. وفي تعليق المعرفة بحين انقلابهم ورجوعهم إلى أهلهم رمز إلى ما قلناه من أنه عليه‌السلام قيّد الكيّالين بردّ البضاعة بشكل خفيّ وبحيث لا يعلمون ولا يقفون موقف خجل ولا يرفضون ذلك أمام الملك وأعوانه لأنهم من أبناء النبيّين المحترمين المعروفين بالعزّة والأنفة في هذه الأمور ، مضافا إلى أن الردّ العلنيّ يكشف عن فقرهم أمام رجالات الدّولة ويوسف (ع) يعلم بأنه سيظهر أمرهم وسينكشف أنهم إخوته وهو لا يرضى بمثل هذا العار وأن إخوته جاؤوا من عند ذي فاقة وهو نبيّ الله يعقوب ـ أبوه ـ عليهما‌السلام. وهذا وغيره مما تراه من تصرفات يوسف لم تكن إلّا من أعمال الأنبياء وأفعالهم التي لا تكون إلّا بوحي إلهيّ لا بشهوة نفس. فمعنى : لعلّهم يرجعون أي ليكون ردّ البضاعة سببا لرجوعهم ومعهم أخوهم فإن في هذا أيضا سرّا آخر إذ حصلوا على الميرة بلا ثمن مما يحدوهم بإحضار أخيهم ليربحوا زيادة في الميرة كما سترى بعد قليل من الآيات الكريمة.

٥٧

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦))

٦٣ ـ (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا) ... أي حين عادوا إلى وطنهم واجتمعوا بأبيهم قالوا له : (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أخبروه أن الامتيار الآتي ممنوع عليهم بعد هذه المرة ، وأبلغوه قول يوسف أن لا كيل لهم إلّا إذا أحضروا أخاهم الصغير معهم وقالوا : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) لنفي بالوعد ، وحينئذ (نَكْتَلْ) أي نحصل على كيل ما نريده من الطعام ، والفعل مجزوم بجواب الطلب (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) نحرس أخانا من المكاره ونحافظ عليه تمام المحافظة.

٦٤ ـ (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ؟) ... الاستفهام للإنكار ، أي لا آمنكم عليه ولا أعتمد على ضمانكم ولا أثق بقولكم. وهل أثق بكم وأستأمنكم على بنيامين (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) يوسف (مِنْ قَبْلُ) حين ضمنتم سلامته ووددتم راحته ثم لم تفوا بعهدكم وأضعتموه وفعلتم به ما فعلتم.

٥٨

وحاصل جوابه : أنكم أهل مكر وغدر ولا يحصل عندي وثوق بضمانكم لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين. وعلى افتراض أنني رضيت وأرسلته معكم فإنما أتوكل في أمره على الله سبحانه وحده لا عليكم (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وإليه أفوّض أمري فإنه يرحمني ويرأف بضعفي وشيبتي وكبر سنّي فيحفظه ويردّه سالما ولا يجمع عليّ مصيبتين ... وفي الخبر أن الله عزوجل أوحى إليه : فبعزّتي لأردّنّهما إليك بعد ما توكلت عليّ. ويستأنس من هذا الخبر أن يعقوب (ع) حين اعتمد في أمر يوسف على قول إخوته كأنه لم يفوّض أمر ردّه إليه سبحانه وتعالى فابتلى بما ابتلى به فيه. فنعم التأديب الذي يعقبه التكميل فإنه (ع) حين التفكير بأمر بنيامين كان متوجها بكلّيته إلى الله جلّ وعلا.

وبعد ذلك الحوار الخاطف الذي جرى بينه وبين أولاده حين وصولهم من السفر ، وحصول اليأس ـ تقريبا ـ من إرسال أخيهم معهم ، ذهبوا إلى إفراغ متاعهم وطعامهم وتخلية الجواليق من الطعام ليضعوا كل شيء في مكانه :

٦٥ ـ (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) ... أي حين فتحوا أكياسهم وجواليقهم التي حملوها من مصر ، رأوا أن بضاعتهم التي حملوها معهم إلى مصر ثمنا للحبوب التي اشتروها قد ردّت : أعيدت إليهم ، ففوجئوا بذلك وسرّوا سرورا عظيما و (قالُوا : يا أَبانا ما نَبْغِي) أي ماذا نريد؟ وهل نريد أحسن من ذلك؟ (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) فهل نطلب أكثر من هذا الإحسان من الملك الذي أوفى لنا الكيل وردّ الثمن وأحسن مثوانا وأكرمنا غاية الإكرام ، فهل من مزيد على ذلك؟ إنك إذا أذنت لنا في الرجوع مع أخينا نربح (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي نجلب الطعام لعيالنا وأولادنا (وَنَحْفَظُ أَخانا) نحرسه حتى نردّه إليك (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أي نربح زيادة حمل جمل آخر هو جمل أخينا ، و (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي سهل إعطاؤه على الملك ، وهو يمنحنا اليسر والسّعة في أمورنا في هذا الضّيق الذي يعانيه الناس. وهكذا بدوا في مقام إقامة البراهين

٥٩

لوالدهم على أن أخذ أخيهم مفيد لهم في كل حال ، فهم يحاولون إرضاءه بتعداد المحسّنات : كإيفاء الكيل ، وردّ الثّمن ، وحسن المثوى ، وزيادة كيل بعير لأخيهم. فلا يجوز ـ يا أبانا الكريم ـ أن نقابل إحسان هذا الملك العظيم بردّ طلبه الذي لا نجد له عذرا نعتذر به ..

فلما اختتموا كلامهم واستمع أبوهم إلى مقالتهم ، تدبّرها ورأى أنه لا مندوحة له عن إرسال أخيهم معهم رغم أنه عزيز عليه كيوسف ، باعتبار أن له عائلة كثيرة وأسرة جليلة وليس عنده ما يعولهم ويموّنهم أثناء هذا القحط الشديد ، وباعتبار أن لطف الله تعالى جعل قلب ملك مصر يهوي إليه وإلى أولاده فيوفي لهم الكيل ويرجع الثمن ويحسن ضيافتهم ، فلا بد من أن يقابل هذا الإحسان بأحسن منه ، وحيث أنه لا يتمكن الآن من تقديم الأحسن فلا أقلّ من إجابة سؤله وقضاء مأموله وتنفيذ طلبه الذي يتلخّص بإرسال ولده العزيز بنيامين ليمتري مع إخوته ، فلذا أرضى نفسه بالقبول بإرساله مشروطا بما يلي :

٦٦ ـ (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً) ... أي أنني لما رأيت منكم من الغدر بيوسف ، فأنا لن أرسل أخاه معكم إلّا بعد أن تعطوني موثقا : عهدا وثيقا بإشهاد الله سبحانه وتعالى وبالحلف عليه حتى اعتبره موثقا مشهودا (مِنَ اللهِ) عزوجل (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) أي لترجعنّه سالما ولا تغدرون به كغدركم بأخيه (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي إلّا في حال أن يحدق بكم أعداء من جميع جوانبكم ، ويتغلّبون عليكم بما لا تطيقون دفعه كالموت ونحوه مما لا يقدر الإنسان على مقاومته فحينئذ يسقط التكليف (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) يعني أبرموا له عهدهم وحلفهم. والموثق مصدر على وزن مفعل وهو ما يوثق به ويطمأنّ إليه من العهد والحلف والضمان (قالَ) يعقوب عليه‌السلام : (اللهِ) تعالى شاهد على ذلك ، وهو (عَلى ما نَقُولُ) فيما بيننا (وَكِيلٌ) أي مفوّض ومعتمد وكاف أفوّض إليه أمري لا إلى غيره. فإن أنتم وفيتم بعهدكم كافأكم على وفائكم ، وإن خنتم وغدرتم عاقبكم وجازاكم بما تستحقون .. قال هذا ، وأرسل بنيامين معهم. ثم لمّا تجهّزوا

٦٠