الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

تلك الموازين في ذاتها (قسط) وعدل ، لا أنها ليست موازين يجوز عليها أن تقسط وأن تخيس ولو مرة بملايين المرّات. وعن السّجاد عليه‌السلام : اعلموا عباد الله أن أهل الشّرك لا ينصب لهم موازين ، ولا ينشر لهم دواوين ، وإنما يحشرون إلى جهنم زمرا. وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام. فاتّقوا الله عباد الله. (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) فلا ظلم ولا جور في ذلك اليوم لأحد كائنا من كان حتى ولو أن الإنسان أحسن بمثقال حبة الخردل المتناهي في القلّة لجئنا له بأجر إحسانه ، ووفّيناه ما عمل ، وذلك كقوله عزوجل : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) ويكفي أنه سبحانه وتعالى هو الحاسب والمحاسب لأنه العادل الذي يتنزّه عن الجور والظّلم.

ثم إنه تعالى ذكر أن إنذار النبيّ الخاتم عليه وعلى آله الصلاة والسلام لم يكن من عند نفسه ، بل هو وحي يوحى وليس له أو لأيّ رسول أن يختار قولا أو فعلا لم ينزل به وحي ، ولذلك عقّب على هذا الموضوع بإنزال التوراة على موسى وهارون عليهما‌السلام وحيا من عنده ليعلّما الناس أوامر الله السماويّة ، فالتوراة كتاب سماويّ ، والقرآن كذلك كتاب سماويّ ووحي منزل بسائر ما فيه من حلال وحرام ووعد ووعيد وموعظة وتحذير وغيره ، ولذلك قال عزوجل فيما يلي :

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

٤٨ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) ... أي : أعطيناهما الكتاب

٥٠١

الذي يفرّق بين الحق والباطل ، وهو التوراة ، وأعطيناهما إياه فرقانا (وَضِياءً) نورا يهتدي به أتباعه إلى الحق وينجيهم من الضلالة والجهالة وظلمات الوهم والحماقة (وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي عظة ونصحا للذين يعملون به ويلتزمون بما فيه ، فذكر ثلاثة أوصاف للتوراة ، ثم وصف المتّقين فقال سبحانه :

٤٩ ـ (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ... أي الذين يحذرون الله حالة كونه غائبا عن أبصارهم وعن جميع حواسّهم ، ولكنهم مصدّقون بوجوده ويخافون حسابه وعقابه (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) خائفون من قيام الساعة ويوم النشور ، ومن الأهوال في ذلك اليوم ومن شرّ ما ينزل فيه بالظالمين والكافرين من سوء العذاب.

وبعد ذكر التوراة أخذ بذكر القرآن الكريم وصفه وبيان إنزاله من عنده فقال جلّ وعلا :

٥٠ ـ (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) ... أي : وهذا القرآن أنزلناه من عندنا لتذكيركم ووعظكم ولبيان كل ما يحتاج الناس إليه في أمور دنياهم وآخرتهم ، حيث إنه كتاب جامع لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلّا أحصاها ، لأنه خاتم الكتب السماوية وفيه علم الأوّلين وعلم الآخرين وهو دستور كامل للعالمين من الآن إلى يوم الدّين ، يوم لقاء الله عزوجل ، وهو كتاب شريف مبارك ، كثير خيره عميمة فائدته لا يوصف غيره بما يوصف به من العظمة والإعجاز والجلال (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) فهم أنتم تنكرونه وترفضونه؟ وهذا استفهام توبيخ وتعيير وتحقير ، يعني أن اليهود والنصارى وسائر الأمم السالفة قبلت كتب رسلها السماوية ولم تنكرها ، فكيف لا تقبلون أنتم كتابكم الشريف المبارك الذي هو أحسن الكتب وأشرفها وخيرها من حيث جامعيّته لكل ما يحتاج إليه منذ عهدكم إلى يوم القيامة؟ .. فوا أسفا على مثل هذه الطغمة الجاحدة المعاندة ، وو أسفا أن يقف هؤلاء الأجلاف مثل هذا الموقف القبيح من هذا الكتاب الكريم

٥٠٢

وهذا الرسول العظيم ، ولكن إن هم إلّا جفاة قساة عليهم لعائن الله.

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨))

٥١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) ... هذا الكلام الشريف معطوف على ما سبقه من قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا) الآية. والرّشد هو ما فيه صلاح دينه ودنياه عن طريق الحجج والبراهين التي صارت سببا لإرشاده إلى المعرفة والتوحيد. وقيل إن المراد بالرشد هو النبوّة والخلّة ، وقيل هو الاهتداء والاستقامة على طريق الحق ، فقد آتيناه هذا كله (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بلوغه ، أو من قبل موسى وهارون ومن قبلك يا محمد ، فكلّها محتملة والله العالم (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي عارفين به معرفة علم وتأكيد بأنه أهل لما أعطيناه من الرّشد.

٥٢ و ٥٣ و ٥٤ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ) ... أي سأل أباه ـ هو عمّه أو جدّه لأمّه كما ذكرنا في غير مكان ـ وسأله قومه عن تلك

٥٠٣

الصور الممثّلة التي هي مجسّمات جامدة لا روح فيها ولا حياة ، ولا تضرّ ولا تنفع. وقد أطلق عليها لفظ : تماثيل ، تحقيرا لها وتوبيخا لهم. فما هذه الأصنام (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) أي ملتفّون على عبادتها ومقيمون لهذه الطقوس الوثنية من حولها؟ (قالُوا) مجيبين : (وَجَدْنا آباءَنا) قبلنا (لَها عابِدِينَ) يؤدّون العبادة لها ونحن على دين آبائنا وطريقتهم. و : عابدين مفعول ثان ل : وجدنا ، وآباء : هو المفعول الأول كما لا يخفى. (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام مجيبا قومه ومستهزئا بهم : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أنكم تائهون عن الحق ضائعون عن الهدى أنتم وآباؤكم من قبلكم ، فلا ينبغي لكم تقليد آبائكم الضّالين عن الحق.

٥٥ و ٥٦ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) : سألوه هل أنت جادّ في قولك أم أنت لاعب هازل فيه؟ فالحقّ : هنا الجد بحسب الظاهر (قالَ) لهم : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فأعرض عن سؤالهم المتعلّق بالجد واللعب وما اعتنى به ، وأخذ في إثبات دعواه ببطلان معبوداتهم ، وببيان حججه وبراهينه الواضحة على أن لهم ربّا هو ربّ السماوات والأرض وهو الله تعالى (الَّذِي فَطَرَهُنَ) سوّاهن على ما هنّ عليه من نظام الفطرة والخلق ، فكان قوله أدخل في تضليلهم وإلزامهم الحجة (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) أي على ما ذكرته لكم (مِنَ الشَّاهِدِينَ) المحقّقين المثبتين له.

٥٧ ـ (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) : أي : والله لأحلّنّ بها الكيد ولأدبّرن طريقة تكسيرها تدبيرا خفيّا عنكم يسوؤكم. وإنما قال ذلك سرّا عن قومه ـ بحيث همسه همسا ـ ولكن رجلا منهم سمعه فأفشى قوله. وقد وعدهم بهذا الكيد بعد أن (تُوَلُّوا) إلى عيدكم (مُدْبِرِينَ) منصرفين عن الأصنام ليخلو له جوّ الإيقاع بها بعد ذهابهم. وقيل إنهم كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه ، وكانوا إذا رجعوا منه دخلوا على الأصنام وسجدوا لها. وقد قالوا يومئذ لإبراهيم : ألا تخرج معنا؟ فخرج

٥٠٤

ماشيا معهم إلى أن كان في بعض الطريق اشتكى من ألم في رجله وانصرف عن مرافقتهم ، ورجع.

٥٨ ـ (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) ... : أي : فكسّرهم قطعا قطعا وترك أكبر الأصنام ، الذي كان بنظرهم رئيسها دون تكسير (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) عسى أن يرجعوا إليه باعتباره الرئيس ، ثم يسألونه عن شأن بقية الأصنام الصغيرة المحطّمة.

* * *

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧))

٥٩ و ٦٠ ـ (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) ... أي حين رجعوا من عيدهم وقصدوا الأصنام ليسجدوا لها ، تساءلوا فيما بينهم قائلين : إنّ من صنع هذا بأربابنا من الظالمين لها ولنا والمتعدّين عليها وعلينا الممتهنين لحقوقها وحقوقنا. فمن هو هذا الظالم؟ (قالُوا) فيما بينهم : (سَمِعْنا فَتًى) شابا فتيّا

٥٠٥

قويّا (يَذْكُرُهُمْ) بالسوء ويعيبهم ويهينهم عند ذكره لهم (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) يدعى إبراهيم.

٦١ ـ (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) ... : أي : جيئوا به على مرأى من الناس وأثناء اجتماعهم هنا (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) لكي يشهدوه ويروا ما يقول.

٦٢ و ٦٣ ـ (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) : هنا طوى سبحانه فترة أرسلوا أثناءها من جاءهم به فأحضروه وقالوا له : هل أنت الذي كسّر أصنامنا وتركها قطعا قطعا؟ (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) أي صنع هذا التكسير كبير الأصنام ـ وهو الصنم الذي لم يكسّره وتركه واقفا ـ علّق المطرقة بعنقه كما قيل (فَسْئَلُوهُمْ) اسألوا هذه الأصنام المحطّمة (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) إذا كانوا يتكلّمون. فقد علّق إبراهيم عليه‌السلام فعله بالأصنام على نطق رئيس الأصنام ، وبكّتهم وأعجزهم عن الجواب لأنّ الجمادات لا تنطق ولا تقدر على الكلام والجواب ، ومن كان هذا شأنه بحيث لا يسمع خطابا ، ولا يعقل ، ولا يردّ جوابا ، ولا يقدر على شيء ، فكيف يجوز أن يكون ربّا ويحتلّ هذه المرتبة السامية من الألوهية؟ وكيف يجوز لأشرف المخلوقات ، وهو الإنسان. أن يخضع ويتذلّل لأخسّها وهو الجماد. أمّا في حال ادّعائهم أن الأصنام تجيب وتنطق ، فإنه يفضحهم حين يسألونها فلا تردّ على سؤالهم على مرأى منهم جميعا ، فهم يتكلمون على خلاف وجدانهم ولذا كانوا لا يجدون بدّا من الاعتراف بقصور الأصنام عن النطق وبقصور عقولهم عن التفكير.

٦٤ ـ (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) : أي : فعادوا إلى التعقّل والتدبّر في أنفسهم ، وراح كل واحد يفكّر ويقدّر ما بينه وبين ذاته ، فكانوا كأنّهم يقول بعضهم لبعض : إنّكم أنتم الظالمون لأنفسكم بعبادة هذه الأحجار التي لا تنطق ولا تعقل ولا تنفع ولا تضر ، وليس إبراهيم عليه‌السلام ظالما.

٥٠٦

٦٥ ـ (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) ... : أي ثبتت الحجّة عليهم فطأطئوا رؤوسهم من الذل والخزي ، واعترفوا بعدم نطق الأصنام ، فلا يجوز عبادتها. فقالوا لإبراهيم عليه‌السلام : (لَقَدْ عَلِمْتَ) عرفت أن (ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أن الأصنام لا تتكلّم ، ونحن وأنت نعلم أنها أحجار من جماد غير قابل للنّطق والسؤال. وعند ذلك اغتنم إبراهيم عليه‌السلام هذه الفرصة من خزيهم فقال لهم :

٦٦ و ٦٧ ـ (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ)؟ ... : فلامهم على حماقتهم وقال لم تعبدون أحجارا لا تجلب لكم نفعا ولا تدفع عنكم ضرّا؟ (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تأفّف منهم وتضجّر من معبوداتهم باستعمال كلمة أف ، لإصرارهم على الباطل. ومعناه : تبّا لكم ولها ، وقبحا لصنيعكم الذي لا يرتكز على معقول في عبادة غير الله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تفكّرون وتتدبّرون ما أنتم عليه من الضلال؟.

وعند هذه الغضبة الشريفة ، ثار الكفار وهاجوا وماجوا وانقلب موقفهم من التعقّل إلى الهيجان فهاجموه ثائرين قائلين :

* * *

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢)

٥٠٧

وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

٦٨ ـ (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) : أي أنهم لمّا عجزوا عن المحاجّة وباءوا بالفشل أمام بيانه الفصيح الجريء ، رأوا أن يعذّبوه بأشد ما يعاقب به الإنسان وقرروا إحراقه بالنار قصاصا على تكسير الأصنام وتبريدا لقلوبهم.

وأمّا قولهم : وانصروا آلهتكم فهو مكيدة كل مبطل في مقام تهييج رأي الهمج الرعاع على إبطال الحق ونصر الباطل. فصوّروا باطلهم حقيقة دينية هامة وأهاجوا العوامّ للاستمساك بها والترويج لها ، ذلك بما ألقى معلّمهم الأول المبتدع لهذه الفكرة الخبيثة ، أعني الشيطان اللّعين الذي وسوس لهم كما وسوس لأبينا آدم عليه‌السلام وحلف بأنه ناصح له أمين ، فأزلّه وأخرجه من الجنّة ومضى يغوي الناس من بعده ، ووجد عند هؤلاء الملحدين المبطلين آذانا مصغية ليقفوا في وجه دعوة إبراهيم عليه‌السلام ، كما وقف غيرهم في طريق دعوات الرّسل من قبله ومن بعده ، وكما وقف في طريق وصول أهل بيت نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حقّهم الربانيّ فأجراه المسلمون حسب آرائهم ووفق ميولهم ودحضوه بروايات مكذوبة اخترعوها ، ثم ما زال يغوي الناس كموقفه يوم صفّين حين أغرى برفع المصاحف على يد عمرو بن العاص ، وكموقفه يوم الطفّ من الإغراء بقتل الحسين عليه‌السلام ابن بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ظلما وعدوانا ـ أجل جاء الشيطان قوم إبراهيم بهذه البدعة الخبيثة من تحريقه ونصر آلهتهم الزائفة ، فتحمّسوا لها وصرخوا : حرّقوه (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إذا كانت عندكم قابلية نصر دينكم وطريقتكم ، فهاجوا وماجوا للانتقام منه وجمعوا الحطب أكداسا

٥٠٨

مكدّسة ضاق بها السهل وغصّت بها الآفاق حتى كانت تكفي لحرق مدينة واسعة شاسعة ولحرق قبيلة مجتمعة من القبائل.

٦٩ ـ (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) : أي قال الله تبارك وتعالى : أيّتها النار ابردي بردا لا يضرّه ، وكوني سلاما عليه ، فلم تحرق منه إلّا وثاقة الذي ربطوا به يديه ورجليه ، وزال حرّها فلم يصل إليه منه شيء بأمر تكويني ممّن خلق النار وجعل فيها الحرّ واللهب ، فجعل في نار النمرود وحزبه الظالمين بردا وسلاما على إبراهيم بدل الحر. وقيل إن النار بقيت مشتعلة طيلة سبعة أيام وإبراهيم عليه‌السلام في وسطها قد جلس في روضة غنّاء يؤنسه فيها جبرائيل عليه‌السلام وخرج منها سالما معافى بقدرة الله عزّ وعلا.

٧٠ ـ (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) : أي رغبوا في كيده وقتله ، ومكروا به بالإحراق بالنار ، فخسرت صفقتهم ، وضاع مكرهم وانقلب حقدهم غيظا في صدورهم ، وضلّ سعيهم وانقلب إلى برهان قاطع بأنهم على الباطل.

٧١ ـ (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي) ... : أي سلّمناه وخلّصناه من كيد النمرود لعنه الله ، فخلص من الهلاك بناره وكذلك نجيّنا لوطا ـ ابن أخيه ـ الذي كان من المؤمنين الداعين إلى الله ، ثم أمرهما سبحانه بهجر أرض النمرود الذي كان في العراق (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي أرض الشام ، فتركا بابل وأتيا إلى أرض فلسطين. وقد قال تعالى : باركنا فيها ، لأنها أرض خصب وسعة ومنافع دينيّة لأن أكثر الأنبياء صلوات الله عليهم بعثوا فيها ومنها أو جاؤوا إليها. أما لوط فهو ابن هارون بن تارخ ، وهارون هذا هو أخو إبراهيم عليه‌السلام ، وزوجته سارة كانت أيضا بنت عمه. وقد بعث لوط إلى القرى التي تسمّى بالمؤتفكات نسبة لدعوة أهلها إلى الإفك والقبائح ، وقد دمّرها الله تعالى بالعذاب كما مرّ سابقا.

٥٠٩

وقيل إنّ المراد بالأرض هو بيت المقدس الذي هو مقام الأنبياء ، وقيل أيضا إنها مكة المكرّمة كما عن ابن عبّاس فإنها منشأ بركات العالم وقد قال سبحانه : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً).

وقد كان ذلك وجاء إبراهيم عليه‌السلام إلى بلاد الشام ، ثم ذهب إلى مكة المكرّمة وترك زوجته هاجر فيها مع ابنه إسماعيل عليه‌السلام وصار يزورها في كل سنة مرّة.

وعن الصادق عليه‌السلام أنه لمّا أخبر النمرود بأن النار ما أثّرت على إبراهيم ولا أحرقته ، وأنه خرج منها سليما معافى ، أمر بنفيه عن بلاده وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله ، فحاجّهم إبراهيم عليه‌السلام عند ذلك وقال : إن أخذتم ماشيتي ومالي ، فإن حقّي عليكم أن تردّوا ما ذهب عليّ من عمري في بلادكم. واختصموا إلى قاضي النمرود فقضى على إبراهيم عليه‌السلام أن يسلّم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم ، وقضى على جماعة النمرود أن يردّوا عليه ما ذهب من عمره في بلادهم. فأخبر النمرود بذلك فأمرهم أن يخلّوا سبيله وسبيل ماشيته وأهله وأن يخرجوه في كل حال وقال : إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضرّ بآلهتكم.

٧٢ و ٧٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ... : أي أعطينا لإبراهيم ولده إسحاق حين طلب الولد وقال : ربّ هب لي إلخ ... ثم رزقه يعقوب (نافِلَةً) فعن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية قال : ولد الولد نافلة. والعرب يقولون لولد الولد : نافلة ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو نافلة عبد المطلب عليه‌السلام ، ذلك أن يعقوب عليه‌السلام هو ابن إسحاق بن إبراهيم ، والنافلة هي الزيادة أيضا. فقد أعطاه سبحانه الولد وزيادة عليه (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) وجعلنا كلّ واحد منهم صالحا من عبادنا المؤمنين (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) أي قادة وسادة يقتدي بهم الناس ، وهم (يَهْدُونَ) يدلّون الناس إلى طريق الهدى والحق (بِأَمْرِنا) لهم بذلك لأنهم رسلنا إلى الناس (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) أي أن يفعلوا الخيرات ويأمروا الناس

٥١٠

بفعلها (وَإِقامَ الصَّلاةِ) تأديتها والمحافظة عليها ، وقد حذفت التاء تخفيفا (وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) إعطاءها وهذان من باب عطف الخاصّ على العام (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) يتعبّدون لنا دون غيرنا ولم يشركوا بنا طرفة عين.

وعن الصادق عليه‌السلام أن الأئمة في كتاب الله عزوجل إمامان. قال الله تبارك وتعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) ، لا بأمر الناس ، مقدّمون ما أمر الله قبل أمرهم ، وحكم الله قبل حكمهم. وقال : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النّار ، يقدّمون أمرهم على أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله! .. نعوذ بالله من ذلك.

* * *

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

٧٤ ـ (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ... : ولوطا معطوف على ما قبله منصوب ، قال سبحانه : أعطيناه (حُكْماً) وظيفة العضل بين الناس ، أو نبوّة ، أو حكمة (وَعِلْماً) معرفة بما يحتاج إلى العلم به في موارد السؤال أو الحكم في الأمور العرفيّة والدينيّة (وَنَجَّيْناهُ) خلّصناه (مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) أي بلدة سدوم والقرى التي كانت تجاورها فإن أهلها كانوا ينكحون الرجال وكانوا قطاع طرق. بخلا ، يفعلون جميع المنكرات ولا يسمعون وعظا ولا يرتدعون عن قبيح لأنهم كفرة معاندون (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) فهم قوم كانوا يعملون السوء وكانوا أهل كفر وفجور يشهدون الزور ويتعاطون اللواط والسحاق والرّبا واللصوصيّة والكذب وغير ذلك من القبائح والفسق.

٧٥ ـ (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) : فبعد أن نجّينا لوطا عليه

٥١١

السلام من تلك القرية الشّريرة ، شملته رحمتنا وناله لطفنا وعطفنا ، فسلّمناه من العذاب الذي نزل بالقوم الظالمين (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) العباد الذين يعملون صالحات الأعمال التي ترضي الله عزّ وعلا.

* * *

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

٧٦ ـ (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ) ... : نوحا معطوف على ما قبله ، أو هو منصوب ب (اذكر) نوحا حيث دعانا ونادانا من قبل إبراهيم عليه‌السلام ومن قبل لوط وغيرهما ، فاستجار بنا داعيا على قومه العتاة العصاة (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) سمعنا دعاءه وأجبناه بما طلب (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) سلّمناه هو ومن آمن به من أهله وغيرهم (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي هو الغرق الذي انتقم الله تعالى به من قومه حين عصوه ، وهو من أعظم الكرب لأنه لا مهرب فيه من الموت غرقا في غمرات الماء ..

٧٧ ـ (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ... : أي جعلناه منصورا عليهم وظافرا بعد أن سخروا به وبدعوته وكذّبوا بدلائلنا وبراهيننا ومعاجزنا (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) أهل شرّ لا خير فيهم (فَأَغْرَقْناهُمْ) بماء الطوفان الذي غمر وجه الأرض وقتل كلّ حيّ (أَجْمَعِينَ) بكاملهم فلم ينج منهم أحد إلّا المؤمنون الذين حملهم نوح عليه‌السلام في فلكه.

* * *

٥١٢

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

٧٨ ـ (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) ... : وداود وسليمان : عطف على : نوحا ، أي واذكر في نفسك القصة التي حدثت لداود وابنه سليمان عليهما‌السلام حين حكما في الحرث : الزرع الذي (نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) أي رعاه قطيع من الغنم فألحق فيه الضرر ، فتحاكم صاحبه وصاحب الغنم عند داود النبيّ وابنه عليهما‌السلام وحكما حكمين متغايرين (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) أي حاضرين ، وقد جمع الضمير في موضع التثنية باعتبار إضافة الحكم إلى الحاكم والمحكوم.

وللتوضيح نذكر أنه بينما كان داود عليه‌السلام قاعدا في مجلس حكمه في يوم من الأيام ، إذ ورد عليه اثنان : واحد منهما كان صاحب زرع واسمه : إيليا ، والآخر صاحب غنم واسمه يوحنّا. فقال إيليا : يا خليفة

٥١٣

الله كان يوحنّا يرعى أغنامه ليلا فدخلت مزرعتي وأكلت زرعها. وعلى قول ابن عباس : دخلت كرمي وأكلت عنبه وأفسدته. فسأل داود يوحنّا ، فأجاب : نعم يا خليفة الله كان ذلك وكنت نائما فدخلت الأغنام الحرث وأفسدته. فقال داود : احسبوا قيمة الأغنام وقيمة الزرع ، فحسبوا ذلك فكانت القيمتان متساويتين ، فحكم على يوحنّا بردّ أغنامه على إيليا المدّعى بالإضرار بزرعه.

وكان من عادة سليمان بن داود عليهما‌السلام أن يقعد على باب المحكمة ويسأل كلّ من يخرج عن دعواه وعن الحكم الذي صدر بها. فلما خرج هذان المتخاصمان استفسر عن دعواهما وعن الحكم ، فأعلنا له ما جرى بالتفصيل ، فأرجعهما إلى المحكمة ـ وكان عمره الشريف إحدى عشرة سنة ـ فقال : يا أبه ، لو كان الحكم غير ما حكمت به لكان أوفق وأصلح. فسأله داود عن الكيفية التي يراها أصلح من حكمه ، فأجاب بأن يسلّم الأغنام لصاحب الزرع حتى ينتفع بألبانها وأدهانها وأصوافها ، وبأن يسلّم الحرث لصاحب الأغنام يتعهّده ويرجعه كما كان قبل الرعي ، وحينئذ يردّه إلى صاحبه ويستردّ منه أغنامه ، ويكون قد رجع لكلّ ذي حقّ حقه. فأعجب داود هذا الحكم من ابنه وحكم به معترفا أنه أوفق وأصلح وأنه يفسخ حكمه وإن كان صحيحا.

٧٩ ـ (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ... أي علّمناه الحكومة في ذلك ، وأعطيناه من لدنّا فهمها ومعرفتها (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أي كل واحد من داود وسليمان عليهما‌السلام ، أعطيناه الحكمة والعلم بأمور الدين والدنيا (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) أي كلّفناها أن تسبّح معه كما يسبّح وتقدّس كما يقدّس. ففي الإكمال عن الصادق عليه‌السلام أن داود خرج يقرأ الزّبور ، وكان إذا قرأ الزّبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلّا أجابه.

ويحتمل أن يكون المراد بتسبيح الجبال هو ردّ صدى الصوت ودورانه

٥١٤

وانعكاسه وتردّده فيما بينها كما هو المسموع والمحسوس دائما عند أهل الجبال فإنهم يلاحظون ردّ الصدى جليّا ، كما أن هذه الظاهرة تلمس داخل القباب العالية السقوف وداخل المساجد الواسعة وخاصة في مسجد أصفهان الذي بردّ صدى الصوت مرارا مكرّرة. وهذا معنى المعيّة في قوله تعالى لأن الصدى يبدأ مع بدء الكلام مقارنا له ، وينتهي بعد انتهائه كما هو المعروف. ويؤيّد هذا المعنى ظاهر الرواية المزبورة عنه عليه‌السلام (إلا جاوبه) والمجاوبة هي ردّ الكلام وإرجاعه. وفي بعض الروايات : لا يبقى شجر ولا مدر إلّا سبّح معه

، فالظاهر من تسبيحها هو إيجاد القوة الناطقة بقدرته الكاملة كما في شجرة موسى عليه‌السلام على ظاهر الشريفة هناك : إنّي أنا الله .. إلخ .. (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي كنّا نحن فاعلين ذلك بقدرتنا ، فليس مثل هذا الأمر الذي هو إيجاد الكلام وخلقه في تلك الأشياء بأية كيفية شئنا ، ليس ببديع ولا عجيب عندنا وإن استغربتموه أنتم ، فإن ديدننا أن نفعل تلك الأمور في مواقعها وإن كانت عقولكم لا تدرك حقيقتها.

أما تقديم الجبال على الطّير مع أن القاعدة تقتضي العكس لشرافة الحيوان على الجماد ، فلأن تسخير الجبال وتسبيحها أعجب وأكثر في الدلالة على كمال القدرة وتمامها ، وأدخل في إعجاز داود عليه‌السلام وعلى نبيّنا وأهل بيته أفضل الصلوات والسلام.

٨٠ ـ (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) ... اللّبوس الذي علّمه سبحانه صنعته هو الدّرع ، والجارّ في : لكم ، إما متعلّق بالعلم يعني أن التعليم كان لأجلكم حتى تنتفعوا به في الحروب فإن الدرع حافظة لكم ، وإما صفة للّبوس ، والنتيجة واحدة تقريبا ، فقد علّمناه صناعة الدّرع الحديدية الواقية في الحرب (لِتُحْصِنَكُمْ) تمنعكم وتحميكم ، وهو بدل اشتمال من : لكم (مِنْ بَأْسِكُمْ) أي من وقع السلاح وتأثيره فيكم. وقيل معناه : من حربكم ، أي في حالة الحرب والقتال تمنع عنكم شدّة الضرب والطعن ،

٥١٥

لأن البأس في اللغة معناه : الشّدة في القتال (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) أي : هل أنتم حامدون لله على هذه النعمة؟ وهذا أمر في صورة الاستفهام ، جاء به للمبالغة والتقريع ، يعني : اشكروا الله على هذه النعمة العظيمة التي أنعم بها عليكم من صناعة الدرع التي هي لباس الحرب الذي ينجي من طعن الأعداء وضربهم. ونقل عن قتادة أن أول من صنع الدرع كان داود عليه‌السلام ، وقبله كان الناس في الحرب يلصقون صفائح الحديد على أبدانهم ، فمنّ الله تعالى على عباده فجعل الحديد ليّنا على يدي نبيّه داود عليه‌السلام وعلّمه صنعة الدرع وألهمه كيفية صنعها. وروي أن السبب في تليين الحديد على يدي داود عليه‌السلام ، هو أن الله تعالى أعطاه النبوّة والسلطة ، وكان يخرج في الليل ويطوف على الشوارع والسكك وعلى دور الناس حتى يطّلع على أحوالهم ، وكان يتنكّر في زيّه كيلا يعرفه أحد من الرعايا ، وإذا رأى أحدا كان يسأله عن سلوك عمّاله وكيفية معاملتهم للناس ليعلم عدل موظّفيه مع الشعب. وفي ليلة من الليالي نزل جبرائيل عليه‌السلام في صورة بشر ، والتقى بداود في الطريق فسلّم عليه فأجابه على السلام ، وسأله داود عن سلوك داود مع الناس فقال له جبرائيل عليه‌السلام : كان في غاية الحسن والجودة والعدل لو لم يأكل من بيت المال. فلّما سمع هذا الكلام حلف أن لا يأكل من بيت مال الناس شيئا وسأل الله تعالى أن يعطيه كسبا يسترزق منه حتى يعيش به. فألان الله سبحانه له الحديد وعلّمه صنعة الدّروع ليبيعها وينفق على نفسه من ربحها.

وروي أن لقمان رأى أن داود كان يصنع الدرع ، وأنه كان عند ما يتمّه يقوم فيلبسه ويقول : نعمت الجنّة للحرب! فقال لقمان : الصمت جنّة ، وقليل فاعله. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : أوحى الله تعالى إلى داود عليه‌السلام أنك نعم العبد لولا أنك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا. قال : فبكى داود أربعين صباحا ، فأوحى الله تعالى إلى الحديد أن لن لعبدي داود. فألان الله تعالى

٥١٦

له الحديد فكان يعمل في كل يوم درعا فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمئة وستين درعا فباعها بثلاثمئة وستين ألفا واستغنى عن بيت المال. وهكذا يؤدّب الله تعالى أولياءه وأهل طاعته في كل زمان عناية منهم بهم واستخلاصا لهم.

ثم إنه تعالى لمّا فرغ من قصة داود وذكر نعمه عليه ، أخذ في بيان نعمه على ابنه سليمان عليه‌السلام فقال :

٨١ ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ) ... عطف على ما تقدم من قصة داود عليه‌السلام. أي : وسخّرنا لسليمان الريح : الهواء المتحرّك بقوّة (عاصِفَةً) شديدة الهبوب تقطع مسافة طويلة في مدة قليلة ، كان تجري : تسير بأمره حسب رأيه ومبتغاه (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي بيت المقدس أو بلاد الشام ، أو كليهما. وقد قال سبحانه في مكان آخر : غدوّها شهر ، ورواحها شهر (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) أي أن ذلك كان يتمّ بعلمنا لأننا نعلم كل شيء ولا تفوتنا معرفة شيء ولا تخفى علينا صغيرة ولا كبيرة.

٨٢ ـ (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) ... أي : وسخّرنا له جماعة من الشياطين يغوصون في البحار ويستخرجون له نفائسها وجواهرها (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة التي يجهلها الناس لقوله تعالى (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) ، (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي محافظين عليهم من أن يزيغوا عن أمره أو يمتنعوا عن أمرنا ، أو أن يفسدوا ما عملوا لرسوله كما هو مقتضى جبلة الشياطين.

* * *

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ

٥١٧

فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤))

٨٣ ـ (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ... أي : اذكر أيوب الذي كان من ولد إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام جميعا ، وأمّه من ولد لوط. وقد رزقه الله تعالى مالا كثيرا واختاره للنبوّة وبعثه إلى أهل قيسنة. وما كان في ذلك العصر أحد أكثر مالا منه ، وكانت مزارعه وبساتينه ومواشيه وأنعامه وغلمانه وإماؤه وخزائنه أكثر من أن تحصى وتعد ، وكان له من زوجته رحمة أو رحيمة بنت أفراييم بن يوسف سبعة أولاد ذكور أو اثنا عشر على رواية ، وسبع بنات أو سبع عشرة.

فهذا النبيّ الكريم (نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) والضر بالفتح يطلق على كل ضرر ، وبالضم يختص بما في النفس كالأمراض والهزال ونحو ذلك (وَأَنْتَ) يا الله (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) هذا تعرّض منه بالدعاء لإزالة ما به من البلاء. وهو من ألطف الكنايات في مقام طلب الحاجة. ومثله قول موسى عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ويأتي ذكر قصته في سورة ص إن شاء الله تعالى.

٨٤ ـ (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) ... أي سمعنا دعاءه واستجبنا لطلبه ، وأزلنا الضرّ عنه وأمرنا بشفائه ومعافاته من المرض والآلام (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي أعطيناه أهله وأرجعناهم له. فعن ابن عباس وابن مسعود : ردّ الله سبحانه عليه أهله الذين هلكوا بأعيانهم ، وأعطاه مثلهم معهم ، وكذلك ردّ عليه أمواله ومواشيه بالأعيان والذوات وأعطاه مثل ذلك أيضا ، بنتيجة صبره على البلاء وشكره في الضرّاء كما في الرخاء. وعن الصادق عليه‌السلام أنه قال : ابتلى أيوب سبع سنين بلا ذنب ... وهذه من بلاءات الأنبياء وعباد الله الصالحين.

* * *

٥١٨

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

٨٥ ـ (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) : الأسماء الكريمة عطف على ما قبلها ولذلك نصبت ، والكلام الشريف يعني أن جميع هؤلاء الرّسل كانوا صابرين على مشاقّ التكاليف وعلى الشدائد والمصائب التي ابتلوا بها من جرّاء الدعوة إلى الله تعالى ، وكانوا صابرين على اختياراتنا لهم بكل أنواعها.

٨٦ ـ (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) : أي اخترناهم للنبوّة التي هي من أعظم الرحمة للعبد الصالح ، ولم ندخلهم في تلك الرحمة إلّا لأنهم من عبادنا الصالحين.

* * *

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

٨٧ و ٨٨ ـ (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) .. هذا أيضا معطوف بالنّصب على ما قبله بتقدير : اذكر يا محمد ذا النّون : وهو صاحب الحوت ، يونس بن متّى عليه‌السلام الذي خرج من قومه مغاضبا : غضبانا عليهم

٥١٩

برما لما كان من عصيانهم وتماديهم في الكفر والباطل والجرأة على الله تعالى ، فهاجر عنهم بعد أن دعا عليهم بالهلاك وقبل أن يؤذن له بالخروج من قبل الله سبحانه (فَظَنَ) حسب (أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أننا لا نضيّق عليه بما قضيناه من حبسه ببطن الحوت. والقدر إذا عدّي ب ـ : على ، يكون معناه الضيق ، وقد جاء بمعنى القضاء والحكم. وقد فعلنا ما قدّرناه عليه من البلاء الصعب (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) دعا واستغاث في ظلمات : الليل ، وبطن الحوت ، وغمر الماء ، فنادى يقول في استغاثته : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) لا ربّ سواك ولا معبود غيرك (سُبْحانَكَ) تنزيها لك يا الله عن كلّ ظلم وعما لا يليق بك (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : كنت من الظالمين لأنفسهم حين تركت فعل الأولى حيث خرجت من قومي وهاجرت عنهم قبل صدور الإذن من عندك تباركت وتعاليت ، وأنا أعترف بين يديك بما فرط منّي باستعجالي نزول العذاب وباستعجال الخروج عن قومي الذين قضيت بإنزال عذابك عليهم.

فاذكر يا محمد قصة يونس وما كان من دعائه واعترافه ، حيث سمعنا دعاءه وقبلنا اعتذاره (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) خلّصناه من الضيق الذي حاق به أثناء حبسه في بطن الحوت فألهمنا الحوت أن يقذفه على الساحل بعد ثلاثة أيام أو أكثر بعد أن أبقيناه حيّا بقدرتنا ومشيئتنا.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام وقد سئل : ما السبب حتى ظنّ أن لن نقدر عليه؟ فقال : وكله الله إلى نفسه طرفة عين. وفي الخصال والفقيه عنه عليه‌السلام أيضا أنه قال في حديث : عجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) .. إلى : (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ). وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلّا استجيب له.

* * *

٥٢٠