الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

بالنزاع معهم أو بالقتال (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ولم تنتظر أمري فيهم ، ولذلك لم أر أحسن من مفارقتهم بعد أن رأيت عنادهم منتظرا مجيئك حتى ترى وتفعل ما فيه الصلاح والإصلاح .. وبعدها انصرف موسى عليه‌السلام إلى السامريّ يخاطبه ويقول :

* * *

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨))

٩٥ و ٩٦ ـ (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟) ... أي ما هي قصتك وماذا أردت من أمرك هذا الذي أتيت به ، وما حملك على إضلال الناس؟ (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أريت ما لم يروا ، أي أنه رأى أثر حافر فرس جبرائيل عليه‌السلام على الأرض فأخذ حفنة تراب من مكانه (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أي رسول الله عزوجل ، وهي تراب الحياة الذي ذكرناه قريبا (فَنَبَذْتُها) قذفتها في النار مع المعادن الذائبة من زينة القوم (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) وهذا هو الذي زيّنته لي نفسي الأمّارة بالسوء. فاعترف بعمله الشنيع ، وعمد موسى إلى العجل الذي صنعه لهم فأحرقه بالنار وألقاه في البحر على مرأى منهم جميعا وقال للسامريّ بعدها :

٤٦١

٩٧ ـ (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) ... أي انصرف من وجهي بنتيجة عملك القبيح ، وجزاؤك في الدنيا أن تقول لا مساس : أي أن تقيم في البراري مع الوحوش لا تمسّ أحدا ولا يمسّك أحد ، فلا تمس ولا تمس ، ومن مسّك أصيب بالحمّى وأصابك أنت بها أيضا ، فكان إذا أراد أحد أهله أن يمسّه يصيح به : لا مساس خوفا من تلك الحمى التي يرميه بها الله تعالى جزاء على عمله. وقيل إنه لمّا قال له موسى عليه‌السلام ذلك : عوقب بمرض الجنون وهام على وجهه في البريّة وجعل يقول لا مساس ولا مساس ، وكان من يمسّه يصاب بمثل ما أصيب به.

هذا ما كان من عقابه في الدنيا ، وأمّا في الآخرة (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) أي أن لك يوم القيامة وقتا تتلقّى فيه عذاب الآخرة الأشد فإنه مهيّأ لك وعدا غير مكذوب ولن تجد خلفا في ذلك الوعد إذ ينتظرك عذاب ربّك الخاص بك. وفي بعض التفاسير أن هذه الحالة موجودة في أعقاب السامريّ (لا مِساسَ) لتكون عبرة لهم ولغيرهم ، وأنّ السامريين يعرفون بها في بلاد مصر والشام ويقال عند رؤيتهم لا مساس. وقيل إن موسى عليه‌السلام همّ بقتل السامريّ بعد فعلته الشنعاء ، فأوحى إليه الله تعالى : لا تقتله فإنه سخيّ. فلذلك تركه وأحرق عجله وقال له : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) أي انظر إلى الرّب المزيّف الذي صنعته وكنت لا تزال ملازما له (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) أي لنحرقنّه بالنار ونذيبنّه بها ، ولنرمينّه في البحر مبعثر الأجزاء بعد طرحه في الماء بحيث لا يبقى له أثر.

وقيل إن قراءة (لَنُحَرِّقَنَّهُ) من باب التحريق لا الحرق ، تدل على كون العجل حيوانا ذا جلد ولحم ودم وعظام ، وأما على القراءة بالتخفيف : لنحرقنّه ، فمعناها لنبردنّه بالمبرد ولنسحقنّه ، لأنه مصنوع من الذهب والذهب غير قابل للإحراق. وهذه من الأوهام التي يريد المتحذلقة إيرادها

٤٦٢

تلاعبا في اللفظ ، إذ الحقّ أن لا فرق في المعنى بين القراءتين ، وعلى التقديرين فإن العجل من الذهب قابل للاحتراق بالتذويب الذي يفكّك أجزاءه وينثر ذرّاته في الهواء كما أن الجبال الراسيات بصخورها ومعادنها وما في بواطنها قابلة للاحتراق بقدرة الله تعالى.

٩٨ ـ (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ... أي يا بني إسرائيل : إن إلهكم الذي خلقكم ورزقكم ونجّاكم من آل فرعون ، هو الله الذي لا إله غيره ، وهو الذي يستحق العبادة وقد (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أحاط علمه سبحانه بكل شيء فلا يغيب عن علمه شيء كبر أم صغر.

* * *

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤))

٩٩ و ١٠٠ و ١٠١ ـ (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ) ... أي : على هذا الشكل نخبرك يا محمد أخبار الأمور الماضية و (ما قَدْ سَبَقَ) من الحوادث التي غابت عنك من أحوال الأمم الدارجة (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) وقد أعطيناك من عندنا كتابا بذلك ، لتكون هذه المعلومات تبصرة لك ومزيدا لعلمك مثبتة في هذا الكتاب الذي بين يديك والذي يشتمل على ما يحتاج إليه في الدّنيا والآخرة ، ومن صدّق ما فيه فاز ونجا ، و (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ)

٤٦٣

وانصرف إلى غيره (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) أي يتحمل إثم الإعراض عنه والانصراف إلى غيره مما هو باطل (خالِدِينَ فِيهِ) أي في الوزر ووباله الذي يترتّب عليه (وَساءَ) قبح (لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي : ساء هذا الوزر حملا حملوه واحتملوا إثمه يوم القيامة. فإن لفظة : حملا تمييز للمبهم من المضمر في الفعل : ساء.

١٠٢ و ١٠٣ ـ (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ... أي وذلك ـ يعني يوم القيامة ـ يكون حين ينفخ إسرافيل عليه‌السلام في الصور ، فتنبعث الأرواح في أجسادها ويقوم الناس للحساب في يوم المحشر (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) نبعثهم أحياء ونجمعهم إلينا (يَوْمَئِذٍ) في ذلك اليوم (زُرْقاً) مسودّة وجوههم من كثرة المعاصي والآثام (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي تراهم يتكلمون مع بعضهم بصوت خافت (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) أي لم تبقوا أمواتا أكثر من عشر ليال على الأكثر.

١٠٤ ـ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) ... أي أن الله سبحانه وتعالى أعلم بما يقولونه يومئذ عن مدة لبثهم (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي أحسنهم قولا وتقديرا وتقريرا (إِنْ لَبِثْتُمْ) ما بقيتم في رقدتكم (إِلَّا يَوْماً) سوى يوم لا أكثر ولا أقل.

* * *

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠)

٤٦٤

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢))

١٠٥ و ١٠٦ و ١٠٧ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) ... حكي أن كفّار قريش أو نفرا من ثقيف سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الجبال وما يصيبها يوم القيامة على ثقلها وصلابتها وعظمتها ، فنزلت هذه الآية الكريمة : ويسألونك عن حال الجبال ومآلها وما يحلّ بها (فَقُلْ) يا محمد لهم : (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) أي يدكّها ربّي تعالى دكّا ويهدمها ويقلبها من أصلها ويصيّرها كالرمال الناعمة ويأمر الريح الدّبور فتفرّقها على وجه البسيطة وسطح الأرض وتصير أمكنتها سهولا مستوية بعد أن كانت جبالا راسية (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) فيدعها أرضا منبسطة كبقية السهول ، ف (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) فلا تنظر فيها التواء من انخفاض أو ارتفاع بقدرته العزيزة جلّت قدرته.

١٠٨ ـ (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) ... أي في ذلك اليوم يلحقون بداعي الله عزوجل الذي يدعوهم للمحشر ، وهو إسرافيل عليه‌السلام ، يدعوهم بأمر ربّه عزّ وعلا فيقبلون من كل أوب إلى صوبه (لا عِوَجَ لَهُ) أي ليس لأحد أن ينحرف عنه ولا يعدل عمّا أشار إليه من خطة السير. والفرق بين العوج والاعوجاج أن الاعوجاج هو الانحراف الفاحش من الشيء بحيث يلتفت إليه من يراه في بادئ الأمر ولأول وهلة ، أما العوج فإنه الانحراف اليسير الذي لا تدركه النظرة الخاطفة لخروجه عن إدراك البصر السريع لدقّته ، ولا يدركه إلّا الحاذق الدقيق والمهندس المختص بالمقاييس الهندسية اللازمة ، ولذا لا يستعمل لفظ العوج ، إلّا في الأمور المعنوية للطافته وكمال دقّته كالأمور المعنوية ، في حين أن الاعوجاج يستعمل في الأعيان المادية. فاستعمال لفظ : العوج في المقامين اللذين مرّا

٤٦٥

في الآيتين الكريمتين كان من أجل المبالغة في نفي الاعوجاج ، وهذا من أسرار القرآن وكمال بلاغته (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) أي سكنت لمهابة البارئ تعالى وعظمته التي تتجلّى في ذلك الموقف الرهيب (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أي فلا تسمع في ذلك الجمع الذي يشمل كافة المخلوقات إلا صوتا خفيّا لا يكاد يسمع.

١٠٩ ـ (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) ... أي في ذلك اليوم العصيب لا ينال الشفاعة والعفو وطلب التجاوز إلّا من رخّص الله تعالى أن يشفع فيه (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) كان قد قاله في الدنيا وكان فيه بجانب الحق ولم يتّبع سبيل الغي.

١١٠ ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ... أي يعرف سبحانه جميع ما كان في حياتهم (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) لأنه لم يغب عن علمه شيء من أحوالهم (وَما خَلْفَهُمْ) من أحوال آخرتهم وما يكونون عليه (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي لا يحيط علمهم بمعلوماته ولا بذاته جلّ وعزّ.

١١١ ـ (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ... أي خضعت وجوه المخلوقات وذلّت خضوع وذلّ العاني الأسير في يد من قهره وأسره ، وانقادت مذعنة لله الحيّ القائم على كل نفس من الأنفال وكلّ خطرة من الخطرات (وَقَدْ خابَ) خسر ووقع بالخيبة والفشل (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي من كان زاده للآخرة الشّرك والمعاصي.

١١٢ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ... أما الذي عمل الأعمال الحسنة والتزم بأوامر ربّه ونواهيه وهو مصدق بجميع ما جاء عن ربّه على لسان رسله (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) فلا يحذر أن يمنع ثوابا يستحقه بالوعد ، ولا يظلم بزيادة سيّئاته ، ولا ينتقص حقّه بإنقاص حسناته وأفعاله الصالحة. وقيل لا يخشى إضافة سيئات غيره إلى سيئاته كما ورد في بعض أخبار الغيبة بالنسبة إلى الذي يغتاب الآخرين ، فإن فيها أن يؤخذ

٤٦٦

من حسنات هذا لهذا ، أو يؤخذ من سيئاته لسيئاته والعياذ بالله من ذلك.

فهذه الآية الكريمة تدل على أن من منن الله تعالى على عباده أن المؤمن الذي فعل الطاعات وتجنّب المعاصي ، لا يخاف منع ثواب عمل يثاب عليه ، ولا يخشى زيادة سيئات على سيئاته المسجّلة عليه ، وهذه الآية الكريمة من أرجى الآيات في كتابنا العزيز والحمد لله.

* * *

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤))

١١٣ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ... أي : وهكذا أنزلنا هذا الكتاب قرآنا يقرأ باللغة العربية (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) وكرّرنا فيه آيات التهديد بالعذاب والوعد بالثواب (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) بأمل أن يتجنّبوا ما يغضب وأن يتقرّبوا بما يرضي حتى تصير التقوى ملكة عندهم (أَوْ يُحْدِثُ) هذا القرآن يجعل (لَهُمْ ذِكْراً) عظة تذكّرهم بما أصاب الأمم الماضية فتجعلهم يتّعظون ويعتبرون.

١١٤ ـ (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) ... أي ارتفع وسما بذاته وبصفاته عن مماثلة المخلوقات ومشابهتها ، لأنه (الْمَلِكُ) النافذ التصرّف فيهم وفي ملكوته بأجمعه ، وهو الملك (الْحَقُ) الذي يحق له الملك ، أو هو النافذ الأمر بالاستحقاق (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي لا تتعجّل قراءته قبل أن يفرغ جبرائيل من تلاوته عليك وإبلاغه إياك ، إذ من المرويّ أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يساوق جبرائيل عليه‌السلام في القراءة

٤٦٧

حرصا عليها ، أو لا تعجل في تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتيك بيانه ، أو لا تسأل إنزال القرآن في شيء قبل أن يأتيك وحيه ، لأنه تعالى إنما ينزله حسب المصلحة وفي وقت الحاجة (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي قل ذلك يدل الاستعجال ، فإن ما يوحى إليك تناله لا محالة ، فاطلب زيادة العلم فيما يوحى إليك. وقيل إن المراد بالعلم المأمور به هنا هو القرآن من باب ذكر المسبب وإرادة السبب ، فإنه كلّما نزل عليه شيء منه زاد علمه صلوات الله عليه وآله ، لأن فيه علم الأوّلين والآخرين ، وعلم ما كان وما يكون منذ بدء الخليقة إلى أبد الآبدين.

* * *

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥))

١١٥ ـ (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) ... أي أمرنا آدم بعهد منّا أن لا يأكل من الشجرة التي نهيناه عن الأكل منها (مِنْ قَبْلُ) من قبل زمانك يا محمد.

وقد ذكر في وجه تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوه ، أحسنها أنه تعالى لمّا قال في الآية ٩٩ : وكذلك نقصّ عليك من أنباء ما قد سبق ، نذكر قصة آدم إنجازا للوعد الذي ذكرناه لك ، فإن آدم قد أمرناه بعدم الأكل من الشجرة (فَنَسِيَ) ما أمر به من الكفّ عنه وفعل ما كان خلاف الأولى (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) أي ثباتا وتصلّبا في الالتزام بما أمر به ، أو لم نجد له عزما على الذّنب ونيّة مقصودة ، لأنه لم يتعمّد المخالفة حيث إنه نسي الأمر ، وعن الباقر عليه‌السلام أن الله تعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة ، فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها ، فنسي فأكل منها. وهو قول الله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ ، فَنَسِيَ ...).

٤٦٨

وفي بعض الروايات أن الله تعالى قال لآدم وزوجته : لا تقرباها ، فقالا : نعم ، ولم يستثنيا في قولهما ، ـ أي لم يقولا : إن شاء الله ـ فوكلهما الله في ذلك إلى نفسيهما وإلى تذكّرهما ، فنسيا. والله تعالى أعلم في كل حال.

* * *

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩))

١١٦ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) : مرّ تفسيره وأن إبليس عليه لعائن الله استكبر عن السجود وعصا أمر ربّه.

١١٧ ـ (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) ... فنبّهنا آدم إلى أن إبليس عدوّ له ولزوجته حواء عليهما‌السلام ، وأنه ربّما كاد لهما كيدا سيئا ومكر بهما مكرا خبيثا (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أسند الشقاء إلى آدم مع اشتراك حوّاء معه في الأكل والخروج ، وذلك لأنه لا يترقّب من النساء ما يترقّب من الرجال ، فما يصدر منها لا يعبأ به كثيرا ، وثانيا ربّما أريد بالشقاء التعب والمشقّة في طلب الرزق والمعاش وفي العبادة وغيرها ، فذلك من وظيفة الرجال ، ويؤيد ذلك ما بعد هذه الآية الكريمة من قوله سبحانه : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها ..) إلخ .. مضافا إلى رعاية الفاصلة والتثنية لا تناسبها. بل يؤيد أن الشقاء هنا غير الشقاوة ، بل يعني المشقة والتعب ، قوله تعالى مخاطبا نبيّنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ، أي لتتعب وتجهد نفسك.

٤٦٩

١١٨ ١١٩ ـ (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) ... أي نؤكّد لك ونشترط أنك إذا أطعت الأمر أن تبقى في الجنة فلا تشكو جوعا فيها ولا عريا. أما عدم الجوع فلأنها مجمع النّعم المرغوبة من المأكول وغيره ، وأما العري فلأن الملبوسات موفورة فيها على الوجه الأتمّ ، فلك ذلك في الجنّة (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها) لا تعطش (وَلا تَضْحى) لا يصيبك حرّ الشمس لأنّ ظلّها ظليل أي دائم بلا شمس ولا غيرها مما يسبب الحرارة ، وعن ابن عباس وابن جبير وقتادة ، قالوا : ليس في الجنة شمس ، وإنّما فيها ضياء ونور ، وظلّ ممدود. فلما ابتلى آدم بأكل المنهيّ وأخرج من الجنّة إلى الأرض ، نزل جبرائيل عليه‌السلام ومعه بقرة حمراء وعلّمه الزرع وفلح الأرض بواسطتها. فلما اشتغل بالزرع وتحصيل المعاش عرق وتعب ، فقال : هذا هو الشقاء الذي أخبرني به ربّي .. ويتضح أنه على هذا المعنى لا ترد بعض الإشكالات على أبينا آدم صفي الله عليه‌السلام. فما شاء الله كان.

* * *

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى

٤٧٠

(١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

١٢٠ ـ (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ) ... أي فهمس له الشيطان الخبيث قائلا : (يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أتريد أن أرشدك إلى الشجرة التي من أكل منها خلد في الجنّة فلا يموت أبدا؟ (وَ) هل أدلّك أيضا على (مُلْكٍ لا يَبْلى) ملك وسلطان لا يزول ولا ينقطع؟ فكلا من هذه الشجرة تكونا خالدين.

ويستفاد من هذه الشريفة أن الجنّة التي كان فيها آدم وحواء ما كانت جنّة الخلد التي وعد الله عباده. وإلّا فلا معنى لهذا الكلام الذي قاله لهما إبليس إذا كانا في جنّة الخلد ، إلّا في حال واحدة وهو أنه غرّهما وغشّهما بأن من لا يأكل من (شَجَرَةِ الْخُلْدِ) لا يكون من الخالدين فيها ، والله أعلم.

١٢١ ـ (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) ... فأكل آدم وحواء من الشجرة بإغراء إبليس اللعين ، فظهرت لهما عوراتهما فخجلا خجلا عظيما (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) وأخذا يقطعان ورقا من شجرة الجنّة ويلصقانه بجسديهما ليتستّرا (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) خالف أمره وما كان نبّهه إليه ودلّه عليه (فَغَوى) فضلّ ونسي أمر ربّه وترك ما ندب إليه وأرشد إليه فسمّي عاصيا ، وغوايته كانت من ناحية أنه طلب الخلد بالأكل من الشجرة فلم يحصل له ذلك ، بل وقع في خلاف مقصوده وهذا هو الضلال عن المراد.

٤٧١

١٢٢ ـ (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) : اجتباه : اختاره للرسالة (فَتابَ عَلَيْهِ) حين الاجتباء (وَهَداهُ) إلى حفظ أسباب العصمة لتحمّل أمانة الرسالة ، أو هداه إلى التوبة ووفقه لمرضاته وجعله بعدها مجتبى مختارا لهداية غيره فجعله نبيّا يدلّ ذرّيته على الله وعلى أمور الدين والعبادة.

١٢٣ ـ (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) ... أي : انزلا من دار كرامتي ورحمتي إلى دار التعب والبلاء كلكم. والخطاب في : اهبطا ، موجّه لآدم وحواء عليهما‌السلام دون إبليس مع أنه مقصود هو أيضا بالأمر ولكنه لم يعتن به لأنه بعد أن عصى واستكبر عن السجود أخرجه الله تعالى عن مقامه ورجمه ولعنه وطرده من رحمته فلم يبق عنده قابلية المخاطبة لأن فيها شيئا من التوجه والاهتمام بشأنه وإن كانت لفظة : جميعا ، تشمله في الخروج من الجنة ، كما أنها تشمله جملة : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فإن العداوة بين إبليس من جهة ، وآدم وحواء من جهة ثانية (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي إن جاءكم هدى مني حينما تكونون في الأرض على يد رسول أو بواسطة كتاب فهما الوسيلتان لهدايتكم (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) الجملة : فمن تبع هي جواب الشرط لأن : فإمّا ، مركّبة من : إن الشرطية و : ما الزائدة. فمن سمع لرسولي واهتدى به أو بكتابي فلا يضل الصراط السويّ في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة ، أي لا ييأس من رحمة الله سبحانه ولا يبعد عنها.

١٢٤ و ١٢٥ و ١٢٦ ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ... ومن انصرف وولّى وجهه عن كتابي : القرآن ، أو ما يذكّر بي من كتاب أو رسول ، فإن له ضيقا في معيشته وعناء وتعبا نشقيه بماله وبأولاده وبنفسه. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : إن له معيشة ضنكا ، قال : هي والله النّصّاب. قيل له : رأيناهم في دهرهم الأطول في الكفاية حتى ماتوا. قال : ذلك والله في الرجعة يأكلون العذرة. وفي الكافي : من أعرض عن ذكري ، قال : ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ

٤٧٢

أَعْمى) قال : يعني أعمى البصر في الآخرة ، وأعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين. (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) أي كيف رددتني إلى الحياة يوم القيامة أعمى البصر وقد كنت في الدنيا سليم العينين حسن البصر؟ (قالَ) الله تعالى (كَذلِكَ) أي مثل ذلك فعلنا بك ، لأنك (أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) جاءتك دلائلنا وبراهيننا فتركتها وعميت عنها. وفي الكافي قال : الآيات : الأئمة عليهم‌السلام ، ونسيانهم تركهم.

(وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي تترك في النار ، وتعتبر كأنك منسيّ لأن الله سبحانه جلّ عن أن يسهو أو ينسى أو يغيب عن علمه شيء. فترك المعذّب في العذاب الدائم الآبد يجعله كالمنسيّ المسهوّ عنه.

١٢٧ ـ (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) ... أي وبمثل هذا الجزاء نجزي من فرّط ولم يصدّق بدلائلنا وجاوز الحدّ في التفريط. وعن الصادق عليه‌السلام : يعني من أشرك بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) أي ترك الأئمة معاندة فلم يتّبع آثارهم ولم يتولّهم (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) من عذاب الدنيا بما لا يوصف (وَأَبْقى) أدوم لأنه لا يزول بينما يزول عذاب الدنيا ويذهب كل ما فيها.

* * *

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا

٤٧٣

لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢))

١٢٨ ـ (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) ... أي أفلم ينكشف لهم طريق الهدى إلى ما يبيّن لهم (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) كم أفنينا وأبدنا بالعذاب كثيرا من الأمم الماضية المكذّبة للرّسل كعاد وثمود وغيرهما. وعلى هذا التفسير تكون جملة : أهلكنا ، في محل رفع على أنها فاعل يهدي ، والتقدير : أفلم يهدهم إهلاكنا لمن قبلهم؟ وقيل إن الفاعل هو الضمير فيه ، الراجع إلى الله تعالى ، وضمير : لهم ، راجع إلى قريش الذين (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) في مساكن الذين دمّرناهم بالعذاب لأنهم عصوا الرّسل. والجملة منصوبة مملّا بناء على أنها حال من لهم ، أي يمشون في قرى الأمم السابقة ، الخربة ، ويرون آثار هلاكهم ، أفلا يعتبرون حين دخولهم في منازل أهل الأحقاف والحجر في أسفارهم التجارية إلى الشام ، فإنهم يمرّون عليها ويشاهدون علائم عذابهم فلا بدّ لهم من الاعتبار والاتّعاظ ف ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ) الأثر الظاهر أمام أبصارهم (لَآياتٍ) دلالات واضحة (لِأُولِي النُّهى) لذوي العقل والبصيرة.

١٢٩ ـ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) .... أي : ولولا الوعد الذي أخذه ربّك على نفسه أن لا يعذب الأمة المرحومة بوجودك يا محمد ، وأنه أخرّ عذابها إلى الآخرة ، لولا ذلك (لَكانَ) العذاب (لِزاماً) لازما لهم وقت ارتكابهم للآثام .. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) معطوف على كلمة : لولا ، أي لولا الكلمة ولولا الأجل المضروب من عذابهم في الآخرة لعجّلناه لهم كما فعلنا بعضه في يوم بدر وغيره من العذاب العاجل.

٤٧٤

١٣٠ ـ (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ... أي اصبر على تكذيبهم إيّاك واشتغل بتنزيه ربّك وتقديسه في هذه الأوقات وسلّم الأمر إليه سبحانه. وقد أراد المداومة على التسبيح والتحميد (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها ، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ) أي في هذه الأوقات لآثار لها خاصة لا توجد في غيرها ، ولشرافة التسبيح والتحميد حينئذ (لَعَلَّكَ تَرْضى) أي بأمل أن ترضى بما يعطيك ربّك في الدارين من النّصر في الدنيا والفوز بنعيم الآخرة.

١٣١ ـ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) ... نهى الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مدّ بصره والتطلّع إلى ما استمتع به القوم الكافرون من نعم الدّنيا. ومدّ العينين هنا كناية عن الأسف ، أي لا تأسف على ما يفوتك ممّا ينالونه من حظّ الدنيا ، وليس تحديق النظر إلى ما هم فيه متمتّعون. و (الأزواج) هنا هي أصناف الكفار الذين يتمتعون بغضارة الدنيا (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي زينتها وبهجتها ، فذلك (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم ونعذّبهم بسببه في الآخرة فلا تأسف عليه (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) وما أعطاك ربّك من نعم هي أدوم لك.

١٣٢ ـ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) ... يمكن أن يكون تخصصه صلى‌الله‌عليه‌وآله من باب : إياك أعني ، فأمره بذلك ليأتمر غيره به أيضا. كما يمكن أن يكون أهل بيته صلوات الله عليهم أولى بالتكاليف كما في قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ، لشرافتهم ولإكرامهم بهذه الفضيلة من التقديم على غيرهم ، أي الأمر الخاص بأهم الواجبات الدينية ، الصلاة التي هي عمود الدّين وركنه الركين ، مع أن أهله داخلون في عموم قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ). وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنه قال : أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخصّ أهله دون الناس ، ليعلم الناس أن لأهله عند الله منزلة ليست للناس. فأمرهم مع الناس عامة ، ثم أمرهم خاصة. فأمرهم بالصلاة يا محمد (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي حافظ

٤٧٥

عليها ، أو معناه : احمل نفسك عليها وعلى مشاقّها فإنها كبيرة إلّا على الخاشعين ، وقيل معناه : داوم على الأمر بها ونحن (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) لا نكلّفك بطلب الرزق والسعي من أجله ، إذ (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) ونمنّ عليك (وَالْعاقِبَةُ) الآخرة المحمودة (لِلتَّقْوى) يعني لأهل التقوى والطاعة.

* * *

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

١٣٣ ـ (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ... أي نتمنّى عليه أن يأتينا بمعجزة من المعاجز التي نقترحها عليه ونطلبها منه لنستدلّ على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته. وهو قول باطل (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى؟) هذا جواب لهم يعني : أولم يكفهم ما في الكتب التي نزلت على الأنبياء سابقا من إهلاكنا لأممهم حين عصوا أوامرنا وعصوا رسلنا واستهزءوا بأقوالهم؟ أليس ذلك من الآيات البيّنات الواضحات. و (بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) هو القرآن الكريم الذي يشتمل على زبدة ما في جميع الكتب السماويّة من العقائد والأحكام والقصص والأمثال والوعد والوعيد والذكرى وغيرها ، مع أن الآتي به لم ير تلك الصّحف ولم يتعلّم من أحد كان يعلّمها للآخرين ، فهذه أعظم آية وأبينها وأكبر إعجاز لغير الجاحد الكفور.

٤٧٦

١٣٤ ـ (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) ... يعني أننا لو أنزلنا على قريش عذابا يهلكهم ويفنيهم (مِنْ قَبْلِهِ) قبل بعث محمد ونزول القرآن وإلقاء الحجة عليهم (لَقالُوا) لنا يوم القيامة : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) هلّا بعثت إلينا نبيّا يرشدنا إلى الهدى والصلاح (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) أي قبل أن يلحقنا الهوان والذل والخزي في الدار الآخرة من أجل ذلك قطعنا عذرهم بإرسال رسول كريم ، فلم يبق لهم ما يتعلّقون به من الأمل إذ تمّت الحجة عليهم. وقيل في معنى العبارة : من قبل أن نذلّ في الدّنيا بالقتل والسّبي ، ونخزى في الآخرة بدخول النار ، وهو جيّد.

١٣٥ ـ (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ ، فَتَرَبَّصُوا) ... أي قل لهم يا محمد قطعا للجدال : كلّ منّا منتظر عاقبة أمره وما تؤول إليه حاله في الآخرة ، فانتظروا أنتم ما يصيبكم من الذل والخزي في الدارين. وكلمة : فتربّصوا ، تحمل التهديد وقطع الجدل ، فسترون عاقبة السوء التي تنتظركم يوم القيامة ، بل (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) وسترون وتعرفون من كان على الطريقة المستقيمة ومن اتّبع طريق الهدى.

* * *

٤٧٧
٤٧٨

سورة الأنبياء

مكية ، وآياتها ١١٢ آية نزلت بعد سورة إبراهيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

١ ـ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) : أي : قربت ساعة القيامة للحساب. وإنما وصفت بالقرب لأن أحد أشراط الساعة بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال : بعثت أنا والساعة كهاتين ، ثم جمع

٤٧٩

سبّابته والوسطى. ولذا صار خاتم الأنبياء. وقال سبحانه : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) ـ أي يوم القيامة ـ (وَنَراهُ قَرِيباً). ووجه آخر لوصفها بالقرب هو أنّ كل آت قريب ، وأن ما بقي من عمر الدنيا المقدّر لها ، أقلّ مما ذهب. وفي الجوامع عن أمير المؤمنين عليه آلاف التحية والسلام : إن الدنيا ولّت حذّاء ـ أي انصرمت خفيفة سريعة ـ ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء. وعلى كل حال فقد وصفت بالقرب لسرعة مضيّ ما بقي ، ولأن كل آت قريب محقّقا. وحكي أن قس بن ساعدة ركب يوما على ناقته في سوق عكاظ وراح يقول : أيّها الناس ، إن من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت ..

فكل ما سيأتي هو بحكم ما أتى ، وقد ذكر سبحانه الحساب هنا من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، فقد اقترب حساب الناس (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) ساهون عن يوم القيامة وأهواله والحكم العدل فيه (مُعْرِضُونَ) عن الإيمان بالساعة والقيامة والمحاسبة والتفكّر في أمر ذلك اليوم العصيب.

٢ و ٣ ـ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) أي ما يجيئهم هذا القرآن الجديد عليهم ، أو أن المحدث هو تنزيله شيئا فشيئا ، ما يجيئهم ذلك من ربّهم (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) استمعوا تلاوته مستهزئين به لفرط إعراضهم عنه. ونرجّح أن الذّكر المحدث هو القرآن الكريم بكامله ، لا تنزّل آياته منجّمة ، لأن ذلك خلاف الأصل ، ولأن القول الأول يردّ قول الأشاعرة الذين قالوا : إن القرآن لا يصحّ أن يتّصف إلّا بما يتّصف به قائله ، أي أنه قديم كما أنه سبحانه وتعالى قديم. والحاصل أن كفرة قريش يستمعون القرآن (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) غافلة عن تدبّره والتفكّر بآياته وبيّناته ، ولاهية : حال من الواو في : يلعبون (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي أخفوا التناجي به فلم يشعر بما كانوا يقولونه بشأن النبيّ إلّا الله عزوجل ، إذ كانوا يقولون فيما بينهم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) والجملة بدل من النجوى وبيان له ، أي أنه ليس بملك فليس برسول ، وما يأتي به سحر ، كما أخبر تعالى عن

٤٨٠