الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

(وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) أي اخترنا. والجارّ ومدخوله خبر للضمير الراجع إلى الأنبياء المذكورين سابقا. والواو للاستئناف. ويحتمل أن تكون الآية الكريمة كلاما مستأنفا تقديره : وممّن هدينا واجتبينا من الأمم قوم .. فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه كما روي عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام. ولا يبعد أن يكون العطف على قوله تعالى : من النبيّين ، والمراد منه غير النبيّين من الأوصياء والأصفياء والأخيار والزّهاد والعبّاد وغيرهم ممّن هداهم الله واختارهم للعمل بما يرضيه ، وصفهم بهذا الوصف من الخشوع والتسليم والرهبة والرغبة : (إِذا تُتْلى) إن تقرأ (عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) أي آياته المنزلة التي تتضمّن الوعد والوعيد (خَرُّوا سُجَّداً) انكبّوا على الأرض يتلقّون الأرض بجباههم خضوعا وخشية. وكلمة سجّد ، جمع ساجد ، أي حال كونهم ساجدين متعبّدين (وَبُكِيًّا) جمع باك ، وأصله بكوي على فعول كسجود وقعود ، قلبت الواو وأدغمت وكسر ما قبلها ، أي حال كونهم باكين.

* * *

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣))

٤٠١

٥٩ و ٦٠ ـ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ) ... الخلف بالسكون العقب الطالح ، وبالفتح العقب الصالح أي فعقبهم من بعدهم عقب سوء ، وهم الذين من فرط جهالتهم (أَضاعُوا الصَّلاةَ) بتركها أو تأخيرها عن وقتها حيث يضيع جزء كبير من أجرها وثوابها (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) فعلوا ما حرّم عليهم ممّا تشتهيه أنفسهم الأمّارة بالسوء (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) سينالون جزاء الغيّ ، أي الضلال ، يوم القيامة ، وذلك كقوله عزوجل : (مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) : أي جزاء الإثم. وقيل إن الغيّ واد في جهنّم يكون أحرّ نارا وأشدّ عذابا. وعن ابن عباس : إن هؤلاء هم اليهود الذين كانوا من أولاد الأنبياء فتركوا صلواتهم المفروضة عليهم وشربوا الخمور وأحلّوا نكاح أخواتهم اللواتي من آبائهم فقط ، وحرّموا بعض ما أحلّه الله لهم وحلّلوا بعض ما حرّم عليهم. وقيل إن المراد هو فسقة هذه الأمة إلى يوم القيامة ، ولا يبعد أن يكون الأعمّ مرادا منها. كما قيل إن الغيّ هو الشر الذي يلقاه هؤلاء يوم الحساب (إِلَّا مَنْ تابَ) ندم على ما سلف (وَآمَنَ) في مستقبل عمره (وَعَمِلَ صالِحاً) فقام بالواجبات والمندوبات (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) بعد التوبة والإيمان والعمل الصالح (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) لا ينقصون من حقّهم شيئا. وفي هذه الشريفة دلالة على أن الله لا يمنع ثواب عمل أحد ولا يبطله ، وقد سمّى ذلك ظلما حتى لو كان الانتقاص من الثواب شيئا قليلا في غاية القلّة.

٦١ و ٦٢ ـ (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) ... جنات : بدل من الجنّة في الآية الكريمة السابقة ، أو هي مفعول لفعل محذوف ، وقد حرّك بالكسر لكونه جمع مؤنث سالما. فالتائبون يدخلون جنات عدن التي وعد الله تعالى بها عباده (بِالْغَيْبِ) أي بوعد وأمر هو غائب عنهم غير مشاهد من قبلهم ، ثوابا لتصديقهم به وبأوامر ربّهم ونواهيه (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي أمرا واقعا حاصلا هم واصلون إليه حيث (لا يَسْمَعُونَ فِيها) في الجنان (لَغْواً) فضول كلام ، وكلاما لا طائل تحته ، فلا يسمعون (إِلَّا

٤٠٢

سَلاماً) تسليما وتحيات من الملائكة عليهم ، ومن بعضهم على بعض ، وهم في نعيم دائم ، (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها) يكون موفورا حاضرا بلا تعب ولا جهد ولا سعي ، يأتيهم (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي في أوقات الحاجة إليه ، وقد عبّر ب (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ليبيّن لهم أنه يأتيهم في المواعيد المرغوب فيها ، وقد سمّى سبحانه البكرة والعشيّ قياسا على حياتهم الدنيا لتكون مواعيد الرزق في الآخرة مقاسة على مقاييس وقتية يعرفونها لأن البكرة والعشيّة لا تكونان في الآخرة. وقيل إن المراد هنا هو رزقهم في جنّات الدّنيا ـ أو البرزخ ـ قبل يوم القيامة ، حيث تنتقل أرواح المؤمنين وحيث تطلع الشمس والقمر ، وهذا قول بعيد عن الصواب. وفي طبّ الأئمة عن الصادق عليه‌السلام أنه شكا إليه رجل ما يلقى من الأوجاع والتخمة ، فقال عليه‌السلام : تغدّ وتعشّ ولا تأكل بينهما شيئا فإن فيه فساد البدن. أما سمعت قوله تعالى : (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا)؟.

. فهذا التعيين جاء لوقتين معروفين مألوفين عند الناس في حياتهم الدّنيا ، وهو يعني أن رزقهم موفور لهم في مواعيده المطلوبة من قبلهم. ٦٣ ـ (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) : أي هذه الجنّة الّتي وعدنا به المؤمنين بنا والعاملين والتائبين المنيبين إلينا ، هي التي نورثها للأتقياء من عبادنا ، أي للذين تجنّبوا غضبنا وعملوا بأوامرنا. وقد قال بعض المعتزلة ، كالقاضي وأصحابه : ٧ ن في الآية دلالة على أن الجنّة تختصّ بالمتّقين ، والفاسق المرتكب للكبائر لا يوصف بالتقوى. وأجيب على هذا الحصر بأن المتّقي يدخل الجنّة مسلّما وليس في الكلام نفيّ عمّن عداه ، لأن المذنب أو صاحب الكبائر وإن كان يفعل الذنوب والسيئات التي توجب الفسق ، إلّا أنه محرز للتوحيد ومتّق للكفر بأقسامه فيصدق عليه موجبة جزئية أنه متّق ، ومن صدق عليه أنه متّق فهو من مصاديق قوله تعالى ، وهو ممّن قد يورثه الله تعالى الجنّة بفضله وكرمه لأنه جلّ وعلا يقول : إن الله لا يغفر أن يشرك به ... إلخ .. ولا يجوز القنوط من رحمته تعالى ، فإن

٤٠٣

القنوط يجلب اليأس من رحمته سبحانه ويباعد بين الإنسان والتوبة النّصوح التي توجب المغفرة بمنّ الله وكرمه.

* * *

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

٦٤ ـ (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) ... هذه الآية الكريمة حكاية قول جبرائيل عليه‌السلام في جواب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقضيّته إجمالا أن قريشا بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال اليهود : اسألوه عن أمور ثلاثة ، فإن أخبركم بخصلتين فاتّبعوه. فاسألوه عن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح. فجاءوا فسألوه ، فلم يدر كيف يجيبهم. فوعدهم ، فأبطأ عليه جبرائيل عليه‌السلام خمسة عشر يوما ـ كما قيل ـ فشقّ عليه ، فنزل بعد المدة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما منعك أن تزورنا؟ فأجاب : وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي أن له مستقبل أمرنا ، وما مضى منه ، وحاضره ، وجميع ذلك بيده تعالى ، وليس لنا اختيار في الأمور التي بيده أبدا. وهذا يعني أن عدم نزولي في تلك المدة ما كان من عند نفسي ، بل كنت منتظرا صدور الأمر من ربّي عزوجل (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي أن عدم أمر ربّك لي بالنزول ما كان ناشئا عن نسيانه لك ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، وهل يتصوّر فيه النسيان وهو تعالى يقول إنه :

٤٠٤

٦٥ ـ (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ... وهذا الكلام يثبت امتناع النسيان عليه سبحانه كما لا يخفى. والجملة خبر مبتدأ محذوف أي : هو ربّ ... فالذي نعتناه لك بأنه لا ينسى هو ربّ هذه الكائنات كلها بما فيها وما بينها ، وهي له وملكه ، وهو جدير وقادر على إبلاغ تكاليفه في أوقاتها المناسبة ولا يؤخرها عن سهو أو نسيان (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) فقم بما أوجب عليك من العبودية له بصبر ورضى ، وقد عدّى باللام لتضمّنه معنى الثبات في العبادة (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي لا تعلم ولن تعلم من يسمّى باسم «الله» حتى المتربّبون والكفرة والملحدون فإن أفكارهم منصرفة عن أن يسمّوا أصنامهم بهذا الاسم الشريف السامي وإن كانوا يسمّونها باسم الإله ، لا الله وهذا من الإعجاز العجيب لأن الكفرة والوثنيين كانوا يهتمّون كامل الاهتمام بأن يشبّهوا آلهتهم بإله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من جميع الجهات ، وقد كان انصرافهم هذا آتيا من قبله سبحانه فهو على كل شيء قدير.

* * *

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

٤٠٥

٦٦ و ٦٧ ـ (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) ... الألف واللام للجنس ، ولمّا كانت هذه المقالة موجودة في جنس الإنسان أسندت إلى جنسه. وقيل في أسباب نزولها أن أبيّ بن خلف أو الوليد بن المغيرة أخذ عظاما بالية ففتّها بيده وقال : يزعم محمد أننا نبعث بعد ما نموت؟ والمراد بالاستفهام في الآية هو الإنكار لهذا القول والاستهزاء به. أي كيف يقول الإنسان القاصر ذلك؟ ونحن نجيب الكافر بالبعث قائلين : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟) أفلا يتفكّر ويتأمّل بأننا أوجدناه أولا من العدم المحض؟ أولا يقدر الخالق من العدم ، أن يعيد ما كان أوجده وأحياه ، ثم أماته وأفناه؟ بلى والله :

٦٨ و ٦٩ ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) ... أقسم سبحانه بنفسه قائلا : وحقّ إلهك يا محمد ، لنجمعنّهم يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين الذي صاروا سببا لإغوائهم (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) أي لنأتينّ بهم ولنجعلنّهم جاثين على ركبهم حول نار جهنم ، يلتصق بعضهم ببعض لضيق المكان الذي ندعهم فيه ولتضييق حلقة العذاب عليهم لا لعدم وجود المكان المتسع (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) لنأخذنّ انتزاعا وعنوة من كل فرقة وطائفة ممّن تشيّعوا واتّبعوا مبدأ ما ، لنأخذنّ منهم الضالّين المضلّين ونحن نعلم (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) نعرف من كان منهم عصيا غاويا معاندا للرّحمان ، نأخذهم فنطرحهم في جهنم.

٧٠ ـ (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) : ونحن أيضا أعرف بهم جملة وتفصيلا ، وأعلم بالمستحقّين منهم للإحراق بالنار وللإلقاء في عذاب السعير الذي يحرقهم ويذيقهم حرّ جهنم ورمضاءها.

٧١ ـ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) ... أي وما منكم أحد إلّا واردها ، فإنّ (إِنْ) هنا بمعنى «ما» واختلف في معنى الورود على قولين : أحدهما أن الورود على الشيء هو الوصول إليه والإشراف عليه لا الدخول فيه ، وذلك كقوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) ، وكقوله سبحانه : (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) ، أو

٤٠٦

كقولك : وردت البلد الفلاني ، أي أشرفت عليه سواء أدخلت فيه أم لم تدخل. فيمكن أن يكون المراد بالورود هنا هذا المعنى ، ويؤيّده قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها). والثاني من القولين أن ورودها بمعنى دخولها كما في قوله تعالى : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) ، وقوله تعالى : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ، ولو كان هؤلاء آلهة ما وردوها. وعن الصادق عليه‌السلام في ذيل هذه الآية الكريمة وتفسيرها ، قال : أما تسمع الرجل يقول : وردنا ماء بني فلان؟ فهو الورود ، ولم يدخل. وهذا يؤيّد القول الأول .. فورودها على أي حال كان (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أوجبه الله على نفسه وقضى به وصار أمرا محتوما لا مفرّ منه. وعلى كل حال فإن الورود إذا كان بحسب القول الثاني الذي ذكرناه ـ أو مهما كان عامّا ـ فقد يخصّص بآية ما ، كالآية الشريفة التي ذكرناها من سورة الأنبياء ـ ١٠١ ـ : إنّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون ، لأن آيات القرآن يفسّر بعضها بعضا ، ولا نحتاج عند ذلك إلى تأويلات. وحتى بحسب القول الأول فان هناك مخصّصا في قوله سبحانه : مبعدون ، لا يسمعون حسيسها ، فإن ظاهرها مناف للإشراف أو الوصول إلى قربها أو الدخول فيها كما لا يخفى .. وقد قيل أيضا : لا يبقى برّ ولا فاجر إلّا ويدخلها ، فتكون على الأبرار بردا وسلاما ، وعلى الكّفار عذابا أليما ، ولا يلزمنا أي محذور إن أخذنا به لأن الله تعالى قادر على كل شيء وقد جعل النار على خليله إبراهيم عليه‌السلام بردا وسلاما في عالم المحسوس الملموس الذي لم ينكره أحد .. بل لعلّ بعض المؤمنين يعذّبون بمرتبة خفيفة أو وسطى من العذاب لتكفير ذنوبهم وتطهرهم مقدمة لإدخالهم إلى الجنّة.

٧٢ ـ (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) ... حاصل هذا الكلام أن المتّقين ناجون من جهنم وعذابها ، وأن الكافرين معذّبون خالدون فيها ، ومن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، فسنخلّص المتّقين من عذاب جهنم بقدرتنا

٤٠٧

وبثواب أعمالهم (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) نتركهم وندعهم (فِيها جِثِيًّا) مكبكبين مكبّلين جاثين على الرّكب.

* * *

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦))

٧٣ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) ... أي إذا تقرأ عليهم آياتنا ظاهرات الإعجاز بيّنات المعاني واضحات (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) خاطبوهم مستهزئين قائلين : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) من المؤمنين بها والجاحدين لها (خَيْرٌ مَقاماً) خير منزلا ومكانا (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أعلى وأجمل مجلسا ، ذاك أنهم يتبجّحون بما هم فيه من الاجتماع على الضلال وتنظيم أمور معاشهم وأثاثهم ورياشهم ، وأنديتهم التي يتفكّهون فيها ويكيدون للدّين وللمؤمنين ، ولذلك قال سبحانه وتعالى :

٧٤ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) : هذه لفظة (كم الاستكثارية) أي كثيرا ما أهلكنا قبلهم (مِنْ قَرْنٍ) جيل وأمّة كانوا أحسن أثاثا : متاعا وفرشا وأجمل (رِءْياً) منظرا. والرّءي على وزن (فعل) من الرؤية ، وقيل فيه معان أخر لا محل لها هنا.

٤٠٨

٧٥ و ٧٦ ـ (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) ... أي تفكّر يا محمد وقل من رضي بأن يكون ضالّا كافرا بالإسلام فليمدد له الله عزوجل بطول العمر والمتمتّع بالعيش استدراجا له إلى أن يجيء أجله ، و (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) من غلبة المسلمين لهم وقتلهم وأسرهم (إِمَّا الْعَذابَ) بأيدي المسلمين في دار الدّنيا (وَإِمَّا السَّاعَةَ) التي تأتيهم بيوم القيامة (فَسَيَعْلَمُونَ) يعرفون عند كلا الحالين (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) في الحياة أو بعد الممات (وَأَضْعَفُ جُنْداً) وأقلّ ناصرا ومعينا. فالعذاب : أي القتل ينتظرهم على أيديكم ، والساعة التي هي يوم القيامة تنتظرهم لزجّهم في النار ، وقد روي عن الصادق عليه‌السلام أن المقصود بالساعة هنا هو قيام القائم عجّل الله تعالى فرجه حيث يقتل المشركين والكافرين (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) على يديه صلوات الله وسلامه عليه (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أي الأعمال الحسنة التي تبقى عائدتها إلى أبد الآباد ، هي (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) أجرا وجزاء حسنا (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي مرجعا ونفعا عائدا منها ، فإنما هي النّعم الباقية ، وما سواها من النّعم الدنيوية فهي زائلة فانية .. ويستفاد من هذه الكريمة أن الهدى له مراتب لا تحصل إلّا بلطفه وعنايته سبحانه وبمزيد توفيقه لأمور تصير موجبة للقرب إليه جلّ وعلا.

* * *

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠))

٧٧ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) : هذا إخبار بقصة العاص بن وائل حين طالبه الخبّاب بن الأرتّ بدين كان له عليه و (قالَ) أي العاص ـ وكان أحد المستهزئين بالدّين وبالبعث ـ : ألستم

٤٠٩

تزعمون البعث بعد الموت؟ قال : نعم. فقال : أحلف بإلهك أنني يوم القيامة (لَأُوتَيَنَ) لأعطينّ (مالاً وَوَلَداً) فأعطيك هناك بأزيد ممّا تطلبني هنا إذا بعثنا. وقد قال له ذلك مستهزئا بالبعث والحساب والثواب والعقاب ومنكرا لكلّ ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .. فقال سبحانه مستهزئا به :

٧٨ و ٧٩ ـ (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) : وهذه همزة الاستفهام التي دخلت على همزة الوصل (أَطَّلَعَ) ومعناه : أعلم الغيب حتى يعرف أنه سيكون في الجنّة أم لا ، وأنه لو بعث رزق مالا وولدا ، أم هل بيده عهد من الله تعالى بذلك؟ (كَلَّا) هذه كلمة ردع وتنبيه إلى أنه مخطئ فيما تصوّره لنفسه ، وإننا (سَنَكْتُبُ) نسجّل عليه (ما يَقُولُ) من الخطل (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) ونطيل زمن عذابه فنخلّده فيه تخليدا ، جزاء استهزائه بالبعث والحساب :

٨٠ ـ (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) : أي أننا نرث قوله من بعد أن نهلكه ، ونرث كذلك ما له وولده (وَيَأْتِينا) يجيء إلينا يوم القيامة (فَرْداً) وحده لا يصحبه مال ولا ولد ولا ناصر ولا معين.

* * *

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤))

٨١ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) : أي جعل هؤلاء الكافرون لأنفسهم أربابا من دون الله تعالى وادّعوا أن هذه الأرباب تقرّبهم

٤١٠

من الله زلفى ، وهي تعزّهم وتكرّمهم بين يديه سبحانه ، ولكن :

٨٢ ـ (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) : لا ، فإنهم يوم القيامة سينكرون أنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ، وسيتنصّلون من عبادتها ويكونون ضدّ عبادتها وتكون هي ضدّهم لأنها تتبرّأ من شركهم بالله عزوجل ومن عبادتهم كما قال الصادق عليه‌السلام ، والآية ردع وتسفيه لتعزّزهم بتلك الأصنام التي تكون عبادتها وبالا عليهم حين ترفضهم وترفض عبادتهم لها.

٨٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) ... أي : ألا ترى يا محمد كيف بعثنا الشياطين وخلّينا بينها وبين الكافرين فوسوست إليهم ودعتهم إلى الضلال وهي (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تحثّهم على المعاصي بالتسويلات والإغراءات؟ وعن الصادق عليه‌السلام : نزلت في أن مانع الزكاة والمعروف ، يبعث عليه سلطان أو شيطان ، فينفق عليه ما يجب عليه من الزكاة في غير طاعة الله ، ويعذّبه الله عليه.

٨٤ ـ (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) : لا تستعجل يا محمد بهلاكهم لتستريح من شرورهم ، فإنهم لم يبق لهم إلّا أنفاس معدودة ونحن نحصيها عليهم إحصاء ونأخذهم بأعمالهم الشريرة المعدودة عليهم أيضا. وقد سئل الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى : (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) ، فقال للسائل : ما هو عندك؟ قال : عدد الأيام. قال عليه‌السلام : إن الآباء والأمّهات يحصون ذلك. لا ، ولكنّه عدد الأنفاس. وكلامه عليه‌السلام يعني أنه ليس الأمر كما تزعمون لأن الله تعالى اختصّ العدّ بذاته المقدّسة وحصره فيها. وفي نهج البلاغة : أنفاس المرء خطاه إلى أجله ، كما هو الواقع الصحيح.

* * *

٤١١

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))

٨٥ و ٨٦ ـ (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) ... لفظة : يوم ، منصوبة على الظرفية ، وهي تعني يوم القيامة حين يجمع الله المؤمنين به في دار كرامته ومحلّ قدسه. وإن سوق الآية كان يقتضي أن يقول سبحانه : يوم نحشر المتّقين إلينا ، ولكنه عدل إلى الاسم الظاهر : (الرَّحْمنِ) مع أنه هو ذاته تقدّس اسمه ، لما في لفظ الرحمان من الإشارة إلى المولى المنعم ، وإلى رحمته الواسعة التي تعمّ جميع الموجودات ولا سيّما الإنسان المطيع. ولهذا قال عزّ من قائل نحشرهم إلى الرّحمان (وَفْداً) أي جماعة وافدين ، واردين ، وعن عليّ عليه‌السلام : ركبانا على نوق رحالها من ذهب. (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ) نحثّهم على السير إليها كما تساق البهائم إلى مرابضها ومناخها وأمكنة استراحتها ، ونحن ندفعهم إلى النار دفعا ويأتونها (وِرْداً) واردين إليها عطاشا كالإبل التي ترد الماء.

٨٧ ـ (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) : أي : يومئذ لا تكون الشفاعة ملك أحد إلّا من وعده الرّحمان بذلك وعهد إليه أن يأذن بشفاعته ، كالأنبياء والأوصياء والمؤمنين. وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : إلّا من دان لله بولاية أمير المؤمنين والأئمة عليهم‌السلام من بعده ، فهو العهد عند الله.

* * *

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ

٤١٢

 يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

٨٨ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) : هذه حكاية قول اليهود والنصارى ومشركي العرب أيضا ، فهؤلاء جعلوا الملائكة بنات الله ، وأولئك وأولئك جعلوا كلّا من عزير وعيسى ابنا له ، فأجاب سبحانه على قولهم بقوله الكريم :

٨٩ و ٩٠ و ٩١ و ٩٢ ـ (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) ... فأقسم سبحانه باللّام وبقد التحقيق بأنكم أيها المدّعون لله ولدا قد أتيتم بشيء منكر عظيم شنيع ، حين سمّيتم لله تعالى ولدا ، وقد جلّ عن ذلك وعزّ لأنه لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفؤا أحد. وانّ هذا الافتراء عليه (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) ... أي لو تشقّقت السّماوات لشيء عظيم لكانت تشققت لهذه الفرية العظيمة والنّسبة السخيفة (وَتَنْشَقُ) تتفطّر أيضا (الْأَرْضُ) منها (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) تنهدم وتتساقط في السفوح وينقلب أعلاها على أسفلها. والهدّ هو الكسر والتفطّر الذي يعقبه الانسلاخ الذي له صوت شديد. كل ذلك كان يمكن أن يكون لمجرّد (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) حيث جعلوه كائنا ذا أولاد ، وقد جلّ عن الشبيه والمثيل. وهذه الجملة في موضع العلّة للحوادث المهمّة المذكورة ، بل هي العلّة نفسها (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) ولا يليق بحضرته وقدسه وعظمته وتعاليه عن الشبيه والمثل ، أن يكون له ولد لا بكيفيّة التجانس ، ولا بالتبنيّ ، لأنه إمّا أنه مستلزم للمحال أو للتجسيم الذي هو محال أيضا.

٤١٣

وإن قيل : أيّ شيء يترتّب على نسبة الولد إليه تعالى ، ليرتّب على ذلك تلك الآثار العظيمة والحوادث المهمّة في السماوات والأرضين والجبال ، ثم يهتمّ كمال الاهتمام بنفي تلك النّسبة وردّها بمثل قوله سبحانه : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً)؟ .. فيمكن أن يجاب بأن هذه النّسبة مستلزمة للوازم وتوالي فاسدة ، منها : مسألة التجسيم الذي يترتّب عليه الحدوث بناء على كون الولد يأتي من ناحية التولّد المتعارف المعهود ، الذي من لوازمه الجسم كما أن من لوازمه الحدوث اللّذان يكونان بذاتهما مسبوقين بالعدم ومتغيّرين بالذات. وليس مرادنا بالحدوث ، إلّا ما كان متّصفا بهذين الوصفين أو بأحدهما على وجه مانع للخلوّ على ما برهن عليه في محلّه. وأمّا القول بالولد من جهة التبنيّ فيلزمه الاحتياج ، لأن طلب الولد وتبنّيه يكون لأمور : منها المعاونة ، ومنها الأنس به والمؤالفة معه ، والتزيّن به والاستظهار ؛ ومآل كلّ ذلك الحاجة والفقر إلى الغير ، وهما من لوازم الممكن ، والإمكان لا يجتمع مع واجب الوجود بالذات ، فتكون النتيجة أنّ من قال بالنبوّة فهو كافر ومنكر لصفة الألوهية وملحد أيضا لم ينزّه ربّه عمّا ليس فيه. فإن قلت : إن المنكرين والملحدين كثيرون في الدنيا ، فما وجه اهتمامه تعالى بالرّد والنفي لما ينشأ من ناحية القول بالنبوّة؟ قلت : لعلّ الوجه أن علل ومناشئ هذا الإنكار قريب للقبول في أذهان العوامّ بل بعض الخواصّ ، ولذا نرى أن الردّ والنفي راجع إلى ناحية العلّة كما أنه راجع إلى ما يترتّب عليها ويلازمها. بيان ذلك أن إضافة الملائكة إليه تعالى وأنها بناته ومختصّة به قد يكون في أنظار العوام وتفكيرهم أن الملائكة بصورة البنات الجميلات ، ولذا نرى المصوّرين يرسمون الملائكة بتلك الصور الفاتنة. وفي بدوّ الأمر يخطر بالبال أن وجودهنّ لا بد أن يكون من ناحية التولّد من الغير والتناسل ، والغير الذي يستولدهنّ لا يكون إلّا هو تعالى لما قلنا من اختصاصهن به وإضافتهن إليه ، جلّ وعلا عن ذلك علوّا كبيرا!!.

٤١٤

وأما مسألة عيسى عليه‌السلام ، والقول ببنوّته له تعالى ، فهو أقرب من الملائكة إلى الأذهان الساذجة ، لأنه سبحانه أضافه إلى نفسه بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي). وهو في ظاهر الأمر ليس له أب ، والولد لا بد له من والد ، وهو هنا لا يكون إلّا الله ، وغيره لا يناسبه. فبهذه التخيلات والتسويلات قالوا بأنه ابن الله.

وأمّا وجه بنوّة العزير له تعالى ، فقد قيل لأنه قام بتلاوة التوراة عن ظهر قلب بعد ما أحرقت وأعدمت ، فزعموا ـ بعد ما جاء بها ـ أنه ابن الله ، ولذا اختصه الله بهذه المنزلة العظيمة من حفظ التوراة ، وأجرى على يديه هذا الأمر العظيم ولم يجره على يد غيره. والحاصل أنهم بمثل هذه التأويلات والتلفيقات الشيطانية المردودة ، خرجوا عن الصراط المستقيم ودخلوا في الضلالة الأبدية وباءوا بغضب من الله ومآلهم إلى الدرك الأسفل من الجحيم.

٩٣ و ٩٤ و ٩٥ ـ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) ... إن هي مخفّفة إنّ ، فإنّ كل كائن عاقل في السّماوات أو في الأرض هو عبد داخر لله عزوجل ، ويأتي يوم القيامة خاضعا لربوبيّته مذعنا لحكمه (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) حسبهم وعرف عددهم بأشخاصهم وأعيانهم واحدا واحدا ، وأحصى أنفاسهم التي قدّرها لهم في دار الدّنيا ، وعلم ما كان من كلّ واحد منهم ، ولم يشغله معرفة واحد عن معرفة الآخر ، فأفعالهم مكتوبة وأمورهم محصيّة ، لا يخرج شيء منهم ومن أعمالهم عن دائرة علمه وحوزة إحاطته وحيّز قدرته (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) يجيئون بين يديه واحدا واحدا فيحاسب كلّ واحد كأنه متفرّغ لحسابه عن غيره ، وتتمّ محاسبتهم في آن واحد كما يرزقهم في آن واحد ، ولا يعجزه شيء من أمرهم ، كما جاء في مضمون كلام للصادق عليه‌السلام.

* * *

٤١٥

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

٩٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ... بعد أن بيّن سبحانه دقة إحصائه لمخلوقاته جميعا ، ودقة محاسبته لهم ، بشّر بهذه الآية الشريفة المؤمنين الذي سمعوا وأطاعوا وعملوا الأعمال الصالحة واتّبعوا أوامره وانتهوا عن نواهيه بأنه (سَيَجْعَلُ) يحدث لهم ربّهم (الرَّحْمنُ) بهم (وُدًّا) محبة في القلوب ، قلوب بعضهم البعض وذلك قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ، إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ، مضافا إلى مودّته لهم المترجمة بالرحمة والعطف واللطف من جانبه تعالى وتبارك. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم هب لعليّ عليه‌السلام المودّة في صدور المؤمنين ، والهيبة والعظمة في صدور المنافقين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلخ.

٩٧ ـ (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) ... أي : إنّما سهّلنا عليك هذا القرآن بأن جعلناه بلغتك ولغة قومك لتسهل عليهم معرفة ما فيه فتتمّ الحجة عليهم ، فتفرح المؤمنين بتبشيرهم بما وعدهم الله تعالى من الأجر والثواب (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) ولتحذّر الأعداء الشديدي العداء لك ولدعوتك. واللّد جمع ألدّ ، وهو الشديد الجدل بالباطل والمعادي للدعوة ، يعني قريش ومن معهم من أصحاب الخصومة الشديدة والعناد. وعن روضة الواعظين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ الذين آمنوا : هو عليّ عليه‌السلام ، وأنّ : قوما لدّا : قوما ظلمة ، هم بنو أميّة.

٩٨ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) ... مرّ تفسير مثلها ، وهي تخويف لكفرة قريش وعتاة المشركين ، بالأقوام التي أفناها الله تعالى من قبلهم فذهبت فلا يرى لها أثر ولا عين ، كما أنها سؤال منه سبحانه موجّه لرسوله

٤١٦

الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر العالمين يقول فيه : (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) هل تشعر بوجود أحد منهم (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي صوتا خفيفا ونأمة؟ مع أنهم كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعظم أجساما وأشد خصاما من هؤلاء الكفرة ، فلم تغنهم قوة ولا قدرة لمّا أردنا إهلاكهم. فحكم هؤلاء الكفّار من قومك ـ يا محمد ـ في قبضته قدرتنا حكم أولئك في أننا عمّا قريب نهلكهم ولا يبقى منهم أثر ولا عين. وعن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية : أهلك الله من الأمم ما لا تحصون ، فقال يا محمد هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا. والرّكز الصوت الخفيّ الذي لا يكاد يسمع كما قلنا ، والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

٤١٧
٤١٨

سورة طه

مكيّة إلّا آيتي ١٣٠ و ١٣١ فمدنيّتان ، وآياتها ١٣٥ نزلت بعد مريم

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

١ ـ (طه) : قد سبق تأويل الحروف المقطّعة في أوائل السور ، وقلنا إن أحسن التأويل فيها أنها أسماء رمزيّة لنبيّنا صلوات الله عليه وآله ، ولفظه : طه ، من أدلّها عليه لأنه هو المخاطب بالقول بعدها.

٢ ـ (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) : أي لم نوح به إليك لأجل أن تتعب نفسك وتجعلها في العسر ، فعن الصادقين عليهما‌السلام : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا صلّى قام على أصابع رجليه حتى تورّمت

٤١٩

وانتفخت ، فأنزل الله تعالى : (طه ، ما أَنْزَلْنا ..) الآية. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : لقد قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه ، يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك فقال الله عزوجل : (طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ) إلخ ...

٣ ـ (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) : أي لكننا أنزلنا القرآن عليك للوعظ لمن يتّعظ ، ولتنذر به من كان في قلبه رقّة ورحمة يتأثر بالإنذار والتوعيد. وقد نصب لفظ : تذكرة ، على الاستثناء المنقطع لعدم السنخيّة بين المستثنى منه والمستثنى. ولفظة إلا ، بمعنى : لكن ، كما قلنا ولكون الاستثناء منقطعا.

٤ ـ (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) : أي : أنزلناه عليك لهذه الغاية تنزيلا من عندنا. فلفظة تنزيلا منصوبة على المفعول المطلق ، والقرآن نزل عليك من خالق السماوات الرفيعة وخالق الأرض ومنشئ الكائنات. ولفظة : العلى : جمع العليا ، مثل الدّنيا والدّنى ، والقصوى والقصى.

٥ ـ (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : أي : هو الرّحمان ، خالق ذلك ، وهو الذي استولى على العرش وعلى جميع الممكنات من الذرّة وما دونها ، والدّرة وما فوقها. وكان الإمام الصادق عليه‌السلام يقول في تفسير هذه الكريمة : على الملك احتوى. ويقال احتوى على الشيء إذا جمعه وأحرزه واشتمل عليه. ويطلق العرش على الملك وإن كان يفهم منه كرسي السلطة.

٦ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ... له كل ذلك (وَما تَحْتَ الثَّرى) الثّرى : هو التراب النديّ ، وهو عادة ما جاور البحر من الأرض. فالله سبحانه وتعالى ملك السّماوات والأرضين ، وما فيهن وما بينهن وما تحت أطباق الثرى من معادن وكنوز وما أشبه ذلك. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه تلا هذه الآية فقال : فكلّ شيء على الثّرى ، والثرى على القدرة ، والقدرة تحمل كلّ شيء.

٤٢٠