الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

الفجور كناية عن الزّنى وكذلك البغيّ. مضافا إلى أنه لو كان المسّ في المقام أعمّ من الحلال والحرام لكان قولها بعد ذلك (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) لغوا ، إن يحمل ذلك على بعض المحامل التي لا وجه لها ... (قالَ) جبرائيل عليه‌السلام مجيبا على استهجانها واستغرابها : (كَذلِكِ) أي الأمر كما تقولين وكما تزعمين ، ولم يمسسك بشر ، ولست بزانية والعياذ بالله ، ولكن (قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي في غاية السهولة ولا يشقّ عليه ذلك أبدا ، وهذا من باب المعجز (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي علامة لهم مدهشة ، وبرهانا على كمال قدرتنا (وَرَحْمَةً مِنَّا) على العباد إذ يهتدون بإرشاده (وَكانَ) أي إحداث الولد وإيجاده منك ، بلا أب كان (أَمْراً مَقْضِيًّا) مقدّرا من عنده سبحانه وسابقا في علمه ومسطورا في اللوح المحفوظ ، تعلّق من عنده سبحانه وسابقا في علمه ومسطورا في اللوح المحفوظ ، تعلّق به حكم الله في الأزل .. فرضيت بقضاء الله وسكتت عن المناظرة مع أمين الوحي فاقترب منها جبرائيل عليه‌السلام ونفخ في كمّها أو في جيب مدرعتها ـ أي جبّتها المشقوقة من الأمام ـ أو في فمها ـ على اختلاف في الأقوال ـ فدخلت النفخة في جوفها فأحسّت في الساعة التي نفخ فيها بالحمل كما تدل عليه كلمة (فاء التفريع) في مطلع الآية التالية.

* * *

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً

٣٨١

فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦))

٢٢ ـ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) : أي حملت بعيسى عليه‌السلام. وفي القمي : فنفخ في جيبها بالليل فوضعته بالغداة ، وكان حملها به تسع ساعات ، جعل الله الشهور ساعات. وفي المجمع عن الباقر عليه‌السلام : أنه تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء في تسعة أشهر ، فخرجت من المستحمّ ـ المغتسل ـ وهي حامل مثقل ، فنظرت إليها خالتها فأنكرتها .. ومضت مريم على وجهها مستحيية منها ومن زوجها زكريّا. وعن الصادق عليه‌السلام : كانت مدة حملها تسع ساعات .. ثم لمّا حملت به تنحّت عن الناس واعتزلتهم وهو في بطنها وذهبت بعيدا حياء من أهلها ومن غيرهم مخافة أن يتّهموها بسوء. وعن السجّاد عليه‌السلام : خرجت من دمشق حتى أتت كربلاء فوضعته في موضع قبر الحسين عليه‌السلام ثم رجعت من ليلتها.

٢٣ و ٢٤ ـ (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) ... أي ألزمها وألجأها وجع الولادة إلى جذع النخلة لتستتر به وتعتمد عليه عند الوضع. وتعريف (النَّخْلَةِ) إما أنه من قبيل تعريف الأسماء الغالبة كالنجم ، والداهية ، أو أن النخلة كانت معروفة مشهورة في تلك الصحراء بحيث إذا أطلق «جذع النخلة» يتبادر إلى الأذهان تلك النخلة لا غيرها ، فالألف واللام للعهد ، ويؤيّد ذلك ما روي ، ففي القمي : كان ذلك اليوم يوم سوق ـ صادفته في ممرّها ـ فاستقبلتها الحاكة ، وكانت الحياكة من أنبل الصناعات في ذلك الزمان ، فأقبلوا على بغال شهب فقالت لهم مريم عليها‌السلام : أين النخلة اليابسة؟ فاستهزأوا بها وزجروها ، فقالت لهم : جعل الله كسبكم نزرا ـ أي قليل الخير والبركة ـ وجعلكم في الناس عارا ، ثم استقبلها قوم من التجار فدلّوها على النخلة اليابسة فقالت لهم : جعل الله البركة في كسبكم وأحوج

٣٨٢

الناس إليكم ، فلمّا بلغت النخلة أخذها المخاض فوضعت عيسى عليه‌السلام هناك .. وإمّا أن يكون الألف واللام للجنس ، ومعناه : جذع ذلك النوع من الأشجار ، وهو النخل. والتاء تدل على انحصارها ووحدتها في تلك البادية. ولكنّ الاحتمال الأول ـ كونها للعهد ـ أقرب للصواب. والجذع هو ما بين العرق والأغصان ، ويعبّر عنه بالساق. وكانت النخلة يابسة نخرة لا رأس لها ولا فروع ولا أوراق (قالَتْ) : مريم عليها‌السلام عند المخاض : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) الأمر الذي ابتليت به ، وكلامها هذا من طبائع الصالحين وعادتهم ، فإنهم إذا وقعوا في بلية عظيمة أو مصيبة شديدة لا يتحمّلها إلّا أولياء الله وأصفياؤه تضيق صدورهم ويتمنّون الموت. وقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الجمل : يا ليتني متّ قبل هذا اليوم ، وعلى قبر فاطمة الزهراء عليها‌السلام تمنّى لو كان مات قبل ذلك. وروي أن بلالا قال : ليت بلالا لم تلده أمّه. وكذا قال سيدنا علي بن الحسين عليه‌السلام : فيا ليت أمّي لم تلدني ، ومثله قال سيدنا الإمام الشهيد أبو عبد الله الحسين عند ما وقف على رأس ابنه عليّ الأكبر عليهما‌السلام عند قتله. فعلى كل حال قالت مريم عليها‌السلام : يا ليتني متّ (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) النّسي بكسر النون ، وقرئ بفتحها ، وهو ما يتركه المرتحلون من رذال متاعهم الذي من شأنه أن يترك ويطرح ، وقد عبّر بعضهم عنه بخرقة الطمث. وفي تعبيرها هذا مبالغة عجيبة حيث إنها تمنّت العدم الأزليّ لا العدم بعد الوجود ، فإن قولها : يا ليتني متّ ، ولو كان ظاهرا في الانعدام بعد الوجود ، لكن أعرضت عن هذا الظهور ، أو فسّرت مقصودها من صدر الكلام بذيله المفيد لما ذكرناه. ويؤيّد ما ذكرناه من مرادها عليها‌السلام أن الإنسان الشريف إذا صدر عنه ـ ولو بغير اختياره ـ أمر موجب لاتّهامه وذهاب شرفه ، فإنه يحب ويتمنّى عدمه أزلا ، لأنه بهذا الفرض لا يصدر عنه ذلك العمل الشنيع ولو كانت شناعة نسبيّة بنظر الناس لا بحسب الواقع. والمنسيّ أيضا منسيّ الذّكر بحيث لا يخطر ببال أحد حتى يذكره بسوء أو يلومه ، وهذا أيضا لا تحصل له مرتبته الراقية

٣٨٣

الكاملة إلّا بما فسّرنا المراد من كلامها من العدم الأزليّ حتى لا يكون لها ذكر في دار الدنيا أبدا ، وقد بيّنّا أن النّسي ـ بكسر النون ـ هو الذي لا يعبأ به لغاية حقارته فكأنّ وجوده لم يكن حاصلا ، وكأنّه في حكم العدم الصّرف .. ويمكن أن يكون مرادها : يا ليتني لم أكن معروفة مشهورة بحيث لا يعرفني أحد من الناس ، وكانت حياتي كالممات ووجودي في حكم العدم لانعدام ذكري وأثري بين الناس.

وعلى كل حال ، قال ابن عباس : فسمع جبرائيل عليه‌السلام كلامها وعرف حزنها (فَناداها مِنْ تَحْتِها) وكان في أسفل جبل كان هناك ، أو أن المنادي كان عيسى عليه‌السلام فإنه قال لمّا رأى حزن أمّه : (أَلَّا تَحْزَنِي) أي لا تغضبي من هذا الإكرام أو الإجلال الذي أعطاك الله إياه واختصّك به ، وهو تعالى يحفظك مما تخافين منه وينزّهك من اتّهام الناس إياك ، وهو خير الحافظين وخير المنعمين عليك ، وممّا أنعم به أنّه (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي جعل تحت قدميك جدول ماء عذب تشربين منه وتتطهّرين. وروي أنه كان هناك نهر قد جف ماؤه وانقطع ، ولكنّ الله سبحانه قد أجراه بقدرته لحاجة مريم عليها‌السلام ، ثم أحيا جذع النخلة اليابس حتى أورق وأثمر. وقيل إن السّريّ هو الشريف الرفيع القدر ، وهذا يعني عيسى عليه‌السلام الذي ناداها من تحتها ، وهو من هو في شرفه وعظمته. ومن معناه الأول ـ أي النهر ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مثل الصلاة فيكم كمثل السّريّ على باب أحدكم ، يخرج إليه في اليوم والليلة فيغتسل خمس مرات ، فهل يبقى على جسده شيء من الدّرن؟ ـ الوسخ ـ .. وكذلك الصلاة إلخ ..

٢٥ ـ (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ... فقد نوديت مريم عليها‌السلام بما ذكرناه من تهدئة بالها ، ثم خوطبت بما أنعم الله تعالى عليها يومئذ من ثمر النخلة فقيل لها : حرّكيها واجذبيها إلى نفسك. والباء زائدة ، أي : هزي جذع النخلة. وقد قال الباقر عليه‌السلام : لم تستشف النّفساء بمثل

٣٨٤

الرّطب. وقيل إن الحكمة في أن الرّطب ما تساقطت عليها بلا هزّ وتحريك ، هي كي يعلم العباد أن عادة الله سبحانه جرت على أن الرزق المقسوم لا يحصل إلّا بالكسب والجهد ، وفي الحديث : الحركة توجب البركة ، وفي الكافي أنّ الصادق عليه‌السلام كان يتخلّل بساتين الكوفة فانتهى إلى نخلة فتوضّأ عندها ثم ركع وسجد ، فأحصي في سجوده مائة تسبيحة ، ثم استند إلى النخلة فدعا بدعوات ، ثم قال : إنها والله النخلة التي قال الله تعالى لمريم : وهزّي إليك .. الآية .. (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) أي تنزل عليك رطب التّمر اليانعة السهلة الاجتناء.

٢٦ ـ (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) ... أي : كلي من الرّطب ، واشربي من ماء السّري ، وكوني مهنّأة مرتاحة البال قريرة العين هادئتها بهذا المولود المبارك ، ولتكن دمعة السرور باردة في عينيك (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أصل الفعل ترأيين ، حذفت الهمزة عند الاستعمال للتخفيف ، وكذا الياء التي هي ضمير المؤنّث ، وحرّكت الياء لالتقاء الساكنين : وهما الياء والنون الأولى. والنونان : إحداهما نون الرفع ، والأخرى نون التوكيد. وإن : شرطيّة. أي : إذا ما رأيت آدميّا ـ كائنا من كان ـ إن استنطقك وسألك عن ولدك هذا (فَقُولِي) له : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) ومعنى نذرت : أوجبت على نفسي لله أن لا أتكلّم ، لأنني أمرت بالصّمت ، ذلك أنه يكفيها كلام ولدها عليه‌السلام بما يبرّئ به ساحتها. وهذا يسمّى بصوم الصّمت ولا ينافيه الأكل والشرب ، وقد نسخه الإسلام وهو غير مشروع عندنا. وقيل تحقق هذا الصوم بعد الإخبارية أي بالنّذر ، وقيل إنها أخبرتهم به بالإشارة وبأنه منذور ، وهذا القول خلاف ظاهر الآية الكريمة.

* * *

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما

٣٨٥

كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣))

٢٧ و ٢٨ ـ (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) ... يعني أنها بعد أن ولدته جاءت به تحمله ، وعادت إلى قومها كما أمرت. وحين رأوها دهشوا و (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أتيت بفرية ومنكر عظيم لأنك جئت بولد من غير زوج يكون أبا له .. (يا أُخْتَ هارُونَ) أي يا من تنسب إلى هذا النسب الشريف ، وقد نقل أن هارون كان أخاها من أبيها ، وأنه كان قد اشتهر بالزّهد والصلاح وحسن السيرة وكثرة العبادة في عصره. ثم قيل إن المراد بهارون هو أخو موسى عليهما‌السلام ، ونسبتها له أنها كانت من أحفاده وأنه تفصلها عنه ألف سنة. وهذا القول كما يقال : يا أخا العرب ، ويا أخا همدان ويا أخا تميم وغير. وقيل بل كان في بني إسرائيل رجل اسمه هارون ، مشهور بالتقوى والزهد والورع ، ومعنى قولهم يكون : يا شبيهة هارون بالتقوى والورع (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) أي ما كان يفعل السيّئات والمنكرات (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) زانية تبغي الرجال ، فكيف أتيت بولد وأنت من دون زوج؟

٢٩ ـ (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) ... فأومأت إلى عيسى عليه‌السلام بأن كلّموه واسألوه عن أمري وعن براءتي وطهارة ذيلي. فتعجّبوا من ذلك و (قالُوا : كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي كيف نخاطب طفلا ولد من جديد

٣٨٦

وهو لا يزال في مهد الطفولة وقماط الولادة؟ وحين ألزمتهم بذلك استشهدوه على براءة ساحتها واستنطقوه ، وعندئذ :

٣٠ ـ (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) : قدّم إقراره بالعبودية أولا ليبطل قول من يدّعي له الرّبوبية. وكان الله تعالى قد أنطقه وألهمه ذلك لعلمه سبحانه بما يقوله به الغالون الذين ألّهوه. ثم تحدّى القوم بالنبوّة وبأن الله أنزل عليه الإنجيل. والتعبير هنا جاء بالماضي لأنه محقّق الوقوع ، وهو يعني أنه سينزله عليه قطعا. وقيل إنه عنى التوراة ، وأنه عرّفه سبحانه إيّاها.

٣١ ـ (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) ... أي خلقني الله تعالى نفّاعا للناس معلّما للخير في أيّ مكان أكون (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ) أمرني بها (وَالزَّكاةِ) أؤدّيها. فعن الصادق عليه‌السلام أنه قال : زكاة الرؤوس ، لأن كل الناس ليس لهم أموال ، وإنما الفطرة على الفقير والغني والصغير والكبير. فقد أمرني الله تعالى بالزكاة (ما دُمْتُ حَيًّا) أي ما بقيت على وجه الأرض.

٣٢ ـ (وَبَرًّا بِوالِدَتِي ، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) : أي جعلني بارّا بها حسن المعاملة لها واللطف. وهي عطف على (مُبارَكاً) والجبّار : هو المستكبر ، والشقيّ : العاصي لله. ويستفاد من هذه الكريمة أن من لم يكن بارّا بوالديه يحسب في الجبابرة ، ويعد من الأشقياء. كما أنه يستفاد أن عقوق الوالدين من الكبائر العظام. ثم لّما بلغ كلامه إلى هذا الحد اختتمه على طريقة ما اختتم يحيى عليه‌السلام كلامه فقال :

٣٣ ـ (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) ... وقد مرّ تفسيرها. والسلام يكون من الله سبحانه وتعالى ، وقد ذكر مواطن : الولادة ، والموت ، والبعث ، لأنها من أعظم المواطن التي يمرّ بها الإنسان من حيث الوحشة. فهو حين يتولّد ويخرج إلى الحياة بعد أن كان مستريحا في بطن أمّه ، يرى ما لم تر عينه ويسمع ما لم تسمع أذنه من الهياكل والأصوات فتأخذه الرّعدة والخوف كما نشاهد بأنفسنا وكما يصيبنا حين نرى ونسمع شيئا فوق العادة. وقد يقال إن

٣٨٧

الطفل عند الولادة غير مهيإ للرؤية والسماع بإدراك ووعي لضعف قواه ومداركه ، فيفاجأ بما لا عهد له به ، كما يفاجأ المحتضر عند الموت بما لا عهد له به ، وكما يشاهد الإنسان يوم البعث ما لا يتصوّره ولا يخطر له في بال .. ولهذا يبكي الطفل ، ويرتج على المحتضر ، والله أعلم بما يكون من حال المبعوث بعد الموت!. فنسألك اللهم أن تخفّف عنّا سكرات الموت ، وتهوّن علينا وحشة القبر ومشاهدة الملكين وأهوال البرزخ والقيامة بمحمد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين. أما يوم الحشر فما أدراك ما ذلك اليوم؟ إنه اليوم الذي يجعل الولدان شيبا ، واليوم الذي تضع فيه كلّ ذات حمل حملها من شدة الخوف ، أعاذنا الله من مخاوفه.

* * *

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

٣٤ ـ (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) : أي ذاك هو عيسى عليه‌السلام نقول فيه قول الحق ، وليس هو كما يصفه النصارى من أنه ابن الله. فهذا تكذيب لهم على الوجه الأبلغ حيث إنه تعالى وصفه بما

٣٨٨

هو فيه من كونه إنسانا ابنا لمريم عليهما‌السلام ، بضدّ ما نعتوه به ، وهذا هو القول الذي لا ريب فيه و (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يختلفون ويتخاصمون.

٣٥ و ٣٦ ـ (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) ... هذا ردّ على الطائفة من اليهود التي قالت : عزير ابن الله ، وعلى الطائفة من النصارى التي قالت : عيسى ابن الله ، وعلى الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، وتعالى الله عمّا يقول الظالمون ، وقد زيدت كلمة (مِنْ) لتأكيد النفي (إِذا قَضى) الله (أَمْراً) وحتمه (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي أنه حين يريد أمرا هو قادر على إحداثه وإيجاده ، يحدث ويوجد لمجرد الأمر بكونه ، ومن ذلك خلق عيسى عليه‌السلام ، وهو تعالى منزه عن شبه الخلق وعن الحاجة لاتّخاذ الولد أو الشريك. وقد روي أن خمسة من الأطفال الصغار أنطقهم الله عزوجل قبل أوان تكلّمهم وهم : الأول شاهد يوسف ومنزّهه عمّا نسبته إليه زليخا ـ وشهد شاهد من أهلها ـ والثاني ولد مشّاطة بنت فرعون ، والثالث صاحب جريح ، والرابع عيسى عليه‌السلام ، والخامس ولد امرأة أحرقها أصحاب الأخدود. وقد روى ابن عباس بشأن ولد مشّاطة بنت فرعون فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمّا أسري بي إلى السماء ودخلت الجنّة استشممت رائحة طيّبة ما رأيت رائحة أطيب وأحس منها. سألت : ما هذه الرائحة الطيّبة؟ قال جبرائيل : هذه رائحة مشّاطة بنت فرعون التي آمنت بالله سرّا وكانت تخفي إيمانها عن فرعون وأتباعه. وفي يوم كانت تمشط رأس بنت فرعون فوقع المشط من يدها فأخذته وقالت : بسم الله. فسألتها بنت فرعون : أبأبي استعنت؟ قالت : بل بالله الذي خلقك وأباك وخلقني وجميع العالمين. فحكت مقالتها بنت فرعون لأبيها ، فأحضرها وسألها عن خالقها فقالت : ربّ السماوات والأرض. فأمر فرعون بأن يصنعوا حوضا من الرصاص ، وأمر بإشعال النار تحته حتى احمرّ ، فأمر بإلقاء أولادها فيه واحدا بعد واحد حتى وصلت النّوبة إلى رضيعتها فأنطقها الله وقالت : يا أمّاه اصبري فنحن على الحق. فألقوها وأمّها في الحوض المحترق

٣٨٩

المتأجج بالنار .. وأمّا قصة صاحب جريح فقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا أنه قال : كان عابد له صومعة لا يزال يعبد الله فيها ، وكان اسمه جريح العابد. جاءته يوما أمّه حتى تسلّم عليه وتسأل عن حاله وكان مشغولا بالصلاة ، فنادته : يا جريح ، فما أجابها ، فوقفت مدة حتى يسلّم فطالت صلاته. فذهبت وجاءته في نوبة أخرى فنادته فما أجابها لاشتغاله بالصلاة ، فخرجت من عنده. ثم جاءته مرة ثالثة وكذلك ما أجابها إذ كان يصلّي ، فخرجت وهي ساخطة فدعت عليه وقالت : اللهم لا تمته إلّا أن تبتليه بنسوة فاجرات ينظرن إليه نظر سوء. وكان قرب صومعته راع يرعى أغناما له ، فلمّا أمسى دخل الصومعة واستأنس مع العابد. وفي ليلة من الليالي خرجت من البلد التي فيها الصومعة امرأة بغيّ ، ووصلت إلى قربها ، فجامعها الراعي ، فحملت ، فسألوها عن حملها فقالت : من صاحب الصومعة. فجاء الناس إلى الصومعة وخرّبوها وأخرجوا العابد إلى السلطان. فلمّا عبروا به محلّة النسوان الفاجرات خرجن إلى النظر إليه ، فوقع نظره على المرأة التي اتّهمته ، وعلم أن ذلك كان من أثر دعاء أمّه فتبسّم. فاتّهمه الناس بالزّنى لأنه لم يتبسّم إلّا حين وقع نظره على فاجرات النساء. ولمّا وصل إلى السلطان قال : أيها الملك أين الطفل الذي نسبوه إليّ؟ فأمر الملك بإحضاره ، فخاطبه جريح وقال : أيّها الطفل من أبوك؟ فقال الغلام : فلان الراعي. فتعجّب الناس وظهرت براءة العابد وعرفوا حينئذ أنه من أولياء الله تعالى ، فطلبوا منه أن يعيدوا عمارة الصومعة وأن يذهّبوها فما أجابهم ، ولكنه رضي بأن يعيدوها كما كانت أولا .. (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) مرّ تفسير مثلها وهي من قول عيسى عليه‌السلام اعترافا بعبوديّته لله عزوجل وبعبودية جميع النّاس ، وأن ذلك هو الطريق الحق الذي لا يأتيه الباطل.

٣٧ ـ (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) ... أي اختلف اليهود والنصارى الذين آمنوا برسالة عيسى ، أو أنها اختلفت فرق النصارى فيما بينها لأن منها من قال : هو ابن الله ، ومنها من بالغ فقال : هو الله ، ومنها من اعتدل

٣٩٠

وقال : هو عبد الله ورسوله (فَوَيْلٌ) هي كلمة وعيد معناها شدة العذاب ، ومعناها شدة الحرب والوجع الأليم (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي من شهودهم وحضورهم يوم القيامة الذي يكون عظيما عليهم.

٣٨ ـ (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) ... هاتان الكلمتان يمكن أن تكونا صيغة تعجّب ، فإن للتعجّب صيغتين : ما أفعله وأفعل به. وعلى هذا فالجارّ والمجرور في موضع رفع لأنه فاعل : أسمع وأبصر. والمعنى : ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة وإن كانوا في الدنيا صمّا وبكما عن الحق والحقيقة. والحاصل أن الظالمين وإن كانوا في الدنيا جاهلين ، لكنهم في الآخرة يصيرون عارفين ولو كانت معرفتهم لا تنفعهم. ولا يخفى أن التعجّب من الله تعالى معناه أن هذا الأمر لو وقع وصدر من الخلق لكان في موضع التعجبّ كثيرا ، وبهذا المعنى يضاف إليه تعالى المكر وما لا تليق نسبته إليه .. وأما بناء على أن الصيغة أريد بها الأمر ، فمعناه : أسمع الناس يا محمد بهؤلاء الأنبياء والمرسلين ، وعرّفهم بهم وبيّن لهم مقاماتهم ودرجاتهم حتى يعرفوهم حقيقة فيؤمنوا بهم ولا يضلّوا .. (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أن الظالمين لأنفسهم ولغيرهم ، يوم يأتوننا عند البعث والقيامة يروا أنهم في ضلال عن الحق واضح الدلالة.

٣٩ ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) ... يعني : حذّرهم يا محمد من يوم يتحسّر فيه المسيء على إساءته ، والمحسن على قلّة إحسانه إذ قضي الأمر ووجد كلّ إنسان جزاء عمله. وقد سئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : ينادي مناد من عند الله عزوجل ، وذلك بعد أن صار أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار : يا أهل الجنّة ويا أهل النار هل تعرفون الموت في صورة من الصور؟ فيقولون : لا. فيؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنّة والنار ، ثم ينادون جميعا : أشرفوا وانظروا إلى الموت. فيشرفون ، ثم يأمر الله عزوجل فيذبح. ثم يقال : يا أهل الجنّة خلود فلا موت أبدا ، ويا أهل النار خلود فلا موت أبدا. وهو قول الله

٣٩١

تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ .. وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي أنهم كانوا في دار الدنيا غافلين عن هذا ولا يصدّقون به.

٤٠ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) ... فبعد أن أمر الله سبحانه نبيّه بإنذار الظالمين وتخويفهم من يوم الحسرة والندامة بيّن أنه تعالى الحيّ الباقي الذي يغني المخلوقات ويرث الأرض ومن عليها من الناس بعد النفخة الأولى حيث لا يبقى عليها مالك ولا مملوك ولا صارف ولا مصروف ولا متصرّف ولا متصرّف فيه ـ ومن تشمل العقلاء وغيره ـ ثم بيّن أن الناس (إِلَيْنا) إلى الله عزوجل (يُرْجَعُونَ) يوم القيامة في النفخة الثانية وذلك قوله عزّ من قائل : ونفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ..

* * *

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨))

٣٩٢

٤١ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا :) أي بعد ذكر زكريّا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام اذكر يا محمد لهؤلاء القوم حال إبراهيم عليه‌السلام. وإنما أمر بذكره لأنه أبو العرب ، فكأنّه قال : إن كنتم مقلّدين لآبائكم كما زعمتم وقلتم : إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم لمقتدون. فأشرف آبائكم وأجلّهم هو إبراهيم ، فإن كنتم صادقين فيما تقولون من أنكم مقلّدون فقلّدوه وكونوا على ما كان عليه من التوحيد والشريعة الحقة وترك عبادة الأوثان ، فإنه كان صادقا مصدّقا بحيث صار الصدق والتصديق عادته. وقد وقعت هذه الجملة معترضة بين إبراهيم عليه‌السلام وبين عبادة : إذ قال. وهذا نظير قولك : رأيت زيدا ، ونعم الرجل زيد ، إذ كان خطيبا.

٤٢ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) ... أي اذكر حين قال لأبيه ذلك. وقد اختلفوا في كون آزر أباه أو عمّه أو جدّه لأمّه ، ولم يكن آباه لطهارة آباء الأنبياء من الشّرك وعبادة الأوثان. والعرب تطلق على العمّ لفظ الأب وتنزله منزلته. والتاء في : يا أبت ، تاء عوض عن ياء الإضافة ، ولذلك لا يقال : يا أبتي لأنه لا يجمع بين العوض والمعوّض عنه ، وكذلك الهاء الساكنة في : يا أبه فإنها عوض عن ياء المتكلم ، وهذا في النداء حيث يقال أيضا : يا أبتا ولا يقال في غيره ، بل يقال : أبي فقط مع ياء المتكلم.

والحاصل أنه سلام الله عليه قد قال له : كيف تعبد شيئا لا يسمعك إذا دعوت ، ولا يراك إذا وقفت بين يديه (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) أي لا يريحك في دفع ضرّ ولا في جلب نفع.

٤٣ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) ... إنّما كرّرت لفظة : يا أبت ، للاستعطاف ، وقد ذكر له أنه قد جاءه من العلم : أي المعرفة ، ما لم يجئك (فَاتَّبِعْنِي) كن على طريقتي (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أرشدك إلى طريق قويم لا عوج فيه في التوحيد وعبادة الواحد الأحد.

٣٩٣

٤٤ ـ (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ... كرّر مخاطبته بلطف عجيب يستدعي استثارة العاطفة وسماع الدعوة ، وقال له : انته عن عبادة الشيطان بإطاعته والسير مع وسوسته وإغرائه (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) كثير العصيان. وقد دعاه بأحسن دعوة واحتجّ عليه بأبلغ احتجاج واستعمل منتهى الرفق والمداراة وإظهار أدب المخاطبة مع الأب أو العم أو الجد كما لا يخفى في الآيات الثلاث ، ولا بدّ لكلّ مبلّغ أن يتعلّم من هذه الطريقة الفذّة من التعليم والإبلاغ والإرشاد.

٤٥ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ) ... أي إني أخشى عليك من أن يصيبك عذاب مؤلم (مِنَ الرَّحْمنِ) الربّ الرؤوف بالناس (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) مواليا للشيطان ومحبّا له ومطيعا لأوامره كأنه سيّدك الذي استخدمك كما شاء ، فأدت إطاعتك له إلى العذاب والخسران.

٤٦ ـ (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) ... فانظر كيف عارضة بضدّ ما بلّغه خلقا ومنطقا وأدبا. فقد قابل استعطافه ولطفه وحسن أدبه في إرشاده ، بألفاظ فظة غليظة ، وبسوء أدب إذ ناداه باسمه ولم يقل له : يا بنيّ ، ثم أخرّه في البيان ، وهذان الأمران شتم في لغة العرب ، مضافا إلى أنه صدّر كلامه بهمزة الإنكار وبضرب من التعجّب ، وهذا استهزاء بتبليغه ، يضاف إليه أيضا أن قال له : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) لم تسكت وتدع هذا الأمر الذي جئت به (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأقتلنّك رجما بالحجارة حتى تموت تحت ضرباتها ، فانته عمّا أنت فيه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي اتركني وابتعد بنفسك عنّي زمانا طويلا. وهذا عطف على قساوته وعلى ما يدل عليه الرّجم من التهديد والتحذير ، أي فاحذرني واهجرني .. ويحتمل أن تكون الواو بمعنى : أو ، فيكون المراد : إن لم تنته عن التعرّض للأصنام لأرجمنّك ، إلّا أن تبتعد عنّي وترحل عن بلادنا دهرا طويلا فنهلك نحن أو تهلك أنت.

فلما أيس إبراهيم عليه‌السلام من إيمان عمّه آزر بعد ذلك التهديد

٣٩٤

والتشديد ، قال عليه‌السلام على طريقة التوديع وبطريقة مقابلة السيئة بالحسنة :

٤٧ ـ (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ... أي لن يصيبك منّي مكروه ولا آفة ولا ضرر. ثم استماله واستعطفه ووعده بالدّعاء له بالمغفرة ، لعلّ الله سبحانه يوفّقه للإيمان وللتوبة والرجوع عن الكفر وقال له (إِنَّهُ) أي الله عزوجل (كانَ بِي حَفِيًّا) أي مبالغا في البرّ بي والعطف واللطف ، مجدّا في إكرامي وربّي حاضر ناظر عاقل يسمع دعائي ويجيب سؤلي ويعلم ما في ضميري في جميع أحوالي ، وهو بارّ بي رحيم كريم سخيّ عليّ ، وليس مثل معبوداتكم من الأحجار والجماد ، فهي لا تسمع ولا ترى ولا تشعر ولا تنفع ولا تضرّ ، وأنتم أشرف وأعلى ممّا تعبدونه فكيف يعبد الأشرف الأخسّ والأدني ويخضع له؟ .. أفلا تعقلون؟

٤٨ ـ (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ... وانّي منصرف عنكم وعمّا أنتم فيه من عبادة غير الله تبارك وتعالى وممّا ألّهتم من الأحجار والأصنام ، وسأبتعد عنكم وأعبد الله (وَأَدْعُوا رَبِّي) فأعبده وأطلب منه وحده حاجاتي و (عَسى) هنا بمعنى التأميل ، أي آمل (أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) سوف لا أكون خائبا بدعائه ولا مجتهدا ضائع الاجتهاد ، ولا ساعيا ضالّ السعي كما أنتم في عبادتكم للأصنام التي لا تدرك أعمالكم ، ولا هي تقبلها ولا ترفضها لأنها لا تملك شيئا ، فأنتم أشقياء تتحمّلون المشقة دون جدوى ، وأنا على العكس أرجو من ربّي إجابة دعائي. وفي تصدير الكلام بكلمة : عسى ، تواضع وتنبيه على أن العبد لا بد أن يبقى في إجابة دعائه والإثابة على أعماله بين الخوف والرجاء من حيث القبول والردّ ، لأن الإثابة تفضّل غير واجب.

* * *

٣٩٥

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

٤٩ ـ (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ... أي حين تنحىّ عنهم وعن أصنامهم ، وفارقهم من أرض بابل إلى الأرض المقدّسة ـ أي بلاد الشام ـ وأتى حرّان أولا وتزوّج فيها بسارة (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) رزقناه الولدين هذين (وَكُلًّا) منهما (جَعَلْنا نَبِيًّا) رسولا من الله لقومه في زمانه. وإسحاق هو ابن إبراهيم عليهما‌السلام من سارة ، ويعقوب هو ابن إسحاق ، وقد أعطاهما الله تعالى لإبراهيم عوضا عمّن فارقهم من عشيرته الكفرة ومن آلهتهم ونعم البدل والعوض لأنه عليه‌السلام كان يأنس بهما وبأولادهما البررة الصالحين. وأمّا تخصيص إسحاق ويعقوب بالذكر فإمّا لكونهما أصل شجرة الأنبياء الذين كانوا من نسلهم ، وإمّا مقدمة لذكر إسماعيل على انفراد لفضله ومزيد الاهتمام بذكره عليه وعلى آبائه وأبنائه السلام لمزيد شرافته حيث إن النبيّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خاتم الأنبياء ، من نسلهعليه‌السلام.

٥٠ ـ (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) ... أي أعطيناهم ثلاثتهم سوى الأولاد البررة ، نعم الدّين والدّنيا (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) أي جعلنا لهم ثناء جميلا حسنا ، وقد عبّر عنه باللسان لأن كل ما يوجد من الصفات يعبّر عنه باللسان كما يعبّر باليد عمّا يصدر عنها. و (عَلِيًّا) يعني : رفيعا ساميا لأنهم مصدّقون في جميع الأديان وعند سائر أهل الملل ، فهم يحمدونهم ويثنون عليهم ويفتخرون بأنهم على دينهم .. وهذا كلّه إجابة لدعوة إبراهيم عليه‌السلام حيث قال : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) فجعله قدوة لسائر العالمين كما قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ).

٣٩٦

وعن الزكيّ عليه‌السلام : (وَوَهَبْنا لَهُمْ) يعني لإبراهيم وإسحاق ، (مِنْ رَحْمَتِنا) : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) يعني أمير المؤمنين. وبناء على هذه الرواية يحتمل كون (مِنْ) زائدة ، ويكون نصب (عَلِيًّا) بناء على الرواية بتقدير : أخصّ وأعني ونحوهما ، لا أنها مفعول ثان لجعلنا ، ولا أنها صفة للسان ، والله تعالى أعلم بما قال.

* * *

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))

٥١ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) ... بعد الكلام عن عطاياه الجليلة لإبراهيم وبنيه عليهم‌السلام شرع بقصة موسى بإيجاز فقال : يا محمد بيّن لقومك قضايا موسى عليه‌السلام وكيفية أحواله ومجاري أمره مع قومه (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) قرئ اسم فاعل (مُخْلَصاً) أي موحّدا أخلص عبادته عن الشّرك والرياء وأسلم وجهه لله تعالى ، وقرئ اسم مفعول (مُخْلَصاً) أي أخلصه الله سبحانه من كل سوء واختصّ جميع أقواله وأفعاله بنفسه تعالى ، لأنه هو الذي طهّره (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أرسله الله عزوجل إلى الخلق. والفرق بين الرسول والنبيّ أن الأول أخص ، والنبيّ أعمّ من أن يكون رسولا ، إذ كلّ رسول نبيّ ، ولا عكس ، ولذا قدّم لأخصيّته ولكونه أعلى. وعن الباقر عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية : ما الرسول ، وما النبيّ؟ فقال عليه‌السلام : النبيّ الذي يرى في منامه ، ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول يرى ويسمع ويعاين الملك.

٣٩٧

٥٢ ـ (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) ... أي من ناحية جبل هناك معروف بالطّور وكان على يمين موسى عليه‌السلام حين مناداته من جانب القدرة الإلهيّة (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) أي جعلناه قريبا منّا تقريب كرامة وتشريف ، وناجيناه بأن كلّمناه بهدوء ومسارّة دون غيره.

٥٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا :) أي أعطيناه ومنحناه وأنعمنا عليه بأن رحمناه وجعلنا أخاه هارون نبيّا يؤازره ويشدّ عضده إجابة لدعوته وطلبه حيث قال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) والحاصل أنه كان ممّا أنعمنا به على موسى ، أن قوّيناه بأخيه هارون وجعلناه ردءا له في مقام تبليغ أحكامنا ودعوته لفرعون إلى قبول العبوديّة لنا والتسليم لأمرنا. وكان عمر موسى عليه‌السلام مائة وستّا وعشرين سنة ، وعمر هارون عليه‌السلام ـ أخيه ـ مائة وثلاثا وثلاثين سنة ، وكان أسنّ من موسى عليهما‌السلام.

* * *

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨))

٥٤ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) ... ثم إنه

٣٩٨

تعالى بعد ذكر موسى عليه‌السلام وتوصيفه ببعض خصائصه ككونه من المقرّبين والمناجين ، وكجعل الوزير له ، وكونه من المخلصين ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يثبت في كتابه ويذكر لقومه إسماعيل عليه‌السلام ، ويعرّفهم بأنه كان من الرّسل والأنبياء ، وأنّ من خصائصه الممدوحة التي ينبغي أن يتحلّى بها الناس ويتّصفوا بها أنه (كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) بحيث صار مشهورا ومعروفا به فعدّ من صفاته وخصائصه التي لم تندرس بتباعد الأعصار وتبدّل الدول واختلاف الملل ، وستبقى كيفية وصف الله تعالى له إلى يوم القيامة بعد أن كرّسها في القرآن الكريم ، ونعته فيه بهذا النعت الشريف. وقد أثبت علماء الأخبار وأهل السّير في تآليفهم أنه روي عن ابن عباس بأن إسماعيل عليه‌السلام وعد صاحبا له بأن ينتظره في مكان ، فانتظره سنة كاملة. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : إنّما سمّي صادق الوعد لأنه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة فسمّاه الله عزوجل صادق الوعد. وقد أتاه الرجل بعد ذلك فقال له إسماعيل عليه‌السلام : ما زلت منتظرا لك. وقد يراد بصدق الوعد صبره على الذّبح وذلك حين قال لأبيه عليهما‌السلام : يا أبت افعل ما تؤمر ، ستجدني إن شاء الله من الصابرين ، وقد كان كذلك.

٥٥ ـ (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ... إن كان المراد بالصلاة والزكاة المفروضتين ، فالمراد بالأهل هنا هو الأمّة والقوم ، وإن حمل على الصلاة والزكاة المندوبتين ، فالمراد هم أهله خاصّة ، أي من كان في داره ومن أقاربه وعشيرته. وعلى الأمرين كان يأمر بالصلاة والزكاة (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) في جميع أقواله وأفعاله. وإن الله تعالى لمّا أمر أنبياءه بأن يأمروا أهلهم بالصلاة والزكاة ، كأنه سبحانه أمرنا نحن بذلك وجعل وظيفتنا أمر أهلنا بهما لنفوز بالقرب منه ولنحوز رضاه عزوجل. وهذا يستفاد من الآية ببداهة ، على أن أهل الإنسان بمنزلة نفسه. وفي العلل أن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ إسماعيل الذي قال الله تعالى في كتابه : واذكر في الكتاب .. الآية ، لم يكن إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، بل كان نبيّا

٣٩٩

من الأنبياء ، هو إسماعيل بن حزقيل ، بعثه الله إلى قومه فأخذوه فسلخوا فروة رأسه وجلدة وجهه ، فأتاه ملك فقال : إن الله جلّ جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت ، فقال : لي أسوة بما يصنع بالأنبياء. وفي رواية أخرى : بما يصنع بالحسين بن عليّ عليهما‌السلام .. ويستفاد من مجموع تلك الآيات المباركة أن الله تعالى أراد أن يشرح لنبيّه الأكرم أسماء أنبيائه وأحوالهم وخصائصهم ، ليعرفهم ويكون على بصيرة من أمرهم ، حتى لو سأله سائل عنهم لأجابه به بأحسن ما اطّلع عليه أحبارهم ورهبانهم ، فيكون هذا من أدلّة نبوّته وبراهين رسالته ، بل حجة عليهم ، ثم تستنّ أمته بسنّتهم الحسنة وملّتهم المحمودة صلوات الله عليهم أجمعين.

٥٦ و ٥٧ و ٥٨ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) ... ثم إنه تعالى ذكر حديث إدريس عليه‌السلام وذكّر به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأثبت ذكره في كتابه المجيد كي لا يندرس ولا ينسى. وكان إدريس جدّ أبي نوح النبيّ عليهم‌السلام ، واسمه أخنوخ ، ودعي بإدريس لكثرة دراسته. وروي أنه نزل عليه ثلاثون صحيفة وأنه أول من خطّ بالقلم ونظر في علم النجوم ، وأول من خاط الثياب ولبسها ، وكانوا قبل ذلك يلبسون الجلود. وقد وصفه الله عزوجل بأنه (كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) كما مرّ في وصف غيره من سلفه الصالح ثم قال تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) فزاد في وصف رفيع مكانته بأنه رفعه إلى السماء ، إلى جانب رفع مكانته في العلم وشرف النبوّة. وقد كان لإدريس من شرف القرب من أبينا آدم عليهما‌السلام ما لم يكن لغيره ممّن بعده لأنه جدّ أبي نوح كما ذكرنا. أمّا إبراهيم عليه‌السلام فهو ممّن حمل مع نوح لأنه من ولد سام بن نوح ، كما أن من ولده إسماعيل وإسحاق ويعقوب الذين حصل لهم شرف القرب من أبيهم إبراهيم عليهم‌السلام جميعا. أمّا موسى وهارون وزكريّا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام ، فهم من ذرّية إسرائيل ـ يعقوب عليه‌السلام ـ وفي هذا دلالة على أن أولاد البنات من الذرّية ، لأن عيسى من ذرّية إسرائيل عليهما‌السلام من قبل أمّه مريم التي هي من ذرية يعقوب عليها وعليه‌السلام.

٤٠٠