الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) عدم عبادة غيره وعدم الشّرك في ألوهيّته (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أردف تعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين لأنه سبحانه هو الموجد لوجود الإنسان على الحقيقة ، ولكنّ الوالدين أيضا مؤثّران بحسب العرف الظاهر ومن جهة اخرى أيضا يشبهانه تعالى بأنه رحيم بعباده رؤف بهم ينعم على عبده ولو أتى بأعظم الجرائم وأكبر الآثام ، وكذلك الوالدان لا يملآن الإنعام على الولد ويكرمانه ولو كان مسيئا لهما غاية الإساءة ، فكم من جاهل ينطق طبق جهله فيقول : الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لنفسهما فلزم منه دخول الولد في الوجود وحصوله في عالم الآفات والفساد ، فأيّ إنعام للوالدين على الولد؟ والبعض يفعل فعل بعض الجهلة من ضرب والده معلّلا ذلك بأنه هو الذي ادخله في عالم الكون والفساد وعرّضه للفقر والموت. وليت شعري كيف يتشدّق هؤلاء الجهلة بالدّين حيث اعتقدوا هذا الاعتقاد السخيف ، فأولا هذه اللّذة نعمة من الله سبحانه للزّوجين قد أشربهما إيّاها ، وهي نعمة أخرى من حيث إنهما ينسيان بها هموم الحياة وما يواجههما من المشاقّ والغصص والآلام الروحية والجسمية الصّعبة مضافا إلى أنها كانت الواسطة لحفظ نظام العالم وكيان البشر وحفظ النسل وإبقاء الدّين والدنيا بحذافيرهما ، فلو لم يكن عمل الزوجين لانتفى الزّوجان وترتّب على انتفائهما انتفاء البشرية وهو خلاف إرادة الله تعالى على خلقه لما رأى من المصالح الكثيرة والحكم والأسرار الغريبة العجيبة في خلق الخليقة بقدرته الكاملة السّامية على سنّة الطبيعة العاديّة والكيفية المتعارفة المستمرّة مع قطع النظر عن أنه تعالى قادر على خلق البشر بلا أب ولا أمّ فإن المصلحة كانت في هذه الكيفية المذكورة من أولها إلى آخرها ليكون هذا التعاطف وذلك التراحم بين الزوجين من جهة وبينهما وبين أولادهما من جهة ثانية ، وبين الأخوة والأرحام والأقرباء من جهة ثالثة ، فقول هؤلاء ـ إجمالا ـ من الجهلة وكلّ منهم معارض لله تعالى في أمره وتقديره ، ومنازع له في ملكه وحكمته. ولكنّ الذي يسهّل الخطب أن أقوالهم لا وزن لها في عالم الاعتبار (إِمَّا يَبْلُغَنَ) هذه اللفظة إمّا (إن) الشرطيّة التي زيدت عليها (ما) للتأكيد ،

٢٨١

وإما أن تكون (ما) أيضا شرطية زيدت تأكيدا للاشتراط كما جاءت شرطيّة في قوله سبحانه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) إلخ ... (عِنْدَكَ الْكِبَرَ) أي في كنفك مبلغا من العمر بحيث يحتاج إليك (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) إذا صارا بمنزلة الطّفل الذي يحتاج الى متعهّد. وخصّ بحال الكبر وإن كانت إطاعة الوالدين والإحسان إليهما واجبين على كلّ حال ، لأن الحاجة في تلك الحالة أكثر إلى الخدمة والتعهّد (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) قال الصّادق عليه‌السلام : لو علم الله لفظة أوجز في عقوق الوالدين من أف لأتى بها. وفي خبر آخر : أدنى العقوق ، ولو علم الله شيئا أيسر منه وأهون منه لنهى عنه. فليعمل العاقّ ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنّة. وقيل : معنى قوله بلغا من الكبر حيث صارا يبولان في فراشهما ولباسهما ويحدثان فلا تتقدّم منهما وأمط عنهما كما كانا يميطان عنك في صغرك فلا تنسى نصيبك منهما وحظوظك من أول ولادتك الى شبابك ولا تنكر ما استفدته منهما واعمل لهما كما عملا لك (وَلا تَنْهَرْهُما) أي لا تزجرهما ولا تخاصمهما في شيء. وقيل لا تمنع من شيء أراداه منك (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) خاطبهما بقول جميل لطيف بعيد عن اللغو والقبح والغلظة والخشونة (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).

٢٤ ـ (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) ... الإضافة بيانيّة ، أي تذلّل لهما وتواضع من فرط رحمتك بهما. والخفض هو ضدّ الرفع وهو الوضع. ثم إنه بعد ما أوصى فيهما بما ذكر أمر تعالى بالدّعاء لهما وهذا يدل على غاية لطفه وتمام عنايته بهما ، لأنهما شريكان له تعالى في تربية الأولاد والمحافظة عليهم حتى يبلغوا رشدهم ويستغنوا عن المربّي والحافظ.

٢٥ ـ (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ ... فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ) : أي التوّابين المتعبّدين الراجعين عن ذنوبهم على ما روي عنهم عليهم‌السلام. فإنه رحيم بهؤلاء غفور لذنوبهم ومتجاوز عنهم بفضله وكرمه.

* * *

٢٨٢

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠))

٢٦ ـ (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) ... المراد بالحق هو صلة الرّحم بالمال والنفس. وعن أهل البيت سلام الله عليهم أن المراد به ذوو قرابة الرّسول. وقيل نزلت في فاطمة عليها‌السلام ، والمراد بالحق هو فدك (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) أي لا تصرف المال فيما لا ينبغي ولا تنفقه على وجه الإسراف والإفراط في المأكل والمشرب والملبس والمسكن ، أي المجاوزة عمّا يليق بحاله.

٢٧ ـ (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا) ... أي المجاوزين المتصرّفين في الأموال زائدا عمّا يليق بشأنهم (كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) لأنهم من أتباعهم وعلى سنّتهم في الإسراف ، وهذا هو غاية الذّم (لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي شديد الكفر ومثله متّبعه المبذّر ، فينبغي أن لا يطاع الشيطان لأن إطاعته خسران.

٢٨ ـ (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) ... تقدير الكلام : إن تعرض ، و (ما) مزيدة للتأكيد ، وابتغاء مفعول له أو مصدر وضع موضع الحال ، أي : مبتغيا رحمة ربّك. وقيل في شأن نزول الآية أن جماعة من الفقراء كبلال وصهيب وبعض آخر من الصحابة جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يطلبون من أموال الفقراء ، فلم يكن عنده شيء ، فصرف وجهه الشريف

٢٨٣

عنهم ومشى إلى ناحية حياء من ردّهم وطلبا من فضل ربّه حتى يعطيهم ، فنزلت الشريفة. وحاصلها إن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك بإيتاء حقوقهم من الفقراء وأبناء السّبيل عند مسألتهم إياك حياء منهم لتبتغي الفضل من الله والسّعة التي تأملها من ربّك ، فلا تعرض بل قل لهم قولا ليّنا وعدهم وعدا جميلا أو أدع لهم باليسر ، مثل : يرزقنا الله وإياكم. وروى العيّاشي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لما نزلت الآية إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي قال : يرزقنا الله وإياكم من فضله.

٢٩ ـ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً) ... أي لا تقبضها عن الإنفاق كل القبض ولا تكن ممّن لا يعطي شيئا ولا يهب ، فتكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل. وهذا مبالغة في النهي عن الشح والإمساك (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) أي لا تعط جميع ما عندك فتكون بمنزلة من بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء. وهذا ان النّهيان كناية عن نهي التقتير والإسراف ، فلا بدّ من الاقتصاد في الأمور كما هو المأمور به الذي هو الكرم والجود (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) فتصير ملوما بالإسراف عند الله وغيره تعالى محسورا أي عريانا أو منقطعا ليس عندك شيء تعيش في حسرة على ما فعلته. وعن الصادق عليه‌السلام أن امرأة أرسلت إلى النبيّ ابنا لها فقالت انطلق إليه فاسأله فإن قال ليس عندنا شيء فقل : أعطني قميصك. قال فأخذ قميصه وأعطاه فلم يقدر على الخروج إلى الصلاة ، فأدّبه الله تعالى على القصد فقال : ولا تجعل يدك إلى آخرها.

٣٠ ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) ... إن الله تعالى مع سعته خزائنه وعدم نفادها قد يوسّع مع هذا ويأخذ مع ذاك سنّة الاقتصاد ، وما وسّع على عباده تمام التوسعة ولاقترّ عليهم تمام التقتير لمصالح اقتضت البسط على بعض عباده والتقتير على الآخر ، بل ربما اقتضت الحكمة البسط والتقتير على فرد واحد في زمان دون زمان ، فيدبّره على ما يراه من الصّلاح. فالعباد لا بد ان يأخذوا هذه السنّة ديدنهم بطريق أولى ، وان

٢٨٤

يتأدّبوا بما أجراه عليهم خالقهم ورازقهم ، ويقتدوا به في سنّته الشريفة المطابقة للحكمة والمصلحة الكاملة النوعيّة والشخصيّة (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) يعلم مصالحهم وما ينبغي لهم ، فقد ورد في الحديث القدسي : وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك. وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك.

* * *

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)

٣١ ـ (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) ... الإملاق هو الإفلاس على ما روي عن الصادق سلام الله عليه ، يعني مخافة الفقر والجوع حيث إن العرب في عصر الجاهلية كانوا يقتلون بناتهم لذلك فلا تفعلوا ذلك أيها العباد فإننا نرزقهم وإيّاكم ، وإن قتلكم لهم كان (خِطْأً كَبِيراً) أي ذنبا عظيما حيث إنه مشتمل على قطع التّناسل وانقطاع النوع.

٢٨٥

٣٢ ـ (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ... إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) ... أي أن الزنى قبيحة زائدة على حدّ القبح وهو بئس الطريق لأنّه مؤدّ إلى قطع الأنساب وهيجان الفتن وإبطال المواريث والرّحم وإذهاب حقوق الآباء على الأولاد ، وكذلك العكس.

٣٣ ـ (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) ... نهي عن القتل الذي حرّمه الله سبحانه وتعالى وجعل عقابه النّار (إِلَّا) إذا كان القتل (بِالْحَقِ) أي بأحد المجوّزات الشرعيّة من القود والرّدة وحدّ المحصن (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) بغير حدّ شرعيّ ثابت (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) المفوّض بالمطالبة بحقّه (سُلْطاناً) سلطة وحقّا بأن يقتل قاتله به جزاء له ، فينبغي لهذا الوليّ أن لا (يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) لا يقتل غير الغريم ولا يمثّل به (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) بإعطائه حدّ القود فليقف في الحدود عند حدّه ، لأنه ذا مضر من الله سبحانه إذ سلّطه على الاقتصاص أو أخذ الدّية. وقد سئل الإمام الكاظم عليه‌السلام : ما معنى إنه كان منصورا؟ قال : وأيّ نصرة أعظم من أن يدفع القاتل إلى وليّ المقتول فيقتله ولا تبعة تلزمه من قتله في دين ولا دنيا.

٣٤ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ... أي لا تمسّوه ولا تنفقوا منه شيئا إلّا بالخصلة والطريقة التي هي أحسن لحفظ مال اليتيم وتثميره وتنميته (حَتَّى يَبْلُغَ) اليتيم (أَشُدَّهُ) أي غاية قوّته ببلوغه ورشده وقد خصّ الله تعالى اليتيم بالنهي عن إتلاف ماله لأنه أحق الناس بحفظ ماله لصغره وكمال عجزه فلا يقدر على دفع الضرر عن نفسه وماله فيعظم ضرره. فلذا خصه بالنهي عن إتلاف ماله والإضرار به. (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) في الوصية بمال اليتيم وغيرها. وقيل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد وإن لم يجب ابتداء ، وإنما يجب بالعقد كالنذر والعهد واليمين (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) عن المعاهد به إذا كان ناكثا يعاقب ، أو وافيا يجزى به.

٣٥ ـ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) ... لا تبخسوا فيه وأكملوه وأتمّوه (وَزِنُوا

٢٨٦

بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي بميزان العدل السّويّ .. (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي مالا وعاقبة.

* * *

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))

٣٦ ـ (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ... أي لا تقل سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم. وهذا نهي عن الكذب كما هو أحد الأقوال في تفسيره. والقول الثاني ما نقل عن محمد بن الحنفية أن المراد منه شهادة الزور. وقال ابن عباس : لا تشهد إلّا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. إلى آخر الأقوال. واحتجّ نفاة القياس بهذه الآية حيث إنه لا يفيد إلّا الظن. وأجيب بأن الظن مطلق ليس بمنهيّ وإلّا فلا يجوز العمل بفتوى المفتي ولا بالشهادة ولا الاجتهاد في طلب القبلة وقيم المتلفات وأروش الجنايات ، فإنه لا سبيل فيها إلا بالظن ، وكون هذه الذبيحة ذبيحة المسلم وغيره ، فهذه الموارد من الموارد التي كان العمل فيها بالظن اتفاقا ، ويدل على ما ذكرنا قوله عليه‌السلام : نحن نحكم بالظواهر. فهذا تصريح بأن الظن معتبر في مثل هذه الموارد. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) يحتمل أن الضّمير يرجع إلى

٢٨٧

كل واحد من الجوارح ، ويمكن أن يكون راجعا إلى صاحبها ، فإنه المسؤول عن تلك الأعضاء فيما أبلاها أفي الأمور السائغة أم غيرها. وعن الصادق عليه‌السلام أنه قال له رجل : إن لي جيرانا ولهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود فربما دخلت المخرج فأطيل الجلوس استماعا منّي لهنّ. فقال الصادق عليه‌السلام : لا تفعل. فقال والله ما هو شيء آتيه برجلي ، إنما هو سماع أسمعه بأذني. فقال له الصّادق عليه‌السلام : أما سمعت الله يقول : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) إلخ؟ فقال الرجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من عربيّ ولا عجميّ. لا جرم أنّي تركتها وأنا أستغفر الله. وعن السجاد : ليس أن تتكلّم بما شئته لأن الله يقول : وقرأ الآية الشريفة.

٣٧ ـ (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) ... أي بطرا وفرحا (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) أي لن تشقّها بكبرك حتى تبلغ آخرها (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) بتطاولك وطول قدّك بحيث تبلغ قلل الجبال الطّوال ، فليس لك أن تختال وتتكبر فإنه محض حماقة. وقد علّم الله سبحانه عباده التواضع والوقار في كل حالاتهم.

٣٨ ـ (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ) ... أي كل الخصال المذكورة من قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، إلى هنا ، فعدّوها إلى خمس وعشرين (مَكْرُوهاً) أي مبغوضا محرّما.

٣٩ ـ (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ) ... أي هذه الوصايا الكريمة هي ممّا أنزله إليك ربّك وحيا (مِنَ الْحِكْمَةِ) والصواب والرشد ، فاتّبعها (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) كرّر سبحانه هذه الوصيّة وشدّد على هذا الحكم للإشارة إلى أنّ أسّ الأحكام وأصلها هو التوحيد ، ولذا جعل بدء كلامه وختامه سبحانه التوحيد والنهي عن الشّرك إيذانا بأنه رأس الحكمة وملاكها ، وإن أنت فعلت ذلك تجازى (فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) تلوم

٢٨٨

نفسك ويلومك الملائكة وجميع أهل الإيمان ، وتكون (مَدْحُوراً) مبعدا من رحمة الله مطرودا منها.

* * *

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١))

٤٠ ـ (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) ... يعني هل اختصّكم بالصبيان وجعلهم لكم عطاء صافيا (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) وجعل لنفسه بنات كما قالوا وافتروا بأن الملائكة بنات الله ، تعالى الله ذلك علوّا كبيرا (إِنَّكُمْ) أيها المفترون (لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) حين تقولون اتّخذ الله سبحانه إناثا من الملائكة.

٤١ ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ) ... أي بينّا الدلائل وفصّلنا المواعظ والعبر وأعطينا الأمثال المقنعة (لِيَذَّكَّرُوا) ليتفكّروا ويعلموا الحق ويتّعظوا فيعتبروا. وقد حذف ذكر الدلائل التي نوّه بها لدلالة الكلام عليها ولكثرتها في القرآن الكريم ، ولكنّ كلّ مثل ضربه سبحانه لم يفدهم (وَما) كان (يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي فرارا عن الحق وابتعادا عنه.

* * *

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ

٢٨٩

لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))

٤٢ ـ (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) ... أي لو كان معه سبحانه شريك والعياذ بالله (كَما يَقُولُونَ) افتراء وكذبا (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) أي أن الشركاء كانوا حينئذ يطلبون طريقا إلى الصعود إلى صاحب الملك والكرسيّ لمنازعته ومغالبته على الملك ليصفو ذلك لهم وليكونوا ذوي السلطان والأمر والنهي كما هو فعل الملوك بعضهم مع بعض ، أو أنهم يسعون للتقرب إليه وللطاعة إذا عجزوا عن مغالبته ، أو أنهم يشاركون في الحكم والسلطان.

٤٣ ـ (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) : أي تنزيها له تعالى وتقديسا لذاته وقد (تَعالى) سما وارتفع وجلّ وعزّ (عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) بحيث لا ينال ولو بخطرات الظّنون ، لأنه فوق ما يقول القائلون ، ولأنه تبارك وتعالى.

٤٤ ـ (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ) ... أي تقدّسه وتنزّهه هي ومن فيها بطرق التسبيح التي ألهمها سبحانه لكل كائن من الموجودات وإن كنّا لا نفقه تسبيح كل شيء ولا ندرك كيفية تنزيهه تقدّست أسماؤه عن سمات النقصان ، ولا نعرف كيفية حمده على الإنعام والإفضال ، فكل شيء يسبّحه سبحانه من الأجسام الفلكية العلوية والأجسام السّفلية وما فيهما وما بينهما من الملائكة والإنس والجن وغيرهم من أنواع الموجودات وأصناف المخلوقات بعضها بلسان القال وبعض بحسب الحال كما في الناميات والجمادات فإن تسبيحهم ربّما يكون من طريق الدلالة وهو أقوى التنزيهات لأنّه يؤدّي إلى العلم بوجود الصانع أوّلا وتنزيهه عن النقصان ثانيا ، لأنها بلوازم إمكانها وتوابع حدوثها تدلّ على وجود صانع قديم واجب بذاته

٢٩٠

لذاته قادر عليم حكيم أزليّ أبديّ. فصرير الباب وخرير الماء وأصوات الرعد ولمعان البرق هذه تسبيحات اي تسبيح فطري من طريق الدلالة بالبيان المذكور آنفا (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) حيث لا تتفكرون فتعلموا طريق دلالتها على التوحيد بعد الدلالة على وجود الصانع الخالق للممكنات طرّا (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) يمهلكم على كفركم بلا عقوبة (غَفُوراً) لمن تاب بعد الإيمان والتوحيد والعمل الصالح.

* * *

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧))

٤٥ ـ (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) ... أي إذا تلوته ورتّلت آياته على الناس (جَعَلْنا) أوجدنا (بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الكافرين بها المنصرفين عن دعوتك الى الايمان (حِجاباً مَسْتُوراً) أي سترا على أعينهم ، فهم لا يرون الحجاب وكذا لا يرون المحجوب به ـ أي النّبي الأكرم صلوات الله عليه وآله حين قراءته للقرآن ـ وإنما هو من قدرة الله تعالى حجب نبيّه (ص) بحجاب لا يرون من ورائه وقد كانوا يأتون حين قراءته ويمرّون به ولا يرونه ليؤذوه. وقيل حجابا ساترا والمفعول قد يكون بمعنى

٢٩١

الفاعل عن الأخفش كما يقال في الميشوم والميمون شائم ويا من.

٤٦ ـ (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) ... جمع كنّ بمعنى الغطاء أي ضربنا على قلوب المشركين حجبا من قدرتنا (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي كراهة أن يعلموا القرآن ويفهموه بسبب عدم قبولهم قول الحق وشدة امتناعهم عن الاعتراف بنبوّته. وإنّما نسب الله ذلك الكنّ أو الحجاب إلى نفسه لأنه لما خلّاهم مع أنفسهم وما منعهم بطريق الإلجاء صارت تلك التخلية كأنها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة كما أن السّيد إذا لم يراقب حال عبده لسوء أفعاله وعدم قبوله قول مولاه إذا ساءت سيرته يقول السيد : أنا الذي ألقيته في تلك الحالة بسبب أنني ما راقبت حاله. ولكن السبب الواقعيّ هو سوء سريرة العبد واختياره ، فصحّت الإضافة .. (وَقْراً) أي صمما وثقلا بحيث يمنعهم عن استماع القرآن لأنهم إذا سمعوه لا يقبلونه ولا يعملون به فاستماعهم وهن للقرآن. أما إذا ذكر الله (وَحْدَهُ) اي مصدر وحال : بمعنى واحد غير مشفوع بآلهتهم (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) جمعه نافر كالقعود والشهود أو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي يرجعون مدبرين نافرين عن استماع التّوحيد لأنهم كانوا مترقبين لأن يذكره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آلهتهم مع الله تعالى. عن الصادق عليه‌السلام : كان رسول الله إذا دخل إلى منزله واجتمعت عليه قريش يجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم ويرفع بها صوته فتولّي قريش فرارا ، فأنزل الله تعالى في ذلك : وإذا ذكرت ربّك ، الآية .. أما (وَحْدَهُ) فهي مصدر وموقعها حال منصوبة.

٤٧ ـ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) ... أي نحن ندري لأيّ سبب هم يستمعون القرآن ، إنما يستمعون للّغو والاستهزاء به (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) حين كونهم متناجين يتهامسون فيما بينهم (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) يمكن أن تكون هذه الجملة بيانا للنّجوى ، أي يتناجون حين خروجهم من عندك بأن يقولوا : هؤلاء الّذين آمنوا بمحمد إنما يتّبعون (رَجُلاً) مجنونا لأنه سحر فجنّ

٢٩٢

واختلط عليه عقله. ويمكن ان تكون في محلّ النصب بمقدّر يكون الظرف متعلقا به ، أي : اذكر يا محمد إذ يقولون ...

* * *

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢))

٤٨ ـ (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) ... أي مثلوك بالسّاحر والشاعر والكاهن والمجنون (فَضَلُّوا) بذلك عن الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) لا يقدرون على أن يجدوا حيلة وطريقا إلى تكذيبك وإلى الطعن بدعوتك الرشيدة ، فلا يقبل قولهم لأن لم يجدوا إلا طريق البهت الصّريح والقول الوقيح بحيث يفهم كل سامع أنه عن جحد ، ومعارضة وعناد ثم أخذ تعالى في بيان إنكار المشركين للبعث والنشر وقال :

٤٩ ـ (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) ... اي عظاما بالية منتثرة لحومها عنها والرّفات التراب الّذي سحق حتى صار كالغبار لنعومته يقولون : أنبعث

٢٩٣

ونحن بهذه الحالة ونعود ونحن بهذه الكيفية (خَلْقاً جَدِيداً) كما خلقنا أول مرة. فتعجّبوا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنتم مبعوثون ليوم لا ريب فيه. والاستفهام إنكاري وعلى الاستبعاد. وعن الصادق عليه‌السلام : جاء أبيّ بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففتّه ودقه ، ثم قال : يا محمد ، إذا كنّا عظاما ورفاتا أإنّا لمبعوثون خلقا جديدا؟ فأنزل الله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) إلخ.

٥٠ ـ (قُلْ كُونُوا حِجارَةً) ... كلمة كونوا أمر تمثيليّ يعنى لو صرتم مثلا بعنصركم الفعلي حجارة (أَوْ حَدِيداً) ذكر الحديد بعد الحجارة لأنه في نظرهم أشدّ.

٥١ ـ (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) ... أي من كل شيء له وقع واهمية عندكم كالسّماء والجبال ونحوهما مما خلق وهو عظيم في نظركم فإذا قلتم : (مَنْ يُعِيدُنا) بعد الفناء ويرجعنا أحياء ، نقول لكم : يعيدكم (الَّذِي فَطَرَكُمْ) خلقكم (أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهو الله تعالى ، بقدرته الكاملة يحييكم ويبعثكم ليوم لا ريب فيه. وعن الباقر عليه‌السلام : الخلق الذي يكبر في صدوركم : الموت. والمقصود المبالغة ، أي لو صرتم بأبدانكم نفس الموت فالله تعالى يعيدها وينشرها فضلا عن التراب والرفات حيث إن المنافاة بين الحجريّة والحديديّة ولا سيما الموت ، وبين قبول الحياة أشدّ من التّنافي بين العظم والتراب المتحوّل منه ومن اللّحم والدّم ونحوهما ، وبين قبول الحياة. فإن من يقدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر ، ومن يقوى على الإيجاد من العدم كان على الإيجاد من الوجود أقوى (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) أي يحرّكونها متعجّبين مستهزئين. يقال أنغض رأسه : حرّكه والنغض هو تحريك الرأس ارتفاعا وانخفاضا (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) البعث والإعادة؟ (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) حيث إن كلّ ما هو آت قريب والوجه واضح.

٢٩٤

٥٢ ـ (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ) ... أي يدعوكم من قبوركم على لسان إسرافيل عليه‌السلام عند النفخة الثانية فتجيبون (بِحَمْدِهِ) حامدين له أو مطاوعين لبعثه مطاوعة الحامد له. وقال بعض المفسرين عن بعض الأعلام أن المراد بالدّعوة هنا هو البعث ، وبالاستجابة هو الانبعاث ، واستعادة لفظ الدعاء والاستجابة للبعث والانبعاث للتّنبيه على سرعة ذلك وتيسيره. فالموتى يعودون بعد الموت مشتغلين بالثناء على كمال قدرته ، وروي أنهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك. وعند بعض الأعلام ان الحمد هنا بمعنى الأمر كما في قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ). فالمحصّل من هذا القول أن الله سبحانه يأمركم بالخروج من المراقد إلى الموقف ، وهذا هو معنى دعوته فتجيبون بأمره أو تجيبون أمره. و (باء) بحمده زائدة لتأكيد الإجابة (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي إذا رأيتم طول ذلك اليوم تعلمون أن مكثكم في الدنيا في غاية القلة ونهاية القصر بحيث لم تكن قابلة لأن تنازعوا النبيّ وتعارضوه وترمونه بالأقوال الشنيعة والكلمات الوقيحة كالسّاحر والكاهن والمجنون وتؤذونه بتلك الأفعال التي صدرت منكم من الضرب والرّمي بالحجارة حيث اشتكى منهم وقال : ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت ، مع كونه أصبر الصابرين وأحلم الحلماء. ولعل الخطاب في الآية (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) للمؤمنين فإنهم هم الذين يستجيبون لدعوة ربّهم ويحمدونه على نعمه ويرون قصر مدّة لبثّهم في البرزخ لأنهم منعمّين في قبورهم بأنواع النعيم والحظوظ. ومعلوم أن أيّام السرور مع غاية طولها تمرّ على الإنسان قليلة بخلاف أيام التعذيب والحزن فإن القصيرة منها تجيء بنظر الإنسان طويلة.

* * *

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا

٢٩٥

مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥))

٥٣ ـ (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ... أي المؤمنين منهم وهذه الآية يمكن أن تؤيّد ما قلناه في الآية السابقة من أن الخطاب فيها للمؤمنين فمن ثم غيّر السّياق كما لا يخفى وتفسير العباد بالمؤمنين منهم لأن لفظ العباد مختصّ بهم في أكثر الآيات والموارد ، كقوله : فبشّر عباد الّذين يستمعون القول ، وكقوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) وقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ). والإضافة تشريفية ولا تكون إلّا للمؤمنين. وهذه إمارة أخرى على ما قلناه. و (يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي يقولوا للمشركين الكلمة التي هي أحسن وألين في مقام الإرشاد وإلقاء الحجة عليهم وهو أن لا يكون قولهم لهم قرين شتم وسبّ لأن الحجة لو اختلطت بهما لقابلوكم بمثله ، كما قال : ولا تسبّوا الّذين يدعون من دون الله أي المشركين فيسبّوا الله عدوا بغير علم ، فتفشل حجتكم وتصير عقيما وتنتج عكس ما أردتم منهم فيزداد الغضب وتتكامل النفرة. ويدل على ما قلنا من أن الحجة إذا اختلطت بالبذاءة تنتج عكس المقصود قوله تعالى في ذيل الآية (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي يفسد بينهم بسبب الغلظة فتشتد النفرة (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ) إلخ عداوته كانت قديمة مع الإنسان. فالمخاشنة تزيد في المعاندة والمضادة.

٥٤ ـ (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) ... أي هو سبحانه أعرف بكم وأدرى بمصالحكم (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) بفضله (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) بعدله. فيكون

٢٩٦

الخوف منه والرجاء إليه. والحاصل أنه أعلم بالمصالح والمفاسد للعباد وقيل هذه الآية تفسير للتي هي أحسن وما بينهما اعتراض ، أي قولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا يصرّحوا بأنهم أهل النار فإن ذلك يهيّج على الشرّ مع أن ختام أمرهم غيب لا يعلمه إلا الله عزوجل (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) موكولا إليك أمرهم بحيث تجبرهم على الإيمان ، وما عليك إلّا البلاغ.

٥٥ ـ (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ) ... أي يخصّ كلّا منهم بما يليق به من النبوّة والولاية وغيرهما من المناصب والعناوين. وهذه الشريفة نزلت لرفع استبعاد قريش حيث إنهم كانوا يستبعدون أن يكون النبيّ شخصا يتيما فقيرا. ولذا كانوا يقولون : هل يمكن أن يكون يتيم عبد الله نبيّا؟ والاستفهام إنكاريّ فنزلت الكريمة بأنّنا أعلم وأعرف بأهل سمائنا وأرضنا ، فمن نريد نجتبيه للنبوّة والولاية (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) للجهات المعنويّة التي لا يعلمها إلّا الله تعالى وعن الصّادق عليه‌السلام : سادة النبيّين والمرسلين خمسة ، وهم أولو العزم من الرّسل وعليهم دارت الرّحى : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى جميع الأنبياء. وفي العلل عن النّبي (ص) أن الله تعالى فضل أنبياءه المرسلين على الملائكة المقرّبين وفضلني على جميع النبيّين والمرسلّين ، والفضل بعدي لك يا عليّ وللأئمة من ولدك وإنّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا.

* * *

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)

٢٩٧

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩))

٥٦ ـ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) ... أي زعمتم أنهم آلهة (مِنْ دُونِهِ) من دون الله ، كالملائكة وعزير والمسيح (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) لا يقدرون على دفع شيء كالمرض والقحط (وَلا تَحْوِيلاً) صرفا له عنكم إلى غيركم.

٥٧ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) ... أي ينادونهم آلهة وهم (يَبْتَغُونَ) يطلبون (إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) فهؤلاء الآلهة يطلبون إلى الله القربة (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) من هو أقرب منهم إلى الله تعالى ، فغير الأقرب بطريق أولى أحوج لأن يبتغي الوسيلة والمنزلة لديه تعالى : فالمحتاج كيف يصير للمحتاجين إلها مع عجزه وعدم قدرته على شيء (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) كباقي العباد فكيف تزعمونهم آلهة؟ (كانَ مَحْذُوراً) ينبغي بأن يحذر ويخاف منه ، وكان سبب نزول هذه الآية أن بعض المشركين كانوا يقولون : نحن نعبد بعض المقرّبين من عباد الله. فقوم عبدوا الملائكة وقوم عبدوا عزيرا وقوم عبدوا المسيح وقوم عبدوا نفرا من الجنّ فنزلت (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) إلخ إن عذاب ربّك كان محذورا ثم إن الله تعالى هدّد عباده بقوله :

٥٨ ـ (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) ... بإماتة أهلها كما عن الصّادق عليه‌السلام فإنه سئل عن هذه الآية فقال : هو الفناء بالموت.

٢٩٨

وعن الباقر (ع) في حديث : فمن مات فقد هلك (أَوْ مُعَذِّبُوها) بقتل وقحط مرض وصواعق وغيرها (فِي الْكِتابِ) أي في اللّوح المحفوظ. فهلاك الصّالحين بالموت وهلاك الطّالحين بالعذاب الشديد اي عذاب الاستئصال. ثم إنه جاء المشركون وقالوا : يا محمد اجعل الصفا لنا ذهبا فنزلت.

٥٩ ـ (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) ... أي المقترحات من المشركين كقولهم اجعل الصّفا ذهبا ونحو ذلك فلم نؤخر الآيات التي طلبوها ونمنعها إلّا لتكذيب الأمم السّالفة ، فإنهم اقترحوها على أنبيائهم ، وأرسلنا بالآيات ولم يؤمنوا بها فعذّبناهم بعذاب الاستئصال معجلا ، فحال قومك مثل السّلف في التكذيب وعدم الايمان وقد يستحقون معاجلة العذاب ، والحكمة اقتضت إمهالهم ، ولعل الامهال تشريف للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ) هذه بيان لقوله كذّب بها الأوّلون (مُبْصِرَةً) آية بيّنة جلية (فَظَلَمُوا بِها) أنفسهم بسبب عقرها. وقوله في وصف الناقة مبصرة ، من دقائق التعبير في القرآن الكريم.

* * *

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

٦٠ ـ (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ) ... أي أوحينا إليك أن حكمته وقدرته محيطة بالنّاس ، فهم في قبضته وتحت قدرته. ولعلها نزلت لتشجيع النبيّ

٢٩٩

الأكرم بأنهم لا يقدرون على أن يمنعوك من إنفاذ أمر الرسالة وتبليغها وإظهار ديني على الأديان كلّها كما قال في موضع آخر : والله يعصمك من الناس. وقيل معنى الشريفة أن المراد بالناس فيها أهل مكة وإحاطة الله بهم هي أنه تعالى يفتحها للمؤمنين بيد نبيّه صلّى الله عليه وعلى آله الكرام (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) أي عيانا ليلة الإسراء أو في المنام إذ رأى بني أميّة ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك واغتمّ به ولم ير بعد ذلك ضاحكا حتّى مات ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وقيل إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى في المنام مصارع الكفّار في وقعة بدر وكان يقول حين ورد ماء بدر : والله لكأني انظر إلى مصارع القوم ويؤمي إلى الأرض ويقول هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وقد كان كما قال وما رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله. (إِلَّا فِتْنَةً) أي امتحانا لهم (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) عطف على الرّؤيا ، وهي بنو أميّة (طُغْياناً كَبِيراً) عتوّا عظيما متجاوزا عن الحدّ. ولا يخفى ما في قوله تعالى : (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) من اللّطف منه بالعصاة إذ لا يأخذهم بسرعة.

* * *

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما

٣٠٠