الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧))

١١٢ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً) ... أي ويعطي الله سبحانه للناس مثلا محسوسا ملموسا رأوه قد أصاب من قبلهم من الأمم ، وهو إن قرية كانت آمنة من المخاوف السماوية والأرضية ، مطمئنّة : قارّة هادئة البال تعيش في نعمة (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) أي واسعا هنيئا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من جميع النواحي (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) بطرت ولم تشكر نعم الله ـ والأنعام جمع نعمة ـ (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) فابتلاها الله بالحاجة والمجاعة وعذّبها بالقحط (بِما) بسبب ما (كانُوا) أهلها (يَصْنَعُونَ) من المعاصي والعناد والكفر بأنعم الله. وعن ابن عباس أن القرية هي مكة المكرّمة ، وقد ابتلى الله تعالى أهلها بالقحط سبع سنين وهو الجوع وابتلاهم

٢٦١

بالخوف من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أصحابه فقد تركت قريش تجارتها مع الشام خوفا من سطوة المسلمين وهيبتهم لأنهم كانوا يغيرون على قوافلهم ويأخذون أموالهم ويأسرونهم بعد الهجرة وبعد أن دعا عليهم النبيّ (ص) بقوله : اللهم اشدد ووطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسنيّ يوسف. وقال مجاهد وقتادة بذلك أيضا ولكنه قيل غير ذلك ، وأنّ المثل يتناول ما كان قيل نبيّنا (ص) من الأمم السالفة التي طغت وبغت فأخذها الله تعالى بالآيات .. ولا يخفى أن في الآية الكريمة استعارة لطيفة هي أنه سبحانه (أذاقها لباس الجوع) فالجوع يذاق ولكنه عبّر عنه باللباس ، مكيّنا به عن أثر الجوع والهزال والشحوب وتغيّر اللون منه ومن الخوف. فكأنّ الجوع والخوف كانا يظهران على الناس كاللباس الذي يحيط بالبدن.

١١٣ ـ (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) ... يعني أهل مكة الذين بعث الله تعالى إليهم رسولا هو منهم في الصميم ، وهو من أشرفهم لا من غيرهم ، إتماما للحجة عليهم ، ومع ذلك كذّبوا بدعوته فابتليناهم ب (الْعَذابُ) وسلّطناه عليهم ونصرناه وخذلناهم (وَهُمْ ظالِمُونَ) له ولأنفسهم ، فجزيناهم بعذاب القحط والخوف والقتل في يوم بدر وغيره.

ولا يخفى أن إرسال رسول منهم أصلا وعرقا ولغة هو من منن الله سبحانه عليهم ، وكان ينبغي لهم أن يؤمنوا به وأن يشكروا الله تعالى على أنّ رسولهم لم يكن من غيرهم ولا من الملائكة ولا من الجن ، وقد بيّن سبحانه هذه المنّة عليهم في الآية ١٦٣ من آل عمران حين قال عزّ من قائل : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم .. فالحمد لله على ذلك لأن فيه منافع لا تحصى ولا يدركها إلا من كان من غيرنا ، فله الحمد مكرّرا.

١١٤ ـ (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) ... أي : كلوا ذلك أكلا هنيئا مباحا لكم لأنه سبحانه جعله محلّلا لكم طيّبا : مطهّرا من الرّجس ومن كل

٢٦٢

ما يشوب (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) احمدوه عليها (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إذا اعتقدتم وحدانيّته وربوبيّته وعبدتموه دون غيره.

١١٥ ـ (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ... وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ... أي ما ذكر عند ذبحه اسم غيره تعالى عليه من الأصنام وغيرها. والحصر إضافيّ بالنسبة إلى ما حرّموه على أنفسهم (غَيْرَ باغٍ) ما لم يكن في أكل المحرّمات طالب لذّة وإنما هو يتناول ما يقيم أوده لا متعدّيا على الحكم الشرعي ولا متحدّيا لما حرّم الله تعالى (وَلا عادٍ) لا يكون متعدّيا على حدّ سدّ الرمق ومتجاوزا عنه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن فعل ذلك. ثم بعد أن بيّن المحرّمات نهى عن تحريم المحللات بأهوائهم فقال تعالى :

١١٦ ـ (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ) ... أي لا تحلّلوا ولا تحرّموا بمجرّد قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة ولا برهان ولا نصّ. وقوله تعالى (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) بيان لقوله تعالى : (الْكَذِبَ) الذي هو مفعول لقوله (وَلا تَقُولُوا) أي لا تحلّلوا ما حرّمه الله ولا تحرّموا ما حلّله الله ، ومن فعل ذلك لا يفلح في الآخرة.

١١٧ ـ (مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : ما يحصّلون وينتفعون به بالافتراء هو متاع زائل عن قريب ، ثم يتعقّبه عذاب أليم باق أبدا لا ينقطع في الآخرة.

* * *

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ

٢٦٣

بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))

١١٨ ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) ... أي صاروا يهودا (مِنْ قَبْلُ) قبل هذه السّورة من سورة الأنعام وهو قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ... أي أننا حرّمنا على اليهود ما قصصناه عليك سابقا من غير أن نظلمهم ، ولكنهم هم (كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بما يتعدّون على حدود ما أنزلنا على رسولنا إليهم من الأحكام.

١١٩ ـ (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) ... أي أنّ من يعمل سيئة عن جهل ونزوة نفس ثم يتوب إلى الله توبة نصوحا (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي بعد التوبة (لَغَفُورٌ) لذلك السوء (رَحِيمٌ) بالتائب يعفو عنه من جهة ، ثم يثيبه على الإنابة والرجوع عن الذنب.

* * *

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣))

١٢٠ ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) ... عن الصادق عليه‌السلام : الأمّة واحد فصاعدا كما قال الله تعالى ، وتلا هذه الآية. وعن الباقر عليه‌السلام : ... وذلك أنه كان على دين لم يكن عليه أحد غيره ، فكأنّه أمة واحدة. وأمّا (القانت) فالمطيع ، وأما (الحنيف) فالمسلم. وعن الكاظم

٢٦٤

عليه‌السلام : لقد كانت الدنيا وما فيها إلّا واحد يعبد الله ، ولو كان معه غيره إذا لأضافه إليه حيث يقول : إنّ إبراهيم كان أمّة ... الآية ، فعبّر بذلك ما شاء الله ، ثم إن الله آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة. فإبراهيم سلام الله عليه كان وحده المسلم المطيع لله تعالى ، وكان أيضا :

١٢١ ـ (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) ... حامدا ربّه على أفضاله ، وقد (اجْتَباهُ) اختاره (وَهَداهُ) لدينه الحنيف الذي هو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه.

١٢٢ ـ (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) ... أي حبّبه إلى جميع الناس حتى أن سائر أرباب الملل يتولّونه ويثنون عليه ، ورزقه خيرا كثيرا وعمرا طويلا وأولادا طيّبين مطيعين لله أنبياء مرسلين. وعن الحسين بن عليّ عليهما‌السلام : ما أحد على ملّة إبراهيم إلّا نحن وشيعتنا ، وسائر الناس منها برآء.

وقد نقل أن الله أمر موسى عليه‌السلام أن يدعو بني إسرائيل إلى ترك الأعمال يوم الجمعة وأن لا يشتغلوا فيه للدّنيا بل يتفرّغوا لعبادة الله فقط ، وأن يجعلوه يوم عيدهم. فاختلفوا فيه ، بعضهم قبل وبعضهم اختاروا يوم السّبت لأن الله فرغ فيه من خلق العالم ، وبعض اختاروا يوم الأحد لأن الله بدأ فيه خلق العالم. ولهذا الاختلاف فرض الله سبحانه عليهم تعظيم يوم السّبت وتكريمه وشدد عليهم في تعظيمه وقال جلّ وعلا :

* * *

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ

٢٦٥

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥))

١٢٤ ـ (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) ... أي حصرنا عيدهم يوم السبت وضيّقناه عليهم بأن فرضنا تعظيمه وحرمته عليهم لاختلافهم فيما أمرهم به نبيّهم موسى ولم يسمعوا قوله. وقد أخذ النصارى يوم الأحد يوم عيدهم وعبادتهم ويمكن أن يقال ان الله تعالى ادّخر يوم الجمعة لشرافته لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيما وتكريما له (ص) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ) يفصل (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ويظهر اختلافهم وتحكّمهم في الأمور التي ليست من شأنهم ، ثم إنه تعالى أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بدعوة البشر إلى طريق الحقّ وإرشادهم إلى الصوّاب فقال تبارك وتعالى :

١٢٥ ـ (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) : أي نادهم إلى الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) بالمحجة التي تثبت الحق وتزيل الشبهة (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) اي المقالة والخطاب المقنع والقصص النافعة ، والدّعوة الأولى للخواص الذين هم طالبون للحقائق ، والثانية لعوامّ الأمّة (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ناظرهم بالقرآن وبأحسن ما عندك من الحجج والبراهين المزيحة للشبهة والقامعة لأقوالهم التي تصدر عن جحد وعناد لكن برفق وبلين العريكة وخفض الجناح حتى يستمع الخصم مقالة الداعي. وهذه هي المجادلة الحسنة بل أحسن حيث أن تسكين لهب عناد المعاند وانطفاء نار شغب الجاحد لا يمكن إلا بهذه الكيفية ، وقيل هو أن يجادلهم على قدر ما يتحمّلونه كما جاء في الحديث ، أمرنا معاشر الأنبياء أن نتكلم مع الناس على قدر عقولهم ، وأصل الجدل هو فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج مع التحفّظ على أن يكون اللّين مقدّمة للإرشاد والهداية ، فإن ذلك ضروريّ لكل مرشد يبتغي الوصول إلى هدف معيّن مع خصم لا يقتنع برأيه ببداهة. وقد مرّ مثل

٢٦٦

هذا المعنى في قوله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآية ١٠٨ من سورة آل عمران : فبما رحمة من الله لنت لهم. وهذه الطريقة خير تأسيس لقواعد الجدل المثمر الهادف إلى الوصول إلى الحق حين محاورة المنكرين والجاحدين.

* * *

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

١٢٦ ـ (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ) ... أي إذا قاصصتم أحدا تعدّى عليكم ـ أيها المسلمون ـ فليكن قصاصكم له مثل تعدّيه عليكم دون أية زيادة ولا تجاوز لحدود ما رسم الله تعالى لكم في تشريع العقوبة على التعديات (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) على التعدّي وتركتم الأمر لله عزوجل (لَهُوَ) صبركم ، خير وأبقى لكم لأن لكم ثواب الصبر.

١٢٧ ـ (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) ... الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن اصبر على ما تلقاه من أذى أعدائك وعناد الكفار والمشركين ، وما صبرك إلّا بتوفيق الله تعالى وتثبيته لك (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على أصحابك وما أصابهم من القتل والمثلة ، إشارة إلى شهداء أحد وفيهم حمزة عليه‌السلام (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) انقباض صدر وحزن (مِمَّا يَمْكُرُونَ) من كيد الكفار ومناداتهم لك ولأصحابك ، ونقول لك مبشّرين :

٢٦٧

١٢٨ ـ (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) ... فهو ناصرهم على أعدائهم لأن الله يدافع عن الّذين آمنوا ، فهو حافظ المؤمنين المتّقين (الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) لأنفسهم ولغيرهم.

* * *

٢٦٨

سورة الإسراء

مكيّة إلّا الآيات ٢٦ ، ٢٢ ، ٣٢ ، ٥٧ ، ومن ٧٣ إلى ٨٠ فمدنيّة ، وآياتها ١١١ نزلت بعد القصص.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

١ ـ (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) : أي أسبّح سبحانا فهو منصوب بفعله المحذوف ومعناه : أبرّئ الله وأنزّهه من كل سوء. ويستعمل في مقام التعجّب فيقال : سبحان الله من هذا الأمر تعجّبا منه. وهو على معنى الإضافة أي : سبحان الله منه و (أَسْرى) سار به في الليل (بِعَبْدِهِ) من هذا التعبير في هذا المقام المنيع يستنتج أنّ هذه الصفة أسمى الأوصاف وأرفعها ولو كان أعلى وأفضل منها فلا بد من أن يذكر لأهمّية المورد. وهو كذلك حسب استقصاء الآيات والأخبار ، ولذا نرى أنه مهما ابتلي نبيّ من

٢٦٩

الأنبياء ببلاء كان ذلك لنقص في عبوديته فأراد هو تعالى أن يكمله لطفا منه عليه بذلك البلاء. وعبده هنا هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (لَيْلاً) ظرف للإسراء ، وفائدته ـ مع ان الإسراء لا يكون الا بالليل ـ هي تقليل مدّة الإسراء وأنّه أسرى به في بعض الليل مسيرة أربعين ليلة. ويدل على التقليل ، التنكير (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عند أكثر المفسّرين انه أسري به من دار أمّ هاني أخت علي بن أبي طالب (ع) وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي ، وكان نائما تلك الليلة في بيتها. والمراد بالمسجد الحرام هنا يمكن أن يكون مكة ، ومكة والحرم كلّها مسجد كما قيل. وقيل الإسراء كان من نفس المسجد على ما هو مدلول بعض الأخبار (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أي بيت المقدس. وإنما قال الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ، وليس فيما وراء المسجد الأقصى مسجد (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أي جعلنا البركة فيما حوله ، على جوانبه وأطرافه ، وهي أرض الشام في الدّين والدّنيا بجعله مقرّ الأنبياء ومهبط الوحي وباحتفافه بالأشجار والأنهار وبالرّفاهية والرخص في الأسعار (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) علّة للإسراء ، أي العجائب والأسرار السّماويّة والأرضيّة وما بينهما.

٢ ـ (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ... هذا إخبار من الله تعالى لنبيّه صلوات الله عليه ليطلعه على أنبيائه من السّلف وكيفيّة أحوالهم مع أنهم الماضين ، وشرح كتبهم واشتمالها على ما أنزل فيها ، حتى يكون صلوات الله عليه على علم بها ، ومعرفة. (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) يحتمل أن يكون (أن) الذي أدغم في (لا) مفسرا لقوله تعالى : هدى ، أي : لا تتخذوا وكيلا ومعتمدا في أموركم غيري. ويمكن أن يكون زائدا و (أَلَّا تَتَّخِذُوا) خطاب من الغيبة على القول المضمر ، والتقدير : وقلنا لا تتخذوا.

٣ ـ (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) ... منصوب على كونه مفعولا ثانيا للفعل (تَتَّخِذُوا) لأنه فعل يتعدّى إلى مفعولين. وإفراد الوكيل باعتبار أنه في معنى الجمع لأن صيغة فعيل يكون لفظها مفردا لكن معناها على الجمع ،

٢٧٠

كقوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). و (مِنْ دُونِي) بناء على هذا حال من المفعول الأول ، وهو وكيلا ، ويحتمل أن تكون منصوبا نداء أو بتقدير. أخصّ. وعلى كل تقدير فإن المراد من الموصول هو سام ابن نوح ، وهو جدّ إبراهيم عليه‌السلام. وهو عليه‌السلام جدّ بني إسرائيل لأنهم من نسل يعقوب وهو من نسل إبراهيم (ع) وبناء على النداء يصير المعنى أنه يا بني إسرائيل اذكروا جدّكم الأعلى وهو نوح عليه‌السلام (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) فاقتدوا به ومن يشابه أبه فما ظلم ولئن شكرتم لأزيدنّكم.

* * *

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))

٤ ـ (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ... أي أخبرنا وأعلمنا ، أو أوحينا إليهم ،

٢٧١

وجاء قضى بمعنى خلق كقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) وبمعنى فصل الحكم كقوله تعالى (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) وبمعنى أمر (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وبمعنى الإخبار والاعلام كما في مقامنا هذا. وقال صاحب كتاب الأنوار : قضى هنا بمعنى الوحي كما أشرنا إليه لكن يظهر من نفس الآية خلاف هذا التغيير لأنّ ظاهر الظرف تعلّقه بالفعل المزبور في صدر الكريمة والإخبار يمكن أن يكون في الكتاب بذكره فيه بخلاف الوحي والإلهام فإنهما من الأمور المعنوية التي تقذف وتلقى في النفس ، والله اعلم بما له والمراد بالكتاب هو التوراة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) والمراد بالفساد هنا بقرينة التحديد هو القتل واللّام الداخلة على الفعل للتأكيد أي : حقّا لا شكّ فيه أن أخلافكم سيغدون في البلاد والأرض المقدسة هي بيت المقدس ونواحيها الّتي جعل الله فيها البركة ولعله أريد من الفساد معناه الأهم من أقسام الظلم وسفك الدماء وأخذ الأموال واستحياء النساء ، نعوذ بالله من شر النفس الأمّارة بالسّوء. (مَرَّتَيْنِ) أوّلهما قتل شعيا النبي ، وثانيهما قتل زكريا ويحيى على قول ، وعلى قول أن زكريا مات حتف أنفه والمقتول هو يحيى فقط. (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) بالاستكبار عن طاعة الله وظلم النّاس ظلما عظيما. والعلوّ هو الجرأة على الله تعالى والتّعرض لسخطه.

٥ ـ (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) ... أي عقاب المرّة الأولى (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) أي سلّطنا عليكم على وجه التخلية ، وإضافة العباد إلى ذاته المقدّسة مع أن المراد منهم الظّلمة ، ليست تشريفيّة ومدحا ، بل إضافة خلق ، أي نرسل إليهم جماعة من مخلوقينا للانتقام لمن قتلوه من النبيّين والمظلومين في دار الدّنيا حسما لمادّة الفساد ، وإلّا فالانتقام الأكمل الأتم ، فهو في الآخرة. والمنتقمين المبعوثين إليهم في الأولى قيل بأنهم بخت نصّر وقيل سابور ذو الأكتاف من ملوك الفرس ، وقيل جالوت فقتله داود ، وفي الثاني بخت نصّر وهو رجل خرج من بابل ، (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي شوكة وقوة ونجدة ، مثل هؤلاء الملوك والأمراء ، وخلّينا بينكم وبينهم خاذلين لكم جزاء

٢٧٢

كفركم وعتوّكم. قال دمياطي كان هؤلاء المبعوثون مهيبين ، أصواتهم كالرعد ، وأعينهم كالبرق ، وكأنّ الله تعالى ما جعل في قلوبهم من الرحمة شيئا (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) أي طافوا وتردّدوا يطلبونكم وسط دوركم وهل بقي منكم أحد فيها ، يقتلون كباركم ويسبون صغاركم ونساءكم ويحرقون توراتكم ويخربون معابدكم. والمراد بالتخلية عدم منعهم زجرا وقسرا (وَعْداً مَفْعُولاً) أي حتما لا ريب فيه. وجاسوا مشتق من الجوس ، وهو طلب الشيء بالاستقصاء.

٦ ـ (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) ... أي الدولة والغلبة (عَلَيْهِمْ) أي على المهاجمين والمبعوثين لكم (أَكْثَرَ نَفِيراً) أي عددا ، يعني نكثّر جماعتكم بحيث تقدرون على مقاومة مع الخصماء والغلبة عليهم إذ تكونون أكثر عشيرة واستنفارا.

٧ ـ (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ... أي وبالها لها وجيء باللّام إمّا على وجه التقابل ، أو لما روي عن الرضا عليه‌السلام : فلها ربّ يغفر. وفي المدارك عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : ما أحسنت إلى أحد قط وما أسأت إلى أحد قط ، ثم قرأ الآية ، يعني : كلّ من يعمل عملا فهو يرجع إلى نفسه من خير أو شر ، فله الثواب وعليه العقاب (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي وعد عقاب المرّة الثانية من إفسادكم والفاصل بين الإفسادين مائتان وعشر سنوات والمعنى أنه إذا جاء وعد عقوبة الإفساد الثاني بعثنا على وجه التخلية جمعا من عبادنا عليكم ليجعلوا على وجوهكم آثار الإساءة ، وحذف الفعل وبعض متعلقاته لدلالة ذكره أوّلا عليه (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي بيت المقدس فيخربوه (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) أي يهلكوا كلّ شيء استولوا عليه ، وذلك بعد أن قتلوا يحيى عليه‌السلام وبقي دمه يغلي ، فسلّط الله عليهم الفرس فقتلوا منهم ألوفا وسبوا ذراريهم وخرّبوا بيت المقدس معبدهم.

٢٧٣

٨ ـ (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) ... أي بعد المرة الثانية ، إن تبتم (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى الإفساد مرة أخرى (عُدْنا) مرة ثالثة إلى عقوبتكم ، وقد عادوا بتكذيب محمد صلوات الله عليه وآله ، فسلّطه تعالى عليهم بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير ، وضرب الجزية عليهم فأخزاهم وخذلهم والحاصل أنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله فصارت جهنّم لهم حصيرا اي محبسا.

* * *

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))

٩ ـ (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) ... تأكيد لكون القرآن متصفا بالهداية والإرشاد بحيث ما كان غيره من الكتب السماوية بهذه الكيفية (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) للطريقة التي هي أقوم الطّرق واشدّها استقامة. وعن الباقر عليه‌السلام : أنه يهدي إلى الولاية ، وعن الصادق عليه‌السلام : يهدي إلى الإمام. واستدل بهذه الآية على أن هد القرآن يهدي إلخ .. وقيل معناه : يرشد إلى الكلمة الّتي هي أعدل وأقوم الكلمات ، وهي كلمة التوحيد. وهو يبشر (الْمُؤْمِنِينَ) بالفوز العظيم ، وبالأجر الكثير.

١٠ ـ (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ... أي الكافرين بالبعث والنشور والحساب (أَعْتَدْنا) هيّأنا لهم (عَذاباً أَلِيماً) شديدا موجعا في نار جهنم.

١١ ـ (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) ... قيل في معناه أقوال.

٢٧٤

أحدها أن الإنسان ربما يدعو في حال الزجر والغضب على نفسه وأهله وماله بما لا يحب أن يستجاب له فيه ، كما يدعو لنفسه بالخير. فلو أجاب الله دعاءه لأهلكه ، لكنه لا يستجيب بفضله ورحمته. وثانيها أن الإنسان قد يطلب ما فيه الشر لاستعجاله المنفعة القليلة ، كدعائه بالخير من حيث التضرّع والجد ، وربما تعقّبه الشر الكثير وهو لا يعلم به. والثالث أنه يطلب النفع العاجل وإن قلّ ، بالضرر الآجل وإن جل (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) أي أن جنسه جنس مستعجلا ، بالدعاء بالشّر دون أن ينظر في عاقبته.

* * *

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥))

١٢ ـ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) ... أي علامتين دالّتين على قدرتنا وعلمنا (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي الآية التي هي الليل ، طمسنا نورها بالظّلام (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ) أي الآية التي هي النهار (مُبْصِرَةً) مضيئة مفنية للظلام (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) بيّناه تبيينا. في الغلل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمر الله جبرائيل أن يمحو ضوء القمر فمحاه فاثّر المحو

٢٧٥

في القمر خطوطا سوداء. ولو أن القمر ترك على حاله بمنزلة الشمس لم يمح لما عرف الليل من النهار ولا النهار من الليل ، ولا عرف الصائم كم يصوم ولا عرف الناس عدد السّنين والأشهر في محاسبة بعضهم مع بعض ، وغير ذلك من الفوائد الكبيرة الكثيرة.

١٣ ـ ١٤ ـ (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ) ... الإنسان أعمّ من الذكر والأنثى ، واشتقاقه من الإنس ، فهو على فعلان. أو من النسيان حذفت الياء تخفيفا (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أي أن عمله ملازم له لزوم القلادة للعنق فلا يفارقه. والمراد بالطائر عمله الذي يتطيّر به أي يتشأمّ به. ويقال للعمل الطّائر إمّا من الطّيرة لأن العرب جرت عادتهم بأن يتشاءّموا وبالأخص بالطّيور نوعا فكانوا إذا أرادوا أن يسافروا أو يفعلوا عملا آخر يطير طيّر عن يمينهم فيتفاءلون به الخير ، وإذا طار عن شمالهم يتشاءمون به الشرّ ، فهو سبحانه استعار الطائر عما هو سبب للخير كالعمل الصّالح أو سبب للشر كالأعمال السيئة ومعني (فِي عُنُقِهِ) أن عهدته في رقبته أي ما في الكتاب في الرقبة. ولعل بهذه الجهة يقال ويعبّر عمّا يتشاءّم به طيرة. ويقول العرب جرى لفلان طائره بكذا من الخير أو الشّر ، فخاطبهم الله تعالى بما يستعملونه ، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر يلزم أعناقهم. وإمّا لأنّه يقال ليوم القيامة ومن أسمائه يوم تطّاير الكتب حيث إن أعمال البشر مكتوبة في الصّحف وهي في ذلك اليوم تنزل من فوق رؤوس الخلائق وتقع في أيلايهم منتشرة في الجوّ كالطّيور قبل وقوعها في الأيادي ، وبعده تلازمهم ولا تفارقهم حتى يفرغوا من محاسبتهم فإمّا إلى جنّة أو الى نار أعاذنا الله منها بفضله ورحمته (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) أي عند المحاسبة يرى صحيفة مفتوحة عليه ليقرأها فيقال (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي اقرأه في نفسك حتى تعلم ما فيه من أعمالك ـ وهذا لطف منه تعالى على عباده حتى لا يطّلع على ما فيها أحد من خلقه فيفتضح وتنكشف سريرته على الخلائق وعلى رؤوس الاشهاد. يا ستار لا تفضحنا عند خلقك. و (حَسِيباً) أي محاسبا أنت نفسك. ولقد أنصف من

٢٧٦

جعلك حسيب نفسك وما جعل غيرك حسيبا عليك. وفي ذلك اليوم يقرأ من لم يكن قارئا ويحسب من لم يكن حاسبا ، وبعد فراغه من الحساب يقول : يا ويلتا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، لأنه يرى فيه كلّ ما عمله من صغائر ذنوبه وكبائرها. ونقل أنه في يوم من الأيام قال والد لولده : يا بنيّ عليك أن تأتي في المساء وتذكر لي كلّ ما عملته ورأيته وسمعته ، فامتثل الولد وجاء مساء فسرد على مسمع والده كلّ ذلك بتمامه ولم ينقص منه شيئا. وفي مساء اليوم الثاني طلب الوالد من ولده سرد ما فعله وما قاله وما رآه وسمعه في يومه ، فامتنع الولد واعتذر بأن هذا الأمر شاقّ عليه ، ومن الصعب أن يروي كل شيء لوالده في كلّ يوم. فقال له أبوه : إنما هذا نصح منّي لك ، فإنك إن لم تستطع أن تقصّ عليّ ذلك في كلّ يوم ، فكيف يكون موقفك من ربّك يوم القيامة إذا ناقشك في كلّ ما عملت وسمعت ورأيت طيلة أيام حياتك قولا قولا وعملا عملا؟

١٥ ـ (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) ... فإنه ينفعها بذلك دون غيرها من النفوس (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) إذ يكون سوء ضلاله خاصا بنفسه أيضا دون غيرها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فكلّ نفس تحمل وزر أخطائها وذنوبها ولا يحمل عنها أحد شيئا ولا يعاقب أحد بذنوب غيره. وفي هذه الآية بطلان لقول من قال : إن أطفال الكافرين يعذّبون مع آبائهم وبأوزار آبائهم (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) يبيّن الحجج ويمهّد الشرائع ويهدي الناس فتلزمهم الحجة.

* * *

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ

٢٧٧

 بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))

١٦ ـ (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) ... أي إذا أردنا تدمير قرية بسبب معاصي أهلها وكفرهم وتماديهم في الباطل (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أغنياءها المتنعّمين فيها. وعن الباقر عليه‌السلام : أمرنا أكابرها. وقرئ : أمّرنا بالتشديد وفسّر بالتكبير والتسليط. وقد خصّص المترفين لأن غيرهم تابع لهم ، ولأنهم أقدر على الفجور وأسرع إلى الحماقات والمعاصي ، أي أمرناهم بالطاعات فعصوا (فَفَسَقُوا فِيها) فجروا وارتكبوا المعاصي والذنوب (فَحَقَّ عَلَيْهَا) أي استحقّته ونزلت بها كلمة العذاب (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أهلكناها وعذّبنا أهلها وخرّبناها. ولا يخفى أن عبارة (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) تعني أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالحق فاتّبعوا الباطل بدليل عبارة : (فَفَسَقُوا فِيها).

١٧ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) ... أي كثيرا ما دمّرنا من الأمم بعد تدمير قوم نوح بالطوفان ، كما جرى لعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم صالح (وَكَفى بِرَبِّكَ) الباء زائدة ، أي : كفى ربّك سبحانه أن يكون (خَبِيراً) عالما بذنوب عباده (بَصِيراً) بما هم عليه من طاعة أو عصيان.

* * *

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ

٢٧٨

 عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢))

١٨ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) ... أي من أراد الدنيا أعطيناه جزاء عمله في الدنيا التي كان همّه مقصورا عليها. وقد علّق سبحانه ذلك بمشيئته لأنه لا يجد كلّ متمنّ ما تمنّاه ، ولا كلّ أحد جميع ما يهواه ، والأمور كلّها مرهونة بالمشيئة. والحاصل أن مريد العاجلة ليس له في الآجلة ـ الآخرة ـ من نصيب إلّا (جَهَنَّمَ) والعياذ بالله منها (يَصْلاها) يدخلها ويكابد حرّها وصلاء لهبها (مَذْمُوماً) ملوما موّبخا (مَدْحُوراً) مطرودا من رحمة الله مهزوما أمام غضبه وسخطه.

١٩ ـ (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) ... هذه الكريمة معطوفة على سابقتها ولكنها بعكس معناها ، فإن من رغب في الدار الآخرة وعمل لها عملها الصالح بشرط أن يكون مؤمنا مصدّقا (فَأُولئِكَ) العاملون المؤمنون (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) محمودا مثابا من الله عزّ وعلا بالجنّة وحسن المآب.

٢٠ ـ (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) ... أي أنّ كل واحد من الطائفتين : طالب الدنيا وطالب الآخرة ، نعطيه ونعينه على مقتضى المصلحة وطبق الحكمة بالنّعم الظاهرة والباطنة (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) رزقه وفضله (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) ممنوعا ومحبوسا عن الكافر لكفره ، ولا عن الفاسق لفسقه ، فكيف بالمؤمنين؟

٢١ ـ (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ... أي تأمّل كيف تفاوتت درجاتهم في دار الدنيا ، فأعطينا من الرزق والجاه والصحة حسب ما علمنا من الحكمة (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) أعظم تفاوتا في المراتب فإن المسافة ما بين درجة ودرجة في الجنّة تبلغ بعد ما بين السماء والأرض ، وكذا يكون تفاوت دركات جهنّم والعياذ بالله منها (وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) من درجات الدنيا

٢٧٩

وما بينها من فروقات. وهي أكبر تفضيلا للمؤمنين الذين تتقارب درجاتهم من درجات الأنبياء والمرسلين والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين. وقد قيل للإمام الصادق عليه‌السلام : إن المؤمنين يدخلان الجنّة فيكون أحدهما أرفع مكانا من الآخر فيشتهي أن يلقى صاحبه. قال عليه‌السلام : من كان فوقه فله أن يهبط ، ومن كان دونه لم يكن له أن يصعد ، لأنه لم يبلغ ذلك المكان. ولكنهم إذا أحبّوا ذلك واستهووه التقوا على الأسرّة. وعنه عليه‌السلام أن الثواب على قدر العقل. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنما يرتفع العباد غدا في الدرجات وينالون الزّلفى من ربّهم على قدر عقولهم.

٢٢ ـ (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ... أي لا تشرك بالله وتعبد معه غيره وتنسب إليه العطاء والرزق والخلق (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) أي فتكون حالك حال من يزري عليه العقلاء من الناس عقيدته وعمله ويصاب بالخذلان في الآخرة ولا ينصره من غضب الله وسخطه أحد بل يبوء بالفشل.

* * *

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥))

٢٣ ـ (وَقَضى رَبُّكَ) ... أي : أمر ربّك أمرا مقطوعا به جزما (أَلَّا

٢٨٠