الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

١٩ ـ (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ) ... أي : بعد حصول ما كان من أمر وضعه في البئر ، بثلاثة أيام حسب الظاهر ، جاء رفقة سائرون في سفر فنزلوا قريبا من البئر وأحسّوا بالحاجة إلى الماء (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) يعني بعثوا واحدا يرد الماء ويستقي لهم. والوارد في القافلة هو من كان مكلّفا بسقاية العير ومتعهّدا بالرّي دون غيره. فذهب واردهم إلى البئر (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أي أنزل الدّلو ـ وأرسل السّطل ـ الذي يغترف به الماء من البئر ، فتعلّق به يوسف عليه‌السلام فعرف المستقي من البئر فتهلّل وجهه فرحا و (قالَ يا بُشْرى) أي يا قوم البشارة البشارة (هذا غُلامٌ) يعني ولد دون العاشرة. ويحتمل أن يكون قد بشّر نفسه بذلك ، أو أن يكون قد لفظ هذا الكلام تحيّرا وتعجبا لأن خروج غلام حيّ من بئر فيه ماء أمر نادر غريب. فكيف بمثل هذا الغلام الرائع الحسن الفاتن الجمال! .. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعطي يوسف شطر الحسن ، والنّصف الآخر لسائر الناس.

وسواء كانت البشرى للوارد أم لسائر أفراد السيّارة ، فقد أنقذوا يوسف (ع) من البئر (وَأَسَرُّوهُ) أي أخفوه ولم يعلنوا الحادثة لأنهم التقطوه دون كلفة وعناء ، وبلا ثمن ولا مصروف (١) ، وصمّموا أن يجعلوه (بِضاعَةً)

__________________

(١) وفي رواية عن الإمام السجاد عليه‌السلام ـ كما عن ابن عباس ـ : أن إخوة يوسف لما طرحوه في الجب ورجعوا ، قالوا بعد ثلاثة أيام : انطلقوا بنا حتى ننظر ما حال يوسف ، أمات أم هو حيّ فلمّا انتهوا ـ

٢١

يعني متاعا في جملة تجارتهم معدّا للبيع (وَاللهُ عَلِيمٌ) عارف خبير (بِما يَعْمَلُونَ) من العثور عليه ، إلى إنقاذه ، إلى إخفائه عن الآخرين ، فإلى الاتفاق على بيعه في مصر.

٢٠ ـ (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ، دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) ... أي اشتروه بثمن قليل بدليل قوله تعالى : دراهم معدودة ، وهو أيضا ثمن بخس : قيل في معناه : ناقص البركة ، وقيل : البخس الحرام لأن ثمن الحرّ حرام. ولم يذكر سبحانه مقدار الثمن لكونه غير معتدّ به لعظيم قلّته (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي أن البائعين زهدوا به واستخفّوا بقدره ، سواء كان البائعون له أخوته أم الرفاق الذين التقطوه من الجب لأنهم وجدوا فيه علامة الأحرار وسيماء العظمة والسيادة وأخلاق أهل البرّ ، فلم يرغبوا فيه (ع) فزهدوا به مخافة تبعة جعله رقّا وحذرا من استعباده.

٢١ ـ (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) ... قصة يوسف عليه‌السلام لا تقتضي أزيد من وقوع بيع وشراء واحد ، وهو بيع السيارة له من عزيز مصر الذي كان على خزائنها وكان اسمه قطفير ، وكان من طرف الملك الرّيان بن الوليد العمليقي الذي آمن بيوسف (ع) ومات في حياته. والأخبار الواردة في هذا الموضوع تتحدث عن وقوع بيعين : واحد حين انتشاله من الجب ، وواحد من عزيز مصر. ونحن نرى أنه وقع

__________________

 ـ إلى الجب وجدوا بحضرته سيارة وقد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه ، فلما جذب دلوه فإذا هو بغلام متعلّق فيه فقال لأصحابه : يا بشرى ، هذا غلام. فلما أخرجوه أقبل إليهم إخوة يوسف فقالوا هذا عبدنا سقط منا أمس في هذا الجب وجئنا اليوم لنخرجه ، فانتزعوه من أيديهم وتنحوّا به ناحية فقالوا : إمّا أن تقرّ لنا أنك عبدنا فنبيعك ، أو أننا نقتلك. فقال لهم يوسف : لا تقتلوني واصنعوا ما شئتم.

فأقبلوا إلى السيّارة فقالوا : من منكم يشتري منّا هذا الغلام؟ فاشتراه منهم رجل بعشرين درهما وكان إخوته فيه من الزاهدين. وفي بعض الروايات : باعوه بثمانية عشر درهما. بل في ثمنه أقوال كثيرة.

وفي الأخبار أن يوسف عليه‌السلام نظر يوما في المرآة فتعجّب ممّا أعطاه الله تعالى من الحسن وجمال الصورة ، فخطر بباله أني لو كنت عبدا لكان ثمني يتجاوز العدّ والحصر فابتلي بما أراه الله تعالى من الثمن البخس.

٢٢

بيع واحد من السيارة لعزيز مصر ، أرادوا أن يتخلصوا من التّبعة لأنهم لم يروا فيه إلّا سيماء السادة.

وعلى كل حال ، فإن عزيز مصر الذي ابتاعه من السيارة ـ بثمن ما يساويه في الوزن من المسك والحرير والورق ـ أي الفضة المسكوكة ـ ثم قال لزوجه : أكرمي مثواه : أي اجعليه عندك كريم المقام محفوظ المنزلة وأحسني تربيته وتعهّده ، وعلّل قوله هذا لها بما رآه من وسامته ورفيع تهذيبه وجماله خلقا وخلقا ، ثم بقوله : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أي يقوم بمهماتنا وإصلاح أمورنا ، فيفيدنا في أملاكنا وضياعنا وعقارنا ، لأن علائم الرّشد بادية على جبينه الأزهر. ثم زاد في التعليل قائلا : (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) يعني نتبنّاه. لأن عزيز مصر المذكور كان عقيما ولم يرزق ولدا. وفي القمي : لم يكن للذي اشتراه ولد ، فأكرموه وربّوه فلما بلغ أشدّه هويته امرأة العزيز ، بل كانت لا تنظر إلى يوسف امرأة إلّا هويته ، ولا رجل إلّا أحبه ، إذ كان وجهه كالبدر الطالع وأخلاقه وشمائله لا يوفّيها وصف (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أي أنعمنا عليه بأن أنجيناه من المهالك ، ومنحناه عنايتنا وتأييدنا فجعلناه سلطانا وأعطيناه قدرة وسطوة في (الْأَرْضِ) أي أرض مصر ليقيم العدل فيها ، وثبّتنا قدمه لنرفع من قدره (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي نلقّنه تعبير المنامات وتفسير الأحلام ، التي من عمدتها ـ وعلى رأسها ـ رؤيا صاحبي السجن ورؤيا الملك. وقد أدّى علمه في التعبير إلى الرئاسة العظمى وجعله على خزائن مصر. ويحتمل أن يكون المراد تعليمه الأحكام وإرساله إلى الخلق فيتحقّق بتبليغها أمر نبوّته (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي لا يمنع من مشيئته شيء ، والأمور تجري على ما شاء وما قدّر في سابق علمه ، لا على ما دبّر من لدن أخوة يوسف إذ أرادوا به السوء فأراد الله تعالى له كل خير وكان ما أراد الله تعالى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي يجهلون تقديره وتدبيره إذ الأمور كلها بيده عزّ اسمه.

٢٢ ـ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ... أي حين بلغ يوسف (ع) والبلوغ يكون ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة من العمر أو إلى

٢٣

أربعين كما قيل ، فحين وصل إلى أول هذه السن وبلغ أشدّه ، والأشدّ في اللغة بضمّ الهمزة وفتحها : إمّا جمع لا واحد له ، أو واحد جاء على بناء الجمع ، ومعناه : منتهى القوّة والإدراك ، أجل حين صار في أول السنّ التي يكمل فيه الإدراك (آتَيْناهُ) أعطيناه ومنحناه (حُكْماً) يحكم به بين الناس ، أو حكمة يتمتع بها ويمتاز على من عداه (وَعِلْماً) بوجوه المصالح وبفقه الدّين وتعبير الرؤيا وغيرها. فإن الناس إذا تحاكموا إلى العزيز كان يرجع إلى يوسف (ع) ليفتي في الأمور ويصدر الأحكام ، لما رأى من عقله وحكمته وإصابة رأيه (وَكَذلِكَ) أي على هذا الشكل من الإنعام (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) نكافئهم. وفي هذا تنبيه إلى أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله وجميع تصرفاته في عنفوان شبابه ، أي في السنّ التي يمكن أن يسيطر فيها الشباب على أحكام العقل ، في حين أن يوسف (ع) أحسن عملا بصبره على الشدائد وبتفويض أمره إلى الله والتمسّك بحبله والرجوع إليه في كل أزمة من أزمات حياته ، فجزاه سبحانه من عنده أحسن جزاء.

* * *

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ

٢٤

أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

٢٣ ـ (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) ... راود من : راد يرود يعني ذهب وآب ، وراح ورجع لطلب شيء. وهذا يعني أن المرأة التي هو في بيتها ، حاولت معه ، وطلبت منه بحيل عديدة ورغبت إليه أن يبذل لها نفسه ويواقعها (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أي أقفلتها. وروي أنها كانت سبع حجر ـ غرف ـ بين كل منها أبواب تفتحها على بعضها ، فأغلقتها كلها (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) هيت : اسم فعل معناه هلمّ أو أقبل. وقرئت : هيّئت لك. ونسبت قراءتها إلى عليّ عليه‌السلام، ومعناه : قد أعددت نفسي لك (قالَ مَعاذَ اللهِ) أي أنه يعوذ بالله ويلجأ إليه ليعصمه من أن يجيبها إلى رغبتها ، ولذا أظهر الإباء والرّفض الشديد قائلا : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) والضمير في : إنه ، يحتمل فيه وجهان : إرجاعه إلى الله تعالى ، أو إرجاعه إلى عزيز مصر. ويؤيّد إرجاعه إلى العزيز ما علّلوه من امتناعه من القبيح بالتربية والإحسان في المثوى أي الإقامة وحسن المعاملة. والمربّي الظاهريّ هو العزيز لأن يوسف كان يوم شرائه له ابن سبع سنوات ، فبقي في منزله وتحت تربيته حتى بلغ أشدّه. والإحسان في المثوى هو إشارة إلى ما أوصى العزيز به زوجه حين اشتراه من إكرام مثواه وحسن تعهّده مدة إقامته معهما بأمل اتّخاذه ولدا ربما نفعهما. أمّا إذا أرجع إلى الله سبحانه فيكون إرجاعا له إلى ما يقرب منه فإن قوله : إنه ربّي ، مسبوق بقوله : معاذ الله ، وهذا من المحسّنات عند الأعلام من أهل الأدب. هذا مضافا إلى أن الله تعالى هو

٢٥

المربّي بالحقيقة وهو المحسن في واقع الأمر .. والحاصل أنه رفض طلبها ولم يستجب للعاطفة وبدأ الرفض بالاستعاذة بالله ، وبأن مربّيه أو ربّه فعلا أحسن مثواه وإقامته بعد إبعاده عن بيته الأبوي ، وب (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا ينجح ولا يصيب الرّشد والخير من تعدّى على الحرمات وظلم نفسه وغيره.

٢٤ ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) ... التفسير اللفظي يعني أنها مالت إليه وقصدته باهتمام ، ومال إليها وقصدها بمثل ذلك ولكن ميله معلّق على قوله سبحانه : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي أنه كان يمكن أن يكون منه ذلك لو لا رؤية برهان ربّه جلّ وعلا. وحيث لم يحصل المعلّق عليه ، لم يحصل المعلّق أيضا. فالنتيجة أنه ما حصل له عليه‌السلام ميل ولا قصد سوء معها ، إذ كان مكثه معها ومكثها معه في بيت واحد كمكث ذوات المحارم مع ذوي أرحامهن ، يعني كالأمّ مع ابنها باعتبار أن زليخا كانت معه كأمه أو كأخته الحسناء التي يجالسها ابنها أو أخوها ، بل يحبّها حبّا بريئا لا حبّ شهوة تتولّد عن النفس الأمّارة بالسوء ، وكذا تكون الأجنبيّات عند الرّسل والأنبياء والأولياء والمعصومين ببركة العصمة وبفعلها وتأثيرها على شهوات النفس عند من أعطيت لهم.

لكن هذا التفسير قد يكون خلاف ظاهر الآية الكريمة لأن العصمة أمر معنويّ ، وهي من الملكات التي ليست قابلة لأن تتعلق برؤية البرهان ، وحملها على الرؤية المعنوية ـ أي بعين القلب ـ حمل عرفاني خلاف الظاهر أيضا. فالحقّ في المقام أن نحمل البرهان على ما في رواية الإمام علي بن الحسين (ع) الآتية ، من رؤية زليخا في حالة الجذب والاجتذاب لصنمها الذي ألقت عليه ثوبا يغطيه. فهذا الالتفات في تلك الحالة التي هيجّت نفسها وشهوتها ، ما كان إلا من عند الله تعالى ، لتنبيه يوسف (ع) وتوجيهه إليه وإراءته عظمته .. هذا هو البرهان الذي أراه الله إياه لطفا به. ولذا فسّر البرهان بالعصمة منه عزّ وعلا.

٢٦

وقيل إنّ المراد بهمّه (ع) بها ، هو ميل الطبع ومنازعة الشهوة ، لا القصد الاختياريّ. وهذا الهمّ ممّا يصحّ أن يكتب له عليه حسنة لا أن يحسب له سيّئة ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله حكاية عن ربّه : إذا همّ عبدي بسيّئة فلم يعملها كتبت له حسنة. وهذه الرواية وإن كان إطلاقها ، على فرض الصّحة ، يشمل ما إذا كان القصد اختياريّا ، إلّا أن الأنبياء وأهل العصمة خارجون عن موضوع قصد الاختيار لأن العصمة مانعة عن ذلك بلا إشكال. وقد خبط كثير من المفسّرين في تأويل هذه المسألة وذكروا ما يتنافى مع عصمة الأنبياء عليهم‌السلام. ففي رواية الإمام السجّاد عليه‌السلام التي أشرنا إليها بالنسبة للبرهان ، قال : قامت امرأة العزيز إلى الصّنم فألقت عليه ثوبا ، فقال لها يوسف : ما هذا؟ فقالت : أستحي من الصّنم أن يرانا. فقال لها يوسف : أتستحين ممّن لا يبصر ولا يفقه ولا أستحي ممّن خلق الإنسان ، وعلّمه البيان ، ويبصر الغيب والعيان؟ وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : البرهان النبوّة المانعة من ارتكاب الفواحش ، والحكمة الصارفة عن القبائح .. وتابع سبحانه السّرد : (كَذلِكَ) أي مثل هذا كان الحال وكانت النتيجة (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) أي من أجل أن نذهب عنه (وَ) نجنّبه (الْفَحْشاءَ) والفسوق والزّنى. ففي رواية أن زليخا همّت بالمعصية ، ويوسف همّ بقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله ، فصرف الله تعالى عنه قتلها والفاحشة. وقيل إن الفرق بين السوء والفحشاء ، هو أن السوء خيانة اليد ، والفحشاء هي الزّنى ، والسوء من مقدّمات الفاحشة كالنظر واللمس والقبلة وغير ذلك. فقد قال سبحانه : صرفنا عنه ذلك (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي الّذين أخلصهم الله لطاعته واختارهم وطهّرهم من الدنس.

٢٥ ـ (وَاسْتَبَقَا الْبابَ ، وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) ... أي تسابقا نحو الباب الذي يفضي إلى الخارج وتبادرا إليه لأن يوسف (ع) كان يراها مصرّة على رغبتها فيه فأراد الفرار والنجاة فركض نحو الباب للخروج ، وزليخا أسرعت وراءه لتمنعه من الفرار فكان أسرع منها فتناولت ثوبه لتمسكه به

٢٧

(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) أي جذبته بقميصه فشقّته طولا ـ لأن القدّ يكون شقّا بالطول ، والقطّ يكون قصّا بالعرض ، وإن كان القدّ يستعمل للشقّ مطلقا ـ فقد أمسكته بقميصه وشقّته من دبر أي من خلف وهو هارب أمامها (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أي وجدا زوجها يبدو فجأة عند الباب إذ صادف دخوله غير المنتظر إلى الحجرة. والتعبير عن زوجها بلفظ سيّدها إشارة إلى أنه مالك لأمرها. ولدي هذه المفاجأة بادرت إلى قلب حقيقة ما جرى بينهما و (قالَتْ : ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً؟) أي كيف يكون عقاب من اعتدى على زوجتك ـ وأهل الرجل زوجه وعياله ـ ثم عيّنت الجراء وقرّرته بشأن من يريد ذلك بقولها : (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي أن يحبس جزاء فعله الشّنيع أو أن ينال الإيذاء والتعذيب الشديد أي الضرب الموجع بالسّياط مثلا ، محاولة بذلك تبرئة ساحتها ومقترحة نوع القصاص قبل المحاكمة وكأن أمر براءتها مفروغ منه.

٢٦ ـ (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) ... أي : قال يوسف (ع) : هي حاولت هذا الأمر وطلبت مني السوء ورغبت فيّ فامتنعت. وإنما قال ذلك تنزيها لنفسه وتنويها بصدقه ودفعا لتهمتها لا على سبيل رميها بالبهتان ، ولذا صار الأمر مبهما على الملك حيث ادّعى كلّ منهما على الآخر. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) أي أدّى أحد أقربائها شهادة معقولة بقوله : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي إذا كان ثوبه قد انشقّ من قبل أي من أمام وقدّام فان الدلالة تقوم على أنه قصدها فدفعته عن نفسها. أما الشاهد من أهلها فكان رجلا مع الملك حين دخوله ، قيل هو ابن عمها ، وقيل إنه ابن خالها وكان زائرا لها في ذلك اليوم ، وقيل إنه صبيّ في المهد كان ابن ثلاثة أشهر. فعن الإمام الصادق عليه‌السلام : ألهم الله عزوجل يوسف أن قال للملك : سل هذا الصبيّ في المهد.

فإذا كان الشاهد رجلا فقد وفّقه الله فأفتى بحكمته وعقله بما حكاه الله سبحانه عنه ونعم ما أفتى به حين نظر إلى القميص وقدّر الموقف ، وإذا كان ذلك الشاهد صبيّا ابن ثلاثة أشهر فإن في ذلك معجزة أظهرها الله على يد

٢٨

يوسف ليبرّئه أمام الملك. وقد كانت الشهادة معقولة إذ تحكي عن واقع معقول لأن الشاهد أتمّها بقوله :

٢٧ ـ (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) ... أي إذا كان ثوبه مشقوقا من الخلف (فَكَذَبَتْ) في ادّعائها عليه (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله. إذ من الواضح أنّ شقّه من قدّام يعني أنه قصدها فدفعته عن نفسها ، وشقّه من وراء يعني أنه فرّ منها فجذبته بثوبه فانشقّ لمّا تعلّقت به.

٢٨ ـ (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) ... أي فلمّا نظر الشاهد ورأى أن القميص مشقوق من جهة القفا (قالَ : إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) أي من عملكنّ وحيلتكنّ يقصد نوع النّسوة فإنهن معروفات بذلك وقد نقل عن بعض الأعلام أنه قال : إني أخاف من النّسوان أكثر مما أخاف من الشيطان لأن الله تعالى وصف كيد الشيطان بالضّعف فقال : إن كيد الشيطان كان ضعيفا ، وقال في كيد النساء : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فإن كيدهنّ يعلق بالنّفس ويؤثّر على القلب. وربما كان القائل عزيز مصر ، أو الرجل الذي كان معه ، أو الصبيّ الذي في المهد. وفي الأثر : أن يوسف لما صار نبيّا واستقرّت له السلطة ، كان جبرائيل عليه‌السلام معه مرة فجاءه شابّ من خدمه يلبس ثوبا دسما وسخا وبيده آلة من آلات المطبخ ، فصار معلوما لدى جبرائيل (ع) أنه من خدمة المطبخ فقال : يا يوسف هل تعرف هذا الشاب؟ قال : لا. قال جبرائيل : هذا هو الصبيّ الذي شهد لك في مهده ونزّهك من الفحشاء. قال : فله عليّ حقّ عظيم. فأمر بأن ينزع منه ثوبه وأن يخلع عليه ثوب فاخر. وبعدئذ استوزره يوسف وكان له نعم العشير والوزير.

ويحتمل أن يكون القائل عزيز مصر أي الزّوج باعتبار هذه الصراحة المعلنة مع زليخا التي هي من هي في نساء زمانها ، وباعتبار إصدار الأمر الثاني لها وليوسف فيما قاله الله سبحانه وتعالى في الآية التالية إذ قال :

٢٩

٢٩ ـ (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) ... أي أن العزيز قال : يا يوسف : انصرف بكلّيتك عن هذا الحادث واكتمه ولا تذكره عند أحد حتى لا يفشو في البلد وتلوكه الألسن ، وقد ظهرت براءتك ثم التفت إلى زوجه وقال : (وَ) أنت يا زليخا : (اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أي توبي منه وأقلعي تماما (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) أي مرتكبي الأخطاء والذنوب ، وقد ذكّر لفظ : الخاطئين باعتبار الغلبة أي من القوم الخاطئين : المذنبين .. وقيل إن العزيز لم يكن غيورا ، قد سلبه الله تعالى الغيرة لطفا منه بيوسف عليه‌السلام حتى كفاه الله شرّه ، ولذا اكتفى بالقول ليوسف : أعرض عن هذا ، والقول لزوجه : استغفري لذنبك .. واقتصر على هذا القدر ، وتسامح وأغضى عن زوجه ممّا يدل على عدم مبالاته الشديدة بما حصل ، ويدل أيضا على أنها مع ظهور خيانتها وتغاضي زوجها كانت مختارة لنفسها لا سلطة حقيقية له عليها إمّا من جهة جمالها الفتّان وإمّا من جهة عننه وضعفه الجنسي وعقمه والكفرة على كلّ حال لا غيرة عندهم فإن زليخا وزوجها من عبدة الأصنام.

ويدل على ما قلناه من عدم اعتناء زليخا بثبوت الخيانة عليها أمام زوجها ، وبكونها فعّالة لما تريد ولا تعبأ بما قيل وما يقال ، أنها هيّأت مجلس سمر جمعت فيه نساء العلية من قومها اللواتي بدأن بتعييرها في مراودة فتاها ، وباحت أمامهنّ بقصدها وتصميمها على ملاحقته بوقاحة حتى يفعل أو ينال العذاب الأليم ، وسنرى تفصيل ذلك وأنها لم تخش ما يقلنه لأزواجهنّ الذين هم من وزراء العزيز وأصحابه ومواضع سرّه ومن الذين ينقلون إليه أقوالها وتصاريحها.

* * *

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ

٣٠

قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢))

٣٠ ـ (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) ... أي تحدّثت النساء في مصر في مجالسهنّ بقصة زليخا مع يوسف (ع) قائلات : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) أي أنها تحاول منه أن يفجر بها وأنّه (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) يعني أن حبّها له قد استقرّ في نفسها وأصاب شغاف قلبها ودخل فؤادها ، وبمعنى آخر قد استولى حبّها له عليها وأشربه قلبها. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام قوله : قد حجبها حبّه عن النّاس فلا تعقل غيره.

وقد روي أن حبّها له شاع بمصر فجعلت النسوة يعذلنها ويلمنها على ذلك ويذكرنها بالعيب عليها ويقلن : (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي منحرفة عن طريق الحق ، تائهة عن الرّشد.

أما تذكير الفعل في قوله تعالى : وقال نسوة ، فقد حذفت منه علامة التأنيث ولم يقل: وقالت نسوة ، لأنّ في إسناد الفعل إلى الجمع يجوز فيه الوجهان سواء كان الجمع للتذكير أم للتأنيث ، فيقال : جاء الرجال ، وجاءت الرجال ، كما أنه يقال ، جاءت النسوة ، وجاء النّسوة. والقاعدة مستفادة من الآيات والأخبار المقدّسة وهي كثيرة الوقوع في القرآن والأحاديث.

٣١

٣١ ـ (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) ... أي حين نقل لها ما تقوله نساء المدينة عنها وعرفت مكرهنّ ، يعني قولهنّ المغاير للصواب الذي أخفين وراءه رأيهنّ الصريح ، تأكّدت من تعييرهنّ لها بفتاها يوسف ف ـ (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) أي دعتهنّ إلى مجلس عامّ في بيتها (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أي هيأت لهنّ ما يجلسن عليه ويتّكئن عليه لأخذ الراحة التامة إذ كان من عادتهنّ أن يتكئن أثناء الطعام والشراب وفي مجالسهنّ ترفا وكبرياء. ورويت قراءته : متكا ، بإسكان التّاء وحذف الهمزة ، وفسّروه بالأترجّة ، ولعلّه أنسب للمقام .. وبعد أن جمعتهن (وَ) حضرن (آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) أي أعطت كل امرأة سكّينا لتقشر الفاكهة التي أعّدتها لهنّ. (وَ) في تلك اللحظة (قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) يعني أمرته بالظهور أمامهنّ.

وقيل إن النّسوة اللّواتي عيّرنها كنّ خمسا : امرأة الساقي ، وامرأة الخبّاز ، وامرأة صاحب الدوابّ ، وامرأة صاحب السجن ، وامرأة الحاجب. وكلّ رجالهنّ من أصحاب العزيز. أما النّسوة اللائي دعتهنّ لمجلسها فكنّ أربعين امرأة ، مات منهنّ تسع نسوة حينما خرج يوسف عليهنّ ..

وقد روى القمي أنها بعثت إلى كل امرأة رئيس فجمعتهنّ في بيتها بعد أنّ هيأت لهن مجلسا ، ودفعت إلى كلّ امرأة أترجّة (نوع من البرتقال) وسكّينا وقالت لهنّ : اقطعن الأترجّ وقشّرنه ، ونادته ليظهر أمامهنّ وهنّ على هذه الحال ، فخرج (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي عظّمنه وبهتن من جماله الذي أخذ بمجامع قلوبهن ففقدن الوعي (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) للدهشة والحيرة بهذا الحسن العجيب ، جرحن أيديهن وهنّ ذاهلات مشدوهات (وَقُلْنَ : حاشَ لِلَّهِ) أي حاشاه سبحانه ، يعني أنه تعالى منزّه عن العجز أن يخلق مثل يوسف وعلى هذه الصورة من الحسن والجمال ... وأصل الفعل : حاشا ، وقد حذف الألف تخفيفا. وهو هنا يفيد التنزيه. ويمكن أن يكون لام : لله ، للاختصاص ، وقيل إنه للبيان .. ولن يفوتنا التنبيه إلى ما قاله الأزهري من أن الهاء في : أكبرنه ، للسّكت ، وأن : أكبرن ، بمعنى : حضن لأنه يقال : أكبرت

٣٢

المرأة إذا حاضت ، هو قول بخلاف الظاهر ، لأن الهاء هذه ضمير عائد ليوسف (ع) بقرينة ما قبله من قوله تعالى : رأينه ، وبقرينة ما بعده من قوله سبحانه : ما هذا ، إشارة إلى يوسف (ع) نفسه ، وقوله عزوجل : إن هذا .. والحاصل أن النسوة لمّا رأينه تعجّبن من فتنته التي لم تخطر ببالهنّ وقلن : (ما هذا بَشَراً) أي ليس يوسف من سنخ النّاس المعروفين في الخلق ولم يعهد في البشر هذا الحسن وهذه العفة. وقد تركّز في الذّهن أنه ليس في المخلوقات أجمل من الملك ولا أقبح من الشيطان ، فإذا (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) أي ملك يزيد على الملائكة بأنه كريم الطبع فكأنهنّ بالغن في وصفه بالحسن كالملك وزدن على ذلك بأنه كريم لأنه لم يلتفت إليهنّ مع أنهنّ كنّ من أجمل نساء عصرهنّ ، وكنّ في أجمل زينتهن وأكملها ، بحيث لا يمكن لبشر أن يغضّ طرفه ويصرف نظره عنهنّ وهن بهذه الفتنة. لذا عرفن بعقيدتهن أنه بريء من القبائح والشهوة النفسية والهوى المضل ، فنزّهنه عمّا يلوّث البشرية ويؤثّر في الإنسانية ، ونسبنه إلى الملائكية صونا له عن الخطأ فجزمن بكونه فوق ما تصوّرن وفوق ما خطر لهنّ قبل رؤيته ، وجمدن في مجلسهنّ كأنهنّ عذرن زليخا بمراودته عن نفسه ، فاستظهرت عليهن حينئذ وصارحتهن برأيها.

٣٢ ـ (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) ... أي أنها حين رأتهنّ مبهورات من حسنه وجماله ورونق فتوّته قالت لهنّ : هذا هو الذي تعذلنني على مراودته عن نفسه والتصدّي له. (وَ) أنا أعترف لكنّ أنني (لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وطلبت منه مجامعتي (فَاسْتَعْصَمَ) أي امتنع وعاذ بالعصمة عن هذه الزلة. (وَ) لكنني أقول أمامكن (لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ) يعمل (ما آمُرُهُ) به من مضاجعتي ، مقسمة (لَيُسْجَنَنَ) أي يحبس مؤكّدا (وَلَيَكُوناً) يعني : ليكونن ، وقد وضعت ألف التنوين مكان النون الثانية الساكنة لمشابهتها في اللفظ ، أي ليصيرنّ (مِنَ الصَّاغِرِينَ) الأذلاء الذين يحلّ بهم الصّغار والاحتقار.

وقيل إن النسوة اللائي حضرن في ذلك المجلس قد راودت كلّ واحدة

٣٣

منهن يوسف عن نفسه بعد أن فارقن المجلس ، واستعملن معه وسائط وعناوين كثيرة وبذلن محاولات عديدة فاستعصم وامتنع أشد امتناع وضجر من الوضع الذي عاشه أثناء تلك الفترة في ذلك البيت. فلما يئسن منه عليه‌السلام جئن إلى زليخا مفتنات وقلن لها : إن كنت تريدين أن تصلي الى غايتك منه وأن يفعل بك ما أردت منه فلا بد من سجنه أياما قلائل ليحس بالضيق ويتأذّى فيذعن لأمرك ولا يخالف رغبتك. فقبلت وعزمت على حبسه وجاءت إلى العزيز ـ زوجها ـ وقالت : قد اشمئزت نفسي من هذا الغلام العبري وقد افتضحنا في المجتمع وأصبحنا نذكر في المحافل بالسوء ، فإن أمر الملك بحبسه فقد يرفع عنا القيل والقال وقد ينحصر الظنّ به وأرتاح من ملازمته لي وأخلص من ملامة الناس. فقبل العزيز كلامها وأمر بحبسه.

ولا يخفى أن زليخا تمكّنت بهذا المسعى من تبرير موقفها أمام النسوة من جهة ، ومن جعل الأمر يلتبس على العزيز بعد إظهار اشمئزازها من يوسف (ع) وملالتها من وجوده في بيتها من جهة ثانية ، وخصوصا حين أظهرت ضجرها منه وطلبت حبسه وإبعاده عن وجهها رياء إذ قيل إنما اقترحت له الحبس لأن المحتبس كان قريبا منها ، فأرادت أن يبقى بقربها حتى تراه .. ولا عجب في أن يتمّ حبسه بمجرّد طلب زليخا ، رغم أن العزيز كان ينبغي أن يسجنها هي بعد ما اطّلع على الأمر وفهم الملابسات ورأى بعينه وسمع الشهادة بأذنه ، فهي التي تستحق السّجن لا يوسف الصدّيق سلام الله عليه المنزّه عن الفحشاء بالدلائل التي أوضحت براءته كما أظهرت كذبها عليه. ولكننا قلنا سابقا إن العزيز كان طوع يمين زوجته زليخا لما ابتلي به من عنن وضعف في الرجولة ، ولذا لم يجادلها بأمر حبسه مع كونه منزّها بنظر العزيز نفسه.

* * *

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ

٣٤

وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))

٣٣ ـ (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) ... أي أن يوسف عليه‌السلام ضجر في ذلك البيت مما قاسى من مضايقات زليخا وغيرها من النسوة بحسب الظاهر ، وبدليل قوله : يدعونني ، بالجمع ، مصداقا لما قلناه سابقا من أن جميع من رأينه وأكبرنه رغبن فيه وراودنه عن نفسه بمختلف الوسائل وشتّى الإغراءات ، ففرّج الله تعالى عنه باقتراح حبسه فقال يا رب إن السجن أحبّ إليّ من دعوة هؤلاء النسوة إليّ الفحشاء ، فأنا أفضّل الحبس على أن أمارس المعاصي والفجور إذ أخلو وأتفرّغ لعبادتك (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) إلّا : جاءت بدل : إن ، ولم الشرطية. أي : إن لم تصرف عني وتحوّل مكرهنّ واحتيالهن عنّي (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) يعني إن لم تجنّبني ذلك أمل إليهن ، وأستجب لرغباتهنّ بمقتضى شهوتي وبما جعلته من رجوليّة في من هو في مثل سنّي (وَ) حينئذ (أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي غير العارفين بأوامرك ونواهيك. ويستفاد من قول يوسف هذا ، أنه يبتعد عن الأمور التي تثير الشهوة الطبيعية وتهيّج النفس البشرية ولو بغير اختياره ، فليس من المعقول أن يميل إلى الفحشاء والمنكر برغبة منه واختيار.

٣٤ ـ (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) ... أي أن يوسف عليه‌السلام دعا ربّه فاستجاب له دعاءه ـ وهو سميع الدّعاء ، وهو السّميع المجيب ـ فصرف : حوّل عنه مكرهنّ وحيلهنّ (إِنَّهُ) سبحانه وتعالى (هُوَ السَّمِيعُ) للدعاء ولكل شيء (الْعَلِيمُ) بأحوال الجميع وبما يصلح شأنهم ، فلا بد للإنسان من اللّجأ اليه عزّ اسمه في كل حال تعتريه ـ ولو كان معصوما ـ وليس عليه أن يعتمد على ملكاته وقوّة إرادته لأنّ النفس أمّارة

٣٥

بالسوء عصمنا الله من شرّها ، فما على العبد إلّا أن يفوّض أمره إلى ربه جلّ وعلا في كل الأحوال.

٣٥ ـ (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) ... أي : رأوا أخيرا بعد الشواهد الدالة على براءته ، وهي الآيات المعجزات التي ظهرت لتبرئته ، فعن الإمام الباقر عليه‌السلام : الآيات : شهادة الصبيّ ، والقميص المخرّق من دبر ، واستباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إياه على الباب. فلمّا عصاها لم تزل مولعة بزوجها حتى حبسه. بعد كل هذا رأوا وقرّروا (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي لا بد من حبسه إلى أمد معدود وظرف مناسب بحيث ينسى حديث المرأة معه وينقطع الخوض فيه والتعليق عليه ، وبحيث يبدو لأعين الناس أنه هو المأخوذ بالذنب .. وفي رواية أنه (ع) شكا أمره إلى الله وهو في السجن وقال : بم استحققت السجن؟ فأوحى الله إليه : أنت اخترته حين قلت : السجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه. هلّا قلت : العافية أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : البكّاؤون خمسة .. إلى أن قال : وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذّى به أهل السجن فقالوا له : إمّا أن تبكي الليل وتسكت بالنهار ، وإمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل ، فصالحهم على واحد منهما .. وعن الصادق عليه‌السلام أيضا : جاء جبرائيل إلى يوسف عليهما‌السلام وهو في السجن فقال له : يا يوسف قل في دبر كلّ صلاة : اللهم اجعل لي ـ من أمري ـ فرجا ومخرجا وارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب.

* * *

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ

٣٦

قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨))

٣٦ ـ (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) ... انتقل سبحانه إلى ما بعد دخوله السجن لأن تقرير سجنه عرف وعلم من واقع الحال ، وقال عزّ اسمه قد سجن مع يوسف (ع) اثنان في ريعان الشباب هما عبدان من عبيد الملك الرّيان ولذلك عبّر عنهما بفتيين كانا في خدمة ملك ذلك العصر وكان العزيز أميرا من قبله وأمينا على خزائن الدولة. والسجينان أحدهما ساقي الملك الذي يشرف على شرابه وسمرة ، وثانيهما طبّاخه ، وقد اتّهما أنهما كانا بصدد دسّ السمّ للملك فأمر بحبسهما واتفق أن كان ذلك مقارنا لحبس يوسف عليه‌السلام ، وقد أنسا بيوسف هما وجميع أهل الحبس واستفادوا من نصائحه ومواعظه لهم بالصبر على البلاء وبالتسليم لقضاء الله تعالى ، مضافا إلى أنه كان يعبّر لهم عن رؤياهم ويفسّر أحلامهم. ولذلك (قالَ أَحَدُهُما) أي واحد من الفتيين (إِنِّي أَرانِي) أي رأيت نفسي في المنام (أَعْصِرُ خَمْراً) يعني يعصر عنبا وقد سمّاه خمرا لأنه يؤول إلى خمر بعد تعليله بطريقة خاصة ، وهذه التسمية معتادة في لسان العرب فقد حكى الأصمعيّ أنه لقي أعرابيّا معه عنب فقال له : ما معك؟ قال : خمر (وَقالَ الْآخَرُ) أي الفتى الثاني (إِنِّي أَرانِي) رأيت نفسي في المنام (أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) يعني كأنّ فوق رأسه طبقا فيه خبز تأكل منه الطيور. ثم قالا له : (نَبِّئْنا) أخبرنا (بِتَأْوِيلِهِ) أي عبّر لنا عما قصصناه عليك ، وبيّن لنا التأويل يعني ما يؤول ويرجع إليه المعنى كما أن التعليم هو

٣٧

تفهيم الدلالة المؤدية إلى العلم (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) قالا له ذلك لأنه كان جميل المعاملة مع المساجين حسن المعاشرة لهم فإنه إذا ضاق بأحدهم المكان وسّع عليه ، وإذا احتاج الى شيء يقرضه ، وإذا مرض قام على العناية به ، وهو يعين المظلوم وينصر الضعيف ويواسي جميع البؤساء والمتعبين. فيوسف عليه‌السلام ، وإن كان سجينا ، كان مبسوط اليد موسّعا وكان حبسه سياسيّا وقد أحبّه كلّ من رآه. فعن الإمام الرضا عليه‌السلام : قال السجّان ليوسف : إنّي لأحبّك. فقال يوسف : ما أصابني ما أصابني إلّا من الحب!. إن كانت خالتي أحبّتني سرّقتني ، وإن كان أبي أحبّني حسدني إخوتي ، وإن كانت امرأة العزيز أحبّتني حبستني. وفي رواية : ذكر عمّته مكان خالته. وبيان ذلك أن خالة يوسف ـ أو عمّته أحبّته حبّا شديدا بحيث كان أملها الوحيد أن يبقى يوسف عندها دائما ، ثم احتالت بحيلة لإبقائه معها في قصة حزام كانت تحتفظ به من إبراهيم عليه‌السلام ـ وقيل من إسحاق (ع) ـ يتوارثه الأنبياء والأكابر ، فشدّته على وسط يوسف عند استغراقه في النوم ، ثم اتّهمته بسرقته بعد أن استيقظ. وكان من شريعة يعقوب عليه‌السلام أن المسروق له يأخذ السارق ويستخدمه مدة سنة كاملة. وبهذه الحيلة أخذت يوسف من عند أبيه يعقوب عليهما‌السلام وكانت تؤنسه وتستأنس به أثناء المدة المحدّدة للسارق.

هذا ، وقيل إنّ زليخا بعثت إلى السجّان أن يحبسه في مكان شديد الظّلمة وأن يضيّق عليه في المأكل والمشرب ، فلم يرتّب السجّان أثرا على قولها.

ولمّا كان في تعبير الرؤيا أن واحدا من الفتيين سيهلك لا محالة ، فإن يوسف (ع) لم يسرع في تفسير ما رأياه في المنام ، بل شرع في إرشادهما إلى توحيد الله عزوجل ووجود صانع لهذا الكون العظيم ، لينزع من عقيدتهما فكرة الشريك له سبحانه من الأصنام التي كانوا يعبدونها ، ليموت من يموت منهما على دين الحق ويمضي على الطريق المستقيم. ومهّد لحديثه هذا معهما بما يشهد على صدق دعوته ، وبما هو معجزة مدهشة تدلّ على صحة جميع ما

٣٨

يقوله فقال إنه يستطيع أن يخبرهما عن أمر غيبيّ كما هو شأن الأنبياء والرّسل في دعواتهم للناس من أجل اتّباع الحق وترك الكفر ، ولذا أعرض عن التعبير فترد استثمرها في دعوتهما إلى التوحيد ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بيّنة فقال لهما :

٣٧ ـ (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) ... أي قال لرفيقي السجن : لا يجيئكما طعام يقرّر لكما إلّا أخبرتكما عن نوعه ولونه وكم هو وكيف هو فذكر لهما معجزة ليست بالأمر العاديّ تجري مجرى معجزة عيسى عليه‌السلام حين قال : وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون ـ أي تخبّئون ـ في بيوتكم ـ كل ذلك من أجل تهيئة ذهنيهما لتقبّل دعوته إلى الله عزوجل. فقد أكّد لهما أنه يخبرهما عن صفات كل طعام يأتيهما بقوله : أفعل ذلك (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) أي قبل رؤيته ووصوله إليكما. ثم فاجأهما قائلا : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي أن هذه الموهبة على الإخبار بالغيب هي من الإلهام والوحي الذي منحني إيّاه خالقي العظيم ، وليس هو من طرق الكهانة والتّنجيم ، ولذلك (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي تخلّيت عن مذهب الكافرين الذين لا يصدّقون بوجود الله (وَ) الذين (هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي عبدة الأصنام والأوثان. وقد كرّر الضمير : هم ، للدلالة على اختصاصهم ولتأكيد كفرهم بالآخرة. فقد عرّفهما أولا أنه عليه‌السلام ليس على دين الكفرة فقد كانا لا يعلمان ذلك عنه إذ لم يعلنه ولم يظهر إيمانه خوفا من المساجين وتقية من الكافرين وهو بين ظهرانيهم يعتبرونه مملوكا لهم قد شروه بالدراهم كما يتوهمون في ظاهر الحال مع أنه من أهل بيت النبوّة والوحي وحاشاه أن يكون عبدا مملوكا. ولعل قوله هذا كان أول تصريح منه بظهور نبوّته وبدء لمعان نجمه ، عرّفهم فيه بنفسه إذ متى عرفوه عظّموه ووقّروه وسمعوا كلامه وقبلوا بيانه وآمنوا بدعوته. ثم عقّب بقوله :

٣٨ ـ (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ... أي : لحقت وسرت مسار آبائي الذين هم أنبياء الله ورسله للناس ، وأنا على نهجهم

٣٩

القويم نعبد الله وحده و (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ) فنعبد معه غيره من الأصنام ولا (مِنْ شَيْءٍ) مخلوق مفتقر إلى غيره كالأحجار والنار والكواكب والطبيعة. وبذلك أعلن عن نفسه وعن عقيدته ورد على عقائد جميع المشركين وأشار ب ـ (ذلِكَ) أي ما أشرت إليه من التوحيد والتوفيق لنا معاشر الأنبياء و (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) ونعمه التي أنعمها علينا (وَعَلَى النَّاسِ) أي المؤمنين بعدم الشرك (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) من الكافرين بنعم ربهم والمشركين معه غيره (لا يَشْكُرُونَ) ربهم أي لا يحمدونه ولا يعترفون بفضله ونعمته.

* * *

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

٣٩ ـ (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ) ... نبّه يوسف (ع) صاحبيه بهذا النداء ليستقطب كامل وعيهما قائلا : (أَأَرْبابٌ) أي آلهة (مُتَفَرِّقُونَ) مختلفون كثيرون ، هم (خَيْرٌ) أصلح للعبادة مع افتقارهم

٤٠