الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

الجواب إذ لا جواب ف (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي أجاب الأنبياء أو الأوصياء والعلماء الذين كانوا يدعون البشر إلى الدّين والحق ، قالوا : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي قد باءوا بغضب الله وطردوا من رحمته وأصبحوا محلّ لعنته ولعنة عباده الصالحين.

٢٨ ـ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ... هم الكافرون المذكورون في الآية الكريمة السابقة ، تتوفّاهم : تتلقّاهم ملائكة العذاب (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بأن عرّضوها للعذاب والخلد فيه بكفرهم ، ولفظة (ظالِمِي) منصوبة على الحالية بالياء لأنها جمع مذكّر سالم وقد حذفت النون للإضافية (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي استسلموا عند الموت بخلاف عادتهم التي كانوا عليها في الدنيا من العناد والعنف والكبرياء ، وقالوا : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي اعتذروا كما يعتذر الأطفال الضعفاء بغير المعقول ، لأنهم جحدوا ما كانوا عليه من الشّرك والكفر وأنكروا عصيانهم في الدنيا ، فأجابهم الملائكة ـ وهم ذوو علم بحالهم : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بلى كنتم تعملون السوء ، ومسجّل عليكم ما عملتموه ، وهو تعالى يجازيكم على أعمالكم طبق علمه بكم ،

٢٩ ـ (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) ... أي ادخلوا من أبوابها وأوغلوا في طبقاتها ودركاتها وبحسب منازلكم فيها. وقد ذكر الأبواب لأن كل باب معدّ لصنف من المجرمين ، فلجوها (خالِدِينَ) مؤبّدين فيها (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي : لساء مقام المتكبّرين عن التوحيد والعبوديّة ، وبؤس في ذلك اليوم مثواهم.

* * *

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ

٢٢١

الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))

٣٠ ـ (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) ... أي : ثم يسأل الذين تجنّبوا الشّرك. وقد استعمل صيغة الماضي بدلا عن المضارع الذي يستعمل للاستقبال ، لأن الأمر كائن لا محالة وأصبح كأنه مفروغ منه فاستعمل فيه الماضي ، وهذا كثير في القرآن الكريم : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا الْحَقَ) فأطبقوا الجواب على السؤال معترفين بالإنزال بخلاف الجاحدين الذين قالوا : أساطير الأوّلين ، وما كان القرآن من الإنزال في شيء ، فإنّ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا) عقيدة وعملا (حَسَنَةٌ) إحسان إليهم من الله سبحانه وتعالى (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) المعدّة لهم في الجنّة (خَيْرٌ) مما هم فيه في دار الدنيا (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) دارهم في الآخرة ، لأنها :

٣١ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) ... جزاء عملهم الصالح ، وقصورها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تسير بين حدائقها الغناء ، وليس هذا فقط ، بل (لَهُمْ) للمتّقين في الجنّة (ما يَشاؤُنَ) كلّ ما يريدون ويتمنّون ويرغبون (كَذلِكَ) كمثل هذا الثواب الجزيل (يَجْزِي) يثيب الله تعالى (الْمُتَّقِينَ) العاملين بأوامره ونواهيه. وهؤلاء يكونون بعكس الكفرة المنكرين الذين توفّتهم الملائكة ظالمي أنفسهم وانتزعت أرواحهم انتزاعا ووبّختهم. وهؤلاء هم :

٣٢ ـ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) ... طيّبين : حال من الضمير «هم» فهم المتوفّون طاهري النفوس من دنس الشّرك ، أنقياء القلوب من شوائب الظلم والعصيان في مقابل (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) والملائكة يقولون لهم

٢٢٢

عند توفّيهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحية لكم من عند الله تعالى ، أو من أنفسهم لأنهم يكونون ملائكة رحمة ، ثم يبشّرونهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بعد البعث والنشور ، ولكنها بشارة سابقة يتلقّونها عند موتهم.

* * *

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦))

٣٣ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا) ... أي هل ينتظر الذين لا يؤمنون بالآخرة في آخر حياتهم (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) ملائكة العذاب لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) يعني قضاؤه عليهم بالموت ، أو عذابه الذين يخبرون

٢٢٣

به ، وقيل خروج القائم عجل الله تعالى فرجه (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عمل الأولون من المشركين ، فظلموا بذلك أنفسهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) وحاشاه أن يظلم أحدا.

٣٤ ـ (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) ... أي وقع عليهم سوء عملهم والشرّ المترتّب عليه (وَحاقَ بِهِمْ) أحاط بهم جزاء (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب الذي سخروا من وقوعه يوم وعدهم به رسولنا الكريم.

٣٥ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ... أي هؤلاء الذين مرّت صفة حالهم ومآلهم في الآية السابقة ، قالوا (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ ، مِنْ شَيْءٍ) أي : لو أراد إرادة الجاه ، فنسبوا قبائح أعمالهم إليه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، لأنهم كأنهم جبريّة أو أشعريّة ، فلو أراد الله ما عبدنا غيره ، نحن (وَلا آباؤُنا) من قبلنا (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) بل نحرّم ما حرّم (كَذلِكَ) مثل فعلهم هذا (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من المشركين (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ) من واجب (إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الاعلام الواضح الذي يكشف عن الحق؟ ليس عليه سوى ذلك ، وكان عليهم أن يختاروا لأنفسهم.

٣٦ ـ (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) ... أي أرسلنا لكل جماعة من الناس نبيّا يرشدهم قائلا لهم (اعْبُدُوا اللهَ) وحده دون غيره (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) مرّ تفسيره (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) لأنهم أهل للهداية إذ استمعوا كلامه وصدّقوا رسله (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) اعتبروا ضالّين حقّا لتكذيبهم رسل ربّهم فنزل بهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة ، وإن لم تصدّقوا (فَسِيرُوا) امشوا (فِي الْأَرْضِ) فيما حولكم (فَانْظُرُوا) بأعينكم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) للرّسل إذ دمّرناهم ، وآثار تدميرهم باقية.

* * *

٢٢٤

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

٣٧ ـ (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) ... أي : إن كنت مهتماّ بهم ، فلا تتعب نفسك يا محمّد في سبيل إرشادهم وهدايتهم (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) فحرصك وشدة اهتمامك لا يقتدان لأن الله لا يمنح الهداية لمن ليس من شأنه أن يهدى (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مساعدين ينصرونهم عليك أو ينصرونهم حين الوقوع في عذابنا ، فإن خذلانهم وحرمانهم من مشيئة الله بالهدى كان لمصلحة اقتضت ذلك نحن نعلمها وبموجبها أبقوا على ضلالهم.

٣٨ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) ... هذه الآية الكريمة عطف على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، إيذانا بأنهم أنكروا التوحيد والبعث. ومعناها أنهم حلفوا وبالغوا في الأيمان واجتهدوا فيها حالفين أنه (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) لا يعيد الله الأجسام بعد فنائها إلى حياة ثانية. وشأن نزول هذه الآية على ما في التبيان عن أبي العالية : أنه كان لمسلم على كافر دين فطالبه ، وفي أثناء المكالمة حلف : بالله الذي يبعثني بعد موتي. فسأله الكافر : هل ترجو الحياة بعد موتك؟ فقال : نعم. فحلف الكافر أيمانا

٢٢٥

مغلظة شديدة باللّات والعزّى ، وبدينه ومذهبه بأن الله لا يبعث من يموت ، فنزلت الآية ، وأجيب (بَلى) يبعث الله الأموات ، وقد وعد بذلك (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) لا باطل فيه ولا خلف لأنه ثابت. وهو قسم أورده سبحانه مماشاة للخصم حتّى يقبل ، ويكون النّقاش بطريقته (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) مرّ تفسيره.

٣٩ ـ (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ... الظرف متعلّق بمحذوف ، أي : يبعثهم ليظهر لهم ما يختلفون فيه من أمر البعث والحشر (وَلِيَعْلَمَ) يعرف معرفة يقينيّة (الَّذِينَ كَفَرُوا) وأنكروا ذلك ، ليعرفوا (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) في أيمانهم وفي عقيدتهم وعملهم.

٤٠ ـ (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) ... أورد سبحانه هذا القول للتقريب إلى الأذهان إذ أنه تعالى لا يحتاج إلى لفظ (كُنْ) حتى يكون ما يريد ، فلو أراد شيئا لكان لمجرّد إرادته ، والبعث والنشور لا يتوقّفان إلّا على أمره الذي إذا شاءه يريده (فَيَكُونُ) يصير حسب إرادته عزّ وعلا حالا.

* * *

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤))

٢٢٦

٤١ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) ... أي الذين فارقوا أوطانهم وديارهم وأهليهم فرارا بدينهم واتّباعا لنبيّهم (فِي اللهِ) في سبيله وابتغاء مرضاته ، هاربين إلى حيث يأمنوا على أنفسهم ودينهم (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) بعد أن ظلمهم المشركون في مكة وعذّبوهم وبخسوهم حقّهم لإيمانهم بالله وكفرهم بالأصنام ، فهؤلاء (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي لنسكننّهم فيها مساكن يعيشون فيها عيشة حسنة ، ولنبدلنّهم بأوطانهم أوطانا حسنة ، قيل هي مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنها حسنة مباركة (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) الثواب والجنّة (أَكْبَرُ) أوسع وأجمل (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو عرفها هؤلاء المهاجرون لرأوا ما أعدّ الله لهم في الجنّة فازداد سرورهم وحرصهم على التمسّك بالدّين وقيل إن المباءة هي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، والله أعلم بالمراد.

٤٢ ـ (الَّذِينَ صَبَرُوا) ... خبر لمبتدأ محذوف تقديره (المهاجرون ، الذين إلخ) .. أي صبروا على مفارقة الأوطان وأذى الكفّار وهم يفوّضون أمرهم إلى ربّهم. ونقل أن قريش كانوا يقولون : إن الله تعالى إذا أراد أن يبعث لنا رسولا فهو أجلّ من أن يرسل من البشر ، بل ينبغي أن يكون الرسول من الملائكة يدعوننا إليه ، فردّهم الله تعالى بقوله :

٤٣ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) ... أي جرت سنّتنا وعادتنا على أن نرسل من جنس البشر لا من الملائكة : وإن اعتبرتموه أمرا غريبا بحيث لا تقبلونه (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) والمراد به ـ والله أعلم ـ أحبار اليهود والنّصارى ورهبانهم الذين كانت قريش تعتقد بأقوالهم وتقبلها وتصدّقها إذا كانت من كتبهم وفي أهل الذّكر أقوال أخر لعلّها تذكر في محلها إن شاء الله تعالى وكأنّ قائلا يقول بم أرسلوا؟ فقال تعالى :

٤٤ ـ (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) ... متعلّق بأرسلنا ، أي أرسلناهم بالبراهين والمعجزات والكتب (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) أي القرآن فيه تبيان كلّ شيء

٢٢٧

(لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) من الأحكام والدّلائل والشّرائع (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي يتأمّلون فيه فيتنبّهوا إلى التوحيد والحقائق والمعارف الحقة الإلهية.

* * *

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

٤٥ ـ (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا) ... اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الإنكار. ومعناه أيّ شيء أمن هؤلاء القوم الّذين دبّروا التدابير السّيئة في توهين أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإطفاء نور الدّين وإيذاء المؤمنين من (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسف بقارون (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي بغتة كما فعل بقوم لوط.

٤٦ ـ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ) ... (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي يحل بهم العذاب في ذهابهم ومجيئهم للتجارة (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي فليسوا بفائتين.

٢٢٨

٤٧ ـ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) ... أي حال كونهم خائفين مترقّبين ومتوقّعين العذاب (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث أمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا ويرجعوا عمّا هم عليه والحاصل أن الله تعالى حذّر قريشا في كتابه الكريم بما ذكر من الأمور الأربعة التي فعلها بالظّلمة وقد قال السجاد عليه‌السلام : والله لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم فان السعيد من وعظ بغيره.

٤٨ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) : أي أولم ينظروا إلى أشياء خلقها الله لها ظلال من شجر وجبل وبناء ونحوها من الأجسام (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) يتمايل ظلّه والفيء الذي يترامى منه (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) من موضع إلى موضع على حسب حركة ذي الظل أو الشمس (سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) أي مستسلمين له منقادين مسخّرين ، صاغرين أذلّاء وبعبارة أخرى سجود الظل دورانه وإطاعته لذي الظل من جانب إلى جانب ، وإفراد بعض الألفاظ وجمع بعضها باعتبار اللفظ والمعنى ، فإن قيل إن الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنّون؟ فيقال : لمّا وصفهم بالانقياد والطاعة أشبهوا العقلاء. والسّجود على قسمين : الأول على نحو الحقيقة المتعارفة كسجود الملائكة والأوادم. والثاني : بمعنى الطاعة والانقياد والتواضع ، وكلّ شيء غيرهما على حسب اللائق به. وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : إن لله تعالى ملائكة في السّماء السابعة سجودا منذ خلقهم الله إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافة الله ، لا تقطر من دموعهم قطرة إلا صارت ملكا. فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حقّ عبادتك. وقال الزاهد في تفسيره معنى الآية الشريفة هو أن الكفرة إذا لم يسجدوا لله تعالى باختيارهم فظلالهم تسجد له تعالى بالطّبع :

٤٩ ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ) ... أي ينقاد ويخضع لأمره وإرادته تعالى سواء كان الانقياد إرادّيّا حتى يكون التأثير بالطّبع أو تكليفيّا حتى

٢٢٩

يكون بالطّوع فيكون نسبته إلى عامّة أهل السّماوات و (الْأَرْضِ) صحيحا (مِنْ دابَّةٍ) بيان للموصولين حيث إنّ الدّبّ عبارة عن الحركة الجسمانيّة سواء كانت في الأرض أم في السّماء ، على أن في السّماء خلقا يدبّون (وَالْمَلائِكَةُ) إمّا عطف الخاصّ على العامّ أو بيان لما في السّماء بناء على كون الدابّة بيانا لما في الأرض خاصّة وهم (لا يَسْتَكْبِرُونَ) يتواضعون له.

٥٠ ـ (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) : أي عذاب ربّهم أن يجيء وينزل عليهم من فوق رؤوسهم بغتة (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) من العبادة والذّكر ، وتدابير الأمور ، وإنزال العذاب ، وإمطار المطر وغير ذلك.

* * *

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ

٢٣٠

أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))

٥١ ـ (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) : هذا تأكيد يؤذن بمنافاة الاثنينيّة للإلهية (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أيضا أكّد تنبيها على لزوم الوحدة الإلهيّة ، فإنك لو قلت إنما هو إله لخيّل أنك اثبتّ الإلهيّة دون الواحديّة. روي عن بعض الحكماء أنه قال : نهاك ربّك أن تتّخذ إلهين فأنت اتخذت إلهة عبدت نفسك وهواك ودنياك وطبعك ومرادك والخلق فأنّى تكون موحّدا؟ (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فخافوني دون غيري.

٥٢ ـ (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) : الدّين اسم لجميع ما يعبد به الله تعالى ، وجاء بمعنى الطاعة والسيرة والمذهب وغيرها مما ذكر في محلّه من المعاني. والمناسب في المقام هي المعاني المذكورة جمعا أو أفرادا وهو أعلم بما أراد. ومعنى الكريمة انحصر الدّين لله ، كما أن الألوهيّة الملازمة للوحدانيّة منحصرة به تعالى حال كونه واجبا كما عن الصادق عليه‌السلام : إذ فسّر (الواصب) وقال : واجبا. وقيل : بمعنى الواصب الدائم ، وقيل واصبا : أي خالصا (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) أي أتخشون غيره تعالى مع أن غيره لا يضرّ ولا ينفع والخشية منحصرة به لأن أزمّة الأمور بيد قدرته وهو على كل شيء قدير كما أشار إليه بقوله عزوجل.

٥٣ ـ (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) ... النّعم كالصّحة والعافية والسّعة ودفع المضارّ ورفع الآلام كلّها منه تعالى وهو وليّ نعمكم (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي متى لحقكم ضرّ وبلاء وسوء حال تتضرّعون إليه سبحانه بالدّعاء وترفعون أصواتكم للاستغاثة والاستعانة به تعالى ، من (جأر) الثور إذا رفع صوته من جوع وغيره.

٥٤ ـ (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) ... أي بعد أن يكشف السوء الذي

٢٣١

يحيق بكم استجابة لدعائكم وتضرّعكم إليه (إِذا فَرِيقٌ) جماعة كثيرة (مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) به ويعزون كشف الضرّ لغيره سبحانه ، كحسن تدبيرهم ومساعدة الغير لهم ، وينسون أن الله سبحانه هو مدبر الأمور الكاشف الضرّ الذي يستجيب لمن دعاه.

٥٥ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) ... أي كأنهم قصدوا بشركهم كفران نعمة كشف الضرّ وإنكار كونها منه تعالى جحدا أو جهلا (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أمر تهديد ووعيد ..

٥٦ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) ... أي لأصنامهم التي لا علم لها ولا شعور لأنها جماد صرف (نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الزرع والأنعام ، فإن العرب يجعلون للأصنام قسمة في زرعهم وإبلهم وأغنامهم ، فهدّدهم الله وردعهم عن عملهم بقوله تعالى (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي عن أنها آلهة وأهل لأن يتقرّب إليها ، وقد أقسم سبحانه على ذلك.

٥٧ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) ... فقريش قالت : إن الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) يمكن أن يكون هذه الكلمة في مورد التعجب أو هي تنزيه له تعالى عمّا قالوه (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي البنين وما يريدون ويحبّون.

٥٨ ـ (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) ... أي إذا أخبر بالأنثى صارت صورته متغيّرة إلى السواد من الحزن ومن الحياء من الناس (وَهُوَ كَظِيمٌ) ممتلئ غيظا وحنقا من أنه رزق بنتا ويمقت زوجته.

٥٩ ـ (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) ... أي يختفي من قومه وأهل بلده مخافة العار مفكّرا ماذا يصنع به (يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) أي يتركه على ذلّ وهوان (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي يخفيه بدفنه في التراب كما كان ديدن بني تميم وبنى مضر على ذلك (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس حكمهم هذا جعل أولاد لربّهم المتنزّه عن الأولاد. وقيل معناه ساء ما يحكمونه من قتل البنات وعدم مساواتهن للبنين ولعل الجارية خير من الغلام. وروي عن ابن عباس : لو

٢٣٢

أطاع إله الناس الناس لما كان الناس ، لأنه ليس أحد إلّا ويحبّ أن يولد له ذكر ، ولو كان الجميع ذكورا لما كان لهم أولاد فيفنى الناس والحاصل أن الرجل في الجاهلية كان إذا ظهرت آثار الطّلق على امرأته اختفى من القوم إلى أن يعلم ما يولد له ، فإن كان ذكرا انبسط وارتاح قلبه فأشرق وجهه وتلألأ واستنار وظهر الفرح في بشرته من تلك البشارة ، وإن كان أنثى احتبس طبعه فأغبرّ واسودّ وجهه وبشرته وكمد. وروي أن قيس بن عاصم قال : يا رسول الله إني واريت ثماني بنات في الجاهلية. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعتق عن كل واحدة منهن رقبة ، وقال عليه‌السلام : ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام ، وما في الإسلام يهدمه الاستغفار وكانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها حيّة إلى أن تموت تحت التراب ، ومنهم من يرميها من شاهق ، ومنهم من يغرقها ، ومنهم من يذبحها .. فبئس الحكم حكمهم! ..

٦٠ ـ (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) ... أي الصفة القبيحة كسواد الوجه حين بشّر بالأنثى ، والحزن والجهل ، وقتل البنات خشية الإملاق ، والذل والاحتياج والفقر (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) وهي الصّفة الحسنة من وجوب وجوده الذاتي ، والغنى المطلق ، والجود العام ، وتقدّسه عن الصّاحبة والأولاد ، وغيرها من صفات المخلوق التي هي نقص إذا نسبت إليه تعالى. ولو قيل كيف الجمع بين قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ، وقوله (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ)؟ فالجواب : أن المراد بالأمثال الأشباه ، أي لا تشبّهوا الله بشيء. والمراد بالمثل الأعلى الوصف الأعلى ، فلا تناقض بينهما كما هو ظاهر (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على إهلاك الكفرة والظّلمة (الْحَكِيمُ) الحاكم بإهلاكهم بعد الحكم بإمهالهم إلى يوم معلوم وبحسب حكمته جلّ وعلا.

* * *

٢٣٣

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))

٦١ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) ... أي بكفرهم ومعاصيهم وتجاوزهم عن طريق الحق إلى الباطل فلو آخذهم بها (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على وجه الأرض بقرينة النّاس (مِنْ دَابَّةٍ) لأن البليّة إذا جاءت عمّت كما في قضية نوح عليه‌السلام وذلك بشؤم العصاة والطّغاة. ونقل عن ابن مسعود أنه قال : الجهل يهلك بذنب ابن آدم. وعن آخر : الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظّالم. والحاصل أن عذاب العصاة للعقوبة ، والعبرة ، وأما غير البشر من الدّواب فقد خلقها سبحانه لأجلهم فإذا أهلكوا عن آخرهم فلا ثمرة ولا فائدة في إبقائها فهي أيضا تهلك. وهذا جواب للإشكال المتوجّه في المقام كما لا يخفي.

٦٢ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) ... أي ما لا يحبّون لأنفسهم من البنات والشركاء في الرئاسة ورديء المال والاستخفاف بالرّسل (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ومع ذلك تقول ألسنتهم الكاذبة (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي عن الله لهم المثوبة أو الجنّة. أو المرتبة السامية (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) هذا ردّ

٢٣٤

لما كانوا يعتقدونه بزعمهم الفاسد وإثبات لضدّه (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي مقدّمون إلى النار ، وقيل : معذّبون.

٦٣ ـ (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) : أي فأصرّوا على قبائح أعمالهم وكفروا بالمرسلين (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ) أي الشيطان ناصرهم ولا ناصر لهم غيره في الدنيا ومصاحبتهم في الآخرة.

٦٤ ـ (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا) ... خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أننا ما أنزلنا عليك القرآن وما فيه من بيان الأوامر والنواهي (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ) لتوضح للكافرين والمشركين كلّ (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) وتجعلهم على بيّنة من الأوامر. فهو لهذه الغاية (و) هو كذلك (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) مرّ تفسير مثله مكرّرا.

* * *

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

٢٣٥

٦٥ ـ (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ... هو سبحانه منزل المطر من السماء على الكيفية التي سبق بيانها في ما مضى من تفسير أمثال هذه الآية الكريمة (فَأَحْيا بِهِ) بالماء (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بعد جفافها وموت ما فيها من نباتات وقد أقيم المضاف مكان المضاف إليه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) حجة ودليلا (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لمن يسمع ويعي ويعرف معنى المثل ، فمن فعل ذلك قادر على إحياء الموتى وبعثهم للحساب.

٦٦ ـ (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) ... أي هي معبر يعبر بها من الجهل إلى العلم واشتقاقها من العبور لأن الإنسان ينتقل بها من أمر إلى أمر (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) تذكير الضمير هنا باعتبار اللفظ (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً مِنْ) بيانية متعلقة بقوله تعالى : (نُسْقِيكُمْ) الذي هو تفعيل للعبرة. والفرث عبارة عن ثفل ما يؤكل ويعبّر عنه بالمدفوع بعد خروجه ويقال له الرّوث من ذوي الحافر. والمراد باللّبن الخالص خلوصه من لون الدم ورائحة الرّوث مع اتّصاله واقترانه بهما لأنه بينهما على ما عنى ابن عباس ، قال : إذا استقر العلف في الكرش (وهو بمنزلة المعدة في الإنسان) صار أسفله فرثا ، وأعلاه دما ، وأوسطه لبنا ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويدفع مجراه. ويتمّ ذلك وهو تعالى جعل لحم الضّرع أبيض وجعل فيه غددا بيضاء فاذا وردت المواد اللبنية إليه فبالمجاورة تصير بيضاء خالصة لا يشوبه الدم ولا الفرث. وفي تكوّن اللبن مع هذا الصفاء واللطافة في جوف الحيوان وضرعه آية لائحة وعلامة واضحة على غاية حكمته وكمال قدرته وقد جعله الله تعالى (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) قال صاحب كتاب قوت القلوب : إن تمام النعمة وكمالها في اللبن بخلوصه من وصفي الفرث والدمّ وإلّا لما كان تامّا حيث إن الطّباع لم تقبله. وكذلك عمل العبد مع مولاه لا بدّ أن يكون خالصا من شوب فرث الرّياء ودم الهوى وإلّا كان من الخلوص بعيدا ومن نظر القبول مردودا ، فإن الرياء في

٢٣٦

العمل شرك خفيّ ، وصفاء العمل وضياؤه بسبب خلطه وشوبه بالهوى منتف.

٦٧ ـ (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) ... متعلق بفعل محذوف ، أي نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب الذي (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) وفي الكلام (ما) موصولة مضمرة تقديره : (ما تتخذون منه سكرا) كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ) (ـ ما ـ) (ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً) على ما قيل. وفي تفسير السّكر وجوه : الأول : أنه الخمر من سكر يسكر سكرا وسكرا نحو رشدا ورشدا وقال أبو عبيدة : إن المراد به هو الخلّ على لغة الحبشة ، وقيل إن المراد به ما يشرب من أنواع الأشربة مما يحلّ ، والرّزق الحسن مما يؤكل (وَرِزْقاً حَسَناً) قال ابن عباس السّكر ما حرّم من ثمرها والرزق الحسن ما أحلّ من ثمرها. وفي الكريمة إشارة على تحريمها حيث ميّز بينهما ، أي بين السّكر والرّزق بتوصيفه الرزق بالحسن دونه فيفهم من عدم حسنه أنه قبيح. فإذا بدلالة اقتضاء المقام هو حرام. والرزق الحسن هو التمر والزبيب والخل والدّبس.

٦٨ ـ (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ... قال أبو عبيدة : الوحي في كلام العرب على وجوه : منها وحي النبوّة كما في قوله تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) ومنها الإلهام كما في قوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ، (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) والإشارة كما في قوله : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا) معناه أشار إليهم ، إلى غير ذلك مما قيل في معناه. وأصل الوحي عند العرب أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالاستتارة والإخفاء. ومعنى قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي قذف وألقى في قلبه ، أو المراد منه وحي التعليم أي علّمها على وجه لا سبيل لأحد الوقوف عليه (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) أي قذف في قلوبها أو علّمها أن تأوي إلى الجبال لاتّخاذ البيوت والأوكار فيها وفي الأشجار وفي (مِمَّا يَعْرِشُونَ) أي يرفعون من السّقوف وما يصنع لوضع الكرم عليها في البساتين والبعضيّة لأنها لا تبنى بكل جبل وشجر وما يعرش ، بل فيما يوافقها من حيث طيب

٢٣٧

الهواء وكثرة المياه والأزهار المعطّرة للتعليل ، وتسمية أبنيتها (بُيُوتاً) لشبهها ببناء الإنسان حيث إن خلّيتها متضمّنة لحسن الأوصاف ولإعمال كيفيّات دقيقة لطيفة بحيث لا يقدر على الإتيان بمثلها حذّاق المهندسين إلا بآيات دقيقة كالمسطرة والفرجار. وقد ثبت في الهندسة أن تلك البيوت التي تحتوي تلك الأضلاع المتساوية التي لا يزيد بعضها على بعض بمقدار رأس إبرة لو كانت مشكّلة بأشكال سوى المسدسات فانه كان يبقى بالضّرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة. فاهتداء هذا الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية التي تحيّر العقول ليس إلا بإلهام القادر الحكيم والصّانع العليم. ثم إن خليّة النحل تكون فيها واحدة لها رئاسة وسلطة على البقية ولها جثة وهي عظيمة نافذة الحكم على الجميع وهم يخدمونها ويحملونها عند الطيران بكيفيّة فيشكّلون لها عرشا من أنفسهم وذلك من الأعاجيب ، وتسمّى (الملكة) بل أعجب منه أنها قد تنفر من وكرها فيتبعها جميع من فيه إلى موضع آخر ، فإذا أرادت العودة إلى المكان الأول يتغنّون بالألحان المطربة ومع تلك التشريفات يقدرون على العودة وللملكة بوّاب وشرطة لتنفيذ حكمها وأوامرها على ما هو المعروف والمشهور.

٦٩ ـ (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ... أي ألهمناها الأكل من جميع الثمرات الطيّبة وأزهارها وأنوارها بل ومن حلوها ومرّها كما هو مقتضى عموم اللفظ. وليس كلّ مرّ غير طيّب إن أنواعا من الفواكه أولها مرّ وبعد يصير حلوا. وقيل إن المراد بالثمرات أزهارها والتخصيص لا وجه له ولبعض أكابر أهل التفسير بيان دقيق لا بأس بالإشارة إليه قال رحمه‌الله : اعلم أن الله تعالى دبّر هذا العالم على وجه لطيف كلّه ، فمثلا يحدث في الهواء أحيانا ظلّ لطيف في اللّيالي ويقع ذلك الطلّ على أوراق الأشجار وأزهارها ، وتكون تلك الأجزاء الطلّية صغيرة متفرقة على الأزهار والأوراق بحيث لا ترى وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة كالتّرنجبين والمنّ. والقسم الأول من الطلّ هو الذي ألهم الله هذا النحل

٢٣٨

أن يلتقط منه الذرّات غير المرئيّة في الأزهار بأفواهه فيأكلها ويتغذّى بها ، فإذا شبع التقط مرّة أخرى من تلك الأجزاء وذهب بها إلى بيته ووضعها هناك مدّخرة لنفسه غذاء فإذا اجتمعت الأجزاء المدّخرة فذاك هو العسل. (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي الطّرق الّتي ألهمك الله في صنع العسل وعمله (ذُلُلاً) اي حال كون السّبل مذلّله بأمره تعالى أو حال عن فاعل (فَاسْلُكِي) أي حال كونك منقادة ومقهورة لأمر ربّك هذا ، ولكن الظاهر هو الأوّل كما لا يخفى (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) هذا الكلام رجوع من الخطاب إلى الغيبة للالتفات ، لأن الغرض من هذا البيان أن يحتج المكلّف به على قدرة الله وحسن تدبيره فكأنّه عدل عن خطاب النحل بما سبق ذكره وخاطب الإنسان ، فيا أيها الإنسان اعلم بأننا ألهمنا النحل بذلك الترتيب لأن يخرج من بطونها شراب (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) والمراد بالبطون هو أفواهها لا بمعنى أن الشراب يتكوّن في أفواهها ويخرج عنها كما قيل بل بمعنى أنه بعد تكوّنه في بطونها من الموادّ المأكولة يخرج بكيفيّة اللّعاب من أفواهها لا من المخرج المعتاد المتعارف كما هو المتبادر إلى الذهن ، بل قيل به. والمراد بالشراب هو العسل والتعبير به إما لكونه من المشروبات بالطّبع كالرّوبة والحليب السخين الذين يخرج من الثّدي في أوائل الولادة ، أو لأنه نوعا يخلط مع المائعات ويشرب معها وقيل في وجه اختلاف ألوانه أن النحل بعضها حديث السن فالعسل منه أبيض ، وبعضها كبير السنّ فعسله أحمر ، ونادرا أخضر وأسود ، والبعض الآخر عمره متوسّط فالمخرج منه أصفر وقيل اختلاف الألوان بحسب الفصول وقيل بحسب الأزهار والثمر (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن يكن في شيء شفاء ففي شرطة الحجّام وفي شربة عسل. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : لعق العسل شفاء من كلّ داء ، ثم تلا هذه الآية وقال هو مع قراءة القرآن ومضغ اللسان يذيب البلغم. وفي العيون عنه عليه‌السلام : ثلاثة يزدن في الحفظ ويذهبن بالبلغم، وذكر هذه الثلاثة وهو دواء مجرّب ناجح لكثير من الأدواء ، ويفسده شرب الماء عليه. وقد أثبت الطبّ الحديث أن العسل

٢٣٩

يحوي مقدارا كبيرا من الجلوكوز ، الذي أصبح سلاحا للطّبيب في كثير من الحالات ، فهو شفاء فعّال للضّعف العامّ ، ويستعمل كثيرا في علاج التسمّم بالزرنيخ أو الزنبق ، ويكاد يكون العلاج الوحيد للتسمّم البولي وأمراض الكبد والاضطرابات المعوية والالتهاب الرّئوي والذبحة الصّدرية والتسمم في الحميّات حيث ترتفع حرارة الجسم إلى ما فوق درجتها المعتادة كالتيفوئيد وغيرها ، وفي احتقان المخّ وضعف القلب والحصبة وغير ذلك من الأمراض الخبيثة المستعصبة ، فسبحان من أودع فيه كلّ هذه الخواص ونبّهنا للانتفاع بها بقوله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ). والعسل مع الأدوية الحارّة شفاء للبلغم وبالاختلاط معها أيضا ومع الحموضات يفيد للصّفراء ، ومع الأدهان نافع للسّوداء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي في أمر النحل وما يخرج منه دليل وحجة واضحة على وجود صانع حكيم قادر (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في اختصاص النحل بتلك العلوم الدّقيقة والصّنائع العجيبة ، فإن كل من تفكّر وتدبّر فيها وعرفها يعلم علما قطعيّا أن صدور هذه الأمور والأفعال من مثل هذا الحيوان الضعيف ليس إلّا بإلهام مقتدر حكيم أودعه فيه وجعل في شرابه شفاء ، وفي التفكّر بأحواله وتدابيره يكون شفاء المرض من الجهل الذي هو رأس كل مرض وعنه يتشعّب الجحد والكفر والزندقة كما لا يخفى. وفي الرواية : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنا يعسوب المؤمنين ، واليعسوب اسم لأمير النحل والزنابير المدبّر لأمرهم والجامع لشملهم والأمر فيهم بما فيه صلاحهم والناهي لهم عمّا فيه فسادهم. وقوله عليه‌السلام : أنا يعسوب ، إشارة إلى أن مثلي فيهم مثل أمير الزنابير فيما ذكر من أوصافه ، وكما أن النحل لا يأكل مع أميره إلّا من الطيّب ، ولا يقع إلّا على الطاهر ، ولا يخرج منه إلّا ما فيه شفاء للناس وعافية لهم ، لأنه في صيدلية الحكمة الإلهية صار متّصفا بتلك الصفة ، فهو عليه‌السلام مع شيعته متصف بتلك الأوصاف ومتّسم بهذه السّمة ، لا يأكلون إلا من الحلال ، ويجتنبون الخبائث ، ولا يجلسون إلا على ما طاب وطهر ، ولا يخرج من أفواههم إلا العلوم والمعارف والحكم الإلهيّة التي هي أحلى من العسل وفيها شفاء

٢٤٠