الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

٩٢ و ٩٣ ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) : هذا قسم منه سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليطمئنّ قلبه بأنه سيسأل المقتسمين ، أو جميع المكلّفين. وعن ابن مسعود أنه قال : ما من عمل عمل ابن آدم إلّا إنه تعالى يسأل عنه : يا ابن آدم ما غرّك عنّي؟ يا ابن آدم ماذا عملت؟ وماذا أجبت المرسلين؟ وعن الصادق عليه‌السلام أنه : ما من أحد يوم القيامة إلّا وقد سئل عن أمور : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله كيف اكتسبه وأين وضعه ، وعن ولايتنا أهل البيت.

٩٤ و ٩٥ ـ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ... أي اجهر بتبليغ الأوامر والنواهي وأشرع في الأمر متحملا صعوباته ومسئولياته. ففي الخبر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن بعث كان يدعو الناس إلى الله عزوجل في الخفاء حتى مضى عليه ثلاث سنوات ، فنزل جبرائيل عليه‌السلام بهذه الآية : أي ادع علنا (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) لا تبال بهم ولا تلتفت إليهم (إِنَّا كَفَيْناكَ) منعناك وحفظناك من (الْمُسْتَهْزِئِينَ) بإهلاكهم ، فقد كان خمسة نفر أو ستة من أشراف قريش يؤذونه فأهلك الله كلّ واحد منهم بآية كما سبق وذكرنا.

٩٦ ـ (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ... قد تكون (الَّذِينَ) عائدة للمستهزئين ، وقد تعني أن جميع المشركين الذين جعلوا مع الله إلها غيره وكفروا به سبحانه (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سيعرفون بطشه حين يذوقون عذابه الشديد. وهذا تهديد لهم ولجميع الكافرين.

* * *

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

٢٠١

٩٧ إلى ٩٩ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) : يؤكّد سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه يعرف ما يعانيه من تكذيب قومه ، وما يحسّ به من الضيق والحرج حين يطعنون بنبوّته وبالقرآن ، ويعلم كلّ ما يصيبه من أذاهم ، فيأمره أن يتسلّى بذلك وأن يمضي في دعوته قائلا له : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) نزّهه عن كل ما يليق به واحمده فإنك بعينه وفي رعايته (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) اسجد لعظمته وفوّض أمورك إليه (وَاعْبُدْ) ه وتبتّل إليه (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي ما دمت حيّا ، فاليقين هنا الموت ، فهو حقّ كائن لا محالة.

* * *

٢٠٢

سورة النحل

مكيّة إلا الآيات الثلاث الأخيرة وهي ١٢٨ آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢))

١ ـ (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ... في هذا الكلام الكريم أقوال :

أحدها : أن معناه : قرب أمر الله بعقاب المشركين ، فإنهم قالوا للنبيّ : ائتنا بعذاب الله ، فقال سبحانه : إن أمر الله آت قريب كأنه بحكم الواقع.

ثانيها : أن أمر سبحانه يعني أحكامه وفرائضه وجميع ما أتى رسوله.

وثالثها : أن أمره تعالى هو يوم القيامة ، وقد أتى : قرب مجيبه بمعنى أنه آت لقرب تحقّقه ووقوعه (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) سواء أكان العذاب أم يوم القيامة الموعود ، فإنه لا خير لكم في ذلك أيها المشركون ولا خلاص لكم من غضب الله ولا منجى من عذابه ، وسيقع في وقته وحينه وبحسب ما تقتضي الحكمة والصلاح.

٢ ـ (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) ... أي ينزّلهم بما يحيي القلوب

٢٠٣

الميتة بالجهل (مِنْ أَمْرِهِ) بإرادته وبما ينزل من الوحي والقرآن. وقيل إن المراد بالرّوح هو جبرائيل عليه‌السلام ، وفي التبيان : ما من ملك ينزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا دمعه الرّوح ، ويكون رقيبا عليه كما تكون الملائكة الحفظة مع كل إنسان. فهو عزّ اسمه ينزّل (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ممّن يختصّهم بالرسالة ويأمرهم (أَنْ أَنْذِرُوا) أعلموا ، فالإنذار هنا الاعلام. والجملة بدل من «الروح» بناء على كونه بمعنى الوحي. والتقدير : ينزّل الملائكة بالإنذار. وإذا كان الروح ملكا فالمعنى أنه ينزّل الروح بأمره بالإنذار. فالله تعالى يرسل الملائكة على أنبيائه ورسله بأن أعلموا الخلق ونبّهوهم بأنه (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) لا ربّ سواي ولا معبود غيري (فَاتَّقُونِ) تجنّبوا مخالفتي. والآية تدل على أن نزول الوحي يكون بواسطة الملائكة ، وحاصلها التّنبيه على التوحيد الذي هو منتهى ما تصل إليه المعرفة ، وعلى التقوى الذي هو أقصى مراتب كمال العارفين به جلّ وعلا ، كما أنها تدل على الغرض من بعثة الأنبياء الإنذار والدعاء إلى الدّين.

* * *

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧))

٣ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ... أي أوجدهما ليستدلّ بهما

٢٠٤

على معرفته ويتوصل بالنظر فيهما إلى العلم بكمال قدرته وحكمته البالغة الحقّة (تَعالى) سما وارتفع وعزّ (عَمَّا يُشْرِكُونَ) معه غيره في الألوهية.

٤ ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) ... أي ابتدعه وأوجده من ماء ضعيف مهين سيّال ، غير قابل لأي وضع لا في شكل ولا حجم. وهي كأنها جماد محض لأنها لا تحسّ ولا تدرك ، فدبّرها وربّاها وصوّرها في أحسن صورة وجعل منها إنسانا ذا عقل وفهم وإدراك كامل (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فإذا بهذا الإنسان الضعيف الذي تعهّده صانعه وأنشأه ، مجادل له منازع فيه ، ينكر ربوبيّته ووجوده ويلحد بأسمائه وقدرته بشكل واضح سافر وبدون أدنى خجل. وفي هذه الكريمة يبيّن سبحانه أسمى مراتب الإنسان وأكملها وأرقاها ، وأحطّ درجاته وأنقصها وأدناها. ولعلّها نزلت في أبي بن خلف حين جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعظام رميمة وقال : يا رسول الله ، من يحيي هذه العظام وهي رميم؟ فنزلت الكريمة بأنه : لم لا تستدل على الموجود بدءا بالإعادة ، وبالإحداث على الإرجاع ، مع أن الإنشاء الأول أعجب من إعادة الذي كان موجودا وأصعب وأكثر إشكالا؟ وأنّ من قدر على الأول يقدر على الثاني بالأولى لأنه إيجاد موجود من موجود بخلاف الأول ، ولمّا كان كان هو تعالى في مقام إظهار قدرته بإنزال العذاب على المشركين وإرسال الملائكة على الأنبياء والمرسلين لأمور منها الاعلام بوجود الصّانع الحكيم وتوحيده ، والتخويف من مخالفته ، وخلق السّماوات والأرض والإنسان من العدم إلى الوجود ، فقد شرع في بيان إعطاء النعم لعباده فقال :

٥ ـ (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) ... أي الأصناف الثمانية (خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) أي ما تستدفئون به من البرد من الألبسة الصّوفية والوبريّة وهي لكم : لمنفعتكم (وَ) لكم أيضا فيها (مَنافِعُ) من نسل ودرّ وركوب (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ما يؤكل منها نحو اللّحوم والشّحوم والألبان.

٦ ـ (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) ... أي زينة (حِينَ تُرِيحُونَ) أي زمان تردّونها

٢٠٥

إلى مراحها بالعشيّ (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) في الوقت الذي ترسلونها إلى مرعاها بالغداة. والتخصيص بالوقتين لأنّهما أظهر أوقات ظهور تزيينها لأربابها ومالكيها وهي على أبوابهم حين الدخول والخروج وكذا تقديم الإراحة لأظهريّة الجمال في ذلك الحين حيث إن بطونها تكون مملوءة من العلف ومن الماء وضروعها من الألبان فتكون أجمل في الأنظار وأزين في الأعين كما لا يخفي على أهله.

٧ ـ (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ) ... أي تنقلون عليها أحمالكم من بلد إلى بلد بعيد (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) واصلين إليه (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) إلا بالتعب ولو كنتم بأنفسكم فضلا عن أثقالكم ، إلّا بكلفة وبمشقّة شديدة (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي رحيم بكم حيث أنعم بها عليكم لانتفاعكم وسهولة الأمر عليكم.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

٨ ـ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) ... هذه كلّها خلقها سبحانه ، والآية معطوفة على السابق لها ممّا خلق وأوجد ، فهذه الحيوانات أوجدها لكم ولفائدتكم و (لِتَرْكَبُوها) في أسفاركم وتنقلوا عليها أثقالكم (وَ) جعلها (زِينَةً) لكم تتباهون في اقتنائها وكثرتها وركوبها (وَيَخْلُقُ) بعدها (ما لا تَعْلَمُونَ) ما لا تعرفونه من المراكب التي تستحدث من بعدكم. وقد عنى بذلك سبحانه مراكب اليوم من المخترعات والمصنوعات العصرية البرّية والجوّية والبحريّة ومما قد يوجد فيما بعد ، عدا المراكب الفضائية العجيبة التي تقطع المسافات الشاسعة بأبسط وقت ممكن ، وهذه كلّها بإفاضته سبحانه

٢٠٦

وبهدايته وتوفيقه وإلهامه لأرباب الصنائع. ولا يخفى ـ كما أشرنا سابقا ـ أن صدر الآية ألفاظه منصوبة إمّا عطفا على السابق ، وإمّا بفعل مقدّر هو (خلق) بمقتضى العطف على الضّمير في قوله تعالى (خَلَقَها) وزينة مفعول مطلق محذوف ، فعله تقديره لتزيّنوا بها زينة.

٩ ـ (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) ... أي وعليه هداية الطريق الموصل إلى الحق كقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) ، والقصد هو الاستقامة والاعتدال (وَمِنْها جائِرٌ) أي ومن هذه السبيل ما هو مائل عن الاستقامة معوجّ ، وهو ممّا لا يضاف إليه سبحانه وتعالى ، وخارج عمّا أضاف إليه في قوله عز من قائل (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أرشدكم على طريق الإلجاء ، ولكنّه ينافي التكليف. وحاصل المعنى من هذه الآيات بيان فوائد نعم الله لمعايشكم كخلق الأنعام التي ترون فوائدها الكثيرة ، وكفوائد خلق ما لا تعلمون. وقد ذكره تعالى بطريق الإجمال لأن أصنافها وأنواعها خارجة عن الإحصاء ولو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان التأليف يملأه القطر المسكون وكان القول فيها كالقطرة من البحر ، وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها.

* * *

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١))

١٠ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) ... منه شراب ومنه شجر : أي منه لشربكم ومنه للشجر ، أي لشربه وسقيه. والمراد من الشجر هو النبات (فِيهِ تُسِيمُونَ)

٢٠٧

أي ترعون مواشيكم ، والسّوم الرعي من غير كلفة ولا التزام مؤنة بحيث تطلق الدابّة في المرعى فترعى وتعود بلا ثمن.

١١ ـ (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ) ... بعد ما ذكر سبحانه ما يتغذّى به الحيوان من النبات ذكر ما ينفع للإنسان ممّا يتغذى به ، وهو على قسمين : حيوانيّ وقد ذكر في خلق الأنعام ، ونباتىّ وهو الحبوب والفواكه ، ومن الزرع كالحنطة والشعير والأرز ونحوها والزيتون كذلك (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) من الذين يستدلّون بها على عظمة خالقها وكمال قدرته وحكمته. فمثلا العنب قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ، ولحمه وماؤه حادّان رطبان لطيفان ، ونسبة الطبائع السفلية إلى هذا الجسم الواحد متشابهة ونسبة التأثيرات الفلكية والكوكبية إلى الكلّ متّحدة ومتشابهة ومع ذلك ترى أجزاء هذا الشيء الواحد مختلفة في الطبع والطعم واللّون والصّفة ، وقس على ذلك الأجسام المختلفة المتحدة في الأسباب المؤثرة المذكورة وليس ذلك إلا بتقدير وتدبير حكيم مقتدر.

* * *

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣))

١٢ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ ... وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) ... بعض قرأ برفع : النجوم ومسخّرات مبتدءا وخبرا ، وبعض بنصبهما بناء على عطف (النُّجُومُ) على سوابقها و (مُسَخَّراتٌ) على الحاليّة من الجميع أو من النجوم فقط لئلا يلزم التّكرار المستهجن. ومعنى الكريمة أنه أعدّها لمنافعكم

٢٠٨

حال كونها مسخّرة لحكمه وتدبيره تعالى وتقدس أمّا منافع اللّيل والنهار فكثيرة ، منها كون اللّيل للاستراحة والنهار لتحصيل أمر الإعاشة ، وأما الشمس والقمر أيضا فمنافعهما أكثر من أن تحصى ، منها إنضاج الفواكه وإدراك الزرع وإنبات النباتات ومعرفة حساب الشهور والسنين وغيرها من المنافع المدركة وغير المدركة. وأما النجوم فلمعرفة الطّرق وتشخيصها وتعيين الأوقات والجهات لأرباب السفن والملاحين وغيرهم من أهل البوادي والصحاري. ومن منافعها تزيين السماء الدّنيا لأهل الأرض وإضاءتها لهم في الليالي غير المقمرة. فهذه وغيرها ممّا لا ندركه ، خلقه (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي لأرباب العقول الذين هم أهل التدبّر والاعتبار. ففي الكريمة السابقة لهذه الآية قال تعالى : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، لأن أحوال النباتات ليست خالية عن الخفاء ولدلالتها على وجود الصانع الحكيم محتاجة إلى مزيد عناية وفكر كما لا يخفى ، بخلاف دلالة اللّيل والنهار والكواكب مطلقا فإن دلالتها ظاهرة لا ريب فيها لكل عاقل ولذا قال سبحانه : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

١٣ ـ (وَما ذَرَأَ لَكُمْ) ... أي خلق ، عطف على الليل ممّا سخّر لكم وممّا خلق لانتفاعكم (فِي الْأَرْضِ) من حيوان ونبات ومعادن ومطاعم ومشارب (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي أشكاله وأصنافه فإنها تتخالف باللون غالبا. وفيها دلالات للمتدبّرين على أن المؤثر غير الطّبيعة ، لأن الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن تجعلها متشابهة ومتشاكلا بتأثيرها. فمثلا إذا وضعت شمعة في فضاء واستضاء ذراع من جوانب الشمعة وجب أن يكون الضّوء في المقدار المستضيء متساويا ولا يمكن أن يكون الضوء مختلفا في الفضاء عن الذراع بحسب النور الذي يترامى إلى كل الجهات بمعدل واحد. وهذا أمر واضح فإذا ثبت نقول : إن نسبة الشمس والقمر والأنجم والأفلاك والطبائع مطلقا بالنسبة إلى ورقة لطيفة من الورد نسبة واحدة ، ومتى كانت نسبة المؤثر واحدة لا بدّ وأن يكون الأثر متشابها ، ولكننا نرى وجدانا أن الأثر غير متشابه : فنصفهما في غاية السواد والنصف الآخر في غاية البياض ، فاختلاف الأثر دليل قاهر على أن الطبيعة بنفسها ليست مؤثرة بل

٢٠٩

هي أيضا متأثرة والمؤثر غيرها وهو الله الواحد القهار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) عبّر تعالى ها هنا بالإذكار وهو بمعنى الذّكر ، والذكر عبارة عن التوجّه إلى الشيء وإدراكه. ولما كان إثبات الصانع الحكيم في المقام لا يحتاج إلى مزيد عناية وتكلّف ، بل الأمر أسهل من دلالة الآيات السابقة على المدّعي ، فلعل لهذه الجهة عبّر بالاذكار وهو سبحانه أعلم بما قال. ثم عدّد نوعا آخر من النعم فقال سبحانه تعالى :

* * *

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧))

١٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) ... أي أنّ الله تعالى بقدرته الكاملة ذلّل البحر وهيّأه لانتفاعكم به بالركوب فيه على البواخر والسفن البخارية والاصطياد والغوص (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) أي جديدا ذا طراوة. واتّصافه بالطراوة لأنه أرطب من كلّ لحم وأسرع إلى الفساد من كل لحم ، وفيه إشارة إلى المسارعة لأكله وإظهار قدرته وحكمته حيث أوجد اللحم الحلو الطعم من المياه المالحة وجعله فيها حتى لا يتطرّق إليه الفساد (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) أي لتغوصوا فيه وتخرجوا منه ما تتزيّن

٢١٠

به نساؤكم لكم من اللؤلؤ والمرجان. ولمّا كان تزيينها لهم فلذا نسب الحلية إلى الرّجال ويمكن أن يكون المراد تزيين الرجال بأنفسهم كما هو ظاهر الكريمة لا أن النسبة باعتبار المتعلّق. والحاصل أن الله تعالى خلق في البحار منافع كثيرة ، ولكن ذكر هنا منها ثلاثة أنواع : الأول : اللّحم الطريّ الّذي هو في غاية العذوبة أخرجه عباده من البحر الملح الزعاق بقدرته الكاملة فأخرج الضدّ من الضدّ. والثاني : ما يتزيّن به ويلبس من اللؤلؤ والمرجان وغيرهما. والثالث : هو قوله تعالى (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) أي جواري تمخر الماء وتشقّه بصدرها (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) تطلبوا من سعة رزقه. بركوبها للتجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على نعمة بعد معرفتها من تسخير البحر ، وتعليم صنعة السّفن ، ومعرفة إجرائها على الماء للانتفاع بها ـ وتخصيص هذه النعمة معقّبة بالشكر لأهمّيتها وعظمتها ، حيث إنه تعالى جعل المهالك سببا للانتفاع وتحصيل المعاش وإبقاء الحياة وهذه من العجائب التي ينبغي لها الشكر كثيرا. وفي الحديث : لا تركب البحر إلّا حاجّا ومعتمرا فإن تحت البحر نارا. يريد أنه لا ينبغي للعاقل أن يلقي نفسه للمهالك إلّا لأمر دينيّ يحسن بذل النفس فيه وقوله تحت البحر نارا هو تهويل لشأن البحر لآفات متراكمة إن أخطأته مرّة جذبته مرّة أخرى .. وإنّ علماء الهيئة قالوا : ثلاثة أرباع الأرض غائصة في الماء وذلك هو المحيط وهو كليّة عنصر الماء ، وحصل في هذا الرّبع المسكون سبعة من البحار ، كما قال سبحانه : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) ، ولعل المراد بالبحر الذي سخّره الله تعالى هذه الأبحر السبعة باعتبار الجنس. وحاصل معنى التسخير جعلها بحيث يتمكن الإنسان من الانتفاع بها إما بالركوب للتجارة وغيرها من الانتفاعات ، وإما بالغوص ، وإما بالزرع في سواحلها ونواحيها كما هو المرسوم لأهل البنادر والسّواحل ، ثم عدّد نوعا آخر من النعم الأرضيّة فقال عزّ من قائل :

١٥ ـ (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) ... أي خلق على الأرض جبالا رفيعة كبيرة ثابتة لئلا تتحرّك وتضطرب ، وذلك لأن الأرض كانت مخلوقة كرويّة

٢١١

فهي بالطبع لا تستقرّ في الفضاء ، فجعل على وجهها الجبال الثّقال فاستقرّت الرواسي كمركز للأرض وجعلت أوتادا لها ثم جعل في الأرض (أَنْهاراً) عطف على الرواسي أي ألقى أنهارا ، وألقى جاء بمعنى خلق وجعل. والمراد بالأنهار أنهر النيل ودجلة والفرات وسيحون وجيحون وعامة أنهار الأرض من أمثالها مما لها فوائد كثيرة جليلة (وَسُبُلاً) أي جعل في الأرض طرقا عديدة من موضع إلى موضع لتسهيل تحصيل المقاصد والمنافع. وقيل يحتمل أن يكون المراد هو طرق معرفة الله عزوجل (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا وإلى مقاصدكم أو إلى توحيد الله تعالى بناء على كون السّبل هي أئمة الهدى عليهم‌السلام ، كما في الجامعة : أنتم السبيل الأعظم ، إلخ ..

١٦ ـ (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) : هي معالم الطّرق وما يستدلّ به المارّة من جبل وسهل ، والأرياح أيضا. وقيل إن جماعة كانوا يشمّون التراب ويتعرّفون الطرق من أهل الفطانة والحذاقة (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) في الليالي كالمسافرين في البرّ والبحر. وقيل إن المراد به الثريا والفرقدان والجديّ وبنات نعش. قال ابن عباس سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن النجم ، فقال : الجديّ علامة قبلتكم وبه تهتدون في برّكم وبحركم. وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : نحن العلامات ، والنجم رسول الله. وقال (ص): إن الله جعل النجوم أمانا لأهل السماء وجعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض. والضمير (هُمْ) راجع إلى مطلق البشر وقيل راجع الى قريش لأنهم كانوا مشهورين برحلة الشتاء والصّيف ، وكانوا كثيري الأسفار للتجارة ومعروفين بأنهم يهتدون بالنجوم إلى الطرق وهم أعرف من كلّ أحد بها في ذلك الزمان. وإخراج الكلام من سنن الخطاب إلى الغياب وتقديم الظرف ، أي وبالنجم وإقحام الضمير بينه وبين متعلّقه ، كلّ ذلك للتخصيص ، كأنه قيل : الاهتداء بالنجوم الى الطّرق منحصر بهؤلاء وهذا المعنى يناسب عود الضمير إلى العموم لا إلى طائفة دون أخرى ، ولكن إلى نوع دون آخر لا بأس به كما هو بيّن ، فإن معرفة الطريق ميسور لنوع

٢١٢

المسافرين وإن كان بعضهم أعرف. وهذا لا يصير سببا للحصر كما لا يخفى ، فالاعتبار بهذه النعمة والشكر عليها ألزم وأوجب. وقد روى قتادة أن خلق النجوم لأمور ثلاثة : الأوّل لتزيين السماء الدّنيا ، والثاني لرجم الشياطين ، والثالث لكونها علامات ثم لمّا ذكر الدلائل على وجود القادر تعالى وشرح أنواع نعمه ، أتبعه بذكر إبطال عبادة غيره ممّن لا يقدر على شيء ، فقال تبارك وتعالى :

١٧ ـ (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) ... الاستفهام إنكاريّ ، يعني بعد إقامة الدّلائل المتكاثرة على وجود الصّانع وعلى كمال قدرته وتناهي حكمته وتفرّده بخلقة العالم هل هذا الخالق المقتدر كمن لا يخلق شيئا ولا يقدر على شيء وهو عاجز مطلقا؟ وسواء ذو العلم منهم كعيسى وعزير وغيرهما وكالأصنام. وبعبارة أخرى لا مشابهة بين الخالق ومخلوقه ، والقادر المطلق والعاجز المطلق ، والواجب والممكن ، فجعل العاجز شريكا للقادر بغاية العناد ونهاية الضلال ، والسّفاهة. ولا بد من تنبيه ، فقد كان من حقّ الكلام أن يقال : أفمن لا يخلق كم يخلق؟ حيث إنهم يشبّهون الأصنام أو عيسى أو العزير به تعالى ، وكانوا يقولون هؤلاء آلهتنا كإله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. لكن أوتي بالكلام معكوسا تنبيها على أنهم للإشراك جعلوا الأله من جنس المخلوق الذي هو في غاية العجز ، فعلى هذا لا فرق عندهم بين الخالق القادر المطلق ، والمخلوق العاجز المحض ، فشبّهوه تعالى بآلهتهم العجزة لكمال جهلهم وغاية ضلالتهم. والمراد بمن لا يخلق كلّ معبود سواه تعالى سواء كان ممّن يعقل كعيسى وعزير أو غيره كالأصنام على طريق التغليب ولذا جاء بمن (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي تتنبّهون وتلتفتون فتعرفوا فساد ذلك ، والمقام لدقّته كان من موارد التفكير والتوغّل فيه لذا عقّبه تعالى بقوله : أفلا تذكّرون : تتدبّرون.

* * *

٢١٣

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١))

١٨ ـ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) ... اي لا تقدروا على ضبطها وإحصائها ولذا لا تطيقون القيام بشكرها (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكرها (رَحِيمٌ) إذا قصّرتم في أداء شكر النعم وكفرتم بها لا يأخذها منكم ولا ينقصها عنكم ولا يعاجل بعقوبة كفرانها ، بل يرحمكم بمزيد النعمة وتوفيرها. ولمّا بيّن وجوب عبادته على العباد بذكر النعم ، ومنها كونه غفورا رحيما بالتفسير الذي مرّ آنفا ، وأظهر قدرته ، أخذ في بيان إحاطته العلميّة بجميع أعمال العباد في كل أحوالهم وشؤونهم ، ثم ذكر بعد ذلك بطلان العبادة بالإشراك :

١٩ ـ (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) ... أي ما تخفون من العقائد الحقّة والباطلة ، أو المراد أعمّ منها (وَما تُعْلِنُونَ) من الأعمال الحسنة والسّيئة ، أو الأعمّ منها ومن العقائد ، وكلّهم مجزيّون بأعمالهم وعقائدهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.

٢٠ ـ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ... أي الآلهة التي تعبدونها من الأصنام التي لا تقدر على خلق شيء بل هي مصنوعة منحوتة من الحجر والخشب ونحوهما من الجمادات ، وهذا من باب التنبيه والاعلام ، حيث إنهم كانوا يشعرون ويلتفتون بأنها جماد مخلوق لهم ، لكن من باب غاية العناد والجحود يعبدونها وكان بعضهم قائلين بأنها آلهتنا وبعضهم بأنها شفعاؤنا. فهي لا تخلق شيئا بل هي مخلوقة ضعيفة مفتقرة لغيرها.

٢١٤

٢١ ـ (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) ... أي الأصنام ، أكّد كونها أمواتا بقوله غير أحياء لنفي الحياة عنها على الإطلاق. فإنّ من الأموات من سبقت له حالة منتظرة في الحياة أوله حياة بخلاف الأصنام فانها ليس لها حياة سابقة ولا منتظرة ، فقال تعالى (أَمْواتٌ) ولم يقل (موات) مع أن المناسب في الجمادات هو الموات لأنهم صوّروا الأصنام على صور ذوي العقول وكانوا يتعاملون معها معاملتهم معه الآلهة تسمية واعتقادا ولذلك كلّمهم على قدر عقولهم وقال : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ويحتمل أن تكون وصفا للعبدة لا للأصنام تأكيدا للجهل والغواية وعدم الشعور كالجمادات ، ويؤيّد هذا لاحتمال ذيل الكريمة (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) فعلى ما هو الظاهر : لا يعلم العبدة وقت بعثهم ، أو لا يعلم المعبودون وقت بعثهم وبعث عبدتهم ، فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبدتهم؟ وقيل إن الله تعالى يوم الحشر يحيي الأصنام ويبعثها حتى تتبرّأ من عبدتها.

* * *

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥))

٢٢ ـ (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ... هذا الكلام من باب تكرار المدّعى بعد إقامة الحجج والبراهين وهذا آكد في النفوس وألقم للحجر في فم الخصم

٢١٥

عند الخصام ، فالكافرون قلوبهم مملوءة كفرا وهم مستكبرون عن العبادة.

٢٣ ـ (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) ... أي لا بد أو لا محالة ، وجاء مصدرا من باب فعل يفعل بمعنى كسب أو اكتسب ، والجرم الكسب ، يعني لا يحتاج علم هذا الأمر إلى اكتساب العلم بل هو معلوم أنّ الله يعلم سرّهم وعلنهم. وهذا القول منه تعالى كناية عن إحاطته العلميّة بأمور العباد ، وقد مرّ هذا الكلام منه تعالى آنفا في الآية التاسعة عشرة بتفاوت ما. والسرّ في التكرار لعلّه الاهتمام بإفهام البشر مقام علمه المحيط وقدرته الكاملة ، فإنهم إذا افتهموا هذا واعتقدوه حقّ اعتقاده وعرفوه حقّ المعرفة لا يعصون الله فيما أمدهم ونهاهم لأن صدور المعاصي عن العباد لا يكون نوعا ـ بل مطلقا ـ إلا عن جهل بالمبدأ تعالى وبوحدانيّته وخالقيّته ورازقيته ومنعميّته وحافظيّته لهم في كل الأحوال وبكونه ملجأ وملاذا في جميع ما يحتاجون إليه في الدنيا والآخرة. وإذا أدركوا تلك الجهات والعناوين فلا يتصوّر وجود إنسان متّصف بهذه الصّفة ومع ذلك كلّه يعصى الله تعالى. وإن فرض إنسان ذو معرفة تامّة وهو من أهل المعاصي والشّقاء فنقول إن عصيانه وشقاوته كاشفان عن عدم كونه مصداقا لمفروض البحث ، فإنه لا يمكن الجمع بين المراتب العالية من المعرفة وبين المعصية لأن طبع البشر وسجيّته الخضوع والخشوع للمنعم عليه ولا سيما إذا كان معطي وجوده وحياته فكيف يعصيه فيما أمر به ونهى عنه ، مع أن الفرض علمه بأن في إطاعة المولى مصالح ترجع إليه ، وفي معصيته مفاسد يتضرّر بها ضررا فاحشا على اختلاف الموارد .. وإن قلت : لا يمكن الجمع بين غاية الشقاوة ونهاية المعرفة التي يمكن حصولها للمخلوق ، فما تقول في إبليس أو بلعم بن باعوراء الذي كان من أحبار اليهود ، ونحوهما من الذين كانوا من أهل العلم والمعرفة ومع ذلك خالفوا أمر الله وعصوه على ما هو المشهور من قضية الشيطان والمعروف من قصة بلعم في محلها؟ فنقول : أما الشيطان فقد كان في زمرة المقدّسين في الملأ الأعلى بعد عروجه من الأرض إلى السماء ولم يكن محسوبا

٢١٦

في أهل المعارف الكمّل لا في السماء ولا حين كونه في الأرض مع النسناسين وبني جانّ. ولا يبعد أن نقول كان قدسه وعبادته تقليدا للروحانيين لا عن معرفة كاملة وإن بلغ في العبادة ما بلغ ، فإنها لا تلازم كثرة العبادة المعرفة الكاملة كما صدر من عبّاد بني إسرائيل والرّهبانيين منهم ومن غيرهم مع عدم المعرفة منهم به تعالى على ما يظهر وممّا يحكى عن أحوالهم وقصصهم المسطورة في الكتب. والحاصل أن الشيطان لم تكن له المعرفة بمخلوق ضعيف وهو آدم عليه‌السلام ، فكيف بربّه؟ بل كان أكثر جهلا من كثير من الأعلام والعارفين حيث إن ما كان يعرف حقيقة التراب والفوائد والأسرار المودعة فيه وأنها أكثر ممّا كان في النار ، ولو لا ذلك لم يقس ولم يتكبّر حتى يصير مرجوما مطرودا ، وما عرف أن آدم عليه‌السلام كان مسجودا له لا معبودا ، والسجدة له ما كانت سجدة عبادة بل سجدة تعظيم وتكريم مع تقديس لله تعالى ، ولأنه كان أول مصنوع جرى على يديه وأول خلق بديع من الطين في أحسن صورة وخلقة بحيث أنه هو تعالى قدّس نفسه بقوله : تبارك الله ، ووصف نفسه المقدّسة بقوله : أحسن الخالقين. فيمكن أن نقول أنه قد كان الأمر بالسّجود لآدم عليه‌السلام ـ في الحقيقة وواقع الأمر ـ بمنزلة مهرجان سماويّ لتلك الخلقة البديعة تكريما وتفخيما لآدم واهتماما بشأنه الرفيع عند مليك السمّاوات كما جعله (ع) معلّما للملائكة حين أنبأهم بأسماء الأشياء ومسمّياتها بعد أن حقروا تلك الخلقة واعترضوا عليه تعالى وتقدّس.

وأما بلعم بن باعوراء فكان من أحبار بني إسرائيل ويكفي في شأنه أنه أعطي الاسم الأعظم فمال إلى فرعون لحطام الدنيا وذهب بأمر فرعون في طلب موسى عليه‌السلام ليدعو الله عليه فامتنعت حمارته عن السّير به ، فلم يزل يضربها حتى قتلها فانسلخ الاسم الأعظم من لسانه وقلبه وهو قوله تعالى : (فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) إلخ ... أفهل يمكن أن يقال إن هذا كان من أهل معرفة الله حقّ المعرفة؟ فإن كان هكذا فلا

٢١٧

بدّ أن يعرف رسوله ومن يعرف رسول الله لا يقدّم عدّوه وعدوّ الله عليه ولا يقبل قول فرعون ويطيعه ويعصي خالقه الذي أنطق حمارته حتى نهته عن دعائه على نبيّ الله فلم يفهم ما فهمته حمارته! .. ومع هذه الآية لم ينته عن عقيدته وقصده المشؤوم لأنه كان أجهل من حمارته بالله تعالى وبرسوله.

أما العلم بالاسم الأعظم فهو لا يلازم العرفان الكامل ، فإن الله سبحانه يمكن أن يعطي شخصا اسمه الأعظم بعد رياضة تحمّلها لهذه الجهة ، أو اختبارا أو لمصالح لا ندريها ، وبعد ذلك ينسلخ عنه كما حصل لبلعم بن باعوراء فما كلّ شخص يدري الاسم يكون من أهل المعرفة التي ينادي صاحبها : لو كشف لي الغطاء لما ازددت يقينا بل نقول : إن المعرفة الكاملة لا تجتمع مع المعصية وبعبارة اخرى كلما كان العلم والمعرفة به تعالى أقوى كلما كانت الخشية أشد كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعلمكم بالله أشدكم خشية ، ومعلوم أن الذي يخشى الله لا يعصيه. وأما الاهتمام بإفهام البشر لهذين الوصفين من بين صفاته تعالى لعلّ وجهه لكونهما ملازمين لذاته المقدسة حيث إنهما من صفات الذات فمعرفتهما ملازمة لمعرفته بل هي هي كما لا يخفى ، وهو تعالى أعلم بكلامه.

٢٤ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) : الخطاب لمشركي قريش والجواب منهم ، قالوا أباطيل الأولين أي هذا المنزل في زعم المسلمين هو عندنا أحاديث الأقدمين الكاذبة الخرافية. ويروى انّها نزلت في المقتسمين وهم ستة عشر رجلا خرجوا إلى أعقاب مكة على طرق القادمين إليها على كل طريق أربعة منهم ليصدّوا النّاس عن النبيّ (ص) وإذا سألهم الناس عمّا أنزل على رسول الله قالوا : أخبار الأقدمين الكاذبة ، وخرافات الرومان.

٢٥ ـ (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً) ... اللّام للعاقبة ، والمعنى كانت عاقبة أمرهم حين فعلوا ذلك أن يحملوا أوزار كفرهم تامّة يوم القيامة مع بعض أوزار الذين يضلّونهم لأنهم شاركوهم في إثم ضلالهم إذ دعوهم إليه فاتّبعوهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جاهلين ولا عذر لهم بجهلهم إذ كان عليهم

٢١٨

الفحص ليميّزوا المهتدي والضّالّ (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) اعلموا أنه بئس ما يحملونه من أوزار الضّلالة ووبال إضلالهم ، فإن الضالّ والمضلّ شريكان في الإثم.

* * *

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

٢٦ ـ (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ... هذه الكريمة على سبيل التسلية لنبيّنا (ص) والوعيد لقومه ، أي قد فعل الخدع والحيل الّذين كانوا قبل مشركي قريش بأنبيائهم إيذاء لهم وإضرارا ، واهتمّوا بذلك اهتماما شديدا. وروي أنهم كانوا يقتلون من أنبيائهم أزيد من سبعين نبيّا بين الطلوعين ، ثم يذهبون إلى أسواقهم للكسب والتجارة وكأنّهم لم يفعلوا شيئا (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أي فجاءهم أمر الله وعذابه فاقتلع أساس أبنيتهم المتقنة (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) فسقط السقف وانهدم

٢١٩

عليهم البنيان وهم تحته. وعند بعض المفسّرين أن المراد من هذا البنيان هو صرح نمرود بن كنعان كما عن ابن عباس ، بنى صرحا عظيما في بابل طوله خمسة آلاف ذراع بل قيل عرضه فرسخان فبلغ من الارتفاع بمكان لا يتمكن الإنسان أن يقوم عليه من الرّياح ، ورام منه الصّعود إلى السماء حتى يطّلع على إله إبراهيم يتقاتل معه ، وبعد إتمامه أرسل الله تعالى ريحا فألقت رأس الصّرح في البحر والباقي على دور أهل القرية من قوم نمرود ، وسمع منه صيحة عظيمة بحيث تبلبلت منه ألسنة أهل القرية واختلفت كلماتهم بحيث لا يعرف أحد منهم لسان الآخر ، وهذا وجه تسمية بابل (هكذا نقل عن الثعلبي) وقال الطبري : ومن حين سقوط الصّرح حصلت اثنان وسبعون لسانا في العالم بعد أن كان لسان أهل قرية بابل ونمرود سريانيّاّ ، والعهدة عليه (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي جاءهم عذاب الاستئصال حين كونهم فارغي البال مرفّهين لا يترقّبون العذاب ولا يتوقّعونه ، وفي اللّباب أن الله تعالى ابتلى النمرود أربعمائة سنة ببعوضة دخلت في أنفه وصعدت إلى مخّه ولم تزل تؤذيه بأذى لا استراحة منه إلّا بأن يدقّ رأسه بمطرقة شديدا فيخفف عنه الأذى قليلا ، وهذا جزاء من ادّعى الألوهية في الدنيا ، وأما في الآخرة فأمره إلى الله حيث يذلّه ويفضحه ثم يعذّبه في النار. وقد قال جلّ وعلا : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ، وفي النار تأتيه ألوان العذاب من كل مكان ومن حيث لا يعلم مصدر العذاب.

٢٧ ـ (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ) ... وفي يوم القيامة يخزي الله تعالى كل من دعوا أنفسهم آلهة ويبعدهم من رحمته ويصبّ عليهم جام سخطه وغضبه ، ويقول لعبدتهم من المشركين : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ؟) أين هم الذين ألّهتموهم وعبدتموهم وجعلتموهم شركاء لي ، وكنتم تخاصمون المؤمنين وتعادونهم من أجلهم؟ أروني إيّاهم ودلّوني على منازلهم في هذا اليوم الذي تظهر فيه قدرة الرّبوبيّة وجبروتها؟ وكأنّهم سكتوا عن

٢٢٠