الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

ابن لا قيس بن إبليس ، كنت يوم قتل قابيل هابيل غلاما ابن أعوام أنهى عن الاعتصام وآمر بإفساد الطعام : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بئس لعمري الشاب المؤمّل والكهل المؤمّن. فقال : دع يا محمد عنك هذا. فقد جرت توبتي على يد نوح ، ولقد كنت معه في السفينة فعاتبته على دعائه على قومه ، ولقد كنت مع إبراهيم حيث ألقي في النّار فجعلها الله بردا وسلاما ، ولقد كنت مع موسى حين أغرق الله فرعون ونجّى بني إسرائيل ، ولقد كنت مع هود حين دعا على قومه فعاتبته ، وكنت مع صالح فعاتبته على دعائه على قومه ، ولقد قرأت الكتب فكلّها يبشرني بك ، والأنبياء يقرءونك السّلام ويقولون : أنت أفضل الأنبياء وأكرمهم. فعلّمني ممّا أنزل الله عليك شيئا : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : علّمه. فقال هام يا محمد ، إنا لا نطيع إلّا نبيّا ، أو وصيّ نبيّ فمن هذا؟ قال هذا أخي ووصيّي ووزيري ووارثي علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال : نعم ، نجد اسمه في الكتب إليّا. فعلّمه أمير المؤمنين (ع) فلما كانت ليلة الهرّير بصفين جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام (من نار السموم) أي شديد الحر النافذ في المسامّ (ومسامّ الجسد ثقوبه) وسموم الإنسان وسمامه فمه ومنخراه وأذناه ، أو نار لا دخان لها. فمن قدر على ابتداء خلق الإنسان والجنّ ، أو خلق الثقلين ، من العنصرين ، وإفاضة الحياة عليهم ، قدر على إعادتهم وإحيائهم مرة أخرى بعد الموت لمحاسبتهم على أعمالهم.

٢٨ ـ (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً) ... أي اذكر يا محمد ، أو اذكر أيها الإنسان ، يوم قال ربّك لملائكته : إني خالق بشرا : إنسانا ، وموجوه (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وهو الذي مرّ تفسيره. فأعلمهم بذلك ثم أمرهم قائلا :

٢٩ ـ (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ... أي إذا أتممت خلقته على أحسن صورة مستوية وأعدلها ونفخت فيه من روحي : والنفخ إجراء الريح

١٨١

في جوف جسم ، وقد أضافه سبحانه إلى نفسه للتشريف. وعن الباقر عليه‌السلام أنه سئل : كيف هذا النّفخ؟ فقال إن الروح متحرّك كالريح ، وإنما سمّي روحا لأنه اشتقّ اسمه من الريح ، وإنما أخرجت على لفظ : الرّوح ، لأن الروح مجانس للريح. وقد أضافه الله سبحانه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما أنه اختار بيتا من الأرض وسمّاه (بيتي) وكما قال عن رسول من الرّسل : خليلي ، وكأشباه ذلك. وقال الصادق عليه‌السلام : الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء ونسمة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي اسجدوا عبادة لله وتكريما لهذا المخلوق وتعظيما له وتسبيحا لله على هذه القدرة القادرة.

٣٠ ـ (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) : أي امتثلوا أمر ربّهم عزّ وعلا ، وقد مرّ تفسيره.

٣١ ـ (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) : رفض السجود واستكبر عنه فاستثناه الله تعالى.

* * *

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ

١٨٢

الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

٣٢ ـ (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) : أي قال الله تعالى ذلك القول لإبليس موبخا له غاضبا عليه لعصيانه. ولفظة : (ألّا) هي (أن) و (لا) و (لا) زائدة ولكنها مؤكّدة ، والمعنى : ما منعك أن تسجد؟

٣٣ ـ (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ) ... أي : لا يصحّ مني وأنا مخلوق روحانيّ أن أسجد لبشر : جسم ماديّ كثيف خلقته وأوجدته من التراب الذي مرّت صفته وهو من العناصر المنتنة.

٣٤ ـ (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) : أي : اخرج ممّا أنت عليه من المنزلة الرفيعة في السماء مع زمرة الملائكة لأنك رجيم : ملعون مطرود من الكرامة. أو مرجوم ، وقيل إن الضمير في (منها) راجع إلى السماء أو إلى الجنّة.

٣٥ ـ (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) : أي مع طردك من منزلتك هذه فإنك ملعون قد لحق بك غضب الله عزوجل الى يوم القيامة. ويوم الدّين : هو يوم محاسبة العباد بحسب قوانين شرائعهم وأديانهم.

٣٦ ـ (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) : أي قال إبليس اللعين : ربّ أخّرني وأمهلني ولا تمتني إلى يوم البعث والنشور والقيامة.

٣٧ و ٣٨ ـ (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) : أي إنّك من المؤخّرين الممهلين إلى ما قبل يوم القيامة. وعن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عنه فقال : يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة ،

١٨٣

فيموت إبليس بين النفخة الأولى والثانية. وفسّر في بعض الروايات بيوم يبعث فيه القائم عليه‌السلام وعجّل الله تعالى فرجه ، قال الصادق عليه‌السلام : فإذا بعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة ، وجاء إبليس حتى يجثو بين يديه ـ أي يجلس على ركبتيه وأطراف أصابعه ـ على ركبتيه فيقول : يا ويله من هذا اليوم ، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه ، فذلك يوم الوقت المعلوم. ويؤيد هذا التفسير أن إبليس استمهل الله سبحانه وتعالى إلى يوم يبعثون أي يوم القيامة الكبرى ، ولكن الله جلّ وعزّ أجابه بأنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم لا بحسب ما طلبت واسمهلت. وقيل إن المراد هو يوم يذبحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الصخرة التي في بيت المقدس يعني في عهد الرجعة في بعض الروايات.

٣٩ و ٤٠ ـ (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) ... أي بسبب إغوائك إياي ، والإغواء هو الإضلال ، والإضلال لا تجوز نسبته إلى الله تعالى لأنه سبحانه لا يضل عن طريق الحق. وهذا يحمل على أن إبليس اعتقد الجبر كما هو مذهب الأشاعرة وغيرهم وهو ليس منه ببعيد. وقيل إن الإغواء هنا بمعنى التخييب ، أي بما خيّبتني من رحمتك وطردتني من نعمتك (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) لأغرينّ الناس (فِي الْأَرْضِ) وأحسّننّ لهم فعل القبائح والمعاصي ، ولأضلّنّهم (أَجْمَعِينَ) جميعهم. وسأخيّبهم كما خيّبتني من رحمتك بدعوتهم إلى معصيتك بحيث أغريهم حتى يعصوك (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أي ما عدا المخلصين لك في العبودية لأنك تكون أنت قد اصطفيتهم وجعلتهم أخيارا لا يعصونك. فإن لفظ (الْمُخْلَصِينَ) إذا قرئ بكسر اللام ، كان معناه أنهم أخلصوا دينهم لله تعالى ولم يجعلوا للشيطان عليهم سبيلا. وإذا قرئ بفتح اللام فمعناه الذين استخلصتهم لطاعتك وطهّرتهم من الشوائب ونزهتهم عن الشّرك والوساوس والأوهام ورجس المعاصي فهم مخلصون لا يتطرّق ريب إلى نفوسهم لا في العقيدة والإيمان ، ولا في الأقوال والأفعال ، وهم الأنبياء وأوصياؤهم وأولياء الله تعالى.

١٨٤

٤١ ـ (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) : أي قال الله تبارك وتعالى : إن هذا الصراط الذي أضعه صراط حقّ لا عوج فيه وهو :

٤٢ ـ (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ... أي عبادي الذين يعبدونني ولا يشركون بي شيئا من الذين اخترتهم وقبلت قولهم وعملهم ، فهؤلاء لن تكون مسلّطا عليهم ولن تقدر على إغوائهم ، ولن يصيب إغواؤك (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) وسمع لوسوستك وتزيينك (مِنَ الْغاوِينَ) الضالّين لأن الغواية هي الضلال.

٤٣ و ٤٤ ـ (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) : أي أن النار تكون مكان موعدهم وملتقاهم إن هم اتّبعوك وعصوني ، وقد أعددتها للغاوين معك وجعلت (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) تستوعب كثرتهم إن كانوا كثيرين ، بحيث يدخلونها بسهولة ف (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) من أتباعك (جُزْءٌ) منهم (مَقْسُومٌ) مفرز عن بقية أجزائهم يدخل من الباب المعدّ له. وفي الكريمة إشارة إلى سعة جهنّم وأنها تسعهم مهما بلغوا مصداقا لقوله تعالى ، يوم نقول لجهنّم هل امتلأت ، وتقول : هل من مزيد؟ ففي الآخرة يحشر كلّ أهل ملّة بحسب مراتبهم ، وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن جهنّم لها سبعة أبواب : أطباق بعضها فوق بعض ، ووضع إحدى يديه على الأخرى وقال : هكذا ، وإن الله وضع الجنان على العرض ، ووضع النيران بعضها فوق بعض .. إلى آخر الحديث.

* * *

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ

١٨٥

(٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))

٤٥ و ٤٦ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، ادْخُلُوها) ... أي أن المتجنّبين لمحاربة الله ، العاملين وفق أوامره والمنتهين عن نواهيه سيكونون في جنان الخلد ذات العيون والأنهار من الماء والخمر واللبن والعسل وغيرها وكأن يقال لهم : (ادْخُلُوها) على إرادة القول : ادخلوا الجنة راضين مرضيّين (بِسَلامٍ آمِنِينَ) سالمين لا تخافون فيها محذورا قط.

٤٧ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) ... أي : أنزلنا من قلوبهم كلّ عداوة وكلّ حقد فعاشوا فيها ناعمين (إِخْواناً) متآخين كأنهم أبناء أب واحد يحب بعضهم بعضا ولا يتحاسدون في نعمة ولا في درجة ، بل يغبط بعضهم بعضا على مرتبته ويهنّئه بها وهم (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) يجلسون على أرائك ومقاعد بعضهم يواجه بعضا ولا يرى أحد من قفا أحد لدوران الأسرّة بهم.

٤٨ و ٤٩ و ٥٠ ـ (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) ... أي لا يصيبهم تعب وعناء (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) فهم مخلّدون فيها ، والخلود من كمال النعمة وتمامها ، والكريمتان ٤٩ و ٥٠ تشيران إلى أن العباد لا بدّ وأن يكونوا بين الرّجاء والخوف ، والأخبار الكثيرة تشير إلى ذلك أيضا وهما فذلكتان لما سبق من الوعد والوعيد ومقررتان لهما.

* * *

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ

١٨٦

مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦))

٥١ ـ (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) : عطف على قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي) ، والمناسبة أن قصة إبراهيم وقوم لوط تحقيق وتثبيت للوعد والوعيد لأنهما مصداقان لهما حيث إنهما مشتملان على البشارة والهلاك. كما تشير إليهما الآيات الآتية :

٥٢ ـ (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) ... أي بعث الله رسلا إلى إبراهيم عليه‌السلام يبشّرونه بإسماعيل ، فدخلوا عليه ليلا وهم في صورة الأضياف ، ولذا سمّاهم الله ضيفا ، ففزع منهم وخاف أن يكونوا سرّاقا. فلما رآه الرّسل فزعا مذعورا (فَقالُوا سَلاماً) أي نسلّم عليك سلاما (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون ، والوجل هو اضطراب النّفس لتوقّع أمر مكروه.

٥٣ ـ (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ) ... أي لا تخف ولا تضطرب منّا (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) أي ولد ذكر (عَلِيمٍ) من أهل العلم والمعرفة يعلم علما كثيرا ، وفيه إشارة للبشارة بأنه من الأنبياء. وعن الصادق عليه‌السلام : فمكث إبراهيم عليه‌السلام بعد البشارة ثلاث سنين ثم جاءته البشارة من الله تعالى بإسماعيل مرّة بعد أخرى وولد بعد ثلاث سنين.

٥٤ ـ (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) ... أي على حالة أصابتني فيها الشيوخة وقد استبان فيّ السنّ وظهور الشّيب وقد تعجّب عليه‌السلام من أن يولد له مع كونه في سنّ لا يولد لمثله عادة إلّا أن يرجع ويعود إلى شبابه وذلك محال عادة ، ولذا سأل : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي على أيّ من الحالتين يقع ويوجد التوّلد وكلاهما خلاف العادة؟ على الشّيبة أم على

١٨٧

الشّبيبة؟ فتعجّبه كان باعتبار العادة لا باعتبار القدرة لأن الله سبحانه لا يعجزه شيء.

٥٥ ـ (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) ... أي قال الملائكة لإبراهيم عليه‌السلام : حملنا إليك هذه البشارة الصادقة التي هي أمر حقّ لا شك فيه ولا ريب (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) القانط : اليائس ، فلا تيأس من رحمة الله عزوجل.

٥٦ ـ (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) : أي أجاب إبراهيم عليه‌السلام رسل ربّه بأنه لا ييأس من رحمة الله تعالى إلّا الضائعون عن معرفته التائهون في ظلام الجهل والكفر.

* * *

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠))

٥٧ و ٥٨ ـ (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) : أي ما هو شأنكم وطلبكم بعد هذه البشارة يا رسل ربّي (قالُوا) مجيبين : (إِنَّا أُرْسِلْنا) بعثنا من قبل ربّنا تبارك اسمه (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) إلى جماعة عاصين يرتكبون الآثام والجرائم ويعملون القبائح والخبائث ، وهم قوم لوط الذين لم يصرّحوا بهم لأن شأنهم معلوم لديه من جهة ، ولأنّهم أكملوا حديثهم قائلين :

٥٩ و ٦٠ ـ (إِلَّا آلَ لُوطٍ) ... فاستثنوا آل لوط من الهلاك وقالوا : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) مخلّصوهم من الهلاك (أَجْمَعِينَ ، إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثنوا من النّجاة امرأة لوط عليه‌السلام فإنها على ديدن قومها وقد (قَدَّرْنا) أي قضينا وحتمنا ـ على إرادة القول من جانب العزّة الإلهية ـ : (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ)

١٨٨

أي من الهالكين الذّاهبين في الهلاك ، وقضت مشيئتنا بأنها كأنها قد مضت مع الماضين لأنها ستبقى في القرية مع قومها لينزل بها الهلاك معهم.

* * *

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦))

٦١ و ٦٢ ـ (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) ... أي فلما حضر رسل الله من الملائكة إلى القرية التي فيها لوط وأهل بيته ودخلوا عليه (قالَ) لوط لهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي غير معروفين من قبلي وأخاف أن تطرقوني بشرّ لأنني لم أر أشباها لكم.

٦٣ و ٦٤ ـ (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) ... فأجابوه قائلين : لا تخف منّا وإنّما أتيناك بما يسرّك وهو العذاب الذي كان قومك (يَمْتَرُونَ) فيه ، أي يشكّون؟ ويعتبرونه مراء حين توعّدتهم به : و (أَتَيْناكَ) جئناك (بِالْحَقِ) بالأمر الحق ، وهو العذاب الواقع المتيقّن الذي لا ريب فيه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أكّدوا صدقهم بالواو التي تفيد القسم ، وبإنّ ، وبلام التوكيد ، ثم أبلغوه أمر ربّه قائلين له :

٦٥ ـ (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) ... أسر : أي سر ليلا ، وامش

١٨٩

خارجا من قريتك التي أنت فيها (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي بجزء منه وطائفة ، وقيل بعد انتصافه و (اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي سر خلف عائلتك لتعلم حالهم وتعرف أنهم يمضون حسب أمرك لهم فلا يتخلّف منهم أحد بسبب علاقته بأهل أو بأصحاب في البلد ، أو بعشيرة أو أقارب ، وكن عينا عليهم تراقبهم لئلا يعمهم العذاب (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي ولا ينبغي أن ينظر أحد منكم جميعا إلى ما وراءه ممّا خلّف في المدينة لئلا يروا العذاب والمعذّبين فيفزعوا (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) سيروا إلى الناحية التي نأمركم بها بأمر الله تبارك وتعالى : وقيل هي أرض الشام : وقيل : أرض مصر.

٦٦ ـ (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) ... أي أوحينا إليه أمرا محتوما قد وقع القضاء به ، وهو (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) القوم ، أي ما هو وراءهم ممّا يترك في العادة من أولاد وخلفاء في أموالهم وأرزاقهم ، فهو (مَقْطُوعٌ) مستأصل مبتور من أصله (مُصْبِحِينَ) حال كونهم مدركين للصباح وطلوع الفجر.

* * *

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤))

٦٧ ـ (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) : أي حضر أهل مدينة سدوم التي كان لوط عليه‌السلام فيها يبشّر بعضهم بعضا بالأضياف الذين نزلوا عليه

١٩٠

طمعا فيهم لأنهم كانوا على صورة شباب مرد حسان الوجوه والهيئة.

٦٨ و ٦٩ ـ (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) ... أي قال لوط عليه‌السلام لقومه : إن هؤلاء ضيوف نزلوا بيتي ، وهم عندي بكفالتي فلا تفضحوني بمبادرتكم السّيّئة ، ولا تجرّوا إليّ هذه السّمعة القبيحة بأن ضيوفي قد مسّت كرامتهم (وَاتَّقُوا اللهَ) احذروا غضبه وسخطه (وَلا تُخْزُونِ) لا تجعلوني مخزيّا ذليلا ولا تخجلوني بعار هذه الفاحشة. والخزي بمعنى الحياء من ركوب العار وفعل ما هو قبيح.

٧٠ ـ (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) : عن الباقر عليه‌السلام أن المراد به النهي عن ضيافة الناس وإنزالهم في ضيافته والاتصال بهم ومعاشرتهم لإرشادهم إلى الهدى والحق.

٧١ ـ (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) : المراد بناته من الصّلب ، أو أراد نساء القوم ، لأن كل نبيّ بمنزلة الأب لأمته لولايتهم المطلقة الّتي بها صاروا أولى بالمؤمنين من أنفسهم (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) تريدون قضاء الوطر فتزوّجوهنّ بالحلال الذي شرعه الله تعالى.

٧٢ ـ (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) : أي وحياتك يا محمّد ، فعن ابن عبّاس قال : ما خلق الله خلقا أكرم وأعزّ من نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولذا ما حلف بحياة أحد غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله وقيل هذا الخطاب من الملائكة للوط (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي في ضلالتهم وغوايتهم التي أزالت عقولهم يتحيّرون فكيف يسمعون النّصح ويقبلون الهداية؟.

٧٣ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) : أي فعمّتهم صيحة جبرائيل الهائلة (مُشْرِقِينَ) حين شروق الشمس وروي أن جبرائيل عليه‌السلام أدخل أجنحته تحت قراهم ورفعها إلى أن قربت من السماء بحيث يسمع أهل السماء صياح الدّيوك والكلاب فقلبها منها.

٧٤ ـ (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) : كما تشير الآية المباركة (فَجَعَلْنا عالِيَها

١٩١

سافِلَها) صارت منقلبة بهم رأسا على عقب (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجّر ، أو حجر سجّل باسم كل واحد من أهالي القرى. وظاهر الكريمة أن الأمطار كان بعد التقليب. فعلى هذا أيّ فائدة في الأمطار بعد الهلاك؟ يمكن أن يفرض فيه فائدتان : الأولى استحكام الأراضي والتّرب المتراكمة حتى لا تذهب أرياحهم العفنة المنتنة إلى القرى المجاورة فيتأذى بها أهلها والثانية تسوية الأراضي الخربة وجعلها قاعا صفصفا كالمسيل الواسع المفروش بالأحجار بحيث إذا يمرّ المارّون وينظرون إلى تلك القرى يرون كأن لم يكن شيئا مذكورا ولم تكن هناك عمارة فتكون عبرة لأولي البصائر والألباب مع أن قرى قوم لوط الأربع كانت عامرة بالأبنية الرفيعة العالية وبالنعم الجسيمة الكثيرة وكانت بين الشام والمدينة وأكبرها سدوم التي كان لها مركز خاص.

* * *

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧))

٧٥ و ٧٦ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) : أكّد سبحانه وتعالى أن في قصة قوم لوط وقلب مدائنهم الأربع عبرة لمن اعتبر من المتوسّمين : أي المتفرّسين الذين ينظرون إلى الأشياء بتعمّق وتدبّر حتى يدركوا حقائقها بعين العقل ونور الفكر الصائب. وقوله تعالى : (لَآياتٍ) قد يعني : الصيحة ، ورفع المدن ، وقلبها ، والإمطار بالأحجار ، فكل واحدة منها آية وعلامة لمن تبصّر واعتبر. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسّم. وقال الصادق عليه‌السلام : نحن المتوسّمون ، والسبيل فينا مقيم ، وهي طريق الجنّة ، والوسم العلامة (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) الضمير في (إِنَّها) عائد إلى مدائن قوم لوط ، أي أن هذه المدن بما ظهر فيها من آثار نقمة الله سبحانه من قلعها وقلبها بأهلها وما فيها ، وجعلها كأن لم تكن

١٩٢

مع تلك الأبنية المتينة العالية والقلاع المشيّدة ، ثم من المطر بأحجار مخصوصة من سجّيل وعلى كيفية خاصة مباينة للأحجار المعهودة الطبيعية ، وبحيث يعرف كل حجر صاحبه ، إن ذلك كله لموجود في طريق ثابت يسلكه الناس أثناء أسفارهم في سبيل حوائجهم ويرونها قبل أن تندرس آثارها وتبتلعها الأرض وفي الآية الكريمة تذكير لقريش لأن تلك القرى تقع في طريقهم بين الحجاز والشام التي هي طريق تجارتهم ، وذلك كقوله سبحانه : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) وهي كذلك للتنبيه والتفكّر بعواقب الأمور.

٧٧ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) : هذه الآية الشريفة كسابقتها إلّا أن الأولى تعني أن المتوسّمين هم الأئمة الأطهار من أهل البيت عليهم‌السلام كما أشرنا وكما تدل الأخبار الكثيرة ، وهذه تعني المؤمنين من قبيل ذكر العام بعد الخاص ، فهي من باب التنبيه لأهل الإيمان والتصديق. وأما الذين لا يؤمنون فإنهم ليسوا محلّا لعناية الله سبحانه لأنهم يحملون الآيات السماويّة على أحداث الطبيعة ووقائع القرانات الكوكبية والتحرّكات الفلكية ، أو من حركة الغازات الجوفية في الأرض ، أو من تكاثر الأبخرة المتولّدة من المياه المخزونة تحت الأرض ، أو من عوامل أرضية جيولوجيّة ناتجة عن استكاكات خاصة بها ، وكأن ذلك كلّه أوجده واحد آخر غير خالقنا سبحانه وتعالى.

* * *

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩))

٧٨ و ٧٩ ـ (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) ... أصحاب الأيكة هم قوم شعيب عليه‌السلام ، والأيكة ، الأشجار الملتفّة. والمراد هنا غيضة كانوا يقيمون بها تقع بقرب مدين. وهي أجمة كثيفة من الأشجار فيها مجامع ماء ، ممّا جعل بلادهم جنائن وبساتين غنّاء ، ولذلك سمّيت أيكة وسمّوا

١٩٣

هم بها لشهرتها ولوفرة النعيم الذي كانوا يعيشون فيه. و (إِنْ) مخفّفة ، والأصل : إنّ أهل الأيكة ـ أي قوم شعيب ـ لظالمين لأنفسهم إذ بعث الله تعالى لهم رسوله شعيبا عليه‌السلام ليهديهم إلى الدين والتوحيد فكذّبوه ، وزاد في الجهد معهم فازدادوا كفرا وعنادا وأمعنوا في التكذيب (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أحللنا بهم نقمتنا وسخطنا وعذابنا فأهلكناهم. وكان هلاكهم بالحرّ ، وهو عذاب يوم الظّلة ـ والعياذ بالله منه ـ إذ دهمهم حرّ محرق لا يطاق ، ثم بدت سحابة لجأوا إليها ليستظلّوا بها من شدّة الحرّ فأحرقتهم بصاعقة بعد أن عاقبهم بالحرّ سبعة أيام ، ثم لمّا أووا إلى ظلّ الغيمة يلتمسون روحها وبردها أرسل الله عليهم الصاعقة ، فبعدا للقوم الظالمين.

أما قوله سبحانه : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) فإن ضمير التّثنية في (إِنَّهُما) يعني سدوم والأيكة ، فهما آيتان موجودتان بإمام ، طريق ، مبين : واضح للساكنين. وقد سمّى الطريق إماما لأنه يؤمّ ويتّبع ويهتدى به كما أن الإمام كذلك. وقيل معناه أن حديث مدينتيهما ، أي مدينتي قوم لوط وشعيب مكتوب في اللوح المحفوظ نظير قوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) ، فأطلق الإمام على اللوح بذلك الاعتبار المذكور.

* * *

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤))

٨٠ ـ (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) : أي ثمود كذبوا صالحا.

١٩٤

والحجر واد كان يسكنها القوم بين المدينة والشام. هذه هي القصة الرابعة. فالأولى قصة إبليس وآدم ، والثانية قصة إبراهيم ولوط ، والثالثة قصة أصحاب الأيكة. وإنما سمّوا أصحاب الحجر لأنهم كانوا سكّانه كما يسمّى الأعراب الذين يسكنون البوادي أصحاب الصّحارى. وإنّما قال تعالى : (الْمُرْسَلِينَ) إمّا لأن في تكذيب صالح عليه‌السلام تكذيب المرسلين جميعا ، حيث إنه (ع) كان يدعوهم إلى ما دعا إليه المرسلون من التوحيد والإيمان بالمرسلين. وقيل بعث الله إليهم في مرور الدهور والأزمان رسلا من جملتهم صالح فكانوا يكذبونهم كلّهم.

٨١ ـ (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) ... أي آتينا أصحاب الحجر الحجج والبراهين الدّالة على صدق المرسلين. أو آتينا الرّسل المعجزات والدلائل الدالة على صدق دعواتهم : كالناقة التي كان فيها آيات كثيرة كخروجها من الجبل المكوّن من الصخر ، وكبر خلقتها بحيث لم تخلق ناقة بتلك العظمة في الخلقة ، وكونها حبلى حين خروجها كما أرادوه ، وضع حملها في الوقت ، وكونها ذات لبن كثير بحيث يكفي أهل البلد (ثمود) وشربها لجميع مياههم يوم نوبتها. والحاصل أن كل واحد من هذه الأمور آتية ومعجزة يعجز عنها كل أحد من المخلوقات (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي لم يقبلوها وفعلوا ما نهوا عنه من عقر الناقة وقتل ولدها ولم يعتبروا بها. وكان قوم صالح أقوياء ، نقادين على ما يستفاد من قوله تعالى :

٨٢ ـ (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) : أي يحفرون في الجبال بنقرها ونحتها مساكن فيها (آمِنِينَ) مطمئنّين من خرابها وسقوطها عليهم ومن العذاب الذي أوعدهم الرّسل والأنبياء المبعوثون لفرط غفلتهم ونسيانهم ذكر ربّهم وخالقهم.

٨٣ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) : أي صيحة جبرائيل عليه‌السلام خلّت بهم (مُصْبِحِينَ) وقت الصبح حين شروق الشمس.

١٩٥

٨٤ ـ (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا) ... أي ما نفع ودفع عنهم ما كانوا يحصّلون من البيوت الوثيقة وازدياد الأموال وأنواع الملاذّ. وهذه القصص الأربع المذكورة المتوالية في هذه السورة ، كأنها تصبير للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على سفاهة قومه وكثرة إيذائهم إيّاه صلوات الله عليه وآله ، فإنه إذا سمع مكرّرا أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياءهم ورسلهم بهذه المعاملات الفاسدة والأعمال السّفيهة الشاقّة ، سهل عليه نسبة تحملّ تلك المشقات والأذى منهم وعرف صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ديدن الأمم الجاهلة كان هكذا مع الرّسل من السّلف الماضين إلى الخلف الباقين ، فلا بدّ من تحمّل المشاق. غاية الأمر أنّ للأذى والتّأذّي مراتب ، وكان تأذيه من قومه أعلى مراتبه بحيث قال صلوات الله عليه : ما أوذي نبيّ بمثل ما أوذي ، حتى في آخر نفس منه بأبي هو وأمّي آذوه وأحرقوا كبده الشريف بحيث انصرف عن أهمّ أمر أراد أن يمضيه ويثبّته إلى الأبد لهداية الأمّة وكشف الغمّة ، فاللهم العنهم لعنا وبيلا وعذّبهم عذابا أليما. ولما ذكر في الآيات السابقة الإهلاك والتعذيب فكأنه قيل كيف يليقان بالرّحيم الكريم الودود الذي هو أرأف بعباده من كل رؤف؟ فأجاب عنه بأنّي خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة مطيعين لأوامري منتهين عن نواهيّ ، فإذا خالفوني وتركوها وجب عليّ حسب اقتضاء الحكمة إهلاكهم واقتلاعهم عن الأرض لأنهم مادة الإفساد والفساد ، ولا يفيدهم النّصح والعظة ولا العفو والرّحمة ، فاني أعرف بعبادي من كل عارف ، وأعلم بأحوالهم من كل عليم.

* * *

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ

١٩٦

 هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩))

٨٥ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ) ... أي ما خلقنا خلقا عبثا بل لما اقتضته الحكمة ، خلقناهم للمعرفة والعبوديّة ، وللطاعة والاتّقاء ، وكذلك خلق السّموات والأرض للاعتبار ولا للعبور والحاصل أن خلقهما وخلق ما بينهما لا يكون (إِلَّا بِالْحَقِ) للأغراض والحكم الصّحيحة فلا يلائم استمرار الفساد ودوام الشرّ ، فلذا اقتضت الحكمة إهلاك المفسدين وإزاحة فسادهم من الأرض. وهذا معنى كون خلقهما بالحق (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أي ساعة الجزاء في دار الانتقام جاثية فيجازى كلّ بعمله فالمحسن يجزى والمسيء ينتقم منه (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي فأعرض يا محمد عن مجازاة المشركين وعن مجاوبتهم واعف عنهم عفوا جميلا. وقيل إنها منسوخة بآية القتال ، وقيل لا نسخ فيها بل هو فيما بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقوقه الشخصية وبينهم ، أي في أمورهم الشخصيّة والقوميّة لا فيما أمر به من جهة جهادهم الّتي هي راجعة إلى مصالح نوعيّة عامة ، فأمره بالصّفح في موضعه كقوله : وأعرض عنهم في حقوقه وعظهم. والصفح ممدوح في سائر الحالات وهو كالحلم والتواضع ، ولا منافاة بين الصفح الجميل مع لزوم الشدة في أمر الجهاد. وعن الرضا عليه‌السلام : الصفح الجميل يعني العفو من غير عتاب ، وقيل هو العفو من غير تعنيف وتوبيخ.

٨٦ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) ... أي كثير الخلق ، وخلقهم وبيده أمرك وأمرهم وهو (الْعَلِيمُ) بحالك وحالهم وما فيه صلاحهم ، فهو أحق بان توكّل إليه أمرك وأمرهم حتى يحكم بينك وبينهم بالحق.

١٩٧

٨٧ ـ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) : المثاني : جمع مثنى ، وقيل المثاني هو القرآن أو آياته على اختلاف العبارات. وقيل هي سورة الحمد. وعلى القولين عطف القرآن على السّبع من باب عطف العام على الخاص وبناء على القول الأخير ولفظة (مِنَ) بيانيّة وعلى الأوّل تبعيضيّة. ووجه تسمية سورة الحمد بالمثاني إما على القول بكون المثنى مشتقّ من ثنى يثني ثنيا أي جعل الشيء ثانيا ، فلكون الحمد كلماته مثنى مثنى أو لكون نزوله مرّتين ، وإما لكون نصفها في بيان صفات الخالق ونصف آخر في حق المخلوق. ولا مانع من أن يكون باعتبار المجموع ، وإما على اشتقاقه من أثنية إذا مدحته ومنه الثناء فوجه التسمية لكونه مشتملا على ذكر صفاته العظمى وأسمائه الحسنى بكيفية مشتملة على المدح والثناء الجميل على ما لا يخفى. وأمّا إطلاق السّبع عليه باعتبار اشتماله على الآيات السبع. وقيل إن المراد بالسبع السّبع الطّوال في أول القرآن من البقرة إلى سورة براءة مع الأنفال فإنهما سورة واحدة ، ولذا لم يفصل بينهما ببسم الله الرّحمن الرّحيم. ثم إن إفراد سورة الفاتحة بالذكر مع كون أجزائها جزءا من أجزاء القرآن بقوله : سبعا من المثاني ، يدلّ على مزية فضل وشرف في هذه السّورة. وبناء على أن يكون المراد بالسّبع هي السّور الطّوال من البقرة إلى التوبة. فتسميتها بالمثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والعبر ثنّيت فيها وإن أنكروا هذا القول ، وهذا المبنى لجهة ذكرت في محلّها. وعن الباقر عليه‌السلام : نحن السّبع المثاني الّتي أعطاها الله نبيّنا. وقال الصّدوق : قوله نحن المثاني : أي نحن الّذين قرننا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى القرآن وأوصى بالتمسك بالقرآن وبنا ، وأخبر أمّته أنّا لا نفترق حتى نرد حوضه. وفي بعض الروايات : بيان وجه التسمية في الفاتحة بالمثاني قال عليه‌السلام : إنما سمّيت المثاني لأنها تثنّى في الركعتين ، كما أنه في الرواية المذكورة أشار عليه‌السلام إلى التسمية من ناحية أخرى ، وهذا يدل على ما ذكرنا آنفا من أنه يمكن بل زائدا على الإمكان أن يكون وجه التسمية بتمام تلك الاعتبارات

١٩٨

والوجوه (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) تقديره : وآتيناك القرآن العظيم ، وصفه بالعظيم لأنه يتضمّن جميع ما يحتاج إليه من أمور الدّين والدنيا بأوجز لفظ وأحسن نظم وأتمّ معنى. ثم بشأن نزول هذه الآية الشريفة في مكة المشرّفة نقل أنه يوما من الأيام ورد على مكة الشريفة سبع قوافل من قريش تحمل المطاعم الكثيرة والملابس العديدة وغير ذلك من الأمتعة ، فنقل عن طائفة من الصّحابة أنه خطر على قلب الرّسول الأكرم (ص) بأنّ المؤمنين كانوا في ضيق وشدّة والمشركين في رحب وسعة فنزلت الآية الكريمة : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً) إلخ .. وقيل نزلت مرة أخرى في المدينة حينما رأى الصحابة نزول سبع قوافل من يهود بني قريظة وبني نضير وتمنّوا أن تكون الأموال من الأمتعة والجواهر الثمينة لهم حتى يتصدّقوا بها في سبيل الله ، فنزل أمين الوحي جبرائيل عليه‌السلام بهذه الكريمة من عند ربّه الجليل ـ يعني فاتحة الكتاب ـ وذكر القرآن العظيم المشتمل على صلاح البشر في الدارين ، وأن ذلك خير لك ـ يا محمّد ـ وللمؤمنين من تلك الأمتعة الدنيويّة الزائلة.

٨٨ ـ (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ... أي لا تنظر إلى ما يتمتع به هؤلاء الكفار وما يتمرّغون به من نعمة نظر طمع ورغبة في مثل حالهم إذ ترى الدنيا زاهية زاهرة لهم وقد متّعنا بذلك (أَزْواجاً مِنْهُمْ) يعني أصنافا ، والزّوج في اللغة الصّنف ، فإن ما ينعمون به هم وأهلوهم مستحقر في جانب ما آتيناك من الإسلام والقرآن (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إذا لم يؤمنوا بالله ولم يشكروا نعمه وغرّتهم الحياة الدنيا بمباهجها وفتنتها. وقيل إن الضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد إلى أصحابه : أي لا تحزن إذا رأيت أصحابك في ضنك وضيق عيش وفقر ، فإن ما ادّخرناه لكم من النعيم الباقي خير ممّا أعطينا الكفار من النعمة الزائلة والتراث الفاني ، فهوّن عليك (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) تواضع لمن معك من (لِلْمُؤْمِنِينَ) وارفق بهم كي يتّبعك الناس في دينك وطريقتك المثلى ويميلون إليك.

٨٩ ـ (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) : أي قل للكفّار مخوفا أنا النذير : الذي

١٩٩

يحذّركم سخط الله تعالى وعذابه ، المبين : المظهر لصدق دعواي بالحجج والبراهين الواضحة ، وأنا أعلن لكم أنكم إذا لم تؤمنوا فإنه ينزل بكم عذابه في الدنيا وفي الآخرة.

* * *

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦))

٩٠ و ٩١ ـ (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) ... هذا عطف على ما سبقه من وجوب إنذار الكفار بنزول العذاب عليهم كما نزل على المقتسمين : وهم اليهود والنّصارى عن ابن عباس فإنهم قسّموا القرآن أقساما بحسب هواهم ، فصدّقوا بما هو موافق لهم ، وكفروا بالذي كان مخالفا لهم ، فهم (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي صيّروه أجزاء وأقساما وقالوا عن بعضه : هذا حقّ لأنه موافق لما في التوراة والإنجيل ، وقالوا عن بعضه الآخر : هذا باطل لأنه مخالف لهما ، فقسّموه إلى حقّ وباطل كما عن ابن عباس ، أما ما روي عن الصادقين عليهما‌السلام فإنهما سئلا عن هذه الآية فقالا : هم قريش ، ففي كتاب عين المعاني أن كفّار قريش كان بعضهم يقول : إن سورة البقرة لي ، وآخر يقول : سورة النّمل لي والباقي لكم ، وهكذا كان كلّ واحد منهم يختار سورة استهزاء وسخرية ويتقسّمون القرآن بهذه الكيفية فسمّاهم الله سبحانه المقتسمين ووصفهم بالّذين جعلوا القرآن عضين : أي قطعا قطعا وعضوا عضوا.

٢٠٠