الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

وكلّ وقت ، أو أنه قصد بها : المعظّم برفعه إلى السماء يوم طوفان نوح عليه‌السلام أو بمنع الطوفان من أن يصل إليه ، أو لأنه منع فيه ما أجيز في غيره كاجتياز الجنب والحائض وغير ذلك ، وكالطواف حوله بكيفيّة مخصوصة ، وكغير ذلك من المناسك التي شرّعت فيه وفيما حوله وكلّ ذلك يدل على عظمته وحرمته (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) قد كرّر سلام الله عليه اسم ربّه ليكشف عن غاية حبّه له تعالى وعن كمال خلّته له فإن الإنسان إذا كان يحب شخصا يحب أن يكرّر اسمه في مقام الكلام عنه فيذكر اسمه مرّة وكنيته مرّة ولقبه أخرى أو يكرر اسمه بلا انقطاع ، بخلاف من يكرهه فإنه لا يذكر اسمه ولا يحب ذكره ، وهذا لا يخفى على كلّ ذي لبّ وإدراك والشاهد هو الوجدان. ولم نجد في القرآن الكريم ـ في مقام خطاب الأنبياء (ع) لله تعالى ـ ما نجده من قول إبراهيم عليه‌السلام : ربّنا ، ربّنا ، مما يكشف عن الحب المفرط والتعلّق الشديد ولذا لقّب بخليل الله وألبسه الله تعالى هذه الخلّة من بين أنبيائه المكرمين كما لقّب سيدنا ونبيّنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحبيب لاقتدائه بجدّه إبراهيم في ودّه. و (اللام) في (لِيُقِيمُوا) لام الغرض ، ولذا فرّع عليه‌السلام على هذا القول الدعوة التي هي في كمال المناسبة مع المقام والتي تكشف عن الالتفات إلى أقصى أمر تحمله دعوة الرّسل إلى العالمين ألا وهو الصّلاة ـ الركن الركين في الدّين ـ التي إن قبلت قبل ما سواها لتعظيمها وحرمتها ، فدعا لإسماعيل عليه‌السلام وذرّيته ومن شارك في الصلاة في ذلك البيت ليكون ناجيا كإسماعيل (ع) وذريّته مع الشرائط التي تصح بها صلاة المصلّين ، وكلّ من صلّى صلاة صحيحة فيه كان إبراهيم عليه‌السلام شريكا له في الأجر لأنه صار موفقا لإقامتها ببركة دعوته (ع) في ذلك المكان منذ ذلك الزمان (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) من : تدلّ على أن أفئدة وقلوب بعض الناس تميل إليهم بالحبّ والولاء. وقد استجيبت دعوة إبراهيم عليه‌السلام فقد روي أنه لو قال : أفئدة النّاس ، لحجّت اليهود والنّصارى والمجوس وازدحمت فارس والروم ، لكنه (ع) قال : من الناس ، فهم المسلمون من الناس فقط.

١٦١

فإن قلت : ما يمنع أن يحج هؤلاء ، فإن تشرّفهم بهذا البيت المقدّس وازدحامهم من حوله يزيد في عمارته واتّساعه وازدهار أحوال أهله؟. والجواب أن ازدياد سعته ليست بمصلحة له فلربّما أدّى ذلك إلى تخريبه إن كان للكفرة فيه يد ، مضافا إلى أن دخول الكفرة وأهل الشّرك إليه هو خلاف ما جعل الله له من الحرمة والعظمة والقداسة التي تمنع أن يكون للكفرة شيء من الولاية عليه والتدخل في شأنه ، ولذا بعث الله نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره بتطهير البيت منهم وتنزيهه عن شركهم ، وبمنعهم من دخوله أبدا وإلى الأبد. فدعوة إبراهيم عليه‌السلام بأن يجعل أفئدة «البعض» تهوي إليهم حفظت البيت من تدنيس المشركين والكفّار ، وأهل البيت أدرى بما يصلح البيت ، والحمد لله. وتهوي إليهم : يعني تحنّ إليهم وتسرع نحوهم مترامية عليهم محبة وشوقا. وعن الباقر عليه‌السلام : لم يعن البيت فيقول : إليه ، فنحن والله دعوة إبراهيم. نعم أراد البيت بالملازمة لعمارته ، ولمؤانسة ذرّيته بمن يرد إليه ويقيم حوله من الوفود للحج أو للتجارة ، فإننا نرى اليوم مكة عامرة والبيت مزدهرا بفضل تلك الدعوة الميمونة المباركة المقصودة تبعا للذريّة الشريفة المباركة (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) وهو أمس واليوم يجبى إليه ثمرات كلّ شيء بإذن الله في مختلف فصول السنة ، فإنك تجد في مكة في اليوم الواحد الفاكهة الصيفيّة والشتويّة والخريفيّة والربيعيّة ، فسبحان القادر المجيب لتلك الدعوة الشريفة وسائر الدعوات الصالحة.

٣٨ ـ (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) ... هذا الكلام يرتبط بما سبقه لبيان أنه عليه‌السلام حين طلب من ربّه ما طلب ، اعتذر بأنّنا وإن نطلب منك حوائجنا فليس ذلك من باب أنك لم تكن عالما بها جملة وتفصيلا وأنّنا نريد أن نعرّفك بها ونعلمك عنها ، فحاشاك ثم حاشاك من ذلك فإنك لست عند هذه المقولة ، ولكنّنا ندعوك إظهارا لعبوديّتك وافتقارا لرحمتك الواسعة واستعجالا لنيل ما عندك ، في حين أنك تعلم ما نسرّ وما نعلن ولا تخفى عليك خافية (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا

١٦٢

فِي السَّماءِ). وعن الصادق عليه‌السلام : أن الله تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه ، ولكنّه يحب أن يبثّ إليه الحوائج. فإذا دعوتم فسمّوا حاجتكم.

٣٩ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي) ... حمد الله سبحانه أن وهب له : أعطاه هبة (عَلَى الْكِبَرِ) كبر سنّه وتقدّم عمره ، أعطاه (إِسْماعِيلَ) ابنه من هاجر ، فقد ولد إسماعيل (ع) ولأبيه عليه‌السلام تسع وتسعون سنة ، ثم ولد له (إِسْحاقَ) وله مائة واثنتا عشرة سنة ، فشكره على هذه النعمة الجزيلة وقال : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) لي ولسائر الداعين بإخلاص وصدق نيّة.

٤٠ ـ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ... دعا الله تعالى بأن يكون هو وبعض ذريّته من المرضيّين المؤمنين مقيمي الصّلاة ولم يدع لجميعهم لإعلام الله السابق بأنه سيكون فيهم كفّار (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي استجبه وارض عن عبادتي.

٤١ ـ (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) ... أي تجاوز عنّي وعنهما. وظاهر الآية الكريمة يعطي أن أبوي إبراهيم عليه‌السلام لم يكونا كافرين ، ولو كانا لما سأل لهما المغفرة لأنه يعلم أن الله لا يغفر للكافر والمشرك أبدا. فصحّ أن أباه الذي كان حيّا أثناء بعثته وأنه كان كافرا إنما هو جدّه لأمه أو عمّه على خلاف فيه ـ وهو آزر الذي ورد ذكره في القرآن ـ ولا يمكن أن يكون حال أبويه مجهولا عنده وهو في سنّ الشيخوخة ، على أنه لم يتبرّأ من آزر إلّا بعد علمه باستدامته على الشّرك. فقد دعا إبراهيم (ع) بالمغفرة له ولأبويه (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وبالتجاوز عنهم (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) في يوم القيامة عند وزن الأعمال.

* * *

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا

١٦٣

يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣))

٤٢ ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) ... أي : اطمئنّ بألا يا محمد ، ولا تظننّ أن الله غير منتبه لما يفعله الكافرون من أذيّتك والوقوف في وجه دعوتك ، فإنه مطّلع على ما يعملون (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) يؤخّر عذابهم والانتقام لك منهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي ليوم تتفتّح فيه العيون واسعة دون أن تطرف ، بل يبقى منتصبة شاخصة تنظر في مصيرها إذ ترى أهوال ذلك اليوم الرهيب.

٤٣ ـ (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) ... أي أنك سوف تراهم مقبلين إلى دعوة الداعي إقبالا سريعا وبتمام الطاعة والانقياد ، مقنعي رؤوسهم ، رافعين رؤوسهم نحو السماء بحيث لا يرى الواحد مكان قدميه من شدّة رفع الرأس من فزع ذلك اليوم ـ نعوذ بالله تعالى منه ـ (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي أن قلوبهم خاوية وأجسامهم كأنّها بغير عقول تسيّرها فهم لا يدركون شيئا لفرط الدهشة والحيرة. والمراد أنهم يكونون حينئذ جبناء يظهر عليهم الذّل والفشل ، أو كأنهم غادرت قلوبهم أجسامهم وفارقتها عقولهم فهي خواء قد ضيّعتها الأهوال والمخاوف.

* * *

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ

١٦٤

ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦))

٤٤ ـ (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) ... أي : خوّفهم يوم الموت حيث يبدأ عذابهم في البرزخ ، أو يوم القيامة الذي يقفون وجها لوجه مع العذاب الذي ينتظرهم (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم وغيرهم : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي أمهلنا إلى وقت قصير غير بعيد (نَتَّبِعِ الرُّسُلَ) بطاعتهم وبطاعتك ونتدارك ما فرّطنا فيه من إجابة دعوتك وقبول توحيدك وممارسة شريعتك ، فيأتيهم الجواب بمقتضى الحال وعلى إرادة القول أو بتقدير أن الملائكة الموكّلين يقولون لهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) ألم تحلفوا في دار الدّنيا (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أنكم مستقرّون باقون ، وأنكم إن متمّ لا تبعثون غرورا منكم وطول أمل؟ ..

٤٥ ـ (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ... أي أنذر يا محمد قومك المعاندين بأن الذين عاندوا الرّسل من قبلكم أهلكهم الله تعالى ، وأنتم قد سكنتم في مساكنهم بعد أن أهلكوا بظلمهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) من آثارهم البائدة (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من النقمة (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) لتفهموا وتتدبّروا ، فاعتبروا.

٤٦ ـ (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) ... أي قد جهدوا في كيدهم واحتيالهم وبلغوا الغاية في المكر لإبطال أمر الرّسل وتثبيت الباطل (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) مكتوب عنده تعالى محفوظ معروف ، وهو يجازيهم عليه (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) قرأ بعضهم بفتح اللام الأولى ورفع الثانية (لِتَزُولَ)

١٦٥

ومعنى الآية أن مكرهم كان من العظمة بحيث تزول منه الجبال ، وينبغي لها أن تزول من ذلك الكيد الكبير. وليس المراد من هذا القول الإخبار عن الوقوع ، بل هو مبالغة في شدّة مكرهم وتهويل حيلهم لإبطال الحق وإشاعة الباطل. وقد تكون الجبال كناية عن الدّين القويم والبراهين الإلهية بمعنى أن مكرهم لم يكن ليبطل دينك وشريعتك التي هي أرسى من الجبال في الثبات ف (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وليس دينك أمرا خلقيّا مجعولا فرضه العرف والاصطلاح.

* * *

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١))

٤٧ ـ (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) ... فلا تظنّنّ يا محمد أن الله يخلف أنبياءه ما يعدهم من نصرهم وإهلاك أعدائهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) فهو غالب منيع الجانب شديد النقمة لأوليائه من أعدائه.

٤٨ ـ (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) ... قيل في معناها قولين :

أولهما : أنها تبدّل صورة الأرض وهيئتها كما عن ابن عباس الذي روي عنه قوله : تزول آكامها وآجامها وجبالها وأشجارها ، والأرض على حالتها تبقى بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم ولم يعمل عليها خطيئة. وتبدّل

١٦٦

السماوات فيذهب بشمسها وقمرها ونجومها وأنه أنشد :

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت أعرف

وثانيهما : أن الأرض تبدّل وتنشأ أرض غيرها ، والسماوات كذلك تستبدل بسواها.

ولفظة (وَالسَّماواتُ) تعني أن السماوات تبدّل غير السماوات ، وقد استغني بما هو مذكور. وعن السجّاد عليه‌السلام : تبدّل الأرض ، يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب ، بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها أول مرة (وَبَرَزُوا لِلَّهِ) أي ظهروا بين يديه من قبورهم للمحاسبة أمام (الْواحِدِ) الأحد القويّ (الْقَهَّارِ) الغالب الذي لا يغلب.

٤٩ ـ (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) : أي في ذلك اليوم التي تبرز فيه الأشياء كلّها لله فلا تخفى عليه خافية سترى قهره للمجرمين وقدرته على المعاندين ، وعجزهم بين يديه وذلّتهم حيث يكونون (مُقَرَّنِينَ) يخرجون من قبورهم مقيّدين بسلاسل من نار قرنت أطرافهم إلى بعضها وربطت ربطا محكما ، أو شدّت أيديهم إلى أعناقهم بأصفاد : أغلال وقيود مما يوثق به المجرم والأسير من سلاسل الحديد وأمثالها. وليس هذه حالهم فقط ، بل :

٥٠ ـ (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) : السّرابيل : جمع السّربال ، وهو القميص ، فلباسهم من القطران الذي يطلى به الجمل الأجرب ليكتوي جربه بحدّته وحرارته ، وهو سريع الالتهاب شديد الحرارة أسود اللّون منتن الرائحة ، تطلي به جلود أهل النار لتصبح سريعة الالتهاب شديدته ، وهم إلى جانب ذلك (تَغْشى) تغطّي (وُجُوهَهُمُ النَّارُ) والوجوه أعزّ الأعضاء وأشرفها في ظاهر الجسم ثم القلب الذي هو العضو النابض بالحياة من الداخل فإنه أيضا ستلفحه النار بسعيرها لأنّها (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) كما قال سبحانه وتعالى في سورة الهمزة. وقد خصّ سبحانه الوجوه بالذكر لأنّ بها يتطلع الإنسان ويتوجه إلى الله يومئذ ليطلب رحمته ومغفرته

١٦٧

وعفوه ، فإذ لم يتوجه به ولم يقدر على استعماله فقد حيل بينه وبين بغيته وربط على لسانه وختم على فمه واشتعلت النار في أطرافه ـ والعياذ بالله من ذلك ـ وعن الصادق عليه‌السلام أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال جبرائيل : لو أنّ سربالا من سرابيل أهل النار علّق بين السماء والأرض لمات أهل الأرض من ريحه ووهجه! وقد أعدّ ذلك كلّه للكافرين

٥١ ـ (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ... أي ليعاقب كل نفس مجرمة بما اكتسبته من ذنوب وآثام (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) مرّ تفسيره.

* * *

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

٥٢ ـ (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) ... أي أن هذا القرآن ، أو هذه السورة ، أو هذا التهديد والوصف الذي قدّمناه ، هو بلاغ : إعلام نبلّغهم إياه ليعرفوه جيدا (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) وليكونوا منذرين مخوّفين به وليعرفوا بتأمل وتبصّر واتّعاظ مصير الكافرين والمعاندين (وَلِيَعْلَمُوا) يعرفوا بالدلائل والبراهين ويدركوا (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) ربّ خالق فرد وتر (وَلِيَذَّكَّرَ) يتذكّر ويتدبّر (أُولُوا الْأَلْبابِ) ذوو العقول والبصائر الرشيدة.

* * *

١٦٨

سورة الحجر

مكيّة إلّا الآية ٨٧ فمدنية ، وآياتها ٩٩ نزلت بعد يوسف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨))

١ ـ (الر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) : أي : هذا الذي ننزله عليك هو آيات القرآن الواضح البيّن. وقيل هو المبيّن للحلال والحرام ، أو المميّز بين الحق والباطل.

* * *

١٦٩

٢ ـ (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) : يعني أن الكفرة إذا عاينوا حال المسلمين من النّصر والظفر في الدنيا ، أو الفوز بالجنّة ومرضاة الله في الآخرة ، يحتمل أن يتمنّوا أنهم مثلهم فيقولوا : يل ليتنا كنّا مسلمين. ولفظة (لَوْ) هاهنا حرف مصدريّ بمنزلة (أن) إلّا أنها لا تنصب ، وأكثر وقوعها يكون قبل : ودّ ، ويودّ. وقد روي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله : لا يدخل الجنّة إلّا مسلم ، فيومئذ يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين.

٣ ـ (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) ... أي : دعهم ـ يا محمد ـ يأكلوا كما تأكل الأنعام في الدّنيا ، مكتفين بلذة الأكل وطيبه وملء بطونهم ، مسرورين بهذه الحال يوما بعد يوم ، لاهين عابثين يسيرون مع الأمل الخادع ، منصرفين عن الدّين وإطاعة ربّ العالمين (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) خسران طريقتهم حين يحلّ بواديهم البوار ويحيط بهم العذاب. وفي هذه الآية الكريمة حثّ للإنسان على التنبّه ليكون مستعدا للموت مبادرا للتوبة لا يؤخرها بالتسويف وطول الأمل الذي يصدّه عنها. وقد قال مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه : إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل. فان اتّباع الهوى يصدّ عن الحق ، وطول الأمل ينسي الآخرة. وعنه عليه‌السلام : ما أطال عبد الأمل إلّا أساء العمل. وقد قال الباقر عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا استحقّت ولاية الله والسعادة جاء الأجل بين العينين ، وذهب الأمل وراء الظّهر. وإذا استحقّت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين ، وذهب الأجل وراء الظّهر.

٤ ـ (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) ... يعني أننا لم نهلك قرية وننزل عذابنا فيها (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي أجل مقدّر مكتوب لا بدّ أن تبلغه. وهو سبحانه يريد أن لا يغترّ الكفّار بطول بقائهم لأن لهم يوما مؤجلا موقّتا لا يتقدم ولا يتأخّر.

١٧٠

٥ ـ (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) ... أي : لا يفوت أمّة أجلها ووقت هلاكها ولا هي تتخطّاه وتتعدّاه وتنجو منه ، ولا هو يتأخر عن وقت حلوله الذي قدّر له ، بل الله سبحانه يهلك كل أمة حين تستوفي مدتها. ولفظة (مِنْ) جيء بها هنا زائدة وربما للتأكيد.

٦ ـ (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ... هذا النداء كان يرد على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الكفّار على سبيل الاستهزاء به. ولذا عدلوا من الخطاب إلى الغيبة ، أي أنهم كانوا يقولون : إنك يا محمد ليست لك قابلية المخاطبة معنا ، وهو الذي نزّل عليه الذّكر ـ أي القرآن ـ فقالوا له : (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) فقد انتهت الآية الكريمة بأن خاطبوه ليبلّغوا رأيهم فيه ، لأنه إذا لم يخاطبوه برأيهم لحصل خلاف مقصودهم ، مضافا إلى أن مقام الشتم كان الخطاب آكد وأشدّ في أذى المشتوم. وإن قيل لم نسبوه إلى الجنون في هذه الآية الكريمة؟ فالجواب يحتمل وجهين : الأول أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشية فزعموا أنها حالة جنون ، والثاني أنهم كانوا يستنكرون ذمّة للأصنام وأمره بترك عبادتها لأنها لا تليق بالعبادة ، فكان تسفيهه لهم ولعبادتهم ومعبوداتهم يثير حفائظهم فيرمونه بالجنون معتبرين أن من ينكر قيمة تلك الأصنام يكون مجنونا ، والله أعلم.

٧ ـ (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : لو ما ، ولو لا ، وهلّا ، بمعنى واحد وهي كلّها للتحريض ، وهي تعني أن الكفار والمشركين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : هلّا جئتنا بالملائكة من السماء ليشهدوا بصدق نبوّتك ودعوتك إذا كنت من الصادقين في الدعوة والنبوّة؟ فأجاب سبحانه بقوله :

٨ ـ (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) ... أي لا نرسل الملائكة من السماء إلى الأرض إلا على حسب موازين الحكمة والمصلحة ، ولا ننزلهم لمجرّد الطّلب (وَما كانُوا) يعني أن الكافرين ما كانوا (إِذاً) في واقع الحال

١٧١

(مُنْظَرِينَ) أي ممهلين عند نزول ملائكة النصر أو ملائكة العذاب. فالملائكة ينزلون في وقت ننصر فيه رسلنا ، أو في وقت نعذّب فيه العصاة.

ثم انتقل سبحانه إلى بيان اهتمامه بما أنزله على رسوله ، ليكون ذلك ردّا على إنكار الكافرين واستهزائهم ، فقال عزّ من قائل

* * *

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))

٩ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) : أي أنّه سبحانه هو منزل القرآن على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو حافظه على مدى الأزمان من الهجر والمحاربة والتحريف والتغيير والزيادة والنقصان ، فليفعلوا ما شاؤوا فإننا نتولّى حفظه ورعايته ولا يضرّه إنكارهم.

١٠ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) : الشّيع : الفرق ، مفردها : شيعة وشايعه : تبعه ، فهو عزوجل يقول مؤكّدا : إنّه أرسل قبلك ـ يا محمّد ـ رسلا ، وقد حذف المفعول به هنا لدلالة الفعل عليه ، أرسلهم إلى جميع فرق الأمم السابقة لأمّتك ، ولم يهمل أمة قبلك ويتركها بدون هداية إلى الحق ونهي عن الباطل.

١٧٢

١١ ـ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : يعني لست وحدك الرسول الذي استهزأ به قومه ، ولا أنت بالخصوص من بين سائر الأنبياء مبتلى بالإيذاء ، ولكنهم ـ جميعا ـ كانوا مبتلين مثلك بإيذاء أقوامهم وعشائرهم. والآية الكريمة تسلية للنبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٢ ـ (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) : أي كمثل هذه الحال التي قومك عليها ، وكما سلكنا دعوة الرّسل السابقين في قلوب أممهم المخالفة لهم ، كذلك سلكنا القرآن والذكر في قلوب المجرمين من قومك. فهم :

١٣ ـ (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) : أي لا يصدّقون بالقرآن كما لم يصدّق غيرهم بكتبهم وعلى هذا خلت : مضت سنة : طريقة الأوّلين الذين سبقوهم ، فهم على طريقتهم يحضون على سنّة الجهل المشؤومة من تكذيب الرّسل ، وجرت سنّة الله في إهلاك المكذّبين لرسله ، وهؤلاء مثلهم.

١٤ ـ (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ) ... أي لو أننا فتحنا على هؤلاء المقترحين أحد أبواب السماء وقيّضنا لهم الصعود إليها (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي يصعدون طيلة يومهم ليروا عجائب قدرتنا وغرائبها وبدائعها : إذا :

١٥ ـ (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) ... يعني لو أصعدناهم إلى السّماء لقالوا من فرط عنادهم وتشكيكهم في الحق : إنّما سكّرت أبصارنا : أي سدّت عن الحقيقة والواقع ونحن نرى أمورا ليس لها في الخارج وجود (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) قد سحرنا محمّد والذي نراه غير حقيقي. وهذا ديدنهم إذ قال تعالى عنهم : (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ويستفاد من الحصر أنهم كانوا مصرّين على أن ما يرونه موجودات وهمية لا واقع لها ولا وجود في الحقيقة والخارج.

وبعد ذلك أخذ سبحانه في بيان أدلة وجود صانع قادر حكيم متفرّد

١٧٣

وحيد لاحتياج أهل الشّرك والعناد والجحود إلى الإكثار من ضرب الأمثلة ، فبيّن تعالى أسرار ما في السماوات مما كان خافيا عنهم ومحجوبا ، ومما لم يكن لهم طريق إلى معرفته ولا العلم به لو لا بيانه لهم. فكشف الستار عن بعض المعلومات الملفتة للنظر حتى تتمّ الحجة عليهم بذلك فقال سبحانه :

* * *

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣))

١٦ ـ (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) ... أي خلقنا وأوجدنا فيها بروجا : منازل للشمس والقمر ، وهي اثنا عشر برجا أو منزلة ، على هيآت وصفات مختلفة كما يدل عليه الرّصد ، وكما أشير إليها في بعض الآيات والروايات من تشكيل الفصول الأربعة حيث ينتقل كلّ من الشمس والقمر أثناءها من منزلة إلى منزلة. وعن الباقر عليه‌السلام : البروج : الكواكب. والبروج

١٧٤

التي للربيع والصيف : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة ، وبروج الخريف والشتاء : الميزان والعقرب والقوس والجديّ والدّلو والحوت ، وهي اثنا عشر برجا. وقال بعض أهل الفضل : معنى البروج : القصور العالية ، وقد سمّيت الكواكب بها لأنها للسيارات كالمنازل لسكّانها. أمّا اشتقاقه فمن التبرّج لظهوره. وسير الشمس إنا يكون في كل برج من البروج الاثني عشر ثلاثين يوما تقريبا ، وبهذا الاعتبار تنقسم المسافة بين البرج والبرج الذي يليه إلى ثلاثين برجا ـ أو منزلة ـ فيصير للشمس ثلاثمئة وستون برجا في السنة بحسب سيرها ، وهي بين برج وبرج منها تدل باختلاف طبيعتها وخواصّها مع تساويها في الحقيقة ، تدل على وجود صانع حكم قد أتقنها ثم قال : (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) أي جعلنا السماء مزيّنة مزخرفة بالكواكب التي تبدو للناظر إليها فيعتبر من له أهلية الاعتبار والتفكّر ، ويستدل بها على وجود المبدع القدير الجدير بالعبادة لتفرّده بالوحدانية ولقدرته على جعلها كواكب مختلفة بديعة. فسبحان الخالق العظيم!

١٧ ـ (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) : هل الضمير في (حَفِظْناها) يرجع إلى البروج كما هو الظاهر والاستراق يكون من غيرها فلا يستشكل كيف يتمّ الاستراق لأن الله تعالى يقول : نحن حفظنا السماوات ومنعنا الشياطين من الصعود إليها والدخول إليها؟ أو أن هذا الضمير راجع إلى السماوات كما هو عليه أكثر المفسّرين وظاهر بعض الأخبار؟ وللجواب على ذلك يمكن أن يقال : الحفظ راجع إلى صيانتها من الدخول ، أما الاستراق والاختطاف فمن الخارج ، ولكن من أمكنة قريبة من الملائكة بحيث يسمع كلامهم حين يتخاطبون فيما بينهم ، فقد روي عن ابن عباس أنه كان في الجاهلية كهنة ومع كل واحد شيطان ، فكان يقعد مقاعد للسمع ، فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض ، فينزل فيخبر به الكاهن فيغشيه الكاهن في الناس. فلما بعث الله تعالى عيسى عليه‌السلام منعوا من ثلاث

١٧٥

من السماوات لمّا بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله منعوا من الكل وحرست السماوات بالنجوم. فالشّهاب الذي يرسل على من يحاول استراق السمع من الشياطين هو من معاجز نبيّنا (ص) لأنه لم ير قبل زمانه. فالمارد من الشياطين يصعد ليسترق خبرا فيرمى بشهاب يحرقه ولا يقتله ، ومن المردة من يخبّله. والشهاب بحقيقته كتلة نارية ساطعة اللهب تنطلق على النجم الذي استقرّ عليه الشيطان المستمع وتلحق به بسرعة البرق الخاطف المحرق .. فقد حفظت السماء من كل شيطان رجيم : لعين مبعد من رحمة الله وقد فصّل ذلك سبحانه بقوله :

١٨ ـ (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) : أي أن أبواب السماء جميعها مراقبة محروسة ، إلّا أن من حاول فاسترق سمع شيء لحق به شهاب : شعلة نارية ظاهرة للرائين. وهو النّيزك الذي سمّاه سبحانه : النجم الثاقب.

ثم إنه تعالى بعد ذكر السماء وما فيها من الآيات الدالة على وجوده وقدرته ووحدانيّته ، أخذ بالحديث عن الأرض وبيان النّعم التي فيها ليتدبّر العقلاء وليتذكّر أولو الألباب ، فقال عزوجل :

١٩ ـ (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) ... مددناها أي دحوناها يوم دحو الأرض ، وبسطناها صالحة للسكن وألقينا : وضعنا ، واللفظة تدل على ثقل ما ألقي فيها من (رَواسِيَ) وهي الرواسخ من الجبال الثابتة التي لا تتزلزل ولا تبرح مكانها لأنها أوتاد الأرض كما قال تعالى ، ثم قال : (وَأَنْبَتْنا فِيها) أنشأنا نباتا (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) مقدّر بميزان الحكمة متناسب في نوعيته وجميع خواصّه ، ممّا يدل على قدرتنا وعظمة ما خلقناه فيها من النبات ، فقد فعلنا ذلك في الأرض ، و :

٢٠ ـ (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) : أي صيّرنا وأوجدنا في الأرض ما يعيشون به من المطاعم والملابس والمساكن ، وخلقنا لكم ذلك وغيره ممّا جعلنا رزقه علينا ونفعه لكم ولستم بمكلّفين برزقه

١٧٦

كالأشجار ومختلف النباتات والحيوانات. بل والخدم والعبيد فإن رازقهم الله جل وعلا. وجملة : ومن لستم له برازقين ، يمكن أن تكون عطف بيان على (مَعايِشَ) ولفظة (مَنْ) وضعت لتغليب العقلاء أو هي تعود على (لَكُمْ) ويراد بها العيال والخدم وغيرهم ممّن نتولّى نحن رزقهم ونقدّر لهم معيشتهم وإياكم ، فلا تحسبوا أنكم تتحمّلون رزق أحد من هؤلاء ، وهذا كقوله سبحانه : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).

٢١ ـ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) ... أي : وما من شيء. والخزائن : جمع الخزانة بالكسر ، وهي كالمخزن اسم مكان يخزن فيه الشيء ، وخزانة كل شيء بحسبه. ويقال خزانة السلطان يعنون المكان المعدّ لجمع أمواله فيه كالذهب والفضة والمستندات الهامّة ، كما يقال خزائن ومخازن الحنطة والشعير وبقية الحبوب كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه‌السلام : اجعلني على خزائن الأرض ، وخزينة الصرّاف هي صندوقه الحديدي ، وخزّ ان الحمّام مجمع حياض مائه ، فالخزائن عبارة عن مجمع كل شيء يخزن فيه لحفظه ، وحاصل قوله تعالى أنه ما من شيء من الأشياء الممكنة التي أوجدها إلّا وهي في مقدوره وإيجادها رهن بإرادته الحكيمة ، ومفاتح كلّ شيء بيده لأنه المنشئ البارئ الموجد بقول : كن ، والأمور عنده مرهونة بأوقاتها فإذا حان حينها واقتضت المصلحة إيجادها وفق علمه الحكيم لا يجلّيها لوقتها إلا هو عزّ وعلا. وقد جمع لفظ (الخزائن) مع أن إفرادها كان يفيد العموم باعتبار أن مقدوراته غير متناهية ، ولو أفرد لتوهّم تناهيها ، والخزائن التي عنده فيها ـ مع جملة ما فيها ـ أرزاق العباد ومعايشهم (وَما نُنَزِّلُهُ) أي الشيء الذي حكى سبحانه عنه لا ينزله من خزائن علمه في السماء إلى الأرض (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي بمقدار ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

٢٢ ـ (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) ... موضوع الرّيح التي قد لا يعيرها الإنسان القاصر اهتمامه ، تمدّح سبحانه نفسه بإرسالها من خزائن علمه

١٧٧

وقدرته وجعلها (لَواقِحَ) جمع لاقحة ، وهي لاقحات السحاب التي تحملها وتحمل ماءها إلى المكان المقرّر له ، ولاقحة الأشجار والنباتات تحمل الريح اللّقاح من مكان إلى مكان فيتطاير معها ويلقح ما يقع عليه من الأزهار المناسبة له بعملية عجيبة غريبة تدلّ على دقة الصّنع وعظمة الصانع. فقد أرسلنا الريح لهذه الغايات كلها (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا ينحدر من السحاب (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي جعلناه لشربكم وشرب حيواناتكم ونباتاتكم (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) نفى سبحانه عنهم ما أثبته لنفسه في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ). فهو خالق الماء ، وهو القادر على إنزاله ، وخزائن الماء عنده ، وهم لا يستطيعون خزن ما يكفيهم منه ، وإن هم خزنوه تحوّل إلى ماء آسن نتن غير صالح لحياتهم وحياة حيواناتهم ونباتاتهم لأن الماء مادّة حياة كل شيء.

٢٣ ـ (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) : تكرير الضمير في (إِنَّا) و (نَحْنُ) يدل على الحصر والتأكيد التام ، وكذلك اللام في (لَنَحْنُ) وبهذا حصر وأكّد بما لا يقبل الجدل والأخذ والرّد بأنه سبحانه هو المحيي المميت ولا يملك ذلك غيره. وقيل إنه يعني أيضا إحياء قلوب الأولياء بأنوار جمال قدسه وعظمة جلاله ، وإماتتها بالعمى عن رؤية آياته وفهم دلالاته. وللقرآن بطون والله أعلم بما يقول ، وقد قال : (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) لأنه تعالى يرث الأرض ومن عليها ولا بقاء لمخلوق على وجهها وهو الحي الباقي بعد فناء كل شيء. ويراد بالآية السّلطة والملكية لكل ما خلق وبرأ منذ بدء الخليقة إلى أمد انتهائها ، وليس الإرث هنا انتقال مال شخص إلى آخر بعد وفاته ، إذ متى كانت السّماوات والأرض ملكا لغيره تعالى ، حتى يرثها من ذلك الغير بعد موته؟! سبحانه فهو الباعث الوارث.

* * *

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ

١٧٨

عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

٢٤ ـ (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) ... أي علمنا الماضين منكم وعرفنا حالهم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) أي الباقين ، أو عرفنا الأوّلين والآخرين. أو المتقدّمين في الصف الأول في الصلاة والمتأخّرين عنه ، فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حثّ الناس على الصلاة في الصف الأول فكان بعضهم يتقدم إليه ليدركوا فضيلته ، ولكنهم كانوا إذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم إلى المرأة الحسناء تصلّي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآخرون يتخلّفون ويتأخرون ليكونوا في الصفوف الخلفية فينظروا إلى عجزها ، فنزلت الآية. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله وملائكته يصلّون على الصف المتقدّم ، فازدحم الناس فيه ، وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا : لنبيعنّ دورنا ولنشترينّ دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصفّ المتقدّم فنزلت هذه الآية. فعلى هذا يكون المعنى أننا نجازي الناس على نيّاتهم ، فالذي يبعد عن المسجد وكان قصده إدراك فضل الصلاة في الصف الأول ولا يدركه لبعد داره فنحن نجازيه على خطواته ، بكل خطوة نكتب له حسنة فيتساوى مع المصلّي في الصف الأول في الثواب. وفي مقام الحثّ على الصلاة في الصف الأول قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : خير صفوف الرجال أولها وشرّها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها. فتأخرت النساء عن الرجال وفرقن عنهم بعد أن كنّ في صدر الإسلام مختلطات بالرجال.

٢٥ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) : أي أنه سبحانه يحشر جميع الناس إليه فيجمعهم في صعيد يوم القيامة ويحاسبهم بحسب أعمالهم وبحسب علمه بهم وهو حكم في تدبيره ولا يهمل شيئا.

* * *

١٧٩

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١))

٢٦ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) : أي خلقنا آدم من طين يابس إذا نقر صلصل وصوّت. والحمأ : الطين المتغيّر الذي تبدو له رائحة لطول بقائه كذاك الذي يستقرّ تحت مياه الحياض والآبار من الطين ذي اللون الأسود ذي الرائحة غير المحبوبة ، و (المسنون) المصبوب المصوّر المفرغ في صورة كما يصب الذهب والفضة والمعادن المذابة. وقيل هو المتغيّر الفاسد ، من قوله تعالى : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) : أي لم يتغيّر ولم ينتن. فعلى هذا يكون الحمأ طينا متغيّرا أسود منتنا ، فتصوّر قدرة الله تعالى الذي يطوّر هذا الطين في مراتب حتى يصل إلى الصورة الترابية اللطيفة الحسنة الجميلة ، أي من الحمئيّة إلى إعطاء الصورة ، إلى التصلصل ، إلى نفخ الرّوح فإعطاء الحياة ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

٢٧ ـ (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) : أي من قبل خلق آدم ، والجان قيل إنه إبليس ، وقيل هو أب الجن وسمّي جانّا لتواريه عن أعين الناس كما يسمّى الجنين جنينا لهذا السّبب. وعن الصادق عليه‌السلام الآباء ثلاثة : آدم ولد مؤمنا ، والجان ولد مؤمنا وكافرا ، وإبليس ولد كافرا وليس فيهم نتاج إنما يبيض ويفرّخ وولده ذكور وليس فيهم إناث وفي بعض الرّوايات أن الشياطين من ولد إبليس وليس فيهم مؤمن إلا واحد اسمه هام بن هيم بن لاقيس بن إبليس جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرآه جسيما عظيما وامرءا مهولا فقال (ص) : من أنت قال أنا هام بن هيم

١٨٠