الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

بالحياء (وَفِي ذلِكُمْ) العمل الشنيع الشاق (بَلاءٌ) مصيبة عظيمة عامة شاملة لكم ، هو (مِنْ رَبِّكُمْ) قدّره عليكم ليحج به أعداءكم ، وهو (عَظِيمٌ) حمله ، صعبة معاناته.

٧ ـ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) ... تأذّن : أعلم ، والأذان هو الاعلام ، فقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) نعمتي وأفضالي عليكم (لَأَزِيدَنَّكُمْ) لأعطيّنكم زيادة منها لأني أحب العبد الشّكور (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) أنكرتم نسبة نعمتي إليّ ـ وقد عبّر عن عدم الشكر بالكفر لأنّ كفران النعمة وعدم عرفان الجميل أمر منكر ، وذلك أن الكافر إنما هو منكر لله ، فهذا كفر وذاك كفر سواء بسواء ، إذ أن من لا يعرف آلاء الله وينكر فضله أشدّ كفرا ممن لا يعرفه مطلقا : جعلنا الله تعالى من عباده الشاكرين. وعن الصادق عليه‌السلام في تفسير وجوه الكفر : الوجه الثالث من الكفر كفر النّعم ، واستدلّ بهذه الكريمة. وعنه عليه‌السلام : ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال : الحمد لله ، إلّا أدّى شكرها.

٨ ـ (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ... أي قال موسى لقومه : إذا أنكرتم وجود الله ولم تعترفوا به وبربوبيّته ووحدانيته وملكه أنتم وسائر أهل الأرض (جَمِيعاً) معكم ينكرونه ولا يعترفون به (فَإِنَّ اللهَ) سبحانه (لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي مستغن عن اعترافكم ولا يضرّه جهلكم وعدم إيمانكم به لأنه مستغن بذاته عن شكركم وشكر الناس ، لأنه محمود بذاته وإن لم يحمده حامد ولم يشكره شاكر.

* * *

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ

١٤١

وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢))

٩ ـ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ... يعني : ألم تسمعوا بأخبار من سبقكم من الأمم التي كفرت بأنعم ربّها ولم تعبده وأشركت به كأقوام : (نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) المعروفي الحال والمآل (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) قد كفروا مثلهم وأصابهم ما أصابهم من الهلاك والدمار (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) أي : لا يعرفهم غيره سبحانه لكثرة عددهم فإنهم جميعا (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الدّلائل الساطعة (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) هو تصوير بليغ لردّ دعوات رسلهم حيث كمّوا أفواههم بعدم سماعهم لهم ، لأنهم منعوهم عن الكلام وترويج الدعوة ونشر الأحكام وإظهار معالم الدين. وقيل : عضّوا أناملهم من شدة الغيظ والحنق على رسلهم (وَقالُوا) لهم (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) ننكر رسالاتكم (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍ) ريب (مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ)

١٤٢

وتدّعون أنه من عند الله ، ونحن نتهمكم في دعواتكم ونظنّ فيها ظنّا (مريبا) مشكوكا فيه.

١٠ ـ (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) ... أي أجاب الرّسل أقوامهم متعجّبين من إنكارهم لخالقهم ورازقهم مع أنه (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وخالقهما وموجدهما من العدم بقدرته ، وقالوا : هو (يَدْعُوكُمْ) للإيمان به (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) يتجاوز عن ذنوبكم ، (وَ) هو (يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت عيّنه سبحانه وجعله منتهى أعماركم مهما تمسّكتم بالدنيا واغتررتم بها. فقالوا لرسلهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي : ما أنتم إلّا أناس منّا (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) تمنعونا (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) تحوّلوننا عنه (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة تبيّن صحة دعواتكم.

١١ ـ (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ... أي أجابوا أقوامهم بأننا بشر مثلكم حقّا (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُ) يتفضّل وينعم (عَلى مَنْ يَشاءُ) يريد (مِنْ عِبادِهِ) الذي يرتضيهم ويختارهم عن سائر من سواهم ويختصّهم بالنبوّة ويجعل فيهم خصائص ليست في بني جنسهم (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) وليس بيدنا إتيان المعجزة والبرهان ، وما الآيات (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بمشيئته فهو الذي يختص كل رسول بآية معينة من عنده ويجعلها من جملة براهينه (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي أن المؤمنين المصدّقين بالله يكلون أمورهم إلى ربّهم عزّ وعلا دون غيره ، ويفوّضون كل شيء إليه.

١٢ ـ (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) ... يعني : أي عذر لنا في أن لا نتوكّل عليه سبحانه؟ ومن التوكّل الشكر عند العطاء والصبر عند البلاء والرضى في سائر الأحوال ، وهذا بلسان حال الرّسل الذين يقولون : كيف لا نتوكّل على ربّنا (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) دلّنا على طرق الخير الذي وصلنا إليه في إيماننا وحملنا الرسالة (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) فنتحمّل في سبيله تعالى كلّ أذى يصدر منكم في سبيل أداء دعواتنا ، ونتوكّل على الله في

١٤٣

المضيّ برسالاتنا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) الذين يفوّضون أمرهم إليه تعالى تفويضا حقيقيّا.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

١٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ) ... أي أجابوا دعوة رسلهم إلى الإيمان بالله قائلين لهم : (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) لنطردنّكم من بلادنا وأوطاننا (أَوْ لَتَعُودُنَ) لترجعنّ (فِي مِلَّتِنا) متّبعين ديننا وعباداتنا للأصنام التي عبدها آباؤنا مع أن الرّسل جميعا لم يكونوا قطّ على دين عبدة الأصنام ، (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أوحى سبحانه لرسله وأنبيائه واعدا إياهم : (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) سنبيد الظالمين لكم وسندمّرهم ونخرب ديارهم بالتأكيد.

١٤ ـ (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ... هذا وعد وبشارة منه سبحانه بنصر رسله بأن يدمّر الكافرين ويسكن الأنبياء والمؤمنين بهم أرضهم وديارهم (مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد إهلاكهم (ذلِكَ) هذا الوعد (لِمَنْ خافَ

١٤٤

مَقامِي) خاف من الوقوف بين يديّ للحساب ، وخاف (وَعِيدِ) ي بالعذاب للكافرين بي.

١٥ ـ (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) ... : أي طلب المؤمنون النصر من الله والفتح عليهم وعلى أنبيائهم ، أو أن الرّسل طلبوا الفتح منه تعالى فأعطاهم ذلك (وَخابَ) خسئ وخسر (كُلُّ جَبَّارٍ) ظالم لهم ، شديد الظّلم (عَنِيدٍ) مكابر لم يسمع كلام الله وعاند رسله.

١٦ ـ (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) ... : أي أمام ذلك الجبار الذي وقف بوجه دعوة الرسول ـ ووراء هنا ضد أمام ، ولكنها بمعنى أمام ـ وسيلاقي المعاند عمّا قريب عذاب جهنّم حيث (يُسْقى) يكون شرابه فيها (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) هو الدم القذر والقيح الذي يخرج في النّار من فروج الزواني ، أو هو أعمّ منه رمّما يخرج من أبدان أهل جهنم من الأوساخ والأقذار والقيح.

١٧ ـ (يَتَجَرَّعُهُ ، وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) ... أي يتكلّف شربه فيشربه مغصوبا به من شدّة عطشه ويأخذه جرعة جرعة لأنه غير سائغ في الفم ولا لذيذ الطعم ، فيزدرده لشؤمه وسوء حاله (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي تحلّ به موجبات الموت في كلّ لحظة يقضيها في النار وشدائدها وآلامها المميتة ، ولكنه لا يموت موتا يستريح بعده ويخلص من العذاب ، فهو لا يزال يموت ويحيا ، وينضج جلده ويتبدّل. وروي أن روحه تبقى في ترقوته فلا هي تعود إلى جسمه فيرتاح ولا هي تخرج منه فتخفّ آلامه ، بل يبقى بين الموت والحياة معذبا بحكم قوله تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ،) وقوله سبحانه أيضا : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا)(وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) فمن أمامه الخلود في النّار ، ومن بعد كلّ عذاب يذوقه عذاب آخر أشد منه.

* * *

١٤٥

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))

١٨ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) ... قرّب سبحانه لأذهان السامعين ثواب عمل الكفار به ، وأنه (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) مثل الرماد الذي ينتج من حريق النار تعصف به الريح : الهواء الشديد (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) شديد الريح والهبوب. وقد نسب العصف لليوم للمبالغة ، أي أنه يوم ذو ريح عاصفة. ووجه الشّبه أن أعمالهم الحسنة : كالصدقات وصلة الأرحام والمبّرات جميعها ، كانت منهم على غير أساس من معرفة الله ولم يقصدوا بها القربة إليه ، فأشبهت الرّماد الذي تطيّره الريح الشديدة ، وهم (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) أي لا ينتفعون بأعمالهم يوم القيامة ولا بشيء حسن عملوه ، ولا يجدون ثوابا (ذلِكَ) أي هذا هو ضلالهم (الْبَعِيدُ) عن الحقّ الذي بسببه خسروا هذا الخسران المبين.

١٩ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ... خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر الناس بأنه سبحانه خالق السماوات والأرض (بِالْحَقِ) أي الحكمة والغرض الصحيح ولم يخلق ذلك عبثا (إِنْ يَشَأْ) أي إذا أراد (يُذْهِبْكُمْ) يدمّركم ويهلككم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) غيركم :

٢٠ ـ (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) ... : أي : ليس إذهابكم وإهلاككم وخلق غيركم بمتعذّر على الله سبحانه ولا بمتعسّر عليه لأنه لا يعجزه شيء وهو القادر على ما يشاء.

١٤٦

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢))

٢١ ـ (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) ... أي أحضروا بين يدي الله تعالى جميعا يوم القيامة للحساب والثواب والجزاء ، وقد أتى بلفظ الماضي وهو يقصد المستقبل كقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) ، مع أنه سينفخ فيه يوم القيامة ، وذلك بسبب تحقّق وقوعه وتأكيد حدوثه فكأنه شيء مضى إذ سبق فيه القضاء وصار بحكم الكائن (فَقالَ الضُّعَفاءُ) وهم ممّن لا رأي له من ضعفاء العقول والأدنياء الذين أطاعوا الرؤساء والفقراء والمتابعين للأغنياء ، وهم الأتباع على كل حال ، قالوا (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تكبّروا عن الإيمان بالله وبرسوله وكانوا قوّادهم وأحبارهم ورهبانهم وزعماءهم ـ وفي خطبة الغدير لأمير المؤمنين عليه‌السلام : أفتدرون الاستكبار ما هو؟. هو ترك الطاعة لمن أمروا بطاعته ، والترفّع عمّن ندبوا إلى متابعته ـ فقال الضعفاء للكبراء : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي هل أنتم دافعون عنّا بعض عذاب الله أو شيئا منه؟. (قالُوا) لهم مجيبين : (لَوْ

١٤٧

هَدانَا اللهُ) دلّنا إلى طريق الخلاص من العقاب بالنّار (لَهَدَيْناكُمْ) دللناكم على الهدى ، ولكن الطريق مسدود ، وشفاعتنا مردودة في هذا اليوم ذي الجزع والفزع ، إذ روي أنهم ينادون بالخلاص نداء البائس الحزين وينتظرون خمسمائة عام فلا يفتح عليهم باب من أبواب الفرج فيقولون : نصبر فلعلّ الصبر يعقبه فرج ، فيصبرون خمسمائة عام أخرى ، وهكذا .. فيقول المتبوعون للتابعين : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) فلا الجزع يفيدنا ولا الصبر ينجينا (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) فليس لنا من ملجإ ولا مفرّ ولا مهرب من العذاب.

٢٢ ـ (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) ... أي قال إبليس اللعين حين فرغ من الحساب ودخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار. وعن الباقر عليه‌السلام أن كلّ ما في القرآن : وقال الشيطان ، يريد الثاني. فالشيطان حينئذ يقول : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) بالجنّة (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) وغششتكم وأغريتكم بالكفر وبالانصراف إلى الملذّات واللهو في الدنيا (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي لم أجبركم على العمل بغشّي وكنتم تستطيعون مخالفتي ولم يكن سلطاني (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) وسوست إليكم (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) وأطعتم وسوستي وإغرائي (فَلا تَلُومُونِي) وتحمّلوني مسئولية ضلالكم ، بل اندموا (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) واجعلوا لومكم كلّه لأنفسكم لأنكم اتّبعتم هواكم (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي لست بمغيثكم (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) فلا تفيدونني ولا أفيدكم في هذا اليوم (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي جحدت اليوم إشراككم إيّاي مع الله في الدّنيا ، وبنسبة أعمالكم إليّ (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ولا ينفعكم نسبة ظلمكم إليّ ، ولا ينجيكم الاعتذار من عذاب الله الشديد الذي أعدّه للظالمين.

* * *

١٤٨

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

٢٣ ـ (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ) ... أي بعد الفراغ من الحساب أدخل الله تعالى المؤمنين إلى الجنان وكتب لهم الخلود فيها (بِإِذْنِ) مشيئته وكرمه (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي سلامهم على بعضهم والتحيّة فيما بينهم قول : سلام : الدالّ على السلامة من جميع الآفات والأوصاب.

٢٤ ـ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ... أي : ألم تنظر أيها الإنسان كيف مثّل بأن (كَلِمَةً طَيِّبَةً) التي هي الدعوة إلى التوحيد أو كلّ ما دعا إلى الحق تكون (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) أي النخلة كما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو هي كل شجرة مباركة طيّبة الثمر والأكل ، أو شجرة في الجنّة أو أية شجرة بهذه الصفة. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : إنّها النبيّ (ص) وفرعها عليّ (ع) وغصنها فاطمة (ع) وثمرها أولادها (ع) وورقها شيعتنا

١٤٩

(أَصْلُها ثابِتٌ) متين ضارب في الأرض بعروقها القوية وجذعها الصّلب (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) مرتفع في الجو.

٢٥ ـ (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) ... أي أن هذه الشجرة تجود بثمارها لآكليه في كل وقت بمشيئة خالقها وبأمره (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) يبيّنها لأن في بيانها تذكيرا وتصويرا للمعاني بالمحسوسات لتقريبها من الأذهان وتيسيرها للأفهام موعظة (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فيتدبرّونها ويتفكّرون فيها.

٢٦ ـ (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) ... الكلمة الخبيثة هي كلّ قول باطل يدعو إلى الضلال والفساد ، وهي كالشجرة الخبيثة التي لا يقبل الطبع ثمرها لمرارته كشجرة الحنظل وغيرها مما لا يطيب أكل ثمره. وعن الباقر عليه‌السلام : إنها بنو أميّة وقد (اجْتُثَّتْ) شجرتهم واقتلعت جثتها (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) فلم يكن لها استقرار فيها (ما لَها مِنْ قَرارٍ) ليس لها فيها من ثبات.

٢٧ ـ (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ... أي أنه سبحانه يسدد المؤمنين عن حجة وبرهان ويؤيدهم فيثبت إيمانهم ولا يزيله تشكيك مشكّك ولا يغيّره ريب مريب ، فيثبّتهم على إيمانهم (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الّذي هو كلمة التوحيد وما ينطقون به (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) طيلة حياتهم (وَفِي الْآخِرَةِ) يثبّتهم أيضا فترجح موازينهم ولا تزلّ أقدامهم (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) يحرمهم عنايته ويخلّي بينهم وبين أنفسهم واختيارهم (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ولا يفعل ما يشاء غيره.

* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها

١٥٠

وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠))

٢٨ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) ... أي : ألم تنظر أيها الرسول الكريم وأيها الإنسان المفكّر إلى الكافرين بنعمة الله عزوجل الذين قابلوا فضله بالكفر به وبنعمته ، ثم أطغوا الآخرين (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي أنزلوهم دار الهلاك التي كانت فيها أعمالهم كرماد تذروه الرياح وضلّ فيها ما عملوه في الدنيا من الباطل. ودار البوار هذه هي :

٢٩ ـ (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) ... : هي النّار التي يذوقون صلاء حرّها ويحترقون بلهبها ، وهي المقرّ البئيس التعيس التي ينزل فيه الكفار. وقد نزلت في قريش الّذين كذّبوا نبيّهم ونصبوا له الحرب وجحدوا وصيّه وبدّلوا نعمة الله عليهم كفرا وأحلّوا جماعتهم دار البوار التي هي جهنم وساءت مصيرا.

٣٠ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) ... أي جعلوا له سبحانه أمثالا وأشباها من أصنامهم ساووها به وأشركوها معه بالرّبوبيّة ابتغاء إضلال الناس عن سبيل الله والإيمان به ، ف (قُلْ) لهم يا محمد : (تَمَتَّعُوا) اقضوا حياتكم لاهين متمتّعين برغد العيش كما تتمتع الأنعام بمراعيها الخصبة (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ) مرجعكم الّذين تصيرون إليه يوم القيامة (إِلَى النَّارِ) جزاء شرككم وإضلال الآخرين معكم.

* * *

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

١٥١

٣١ ـ (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) ... أي قل يا محمد للمؤمنين بي المصدّقين قولك أن (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) يؤدّوها ويداوموا على إقامتها (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) فيدفعوا زكاة أموالهم ويساعدوا الفقراء والمساكين ويواسوا البؤساء ويبذلوا في سبيل الله (سِرًّا) خفية عن الناس (وَعَلانِيَةً) على رؤوس الأشهاد (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ) يجيء (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) أي لا يبتاع المقصّر ما يتدارك به تقصيره ، ولا يفدي نفسه فيشتريها من العذاب (وَلا خِلالٌ) ولا صداقة نافعة ولا خلّة مفيدة في ذلك اليوم. وقيل إن البيع هو إعطاء البدل للتخلّص من النّار وليس هو المبايعة المعروفة. والخلال بمعنى المصادقة والمحابّة ، أي أن الكافرين لا يقدرون في ذلك اليوم أن يتّخذوا خليلا أو صديقا يشفع لهم لأن كل صديق كان لهم في الدنيا يصير عدوّا لهم في الآخرة وذلك قوله عزوجل : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، إِلَّا الْمُتَّقِينَ).

وبعد أن ذكر سبحانه الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين بيّن الأمور التي يستحقّ بها الألوهية فقال عزّ من قائل :

* * *

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

١٥٢

٣٢ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ... أي أنه سبحانه هو الذي خلق تلك الكائنات العظيمة الهائلة كلّها (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا أنزله من خزائنه بقدرته (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) من المزروعات والأشجار ، فخلق لكم ما تعيشون به ، وهو يشمل المطعوم والملبوس وغيرهما ممّا له دخل في الحياة (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) فجعلها مسخّرة لكم تمشي في البحر فتقطعون عليها المسافات التي تصلكم بالبلاد التي وراء الأنهار والبحار.

٣٣ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) ... سخّر لكم كذلك الشمس والقمر ، فهذه تنير في النهار ، وذاك يضيء في الليل ، وجعلهما (دائِبَيْنِ) أي مستمرّين مجدّين يجريان على ديدن واحد وبدأب لا يفتر لمصلحة نضج الأثمار ونبات المزروعات والاستفادة من الحرارة والبرودة ، ولما يصلح للإنسان والحيوان والنّبات وغير ذلك من الفوائد (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي جعلهما متعاقبين واحدا بعد واحد من أجل الكسب والعمل في النّهار ، ومن أجل الراحة والسكينة في اللّيل.

٣٤ ـ (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) ... أي أعطاكم من فضله كلّ ما سألتم ممّا تحتاجون إليه ، إلا ما كان فيه مفسدة في دينكم أو دنياكم ، لمجرّد أن تطلبوا ذلك. وقد أتى بلفظ (مِنْ) الدالّ على التبعيض ليبيّن كيف أنه يجيبكم على الدعاء ويستجيب من طلباتكم ما فيه المصلحة وقد لا يستجيب إذا دعوتموه بما يفسد عليكم دينكم رأفة بكم. فهو يجيب ما كان حقيقا بأن يسأل ، ويهمل بعض طلباتكم التي لا تعرفون سبب إهمالها وسرّ حجبها عنكم (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي : لا تطيقوا حصرها ولا تبلغوا معرفة أنواعها وأفرادها. وفي الكافي عن الإمام السجاد عليه‌السلام أنه كان إذا قرأ هذه الآية يقول : سبحان من لم يجعل في أحد معرفة نعمة إلّا المعرفة بالتقصير عن معرفتها ، كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه ، أكثر من العلم أنه لا يدرك. فشكر تعالى معرفة العارفين بالتقصير عن

١٥٣

معرفة شكره ، فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا ، كما علم علم العالمين أنهم لا يدركونه فجعله إيمانا علما منه أنه قد وسع العباد فلا يتجاوز ذلك ، فإن شيئا من خلقه لا يبلغ مدى عبادة من لا مدى له ولا كيف ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وفي قوله صلوات الله وسلامه عليه يشير إلى قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا). قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن الراسخين في العلم هم الّذين أغناهم الله عن اقتحام الستر المضروبة دون الغيوب ، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا .. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) والظلوم كثير الظّلم إمّا على نفسه بأن يظلمها ويظلم نعم ربّه فلا يشكرها ، أو يكفر بالمنعم الحقيقيّ ولا يرى له عليه حقّا ولا يصبر على البأساء والضراء ولا يحمد في النعمة والرخاء ، بل يجزع ويشتكي من ربّه إلى غيره ، وهو كفّار : شديد الكفر بترك شكر النّعم الكثيرة كنعمة الوجود والجسم القويم والحواسّ السليمة والماء والهواء والرزق والإسلام والإيمان والمال والعيال والولد وغير ذلك مما لا يقع تحت حصر ويضيق بتعداده الذّرع.

* * *

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ

١٥٤

بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

٣٥ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ... أي اذكر يا محمد يوم قال إبراهيم الخليل عليه‌السلام داعيا ربّه ومبتهلا إليه : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) أي مكة المكرّمة وما حولها دعا لها بالأمان والأمن بعد أن فرغ من بناء الكعبة الشريفة أعزّها الله. وقد ذكر البلد هنا معرّفا في حين أنه ذكره في سورة البقرة منكرا ، لأن النكرة إذا تكررت وأعيدت صارت معرفة كما في قوله عزّ من قائل : مصباح المصباح في زجاجة ، في سورة النور ، وقد استجاب الله تعالى دعاء إبراهيم عليه‌السلام حتى أن الإنسان إذا رأى قاتل أبيه فيها لا يتعرّض له بسوء ، وكانت الوحوش تدنو فيها من الناس فلا تخاف بل تأمن جانبهم لأنهم لا يؤذونها (وَاجْنُبْنِي) أي جنّبني (وَبَنِيَ) وأولادي (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ونشرك بك. وقد دعا إبراهيم عليه‌السلام بهذا الدعاء بعد أن علم أن الله تعالى عهد إليه بالإمامة ، والإمامة لا ينالها عبدة الأصنام بدليل قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) : أي المشركين لأنه سبحانه سمّى الشّرك ظلما عظيما بقوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

فإن قيل إن دعاء الأنبياء عليهم‌السلام ـ على مذهب العدلية ـ

١٥٥

مستجاب غير مردود ، والحال أن من أولاد إبراهيم عليه‌السلام كثيرين عبدوا الأصنام ومع ذلك طلب من ربّه أن يجنّب بنيه ذلك ودعاه بصرفهم عن عبادتها ، فكيف ذلك؟. والجواب من وجهين :

أولا : يمكن أن يكون المراد ببنيه أبناؤه الذين كانوا بلا واسطة كما هو الظاهر كإسماعيل وإسحاق عليهما‌السلام لأن المراد هو مطلق الأولاد. وبعبارة أخرى : إن دعاء الإنسان ربّه لنفسه ولأولاده يقصد به أولاده الموجودون عادة وبالفعل ، ولا يشمل الحفدة وحفدة الحفدة كما لا يخفى على أهل العرف. ولذا فإنه حين ينذر الإنسان نذرا أو يوقف وقفا على أولاده ، يحمل النّذر أو الوقف على أولاده الموجودين حين النذر أو الوقف إلّا بقرينة قوليّة كبطن بعد بطن أو فعلية مثلا ، وهذا ظاهر.

وثانيا : يحتمل أن يكون المراد الأولاد الذين مضى في العلم الأزليّ منه تعالى أنهم يؤمنون ولا يعبدون الأصنام ، أي بعض بنيه الذين يعلمهم الله ، وهو عليه‌السلام لا يخالف علم الله جلّ جلاله ، فليس العموم مراده. والآية الكريمة الآتية تدل على مراده الذي هو الخصوص الذي احتملناه أولا ، وهي صريحة في الخصوص إذ جيء أولا ب (من) التبعيضيّة ، وثانيا : قال : أسكنت ، يريد السكن الفعليّ لا الأعم ، وثالثا : قوله عليه‌السلام : بواد غير ذي زرع لأن مكة كانت يومئذ كذلك.

ثالثا : إن قوله : ومن ذرّيتي تعني البعض من بنيه لا الكلّ ، لا يعبدون الأصنام بل يقيمون الصلاة. والآيات القرآنية يفسّر بعضها بعضا ، ولا يقال إن من كان في علم الله لا يعبد الأصنام ، وكان مؤمنا لا يحتاج إلى الدعاء فإن أثر الدعاء حاصل في حقه وهو من تحصيل الحاصل! لأننا نقول : علمه تعالى بإيمان شخص وكفره ، لا يكون علة تامة له ، فإنه تعالى يعلم أنه يؤمن باختياره أو يكفر باختياره. وهذا العلم لا دخل له في أعمال العاملين من الإيمان والكفر. وأما قول بعض الزنادقة بأن علمه تعالى بشيء لا يمكن أن يتخلّف حيث إن لازمه أن يكون علمه جهلا ، وتعالى الله عن ذلك

١٥٦

علوا كبيرا ، فتعلّق العلم بشيء علة لعدم تخلّف الشيء عمّا كان عليه حين تعلّق العلم به. فالجواب عنه علم إجمالا مما قلنا آنفا من عدم دخل علمه تعالى بأعمال العباد فيها بحيث كانوا بعد العلم مجبورين على العمل ولا يقدرون على التّرك وإلا لزم الجبر وقبح العقاب على أعمال العصاة ولزم انسداد باب الدعاء والتوبة. وذلك التوالي كلّه مخالف لشرعنا وديننا وظاهر كتابنا.

ويمكن أن يجاب بأن علمه تعالى على قسمين : تنجيزي ، وتعليقي.

أما الذي لا يتخلّف عن معلومه ، وكذلك العكس ، فهو القسم الأول ويسمّى بالحتمي أيضا. وهذا لا من باب أن العلم علة ، بل من باب وجود المقتضي وهي المصلحة الدائمية وعدم المانع الدائمي ، فيوجد بإرادة الله تعالى. فالعلم به لا يتخلّف عن معلومه من باب دائميّة المعلوم لأمور أخر غير علمه تعالى كما قلنا ، لا من باب تعلّق العلم به فإن تعلّقه به وعدمه سيّان من هذه الناحية.

وأما القسم الثاني فكثيرا ما يتخلّف كما في قضية عيسى عليه‌السلام المعروفة وهو أنه رأى حطّابا يمشي للبادية لتحصيل الحطب فقال (ع) للحواريين : هذا ما بقي من عمره إلّا ساعة. ومعلوم أن إخبارهم الغيبيّة لا تكون إلّا عن علمه ومن عنده تعالى فإن علم الغيب منحصر به عزّ اسمه بنصّ الآية الكريمة : (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) أو (إِلَّا هُوَ) .. وبعد ذلك بساعتين أو أزيد أو أقلّ رأوا الحطاب يحمل الحطب سالما فقالوا : يا روح الله ، هذا الحطّاب جاء سالما! .. فسأل ربّه فنزل جبرائيل عليه‌السلام وأخبره أن الأمر كما أخبرت لكن بعد ذلك تصدّق فمدّ الله في عمره ثلاثين سنة لأثر الصدقة ، يمحو الله ما يشاء ويثبت. وهذا وأمثاله من الوقائع الكثيرة يسمّى بالعلم التعليقي وبكتاب المحو والإثبات ولا يلزم منه محظور بل يدفع به المحاذير من العجز والجبر وقبح العقاب وسدّ باب التوبة والدعاء.

١٥٧

فالحاصل أنّ من كانوا في علم الله أنّهم لا يعبدون الأصنام يمكن أن يكون أمرهم معلّقا على دعاء إبراهيم عليه‌السلام لهم وإن لم يدع قد يعبدونها. ودعاؤه ليس من باب تحصيل ما هو حاصل حتى يكون لغوا. هذه أجوبتنا عن الشّبهة ، وعن الصادق عليه‌السلام أنه أتاه رجل فسأله ، فلم يجبه. فقال له الرجل : إن كنت ابن أبيك فإنك من أبناء عبدة الأصنام. فقال عليه‌السلام : كذبت ، إن الله أمر إبراهيم أن ينزل إسماعيل بمكة ففعل ، فقال إبراهيم : ربّ اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ، فلم يعبد أحد من ولد إسماعيل صنما ، ولكنّ العرب عبدة الأصنام ، وقالت بنو إسماعيل هؤلاء شفعاؤنا وما كفرت ولم تعبد الأصنام.

٣٦ ـ (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) ... أي أن الأصنام صرن سببا لإضلال الكثيرين من الناس. وإسناد الإضلال إليها من المجاز في الإسناد ، وذلك كقولهم : أنبت الربيع البقل ، ومثل : وغرّتهم الحياة الدنيا (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) أي فمن كان على طريقتي واتّبع سيرتي فإنه بعضي لشدة اختصاصه بي. ونستفيد من هذه الكريمة أن التبعيّة للرّسل موجبة لانتساب التابع إليهم نسبة البعض إلى المجموع والجزء من الكل. فعلى هذا كلّما كانت التبعيّة أقوى فالانتساب يصير أشدّ وآكد ، بحيث يصير التابع ابنا للمتبوع ، وبالعكس فإن المتخلّف عن الرّسل ولو كان ابنا لهم يصير انتسابه في الضعف بحيث ينقطع بالمرّة ، ومن الأمثلة على الأول محمد بن أبي بكر فقد قال عليّ عليه‌السلام : محمد ابني ولو ولد من أبي بكر ، ومن الثاني ابن نوح النبيّ عليه‌السلام ، فإن الله تعالى نفى كونه من أهله وسلب انتسابه إليه عليه‌السلام بقوله سبحانه : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ). هذا ، وننظر نحن لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ولصحبه لنلاحظ بإنصاف وعدل أيّا منهم كان أشد تبعيّة له وأقوى تعلّقا به ، ومن منهم كان تابعا له من أول صباوته وقدرته على التبعيّة وحافظا ودافعا عنه من صباه إلى شبابه ، ثم فداه بنفسه ليسلّمه من القتل ومن كيد أعدائه ، ثم نلاحظ نوعا آخر من

١٥٨

الصحابة كانوا يفرّون في الحروب ، ويخلّون بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أعدائه ، ويعتذرون عن قتال الكفّار بأعذار واهية كاذبة. فهل كان منهم ما كان من عليّ عليه‌السلام في دفاعه عن نبيّه ومحاماته عنه حتى نزل جبرائيل عليه‌السلام من لدن الحق ينادي بين السماء والأرض : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ. ثم ندع جانب الشجاعة وننظر في ناحية العبادة والالتزام لنرى أيّا من الصحابة تبع نبيّه في عبادته الشاقّة التي قال الله عنها : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى : أي لتتعب بالعبادة وقيام الليل ، سوى عليّ عليه‌السلام الذي كان تابعا له كالظّل ، دائبا على قيام اللّيل معه حتى مطلع الفجر إلى جانب أنه كان بعده يصلّي تحت خمسمائة نخلة غرسها بيده الشريفة ، يصلّى تحت كلّ نخلة ركعتين حتى أن الإمام زين العابدين عليه‌السلام كان يظهر العجز والجزع عن القيام بمثل عبادة جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا نظر في كتاب عبادته ثم يقول : من يقدر على ذلك؟ من يطيق عبادة جدّي؟ .. هذا إلى جانب أنه كان عليه‌السلام يقول من على المنبر : قد اكتفى إمامكم من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، وكان يأكل خبز الشعير ويرفعه قبل أن يشبع ، وكان دأبه أن يؤثر الناس على نفسه وأهله ، وعلمه بأبي هو وأمّي ـ ممّا بالغ به أعداؤه وجاحدوه حتى رقى مرتبة لم يصل إليها أحد ، وقد كان رفيق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المباهلة وكان أخاه وصهره ووصيّه ، ثم زحزحوه عن مقامه ونحّوه عن مقعده وقالوا فيه ما شاؤوا بل قالوا عن النبيّ : إنّه يهجر عند وفاته ، فأورثوه غصّة لا تنقضي .. فأين عليّ عليه‌السلام في تبعيّة الرسول من غيره؟ وأين العدم الذي لم يبرز منه شيء ، من الوجود الذي هو مرآة الوجود المطلق في الإفاضة لجميع الفيوضات الإمكانية الروحانية والجسمانية على الموجودات ، بل من ثاني الوجود الذي هو الواسطة بين الخالق والمخلوق في الاستفاضة عن الخالق والإفاضة على المخلوق؟ فافتح عينيك أيها القارئ الكريم وانظر بعين الإنصاف واحكم بالواقع الذي هو بيّن كالشمس في رابعة النهار ، ودلّ على الخليفة اللائق بولاية أمور المسلمين

١٥٩

بقطع النظر على النّص المتواتر والآيات المباركات التي نزلت بحقه سلام الله وصلواته عليه .. (وَمَنْ عَصانِي) أي لم يطعني ويتّبع ملّتي (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فما دعا الله على العصاة من أبنائه بسوء ، لأنه وأمثاله من النبيّين عليهم‌السلام لمّا كانوا مرآة لرحمته تعالى ، فإنهم لم يغضبوا فيخرجهم الغضب عن طور العطف والرحمانيّة ولم يسألوا ربّهم إهلاك الناس إلّا حيث لا يجوز إلّا الإهلاك رأفة بمن يبقى ولئلا يضلّ سائر الناس. وإن خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كلّما اشتدّ أذى قومه له يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. ولذا قال خليل الرحمان عليه‌السلام : فإنك غفور رحيم ، وبيدك أن تعفو وأن تقاصص ، ونحن راضون بحكمك لأنك أعدل الحاكمين.

٣٧ ـ (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) ... عن الباقر عليه‌السلام : نحن هم ، ونحن بقيّة تلك الذريّة ، وكانت دعوة إبراهيم لنا. ولذلك قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : انا دعوة إبراهيم ، والمشهور بين المفسّرين أن معنى الإسكان هو جعل الشيء ذا مسكن ومأوى. وجاء في اللغة أيضا أن معنى الإسكان يكون : تصيير الإنسان فقيرا ومسكينا. ويحتمل أن يكون المراد هنا هذا المعنى ، أي : جعلت بعض ذريّتي ـ لأن (مِنْ) للتبعيض ـ مفتقرا إليك مسكينا يحتاج إلى رحمتك ، وجئت به ـ وهو إسماعيل عليه‌السلام وأمه هاجر ـ بأمرك فوضعتهما (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وهي وادي مكة القاحلة المجدبة فلا ماء فيها ولا نبات ، وخلّيت بينهم وبينك فلا مغيث لهم سواك ولا ناصر إلّا ذاتك القدسية ، وأنا كما تراني مفتقر لعنايتك في هذا المكان الخالي ومن أحوج الناس إلى ما يقيم أود ابني وأمه اللّذين أسكنتهما (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) وإضافة البيت إليه سبحانه تشريفيّة ، وتسمية البيت مع عدم وجود بناء في ذلك اليوم إمّا لأنه كان بيتا في زمن آدم عليه‌السلام ، وإمّا أنه عليه‌السلام يدري بأنه سبق في علمه تعالى أنه لا بد من أن يبني بيت في ذلك المكان يطوف الناس من حوله ، ولفظة : المحرّم تعني الذي حرّمت التعرض له بالإهانة والهتك أثناء السلم وأثناء الحرب وفي الأعياد والحج

١٦٠