الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

مخلوقين له ولشركائه ، حتى يتشابه ما خلقه وما خلقته أصنامهم ، فيحتجّون بأن أصنامهم تستحقّ العبادة لأنها تخلق وترزق ، بل الشركاء كانت غير عاقلة وغير قادرة على شيء ، فتعالى الله عما يقول الكافرون (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) المتوحّد في الرّبوبيّة ، الغالب على كل شيء القاهر لكل جبّار عنيد.

١٧ ـ (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ... أي مطرا (فَسالَتْ) منه (أَوْدِيَةٌ) جمع واد وهو المنخفض بين الجبلين الذي تجري فيه المياه (بِقَدَرِها) أي بقدر اتّساع المجاري وضيقها ، وبحسب مساقطها وعلى قدر استعدادها في الصغر والكبر ، أو على حسب المصلحة (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي أن السيل جرف معه ما استعلى على وجهه من ذلك الأبيض المنتفخ فقاقيع وأوساخا. والرّابي هو العالي الذي ربا وكثر (وَمِمَّا يُوقِدُونَ) خبر مقدّم والمبتدأ (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي مثلما يعلو الزبد على وجه الماء حين حركته وجريانه الشديد ، يعلو على صفحته ما يوقد عليه النّار عند تذويبه كأنواع الفلزّات من حديد وذهب وفضّة ، لطلب زينة أو لأي انتفاع آخر كالأواني والآلات للزرع والصناعة وغير ذلك مما يحتاج إليه البشر. فإن الحاصل من تلك المعادن عند تذويبها يكون على سطحه زبد كزبد السيل وهو خبث المعادن وغشّها (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي كذلك يشبّه الإيمان والكفر بالبصير والأعمى ، وبالنور والظّلمة ، فالحقّ والايمان شبّههما بالماء الصافي النافع للخلق المستقر في الأودية للانتفاع ، وشبّه الباطل والكفر بالزبد الذاهب الذي لا ينتفع به أبدا ، تماما كزبد الفلزّات الذي يطرح في الأرض ولا يفيد بعد أن ينفصل عن المعدن الخالص النقيّ المفيد.

أما الوجه في بيان نوعين من الزّبد ، فيحتمل أن يكون لتعميم الفائدة على البشر ، فإن عامّة المقيمين في الحواضر والمدن لا يرون السيل ولا المياه الجارفة التي تحمل الأوساخ والأتربة ومختلف المواد ، ولا رأوا زبدها الطافي على وجه المياه ولا كيف يكون في نفسه ، فأورد ذكر زبد الفلزّات والمعادن التي يمارسها سكّان المدن ويذوّبونها ويرون زبدها حين صهر الحديد وحين

١٢١

صهر المعادن الثمينة للصياغة ، ويرمون زبدها التافه الذي لا فائدة منه. أما أهل القرى والبوادي الساكنون في الأرياف فهم من أهل البساتين والزرع ويرون زبد السيل الجارف ويشاهدونه كلّ سنة بأمّ أعينهم ، والله أعلم بما قال وما عنى.

١٨ ـ (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) ... أي للّذين سمعوا دعوة ربّهم الحسنى وآمنوا بها وأجابوا داعيه ، لهم الحسنى (وَالَّذِينَ) ما أطاعوه ولا آمنوا به ولا أجابوا دعوته (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ثم يضاعف لهم أيضا معه (مِثْلَهُ) ثم جعلوا ذلك كلّه فدية عن أنفسهم من العذاب يوم القيامة لا يقبل منهم ، ولهم يومئذ (سُوءُ الْحِسابِ) أي أسوأه وأتعسه. وقد روي أنه لا يقبل لهم حسنة ولا يغفر لهم سيئة. وقيل يناقشون في حسابهم ، ومن نوقش في حسابه عذّب. كما أنه قيل : إنه سوء الجزاء ، ولهم أيضا (بِئْسَ الْمِهادُ) جمع مهد : وهو ما يفرش للنوم ، ومحلّ الراحة للطفل ولغيره مطلقا ، فمهادهم في الآخرة أسوأ مهاد في نار جهنم.

* * *

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))

١٢٢

١٩ ـ (أَفَمَنْ يَعْلَمُ ... كَمَنْ هُوَ أَعْمى) ... أي ليس من يعرف أنّ ما أنزل إليك من القرآن حقّ ، كالذي هو أعمى القلب والبصيرة. وهذه الآية الكريمة تحثّ على طلب العلم للوصول إلى المعرفة الحقّة ، لأنه إذا كان حال الجاهل كحال الأعمى ، وحال العالم كحال البصير ، وأمكن لهذا الأعمى أن يصير بصيرا فما الذي يقعده عن طلب العلم الذي يخرجه من حال العمى إلى حال الإبصار؟. فلزم أن يجتهد تمام الاجتهاد حتى يصير بصيرا وينجّي نفسه من عمى الجهل والضلال.

٢٠ ـ (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) ... أي بما عقدوه على أنفسهم لله سبحانه (وَلا يَنْقُضُونَ) أي لا ينكثون ويبطلون (الْمِيثاقَ) وهو ما أوثقوا نفوسهم به فيما بينهم وبينه تعالى أو بينهم وبين العباد ، وهو تعميم بعد التخصيص لأن الميثاق أعم. والعهد هو العقد بين العبد والخالق ، أو بين المخلوق والمخلوق ، ينبغي القيام بشروطه غير متقوصة. فالذين يوفون بعهودهم ومواثيقهم.

٢١ ـ (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ... هم أيضا ـ عطفا على من سبق من المؤمنين الموفين بعهودهم ، يقومون بأوامر الله تعالى ونواهيه. وعن الصادق عليه‌السلام : نزلت في رحم آل محمد ، وقد تكون في قرابتك. وعنه عليه‌السلام : الرّحم معلّقة بالعرش تقول : اللهم صل من وصلني ، واقطع من قطعني ، وهو رحم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو قول الله : والّذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ورحم كلّ ذي رحم (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) عن الصادق عليه‌السلام أيضا : لو لم يكن للحساب مهولة ـ أي مخافة وهولا ـ إلّا حياء العرض على الله وهتك الستر على المخفيّات لحقّ للمرء أن لا يهبط من رؤوس الجبال ، ولا يأوي إلى عمران ، ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام إلّا عن اضطرار متّصل بالتلف.

أجل ، فهؤلاء ومن سبقهم ، ومن يليهم ، هم :

٢٢ ـ (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) ... أي صبروا على القيام

١٢٣

بأوامره وتكاليفه الشاقّة ، وعلى المصائب العسرة التي يلاقونها في دار الدّنيا ، وعن معاصي الله وكافّة نواهيه ، طلبا لرضاه (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون بالطاعة المعصية ، وبالعمل الصالح العمل القبيح ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمعاذ بن جبل : إذا عملت سيئة فاعمل حسنة بجنبها تمحها ، وكما عن الصادق عليه‌السلام إذ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام : ما من دار فرحة إلّا تبعتها ترحة ، وما من همّ إلّا وله فرج إلّا همّ أهل النار. إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها سريعا. وعليك بصنائع الخير إنها تدفع مصارع السوء. وإنما قال له ذلك على حدّ تأديب الناس لا لأن لأمير المؤمنين عليه‌السلام سيئات عملها. و (عُقْبَى الدَّارِ) عاقبتها الحسنة.

فالمؤمنون بعهودهم ، والواصلون ما أمر الله بوصله ، الصابرون ابتغاء وجه الله جميعهم لهم :

٢٣ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) ... وهذه الآية إلى آخر الآية التالية وقوله : بما صبرتم ، بيان لعقبى الدار. وقد روي أنها نزلت في الائمة عليهم‌السلام وشيعتهم الّذين صبروا ، وعن الصادق عليه‌السلام : نحن صبّر ، وشيعتنا أصبر منّا ، لأنّا صبرنا بعلم ، وشيعتنا صبروا على ما لا يعلمون. ويوم القيامة يقال لهؤلاء الّذين نزلت فيهم الآيات الثلاث بعد أن يدخلوا الجنّة ويتبوّءوا دار الكرامة :

٢٤ ـ (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) ... أي يسلّمون عليهم ويحيّونهم ، والآية الكريمة تهنئة من الرّب تعالى لأوليائه حين يستقرون في غرف الجنان بإذنه تعالى ، فيبعث للمؤمن ألف ملك يهنّئونه بالجنّة ويزوّجونه بالحور العين وهو في غرفة لها ألف باب وعلى كل باب منها ملك موكّل به ، فإذا أذن لرسل ربّه بالدخول عليه فتح كلّ ملك بابه الّذي قد وكّل به ، فيدخل كل ملك من المبعوثين من باب من أبواب الغرفة فيبلّغون رسالة الجبّار ، وذلك قول الله سبحانه : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) يقولون

١٢٤

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) إلخ ...

* * *

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦))

٢٥ ـ (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ... أي يدعون ما أوثقوا به أنفسهم من الإقرار والقبول. وقد روي أنها في ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث أخذ الله تعالى ميثاق ولايته عليهم في عالم الذّر ، وأخذه عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم غدير خم ، فكان يوم الغدير تجديدا لعهد عالم الذّر ، وتذكارا له. وهذه الآية المباركة على طرف نقيض مع الآية السابقة. فالّذين ينقضون ذلك العهد (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بتهييج الفتن والحروب والظلم والفتن ، أولئك لهم (سُوءُ الدَّارِ) أي عذاب يوم القيامة ومصيره السيّء.

٢٦ ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ... أي : يوسّع الرّزق ، و (يَقْدِرُ) ه : يضيّقه بحسب المصلحة التي تخفى علينا (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي أن الدنيا في جنب الآخرة متاع زائل يتمتّع به قليلا ويبلى ويزول.

* * *

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا

١٢٥

 وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠))

٢٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) ... أي يطلبون معجزة كعصا موسى وناقة صالح عليهما‌السلام ، فقل لهم يا محمد : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أي يخذله بسوء فعله ويحرمه عنايته لعدم اعتداده بالآيات المنزلة. فإن الكفرة والجاحدين لعنهم الله لا يقبلون ولا يؤمنون بكلّ آية من الآيات. وأما طلبهم الآية فهو من باب التفنّن في الجدل في رؤيتهم للآيات وإيذائهم للأنبياء والرّسل ، ولو علم الله فيهم خيرا لأنزل الآيات ولم يبخل ولا كان عاجزا بل هو منزّه عن البخل والعجز فيّاض على الإطلاق وهو على كل شيء قدير ، ولكنه لم يعتن بطلبهم ولم ينزّل عليهم غير ما نزّل على حسب اقتضاء الظروف والمصالح كما بيّنا قبلا. و (مَنْ أَنابَ) أي رجع عن الفساد وأقبل على الحقّ بالطاعة.

٢٨ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) ... هذه الشريفة بيان ، أو صفة للموصول ، أو بدل. والمراد ب «الذكر» فيها هو محمد نبيّنا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما عن الصادق عليه‌السلام إذ قال : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله تطمئنّ القلوب وهو ذكر الله وحجابه. وقيل : هو أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض الروايات ، فإن الّذين آمنوا هم الشيعة ، وذكر الله أمير المؤمنين والأئمة عليهم‌السلام. وقيل هو ما وعد الله به من النعيم والثواب ، فإن وعده سبحانه صادق ولا شيء تطمئنّ النفس إليه أبلغ من الوعد الصادق كما هو مجرّب بين العباد ، فكيف به بين العباد والمعبود وهو

١٢٦

أصدق الصادقين؟. وقيل : الذكر هو المعرفة ، واعلم أن الإكسير إذا وقعت ذرة منه على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على كرّ الدهور والأزمان لا يفسده شيء حتى ولو وقع تحت التراب فإنه لا يتطرّق إليه الفساد ولا يؤثر فيه التّراب. أما إكسير معرفة الله وجلاله وعظمته فإنها إذا وقعت في القلب تنقلب جوهرا صافيا باقيا نورانيّا لا يقبل التغيّر ولا الفناء ولا التبدّل ، ولذلك قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) تقرّ وتهدأ.

وبعبارة أخرى : الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثّر لا يتأثر وهو البارئ تعالى. ومتأثّر لا يؤثّر وهو الجسم الذي ليس له إلّا القبول والانفعال. ثم الموجود الذي يؤثّر في شيء ويتأثّر عن شيء ، وهو الموجود الرّوحاني ، ذلك أن الموجودات الروحانيّة إذا توجّهت إلى جهة اللاهوتيّة وإلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة الله وقدرته وتكوينه وإيجاده فأوجدت وتكوّنت وتأثّرت ، وإذا توجّهت إلى عالم الناسوت والأجسام اشتاقت إلى التصرّف فيها ، ذلك أن عالم الأرواح مدبّر لعالم الأجسام. وبالنتيجة فإن القلب كلّما توجّه إلى مطالعة عالم الأجسام ، كلما حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرّف فيها. أما إذا توجّه إلى مطالعة حضرة الإله المعبود ، فإنه تحصل فيه أنوار الصمديّة الإلهية فيسكن ويطمئنّ بذكره ومعرفته ، فبذكره عزوجل والتوجّه إليه تطمئن قلوب العارفين والمؤمنين. والذكر والتوجّه إنما ينشئان من المعرفة التي لولاها لما كانا أبدا.

٢٩ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا ... طُوبى لَهُمْ) ... قيل : طوبى : مصدر من الطيب ، وقيل هو مؤنّث : أطيب. وعن الصادق عليه‌السلام : طوبى شجرة في الجنّة أصلها في دار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس من مؤمن إلّا وفي داره غصن منها لا يخطر على قلبه شهوة شيء إلّا أتاه به ذلك الغصن. ولو أن راكبا مجدّا سار في ظلّها مائة عام ما خرج منه. ولو طار من أسفلها غراب ما بلغ أعلاها حتى يسقط هرما!. ألا ففي ذلك فارغبوا.

١٢٧

٣٠ ـ (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) ... أي : كما أرسلنا الرّسل قبلك (أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) كثيرة. فأمّتك آخر الأمم وأنت آخر الرّسل (لِتَتْلُوَا) أي لتقرأ (عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وهو القرآن الذي أنزلناه عليك لتدعوهم إلى الله ... (وَإِلَيْهِ مَتابِ) يعني : إليه توبتي ومآبي ورجوعي. وروي أن جمعا من قريش كأبي جهل وعبد الله بن أميّة وأتباعهما ، كانوا جالسين حول الكعبة ، فأحضروا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا له : أنت تدّعي الرسالة من عند ربّك وتقول : هذا القرآن نزل عليك من عنده. فإذا كنت تريد أن نصدّقك فيما تقول ونتابعك وندين بدينك فاقرأ هذا القرآن على جبال مكة حتى تزول من أمكنتها وتسير إلى أمكنة أخرى حتى توسّع علينا الأرض ، واقرأه على أرضنا حتى تتقطّع وتتشقّق فتجري لنا أنهارا وعيونا فنستريح من الضائقة ونشرب المياه العذبة ونزرع ما نريد ، ثم أحي قصيّ بن كلاب من أجدادك مع أجدادنا حتى ننظر ما يقولون فيما تقوله فنؤمن بك إن آمنوا بك وصدّقوك. وأنت تقول إنك مثل عيسى بن مريم ، بل أعلى منزلة منه ، وإنه كان يحيي الموتى ويشفي المرضى ، فأت أنت أيضا بمثل تلك المعاجز حتى نؤمن بك وبما جئت به من كتابك ، فنزلت هذه الكريمة.

* * *

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ

١٢٨

 كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢))

٣١ ـ (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) ... أي زعزعت عن مقارّها وأزيلت عن مواضعها بقراءة القرآن عليها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي تشقّقت وتصدّعت حتى تخرج منها أنهار وعيون (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) بعد إحيائهم بقراءته عليهم ، فيسمعون ويجيبون. وجواب (لَوْ) محذوف ، والتقدير : لكان هذا القرآن ، أو : لما آمنوا لفرط عنادهم. وعند البعض جوابها مقدّم وهو قوله تعالى : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) وما بينهما اعتراض. أمّا تذكير قوله تعالى : (كُلِّمَ) خاصة ، فلأنّ الموتى فيها مذكّر حقيقي فغلّب جانبه ، والعلم عند الله تعالى. وقيل إن معنى الآية باختصار : أنه لو كانت الجبال تتزعزع والأرض تتصدّع ، والموتى تكلّم بكتاب من الكتب السماويّة ، لكان هذا القرآن العظيم الذي جاء بغاية الإنذار والتخويف ، كما قال سبحانه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). وعن الكاظم عليه‌السلام : قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسيّر به الجبال وتقطّع به البلدان وتحيا به الموتى (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) إضراب عمّا تضمّنت كلمة (لَوْ) من معنى النفي الذي ربما يتوهمّ منه أنه تعالى لم يكن قادرا على إنزال القرآن أو أيّ كتاب آخر تترتّب عليه هذه الآثار المذكورة لدفع كلام المعاندين ، فقال : بل لله الأمر جميعا ، أي له تعالى القدرة الكاملة على كلّ شيء بما في ذلك إنزال الكتاب الذي تترتب عليه تلك الآثار ، ولكنّ المصلحة اقتضت عدم الإنزال لأنه أعلم بما يعمل (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أفلم يعلموا ، وهي لغة قوم من نخع ، أو هي من باب أن اليأس عن الشيء علم بأنه لا يكون .. أفلم يعلموا أن هؤلاء المطالبين بالآية قد تصيبهم قارعة (بِما صَنَعُوا) من الكفر وسوء الأفعال؟. والقارعة هي الداهية والحادثة التي تقرعهم ، يعني تقرع قلوبهم لشدة المخافة ، وهي من أقسام المصائب في نفوسهم وأموالهم (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي القارعة. فيفزعون من أن

١٢٩

يصل إليهم شررها ، كالسرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتغير حواليهم وتخطف مواشيهم وتلحق بهم الإضرار.

٣٢ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ ... فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : الإملاء أن يترك الإنسان ويمهل ملأة من الزمان في أمن ودعة حتى يطول الأمل ثم يؤخذ بغتة ، وهكذا فعلت مع الّذين كفروا (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بالعذاب وأهلكتهم. وهذه الآية الكريمة تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووعيد للمستهزئين به والمقترحين عليه الآية ، فهدّدهم وقال انظروا (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) للمعاندين للرّسل.

* * *

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))

٣٣ ـ (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) ... أي رقيب وحفيظ يسمع قولها ويراقب فعالها. و (قُلْ سَمُّوهُمْ) : لا اسم من يستحقّون به الإلهية لأن الأصنام أحجار لا تعقل (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ) تعرّفونه بشيء لا يعرفه ممّا (فِي الْأَرْضِ) من مخلوقاته (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) إذ تسمّون معبوداتكم من الأوثان شركاء له من غير حقيقة واعتبار كتسمية الزنجيّ كافورا كأنّ الله تعالى لا يعلم حقيقة المسمّى الذي تدّعونه. وقد (زُيِّنَ) لهم (مَكْرُهُمْ) كيدهم (وَصُدُّوا) ضاعوا عن (السَّبِيلِ) الطريق الحق ، ومن كان هذا

١٣٠

شأنه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يدلّه على الصواب. فهؤلاء الكفرة :

٣٤ ـ (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ... بالقتل والسبي وأخذ الأموال ، و (لَعَذابُ الْآخِرَةِ) سيكون عليهم (أَشَقُ) أي : أشدّ لدوامه وخلودهم فيه. ويومئذ ليس لهم (مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي دافع يدفع عنهم ويقيهم سخطه وغضبه.

* * *

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧))

٣٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ... أي صفتها ، وهي مقرّ المؤمنين ، أنها (تَجْرِي) من تحت قصورها (الْأَنْهارُ) بين بساتينها الجميلة الفتّانة (أُكُلُها) ثمرها وما يؤكل منها (دائِمٌ) باق لا ينفد ولا ينتهي (وَظِلُّها) الظّليل كذلك لا تنسخه شمس ف (تِلْكَ) الجنّة (عُقْبَى) المتّقين أي مآلهم الأخير (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) التي لا يقضى عليهم فيها فيموتون ، ولا يخرجون منها ولا يخفّف عنهم عذابها.

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ... وهم المؤمنون بك يا محمد ، والكتاب هو القرآن ، وقيل إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، أي من

١٣١

أسلم منهم (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن لموافقته لكتابهم. والمراد (مِنَ الْأَحْزابِ) بقية أهل الكتاب وسائر المشركين.

وعن الباقر عليه‌السلام : يفرحون بكتاب الله إذا يتلى عليهم ، وإذا تلوه تفيض أعينهم دمعا من الفزع والحزن (وَمِنَ الْأَحْزابِ) أي الذين تحزّبوا عليك بالعداوة من المشركين وكفرة أهل الكتاب (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) وهو ما خالف أحكامهم وشريعتهم. فقل لهؤلاء (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) ولا أستطيع أن أغيّر شيئا من عندي ليعجبكم ما أدعو إليه من الدّين الحق لأني رسول من عند الله (إِلَيْهِ أَدْعُوا) لا إلى غيره (وَإِلَيْهِ مَآبِ) رجوعي ورجوع الخلق أجمعين.

٣٧ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) ... أي كما أنزلنا على الأنبياء السابقين كتبا بلسان قومهم ، أنزلنا القرآن (حُكْماً عَرَبِيًّا) أي شريعة وأحكاما بلغة العرب من قومك ، يحكم بين النّاس ويبيّن الحق من الباطل ، وجعلناه بلغتهم ليسهل عليهم حفظة وفهمه (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي سلكت طريقتهم وسرت بحسب رغباتهم من دعوتهم إلى دين آبائهم ، أو مشيت بحسب رغبة اليهود من اتّباع قبلتهم التي كنت عليها من قبل العلم بنسخها فما (لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) ناصر (وَلا واقٍ) دافع يردّ عنك غضبه ويحفظك من عقوبته. وهذه الآية الكريمة حسمت أطماع المشركين وثبّتت المؤمنين على ما هم عليه من الحق النازل من عند ربّهم.

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ

١٣٢

وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠))

٣٨ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً) ... فقد عيّر بعض المشركين كعبد الله بن أمية وأتباعه ، وكثيرين من اليهود ، عيّروا نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه كثير الأزواج مهتمّ بالنساء ، وأنه لو كان رسولا لما اعتنى بالنساء ولا أعار المرأة أهمية ، فنزلت هذه الكريمة تبيّن أن الرسل من قبله قد كانت لهم نسوة وأزواج كثيرات كسليمان عليه‌السلام الذي روي أنه كان له مائة زوجة وسبعمائة سريّة ، وقيل ثلاثمئة زوجة مع السّريّات ، وأنه كان لداود عليه‌السلام مائة امرأة ، فلا ينبغي أن يستنكر زواج نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثم إنهم كانوا قد طلبوا منه إنزال الآيات والمعاجز ليؤمنوا فأجابهم سبحانه أن قل لهم : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) أي معجزة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) برخصته وبمشيئته فإن شاء أظهرها وإن شاء منعها ، ولا اعتراض عليه سبحانه ولا على رسله. هذا وقد كانوا لا يأبهون بما يخوّفهم به من عذاب الله وسخطه ، وكانوا يطعنون بقوله حين يتأخر عليهم ذلك العذاب الموعود وينكرون نبوّته وأنه لو كان صادقا لنزل بهم ما يعدهم به فأجاب الله على قولهم بقوله سبحانه : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي أن العذاب وغيره من الأمور التي ستنزل بهم ، كلّها لها مواقيت مقدّرة معيّنة في اللوح المحفوظ وليست الآجال بأيدي الرّسل ولا هي تجري بحسب شهوات الناس ، بل كلّ عذاب ، وكلّ أمر ينزل في وقته وعلى حسب المصالح التي قدّرها الله تعالى ، وهي كآجال الموت والحياة وكقوله : (ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

ثم أوردوا على أنفسهم شبهة أخرى فقالوا : لو كان صادقا في دعوى الرّسالة لما نسخ الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة نحو ما كان في التوراة والإنجيل ، فقال عزّ من قائل :

٣٩ ـ (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ... : فهو ينسخ ما يشاء ويبقي ما يريد في كلّ عصر وكلّ زمان بحسب ما تقضي مصالح العباد.

١٣٣

وأمّ الكتاب اللوح المحفوظ الذي لا يغيّر ما فيه من قضاء ولا يبدّل ، والمحو والإثبات إنّما وقعا في الكتب المنزلة بحسب المقدّر في الكتاب الأمّ المحفوظ الذي لا يقع فيه محو ولا إثبات إذ الأمور متدرّجة فيه تنزل تباعا بحسب مصالح الأمم. وفي المجمع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : هما كتابان سوى أمّ الكتاب ، يمحو الله ما يشاء ويثبت وأمّ الكتاب لا يغيّر منه شيء. وعن جابر بن عبد الله ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن الله يمحو من ديوان الحفظة ما لا يتعلّق به جزاء ، ويثبت ما يترتّب عليه ثواب وعقاب ، فإنّ الحفظة البررة يكتبون كلّ ما صدر عن العباد من الأفعال والأقوال والأحوال ، ويعرضون عليه تعالى فيمحو ما يشاء إلّا ستّة أشياء لا يصل إليها قلم المحو : الأول هي السعادة ، والثاني هي الشقاوة ، والثالث هو الموت ، والرابع هو الحياة ، والخامس هو الرزق ، والسادس هو الأجل ، والله تعالى أعلم.

٤٠ ـ (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) ... هذا تهديد للكفّار قاتلهم الله ، وبشارة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقد أخبره بأنه سيحلّ بهم وعده من القتل والإذلال إن لم يؤمنوا ، وقد نريك ذلك بعينك وأنت على قيد الحياة (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أو نقبضك إلينا ونوقع بهم ما وعدناهم ، فلا بدّ أن يحلّ بهم ما وعدناهم به سواء كنت بينهم أن توفيت عنهم فنصر المؤمنين عليهم حاصل ، ونقمتنا منهم كائنة لا محالة ، وقد ترى هذه النقمة تنزل بهم وقد لا تراها ولكنها أمر واقع حين تقتضي المصلحة ذلك ، و (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) وظيفتك تبليغ الأحكام وجميع ما جاء في الرسالة لا أكثر ولا أقلّ (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي السؤال والمحاسبة والمجازاة والانتقام إن عاجلا أم آجلا ، فالأمر بيدنا والخيار لنا.

* * *

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ

١٣٤

أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

٤١ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) ... أي : أفلا ينظر هؤلاء الكفّار أنّا نعمد إلى الأرض فيأتيها أمرنا بنقصها من (أَطْرافِها) أي جوانبها وما حولها بالفتح على المسلمين وبأخذ أقسام منها من أيدي الكافرين والمشركين كما فتحنا لك مكّة المكرّمة وما حولها من القرى فنقصنا من أهل الكفر ، وزدنا في المسلمين. وقيل إن معناه : أولم يروا إلى ما يحدث في الدنيا من الخراب بعد العمار ، والموت بعد الحياة ، والنقصان بعد الزيادة؟. وقيل هذا الكلام يعني اليهود الّذين أخذت بلادهم وأموالهم وطردوا من أوطانهم وأصبحت بيد المسلمين بواسطتك وواسطة جيوشك التي نصرناها عليهم. وعن ابن عباس : أن نقصان الأرض يكون بموت العلماء. وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خذوا العلم قبل أن يذهب. قالوا : يا رسول الله : كيف يروح العلم ويذهب مع أن القرآن فينا نقرأه ونعلّمه لأولادنا؟ فغضب وقال : إن الله لا يقبض العلم من بين الناس ، ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتّخذ الناس رؤساء جهّالا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا (وَاللهُ يَحْكُمُ) بنقصان الأرض من الكفرة وازديادها لأهل الإسلام أو بغير ذلك ممّا شاء (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا رادّ لحكمه ولا حكم بعد حكمه وقضائه (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) للعباد. والفرق بين السرعة والعجلة أن الأولى فيما إذا كان فيها صلاح ، بخلاف الثانية. ولذا فإنه تعالى يوسف بالأولى دون الثانية ، فيقال : يا سريع الإجابة ، ولا يقال :

١٣٥

يا عجول. نعم قد تستعمل العجلة مكان السرعة من باب أنها أعمّ وضعا أو مجازا فيقال : عجّل في الأمر ، أي : أسرع فيه.

٤٢ ـ (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ... أي قد كاد الذين من قبل قومك لأنبيائهم كيدا كثيرا (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) وعليه مجازاة الماكرين ، وهو يأخذهم بسوء تصرّفهم ويخادعهم بما لا قدرة لهم على رده وهو خير الماكرين سبحانه ومكره الأخذ بسرعة وحسن تدبير لا يخطر في البال جزاء ما يمكرون ، وليس هو المكر السّيء المذموم الذي يقومون به من المكايدة والمخاتلة. فاطمئنّ يا محمد قلبا لأن الله (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ولا يفوته علم شيء ولا يشغله شيء عن شيء (وَسَيَعْلَمُ) سيعرف هؤلاء (الْكُفَّارُ) المعاندون لك (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) العاقبة الحسنة يوم القيامة.

٤٣ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) ... أي أنهم ينكرون رسالتك من عند الله ونبوّتك ، ف (قُلْ) لهم : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) شاهدا عالما (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يفصل في هذا الأمر وفي غيره (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ومن يملك الأحكام ويفصل في الأمور. وقد سأل رجل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام عن أفضل منقبة له ، فقرأ هذه الآية. وذلك أنه سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه الآية فقال : ذاك أخي عليّ بن أبي طالب. والروايات بهذا المضمون كثيرة لا نحتاج إلى استقصائها. وقد سئل الإمام عليه‌السلام عن الذي عنده علم من الكتاب أعلم ، أم الّذي عنده علم الكتاب؟. فقال : ما كان الذي عنده علم من الكتاب ، عند الذي عنده علم الكتاب ، إلّا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر.

* * *

١٣٦

سورة إبراهيم

مكّية إلّا آيتي ٢٨ و ٢٩ فمدنيّتان ، وآياتها ٥٢ نزلت بعد : نوح.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤))

١ ـ (الر ، كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) ... قد مرّ التعليق على الحروف التي تقع في مفتتح السور في أول سورة البقرة ، ونحن نرى أنها أسماء رمزية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو قيل فيها ما قيل. والله سبحانه يخاطبه ويقول : هذا

١٣٧

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) وحيا من عندنا (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) بدعوتهم إلى ما في كتابنا من الحق ، لنخرجهم من ظلمات الكفر والضلال الذي هم فيه إلى نور الإيمان (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه وتسهيله ومشيئته ، فتهديهم (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي طريق الله المنيع الجانب اللائق بالحمد الذي يجازي على الحمد. وهذا بدل من قوله تعالى : إلى النور. والآية تشير إلى أن طرق الكفر والضلال متعددة ، وأن طريق الإيمان واحدة ، وذلك بسبب الجمع في (الظُّلُماتِ) والإفراد في (النُّورِ) واللام للغرض ـ كما لا يخفى ـ.

٢ ـ (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ... لفظة الجلالة (اللهِ) بدل من لفظة (رَبِّهِمْ) في الآية السابقة. وهو الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض ويتصرّف به كيف يشاء (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) تهديد لهم بالعذاب العظيم القويّ في يوم القيامة ، ويعدهم بالويل الذي يقال إنه واد في قعر جهنم.

٣ ـ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) ... هذه بيان لسابقتها ، فالكافرون الّذين هدّدهم بالعذاب الشديد ، هم الذين يختارون المقام في هذه الدّنيا والانغماس في ملذّاتها ومغرياتها ، ويفضّلون ذلك على العمل للآخرة ، ثم (يَصُدُّونَ) يمنعون غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الطريق الموصلة إلى مرضاة الله عزوجل (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويريدون طريق الحق معوجّة ذات لفّ ودوران وزيغ ، فيمنعون الناس عنها وينحرفون بهم إلى غيرها ، و (أُولئِكَ) المنحرفون الذين يريدون اتّباع أهوائهم (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق ، وضياع عظيم عن معرفته. وقد وصف الضلال بالبعد من باب المجاز في الإسناد.

٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) ... في زاد المسير نقل أن قريشا قالوا : إن كلّ نبيّ نزل عليه الكتاب ، كان كتابه بلغة أعجمية ـ غير عربية ـ فلما ذا كان كتاب محمد عربيّا؟. فنزلت هذه الآية الكريمة تشير إلى

١٣٨

أن كل رسول نزل بكتاب بلغة قومه الذين تولّد منهم ونشأ بينهم وربي فيهم وبعث إليهم (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي يظهر ويفسّر ويفصّل ما أتي به فيفهموا قوله بلغتهم الدارجة بينهم لتتمّ الحجة عليهم. وفي الخصال عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : منّ عليّ ربّي وقال : يا محمد ، قد أرسلت كلّ رسول إلى أمة بلسانها ، وأرسلتك إلى كلّ أحمر وأسود من خلقي. وهذا جواب يسفّه قول المعترضين من قريش ، فقد نزل القرآن بالعربية رغم أنه لسائر العالمين ، وحال كونه نزل بلغة قوم الرسول كبقية الكتب التي أنزلت بلسان أهلها ، فلا تبتئس يا محمد فإن الله (فَيُضِلُ) من يشاء (وَيَهْدِي) من يريد بتيسير الهداية لمن أرادها ، وبعدم الرّدع عن الضلال لمن أراده وأوغل فيه كيلا يكون الإيمان قسرا (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي القوي الذي لا ينال ، ويفعل ما يفعله بمقتضى الحكمة.

وفي هذه السورة الشريفة شرع سبحانه في بيان نعمه على العباد من أوّلها ، فبيّن أنه أرسل الرّسل وأنزل الكتب لإخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الهداية وليس من نعمة أعظم من هذه النعمة. ثم أوضح أنه أرسل كلّ رسول بلسان قومه ليسهل عليه إفهامهم ، وليكونوا من بعده تراجمة قوله للآخرين كما هو شأن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أرسل إلى كافّة الناس وسائر أهل اللغات وذلك قوله عزوجل : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) ثم فصّل بقية نعمه على عباده وبدأ بقصة موسى عليه‌السلام ، وعقّب بقصص كثير من أنبيائه ورسله الكرام ، فالحمد لله على منّه وكرمه.

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)

١٣٩

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))

٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ... أي بعثناه بدلائلنا ومعجزاتنا وأمرناه (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فاهدهم إلى الإيمان وأنقذهم من الجهل والكفر (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي أنذرهم بوقائعه التي حلّت بالأمم التي سبقتهم من إهلاك بالحرب والقتل ، ومن آيات وقعت بالخسف والقذف ، ومن مصائب حلّت بهم بالريح السّموم وغيرها. والعرب يسمّون الوقائع أياما ، وإذا كانت النوازل من عند الله سمّوها : أيام الله ، وإذا كانت من عندهم كالحروب دعوها : أيام العرب : كيوم داحس والغبراء ويوم طمس وجديس وغيرهما. وعن الصادق عليه‌السلام : بأيّام الله ، أي : بنعم الله وآلائه. وفي القمي : أيام الله ثلاثة : يوم القيامة ، ويوم الموت ، ويوم القائم عليه‌السلام (إِنَّ فِي ذلِكَ) التذكير (لَآياتٍ) دلائل وبراهين (لِكُلِّ صَبَّارٍ) صبور على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه عزوجل.

٦ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ) ... أي اذكر إذ قال موسى ذلك لقومه فدعاهم لشكر ربّهم (إِذْ) حيث (أَنْجاكُمْ) خلّصكم الله تعالى (مِنْ) ظلم (آلِ فِرْعَوْنَ) حيث كانوا (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي يذيقونكم أتعس أنواع العذاب ويستعبدونكم ويكلّفونكم بالأعمال الشاقّة ف (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) عند ولادتهم لئلا يخرج منهم النبيّ الموعود ، و (يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يستبقونهنّ للخدمة ، وقيل يفعلون بهنّ ما يخلّ

١٤٠