الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

سورة الرعد

مدنيّة ، وآياتها ٤٣ نزلت بعد محمد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١))

١ ـ (المر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) ... قد سبق الكلام في تفسير : ألم ونظائره في أول سورة البقرة. وبخصوص : المر ، من حيث المعنى عن الصادق عليه‌السلام ، معناه : أنا الله المحيي المميت ، الرازق. وقيل إن الحروف المقطّعة التي في أوائل السور مختصرات تدل على صفات الله جلّت قدرته. و : المر : الألف : آلاؤه. واللام : لطفه الذي لا منتهى له. والميم : ملكه الذي لا زوال له. والراء : رأفته الكاملة و (تِلْكَ) إشارة إلى آيات الكتاب إلى ما في القرآن من الآيات الكريمة (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وحيا قدسيّا ، هو (الْحَقُ) من ربّك وهو الصدق الذي ينبغي الإيمان به (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) جلّهم يكونون معاندين (لا يُؤْمِنُونَ) بآياته وبيّناته.

* * *

١٠١

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

٢ ـ (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) ... نحن وظاهر الآية الكريمة نرى احتمالين :

الأول : أن جملة ترونها ، مستأنفة للاستشهاد برؤيتهم السماوات مرفوعة بلا عمد ، ولو كانت لرؤيت. وبعبارة أخرى : الرؤية تدل على عدم المرئيّ ، فانتفت الرؤية بانتفاء موضوعها ولو كان لبان.

والثاني : أن الجملة صفة للعمد ، فتدل على أن لها ـ أي للسماوات ـ عمدا ولكنها غير مرئيّة لكم ، وقيل إنها عدله تعالى ، وقيل قدرته التي بها قامت السماوات والأرض وارتفعت ، واستقرّت الأرضون وانبسطت. وهذه الآية تدلّ على وجوب التصديق به تعالى وبخالقيّته لأن هذه الأجرام العظيمة بقيت ثابتة في الجو الواسع الشاسع العالي (بِغَيْرِ عَمَدٍ) ويستحيل أن يكون بقاؤها بذواتها لأن الأجسام متساوية بذواتها في الماهية ، ولو وجب حصول جسم في حيّز معيّن لوجب حصول كلّ جسم في ذلك الحيّز

١٠٢

بقاعدة المساواة التي قلناها ولوجب حصول جسم في حيّز معيّن ووجب حصوله في جميع الأحياز ، ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة ، فحصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها المعيّنة ليس أمرا واجبا لذاته ، والخلاء لا نهاية له ، فحصول جسم معيّن بحيّز معيّن دون حيّز مع أن الأحياز متساوية والخلاء لا نهاية له ، لا بدله من مخصّص ومرجّح ، وليس إلّا الله تعالى وعزّت قدرته. ولا يجوز أن يقال إنها اختصّت وبقيت في حيّز معيّن بسلسلة فوقها إذ يعود الكلام الى السلسلة ولما تعلّقت به ويلزم الدّور أو التسلسل إلى ما لا نهاية له وهو محال ، فثبت أن هذه الخصوصيات قائمة بمدبّر غيرها وهو هو تعالى شأنه العزيز ، فهذا برهان قاطع على وجود الصانع تعالى ، فيا له من قادر حكيم خلق هذه الكائنات المدهشة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى عليه بالتقدير والتدبير المستقيم للأجسام والأجرام التي كوّنها من جهة اقتداره ونفوذ سلطانه. ويقال استوى على سرير الملك كناية عن التملّك والاستقرار (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلّلهما لمنافع خلقه ، والمسخّر هو المهيّأ لأن يجري بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير النّار للإسخان والماء للجريان (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت مضروب معيّن يتمّ فيه أدواره بناء على أن المراد بالأجل المسمّى منازلهما التي ينتهيان إليها ولا تتجاوزانها ، فالشمس تقطع تلك المنازل والبروج في كلّ سنة ، والقمر في كلّ شهر حتى ينتهيان إلى آخر السنة ويرجعان إلى أولى المنازل بطبعهما وطبيعتهما التي جعلها الله الحكيم القدير لهما من غير احتياج إلى معين ، ذلك تقدير العزيز الحكيم. فالبروج اثنا عشر برجا ، والمنازل ثمانية وعشرون ، والقمر ينزل كلّ ليلة بواحدة من مستهلّه إلى ثمانية وعشرين من الشهر ، ثم يستر ، واستتاره محاقه ، حتى لا يرى منه شيء. فإن كان الشهر تسعة وعشرين يوما استتر ليلتي ثمان وعشرين وتسع وعشرين ، وإن كان الشهر ثلاثين يوما استتر القمر ليلتي تسع وعشرين وثلاثين. فعلى هذا يكون محاقه ليلتين. وهذه المنازل يبدو القمر منها في أربع عشرة منزلة بالليل فوق الأرض ، ويخفى منها أربع عشرة

١٠٣

منزلة وراءها ، وكلّما غاب منها واحدة طلع دقيقا ضعيفا. فهو سبحانه يدبّر أمور الكائنات كلّها من الإيجاد والإعدام ، والإغناء والإفقار.

وأما بناء على أنّ المراد بالأجل المسمى : الغاية المضروبة التي ينقطع دونها سيره ، فهو يوم القيامة الذي تكوّر الشمس فيه ، وتنكدر النجوم ، وينخسف القمر ، والله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي أمور ملكه وملكوته من الإيجاد والإعدام ، والإحياء والإماتة ونحوها ، وهو (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي ينزلها ويبيّنها تفصيلا ، أو المراد إتيانها آية بعد آية فصلا فصلا ، مميّز بعضها عن بعض ليكون في مقام الاعتبار والتفكّر أسهل (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي لتتفكّروا وتتأمّلوا فتعرفوا كمال قدرته ، وتعلموا أن من قدر على هذه الأمور العجيبة قادر على البعث والنشور.

وفي هذه الآية دلالة على وجوب النظر المؤدّي إلى معرفة الله بالاجتهاد وبطلان التقليد في أصول المعارف الحقة. ويحتمل أن يكون قوله تعالى : يفصّل الآيات ، إشارة إلى ما فصّل قبل ذلك من السورة من إنزال الكتاب ، ورفع السماوات بغير عمد ، والاستواء على العرش ، وتسخير الشمس والقمر وباقي النجوم وذكرها من باب التمثيل بأكمل الأفراد وأعظمها ، وإجرائها في منازلها ومناطقها الخاصة أو الأعم منها وفي غيرها.

٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) ... لما قرّر الدلائل السماويّة أردفها بتفصيل الآيات الأرضية التي تدل على وجود صانعها وموجدها من العدم. والمراد بمدّ الأرض دحوها وبسطها طولا وعرضا لمنافع خلقه ومصالحهم (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت جعل فيها بخصوصها منافع كثيرة لعباده كأنواع المعادن المهمّة المختلفة كالزاج والأملاح والقير والكبريت والفلزّات المختلفة الأثر كالذهب والفضة والحديد والأحجار الكريمة من نحو الفيروزج والعقيق والعسجد والزبرجد. وجعل فيها (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي صنفين مختلفين : أسود وأبيض ، وحلوا وحامضا ، وصيفيّا وشتويّا .. والزّوج قد يطلق على الفرد فيقال : زوج نعل وزوج باب ، وقد يطلق على اثنين

١٠٤

كما في الحيوان حيث إن المراد بالزوج فيه : الذكر والأنثى ، وفي الثمار هو عبارة عن لونين ، أو باعتبار الذكورة والأنوثة وإن خفي علينا نوعها. ويمكن أن يراد بالزوج في الآية : الذكر والأنثى والتثنية والإفراد ، أي عنوان التثنية في (زَوْجَيْنِ) كان تأكيدا لما يدلّ عليه لفظ الزوج من الاثنينيّة. وأما قوله تعالى (اثْنَيْنِ) فإما أن يكون بيانا للزوجين حيث قلنا إن الزوج بطبعه وعلى حسب وضعه يدل على الاثنينيّة ، والتثنية كذلك. فمعنى الزّوجين : اثنين اثنين ، وفوجئ بهذا اللفظ ليدل على انسلاخ الزوج عن الاثنينيّة ، وإن المراد ب (زَوْجَيْنِ) هو الاثنينيّة التي تدل عليها تثنيته. وإما أن يكون المراد بزوجين : صنفين ، أي أريد بالزوج : الفرد ، بمعنى الصّنف. وال (اثْنَيْنِ) كناية عن اختلافهما كما فسّرناه آنفا. وقيل إن تعقيب ال (زَوْجَيْنِ) ب (اثْنَيْنِ) للتأكيد كما هو دأب العرب في هذه الموارد (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي تغطّي ظلمة الليل ضوء النهار فيصير الجوّ مظلما بعد أن كان مضيئا ، وكذلك العكس حين يأتي ضياء النهار فيمحو ظلام الليل ، لانتفاع الحيوانات والكائنات الحية من الراحة في الليل ، وتحصيل القوت في النهار ، وذلك من أهمّ الآيات التي تدلّ على وجود مدبّر قادر للعالم عند كل إنسان متفكّر عاقل.

٤ ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) ... أي أقسام متلاصقة متقاربة وفي عين الاتّصال وقرب الجوار ، مختلفات بالرّخاوة والصّلابة ، والطّيبة والسّبخة ، والصلاح للزرع وعدمه ، وللشجر دون غيره ، أو لبعض أنواع الزرع دون بعضه ، وكلّ ذلك ـ أيضا ـ من دلائل وجود الصانع القادر الحكيم ، لأن اشتراك القطع في الطبيعة الأرضية تقتضي عدم الاختلاف لو خلّيت وطبيعتها (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) جمع صنو أو صنوة وهي النّخلات العديدة التي تخرج من أصل واحد ، أو هي التي تخرج عن أصل أمّها من بقية الأشجار في الأحراج والبساتين ، وتنبت على أصول شتّى (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) من الأنهار أو من السماء مع أن الأرض واحدة والماء واحد (نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ) في الأثر والشكل واللون والطعم ، ولو كان بالطبع لما

١٠٥

اختلفت الأثمار. وهذا دليل واضح على وجود الصانع ووحدانيّته تعالت قدرته ، وبعبارة أخرى يريد سبحانه وتعالى أن يبيّن أنّ في الأرض قطعا متجاورة متماثلة تسقى بماء واحد وتنتج هذه الحامض ، وهذه الحلو ، وتلك الرّطب ، والأخرى اليابس إلى غير ذلك من الاختلاف الذي لا يقع تحت حصر ولا يعوزه برهان (فِي الْأُكُلِ) أي في الثمر قدرا وطعما ورائحة وغير ذلك مما بيّناه آنفا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يتفكرون ويتعقّلون ، فإن الإنسان ليتعجّب حين يرى وردة واحدة تنبت على أصل واحد هي في غاية الرّقة والنعومة ، يبدو أحد وجوهها في غاية الحمرة ، والوجه الآخر قليل الاحمرار أو قريبا من البياض المشرب بلون غير مميّز ، ولا يستطيع عندها أن يؤمن بقول من ينسب ذلك إلى الطبائع الأرضية والفلكية ، بل يعتقد أن هذا الاختلاف والتلوين في الزهرة الواحدة هو من لدن مدبّر حكيم وصانع عليم ، والعلم بافتقار الحادث إلى محدث علم ضروريّ دون ادنى ريب.

* * *

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))

١٠٦

٥ ـ (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) ... يعني يا محمد ، إن تعجب وتستغرب إنكار الكفرة البعث والنّشور لعدم تدبّرهم دلال الوحدانيّة والقدرة (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي حقيق وجدير بأن تتعجّب منه ، واستغرابك في محلّه لأن من قدر على إيجاد وإبداع ما قرأناه عليك من الآيات والدلائل المبرهنة على وجوب وجود مبدئ قادر حكيم أوجد الأشياء كلّها من العدم الصرف إلى الوجودات السامية الكاملة كخلق الفلكيّات وما فيها من جلائل المخلوقات وعجيبها ممّا أشرنا إليه من المدركات وممّا لم تصل إليه عقولنا ولم يستوعبه إدراكنا مع العلم بأن إعادة المعدوم الذي كان موجودا أسهل وأيسر ، فكيف بما ابتدعه سبحانه من العدم وأوجده بقدرته؟ والقول (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) كلام مقول لقولهم العجيب الدال على إنكار البعث مع أن الموت خلع للباس الحيوانيّة ولبس للباس الترابية ، ثم عود لترميم ذلك البناء وبعث للروح فيه ، وهم لا يتعقّلون أن خلقهم الأول أعظم من بعثهم بعد الفناء ، ومن قدر على الأقوى الأصعب الأكمل ، كان أقدر على الأقلّ الأسهل الأضعف بالأولويّة. فالذين ينكرون ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وأنكروه ولم يعترفوا به وبوحدانيّته وقدرته (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) ستوضع قيود سلاسل النار في رقابهم يوم القيامة (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون إلى أبد الأبد.

٦ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) ... وذلك بأنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بقوله. وهذا يعني أنهم يطلبون منك تعجيل العذاب والعقوبة التي قرّرها الله سبحانه لهم وأخّرها إلى القيامة وصرفها عن هذه الأمة ببركة وجودك فيها ، وهذا التأخير خير للأمة وعافية لها ، ولذا عبّر عنه (ص) بالحسنة في الآية الكريمة لأنه تعالى أحسن إليه (ص) وإلى أمّته بذلك التأخير لاحتمال أن يوفّق العاصي للتوبة والإنابة خلال هذه المدة ، ولكن الكافرين استعجلوا العقوبة قبل حلول المدة (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي مضت قبلهم عقوبات

١٠٧

أمثالهم من المكذّبين للرّسل كالخسف والمسخ والرجفة ، فلم لا يعتبرون ولا يخافون أن يعذّبهم الله في الدّنيا بعذاب الاستئصال قبل يوم القيامة وهم غافلون عن ذلك جاهلون لما يمكن أن يصيبهم. والمثلات : جمع مثلة ، كالمثل الذي يعني ما أصاب القرون الماضية من العذاب ، وهي عبر يعتبر بها وقد جاءت بمعنى مطلق لتنوّه بالتنكيل والعقوبة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي هو لطيف بهم متجاوز عنهم بالرغم من الحالة التي هم عليها من ظلم أنفسهم باقتراف الذنوب واكتساب الآثام. وهذه الآية الكريمة أرجي آية في كتاب الله عزوجل لأن المغفرة فيها لم تكن معلّقة على المشيئة ولا مقيّدة بها بل وقعت مطلقة ومرسلة ، ولذا قال المرتضى (قدس‌سره) : في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمؤمنين من أهل القبلة ، لأنه سبحانه دلّنا على أنه تعالى يغفر لهم مع كونهم ظالمين ، فإن قوله : على ظلمهم ، إشارة إلى الحالة التي يكونون عليها ظالمين كقولك : أنا أودّ فلانا على عيبه ونقصه .. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) فيها أن الآية الكريمة تمهّد لقاعدة الخوف والرجاء في آن واحد. ولمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ عيش أحد ، ولولا وعيده تعالى لما عمل أحد اتّكاء على عفوه ومغفرته. فلا بد من الرجاء والخوف. وأما مذهب المعتزلة فهو أن الكبائر لا تغفر ، وقد قال أبو عبد الله عليه‌السلام : قد نزل القرآن بخلاف قولهم ، قال جلّ جلاله : وإن ربّك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ، وقلنا ما فيها قيد فنأخذ بإطلاقه كما أشار ردّا على المعتزلة.

٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) ... : هذه الآية الشريفة ، من باب الطفرة عن الجواب ، حيث إنّهم لم يعتنوا بالآيات المنزلة واقترحوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كعصا موسى وإحياء الموتى ونحوهما من المعاجز التي صدرت عن الأنبياء قبله صلوات الله عليهم. فالله تعالى لم يعتن بما سألوه من نزول آية معجزة عليه ، بل قال (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فعصرك عصر فهم وفصاحة وخطابة وبلاغة ، ويكفيك القرآن

١٠٨

معجزة تتحداهم بها ، وما عليك إلّا الإتيان بما يصدّق رسالتك ويدلّ على أنك منذر : مخوّف والآيات كلّها متساوية في حصول الغرض ولو أثّرت أيّة معجزة لأثّرت معجزتك الباهرة ، لأن العصا وإحياء الموتى وغيرهما من المعجزات لم تؤثر في ذوي القلوب القاسية التي طبع عليها بالكفر والإنكار ، وإذا لم يؤثّر القرآن في قومك فلن يؤثر بهم شيء ولو حوّلت الصّفا لهم ذهبا. ولم يجبهم سبحانه إلى طلبهم ولا اعتنى بسؤالهم ولم ينزل عليهم آية لأنه لو أجاب إلى ذلك لاقترح قوم آخرون آية أخرى ، وكذلك كل كافر يطلب ما يلائم طبعه ويوافق هواه وهذا يؤدّي إلى غير نهاية ، فسدّ الله سبحانه هذا الباب وأعطاهم مما يلائم عصرهم وأنزل القرآن الذي بهر العقول وحيّر الألباب ، كما أعطى داود عليه‌السلام في عصره الصوت الحسن وترتيل المزامير الذي كانت تتجاوب معه الطيور والوديان والجبال وسائر المخلوقات ، وأعطى سليمان عليه‌السلام الملك والعزّ والجاه ولغة الطير وسائر المخلوقات وما لا ينبغي لأحد من بعده ، وأعطى موسى عليه‌السلام شيئا يبطل السحر ، وأعطى عيسى عليه‌السلام ما تفوّق به على علمهم وطبّهم وجميع قدراتهم ، ثم أعطى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يلائم عصره : عصر البيان والبلاغة والفصاحة ، وأنزل عليه من فضله ما لم ينزل على غيره ، أي كتابه المبين الذي فيه علم الأولين والآخرين وفيه تبيان كل شيء ، ذلك الكتاب الذي تحدّى الأفهام ونادى على رؤوس الأشهاد في جزيرة العرب وفي الناس أجمعين : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) فلم يأتوا بسورة ولا بآية!. (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) يهديهم ويدلّهم ، وداع يرشدهم إلى ما فيه الصلاح ، وليس إليك ـ يا محمد ـ إنزال الآيات للدلالة على نبوّتك ورسالتك. وعن ابن عباس قال : لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا المنذر ، وعليّ الهادي من بعدي. يا عليّ بك يهتدي المهتدون. وعن الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل عن أبي بردة الأسلمي قال : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالطّهور وعنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول الله بيد عليّ بعد ما تطهر

١٠٩

فألزمها بصدره ثم قال : إنما أنت منذر خطابا إلى نفسه ثم ردّها إلى صدر عليّ ثم قال : ولكلّ قوم هاد ، ثم قال : أنت منارة الهدى ، وغاية الأنام ، وأمير القرى ، وأشهد على ذلك أنك كذلك. وبهذا المعنى روايات كثيرة صدرت عن العامّة والخاصّة فليراجع من شاء المزيد.

* * *

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

٨ ـ (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) ... : أي أنه سبحانه يعلم حمل المرأة ذكرا كان أم أنثى أم سقطا لأنه يعلم ماذا خلق ، ويعلم (ما تَغِيضُ) أي تنقص (الْأَرْحامُ) فتضع المولود قبل تمام تسعة أشهر ، أو ما تسقطه قبل تمامه ويعلم (وَما تَزْدادُ) من حيث المدّة والخلقة وغيرهما (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي بقدر وحكمة وكما ينبغي أن تتوفر المصلحة وتعمّ المنفعة ، فترى أن الولد حين يولد يدرّ له الثدي لبنا خاثرا يسمى اللباء الذي يكون خلوا من المواد الغذائية أولا إلّا أنه حاو لموادّ مليّنة تساعد على تنظيف أمعائه من فضلات المواد اللّزجة المتولّدة أثناء مدة تغذيته في الرّحم من الدم الذي كان محبوسا فيه ، ثم يتطوّر لبن أمّه بعد ذلك

١١٠

بتطوّر حاجات أعضاء الطفل وتقدّم سنّه وتبدّل قواه ونمو جسمه ، فتزداد الموادّ الغذائية في اللبن تبعا لحاجته من المواد الدهنيّة والسكريّة ، وتقلّ المواد الزلاليّة والملحيّة الأولى إلى أن يصبح لبن أمه طعاما كاملا يكفي لتغذيته وإنبات لحمه وشدّ عظمه بحيث يجري كل ذلك رغم أن المرضع هي هي لم تتغير ولم تتبدّل في مأكل ولا في مشرب ، وهذا هو من صنع الله سبحانه الذي أتقن كل شيء بقدرته ورتّب مثل هذه الأمور بحكمته. وإنك لترى والشجر في البراري مجدبا قاحلا أثناء فصل المطر والشتاء حيث يكثر المطر وترتفع الرطوبة فيتساقط ورقه ، ثم لمّا يقدم الربيع بحرارته اللطيفة ورطوبته الخفيفة يرى الشجر قد عاد إلى الحياة مزدهرا يانعا مكسوّا بالورق الجميل والزهر العطر بادي الخضرة زاهيا في مظهره مع أن الطبيعة تقتضي كونه كذلك حين وجود الماء والمطر والرطوبة ، كما يجب أن تقتضي يباسه حين اشتداد الحرارة وقلة الأمطار والمياه ، فسبحان المدبّر الحكيم الصانع العليم الذي هو :

٩ ـ (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) : الذي لا يخفى عليه ما غاب أمره عن مخلوقاته في الأرض أو في السماء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة فيهما ، يعرف ما شوهد وما خفي فلم تدركه الحواسّ ، لأنه (الْكَبِيرُ) في قدرته وعلمه (الْمُتَعالِ) في شأنه وعظمته وملكه الذي كل شيء بجنب عزّه وجلاله حقير ، وكلّ عزيز من مخلوقاته يكون بالنسبة إليه ذليلا عاجزا لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ولا يدفع عنها سوءا.

١٠ ـ (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) ... أي يستوي عنده من أخفى شيئا في نفسه ومن أعلنه ، فانه لا تخفى عليه خافية وسواء عنده من هو (مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي طالب للخفاء فيه يستر نفسه عن أن يراه أحد ، ومن هو (سارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ذاهب في سربه متّبع طريقه في سبيل عمله اليوميّ علنا وجهرا ، فإنه لا يخفى عليه سبحانه لا هذا ولا ذاك ، لا المختبئ المستتر ولا الظاهر البارز ، وعن الباقر عليه‌السلام : يعني السرّ والعلانية عنده تعالى سواء.

١١١

١١ ـ (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) ... : أي أنه سبحانه جعل للإنسان ملائكة يتعاقبون في حفظه أمامه ووراءه ومن جميع جهاته وقد ذكر جهتين إمّا من أجل المثل أو من باب الأهميّة التي تعبّر عن رقابته لمخلوقه ، وفي قراءتهم عليهم‌السلام : له معقّبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه من أمر الله. وعن الباقر عليه‌السلام (مِنْ أَمْرِ اللهِ) يقول : بأمر الله من أن يقع في ركيّ (أي بئر) أو يقع عليه حائط ، أو يصيب شيء ، حتى إذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه يدفعونه إلى المقادير ، وهما ملكان يحفظانه بالليل ، وملكان يحفظانه بالنهار ، يتعاقبانه (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من عافية أو نعمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الطاعة بالمعصية أو العكس. وفي الأثر أنه لمّا أكدّ تحريم الخمر كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمرّ يوما في بعض طرق المدينة فإذا شابّ أنصاريّ وعلى رأسه قربة شراب ، فلمّا رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تغيّر لونه وخاف خوفا شديدا ولم يجد سبيلا إلى الفرار ، فناجى ربّه سرّا قائلا : اللهم إنّك إن سترت عليّ أمري فأنا أتوب إليك من عملي هذا ـ وكان شارب الخمر ـ فوصل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله النبيّ : ما على رأسك؟. فقال (خَوْفاً) : خلّ يا رسول الله. فقال رسول الله (ص) : جئنا حتى نشرب قليلا. فجاء به وهو يرتعش ، فرآه النبيّ (ص) قد تحوّل إلى خلّ خالص فشرب (ص) منه وسقى أصحابه الذين كانوا معه ، فتعجّب الشابّ وقال : يا رسول الله ، وحقّ من بعثك بالرسالة إن هذا كان خمرا خالصا. فقال (ص) : صدقت ، لكن لمّا رأيتني وتبت إلى ربّك إن ستر عليك أمرك فالله تعالى صيّر الخمر خلّا بقدرته الكاملة حتى لا تفتضح عندنا. فالله تعالى نظر إلى صدق نيّتك ، ثم تلا هذه الآية : إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) أي عذابا وبلاء (فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي لا مدفع له ولا يستطيع أحد إرجاعه (وَما لَهُمْ) للناس جميعا فإنهم ليس لهم (مِنْ والٍ) مالك يقدر أن يلي أمورهم ويستطيع أن يرد السوء عنهم ويتولّى مصالحهم وجميع شؤونهم.

* * *

١١٢

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤))

١٢ ـ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) ... أي خوفا من نزول الصواعق وأذاها المحرق ، أي أنه سبحانه يرسل البرق نذيرا لمن كان يريد أن يعمل أو يريد أن يسافر أو لمن يضرّه المطر ، فإن البرق يبشّر بهطول الغيث ولذلك قال تعالى : (طَمَعاً) في نزول المطر لمن كان ينتظره أو يرغب فيه لزرعه وماشيته ونفسه. وخوفا وطمعا حالان منصوبان من البرق بإضمار : ذا (وَ) هو سبحانه (يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) ... الغيوم المثقلة بالماء ، والثقال : جمع الثقيلة لأن الماء ذا وزن وثقل. والسحاب : اسم جنس بمعنى الجمع ولذا وصفها سبحانه بالثقال. والإنشاء هو الاختراع والإيجاد ، أي : أوجد السحاب في الجوّ وابتدعها في الهواء بإرادته وقدرته. وفي بعض الأخبار فسّر قوله : ينشئ ، برفعها من الأرض ، وهذا يتفق مع قول من يقول بتبخرّ المياه من الماء وغيره ممّا يحمل الرطوبات ثم ينعقد البخار غيوما فيرسل الله عليه الريح الباردة فتحوّل البخار قطرات ماء في الجو.

١٣ ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) ... : روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الرعد فقال : ملك موكّل بالسحاب معه

١١٣

مخاريق من نار يسوق بها السحاب. والمخاريق : جمع مخراق ، وهو بالأصل ثوب يلفّ ويضرب به الصّبيان بعضهم بعضا وهو معروف عند الناس ويسمّى بالفارسية (درنه) والمراد به هنا البرق ، يعني أن البرق آلة تزجر بها الملائكة السحاب وتسوقه. وعن ابن عباس : البرق سوط من نور الله تزجر الملائكة به السحاب. واعلم أن حدوث البرق دليل عجيب على قدرة الله تعالى ، بيان ذلك أن السحاب جسم مركّب من أجزاء رطبة مائية ، ومن أجزاء هوائيّة وناريّة ، ولا شك أن الأجزاء الغالبة هي المائية ، والماء جسم رطب بارد ، والنار جسم حارّ يابس. وقد كوّن السحاب الضدّ مع الضدّ ، وأظهر الضدّ من الضدّ حين أظهر منه البرق ، وذلك على خلاف العقل والعادة ، فلا بد من صانع قادر مختار يظهر الضدّ من الضد. وقد أجيب عن هذه المسائل بأجوبة علميّة بعضها صحيح قطعا كحصول البرق من احتكاك الغيوم ببعضها ونشوء كهربائيتها وبعضها لا محصّل له ، وكلّها تجعلنا نعترف بعدم وصول عقولنا وأفهامنا إلى معرفة أسباب جميع الآيات الأرضية ، فكيف بالسماء وآياتها التي تصدر عن قادر حكيم وليست أمرا طبيعيّا سهلا يمكن تفسيره ، فسبحان من أنشأ السماوات والأرض وما فيهما وبينهما من العدم وجعلها آيات بيّنات لقوم يعقلون!.

وأما كيفية تسبيح الرعد ، فلو قلنا بما في الرواية التي ذكرناها سابقا من أن الرّعد ملك فإن تسبيح الملك ليس بعجيب إذ أن الملائكة خلقت للتسبيح الدائم والتعظيم بجانب ما تقدم به من وظائفها ، وإنّ التسبيح بالنسبة للملائكة هو كالغذاء بالنسبة لبني آدم. ومع قطع النظر عما في الرواية فإن الرعد هو صوت السحاب ، وصوته هو تسبيحه كما أن حفيف الشجر ودويّ الماء ـ صوتهما المسموع منها عند الحركة ـ هو تسبيحهما على ما هو مذكور في بعض أدعية الإمام عليه‌السلام. هذا ، وكون الرعد صوت السحاب يستفاد من بعض الروايات في الباب ، ففي الأمالي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث رجلا من أصحابه إلى بعض جبابرة العرب يدعوه إلى الله فلم يقبل فأرجعه إليه ثانيا وثالثا ، وبينا هو يكلّمه إذ رعدت

١١٤

سحابة ألقت على رأسه صاعقة ذهبت بقحف رأسه. ويستفاد من قوله : رعدت سحابة ، أن الرعد هو صوت السحابة ، تماما كما يقول العلم الحديث الذي تكلم عن احتكاك ذرأت الغيوم وتولّد البرق والرعد. فتسبيح كل شيء بحسبه ، وهو في المقام من باب نسبة الفعل إلى من هو له ، فإن القاعدة الأوليّة تقتضي أن ينسب التسبيح إلى السحاب لا إلى صوته الذي هو نفس التسبيح ، إلّا أن هذا من حسن الكلام وبلاغته. هذا ، وقد رأينا أن الجبال قد سبّحت في عهد داود عليه‌السلام ، والشجرة قد قدّست. في زمن موسى عليه‌السلام وخرج الصوت منها : إنّي أنا الله ـ وذكر الجلالة أكبر ذكر ـ كما أن الحصى سبّح بيد نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مضافا إلى قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ـ من الحيوان ، والنبات ، والجماد ـ (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ) تسبيحهم ، بل يعرفه المبدع الحكيم القدير الصانع المتقن لما صنعه ، مهما فسّرتم ذلك وكيفما حلّلتموه بحسب عقولكم وعلمكم ، واقتنعتم به أم لم تقتنعوا ، فهو عزوجل وحده يعرف تسبيحها الذي كلّفها به وأنطقها به (و) هو الذي (يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) والصواعق : جمع صاعقة ، وهي النّار التي تسقط من السماء أثناء الرعد الشديد والبرق الخاطف ، وكلّ عذاب مهلك يقال له الصاعقة ، وهي ما يتكوّن في الجو وينزل لعذاب البشر العصاة وإهلاكهم مع حيواناتهم وشجرهم ونباتهم ومزروعاتهم ، كالشّهب التي تتكوّن في السماء لطرد الشياطين والجنّ عن أبواب السماء ولإهلاكهم (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أي هؤلاء الجهلة يحاجّون ويخاصمون في قدرة الله مع ما يشاهدونه من الآيات الدالة ، فيعترضون على أهل التوحيد ليضلوهم عن طريق الحق. والجدال لغة ، فتل الخصم عن مذهبه ولو كان حقّا ، فأمر الصاعقة ـ مع نشوئها من السحاب ـ أمر عجيب ، وإنشاؤها محرقة من الغيمة المملوءة بالماء أمر مذهل ، وكونها نارا وأنها قد تغوص في ماء البحر فتحرق الحيتان والسمك أمر أعجب وأكبر إذ لا يطفئها ماء البحر ولو غاصت في لججه لكمال قوّتها وشدّة حدّتها ، ولقد رآها من يوثق به تنزل على المسامير الحديدية فتحرقها

١١٥

وتحلّلها إلى فحوم ورماد بحيث تفقد حديديّتها وصلابتها! .. أجل ، إن أمر الصاعقة التي هي نار حادّة فوق حدة النار التي نعرفها ، يدهش العقل ويحيّر الألباب لهذا الضد يخرج من ضدّه ، ويبرهن على قدرة ربّ عظيم قادر حكيم. وعلى هذا فإن قول القائلين بأن السحاب منشئ الرعد ومنشئ الصاعقة لأنهما يحدثان من اصطكاكه ببعضه ، وأنهما أمران طبيعيان وليسا من خوارق العادات ولا ممّا يخرج عن عالم الطّبع والطبيعة ، إن قول هؤلاء القائلين لا ينفي العجب من خروج تلك النار العظيمة من احتكاك ذرّات الماء الرّطبة ، ولا يضعف أهمية هذه الظاهرة المدهشة التي هي كتبريد نار إبراهيم عليه‌السلام وجعلها سلاما عليه بعد أن أعدّت لحرقه. فالصاعقة يمكن أن تتكوّن من أسباب طبيعية ، والله تعالى هو موجدها وموجد أسبابها ، ومعطيها هذه القدرة الغريبة الحارقة الماحقة التي تشق بها الأرض وتسلك بها فجاج البحر ، وهذا كلّه دليل على كمال قدرته تبارك وتعالى وتمام عظمته فيما خلق وأبدع (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) قويّ الكيد ، شديد العذاب للمجادلين بالباطل ، تامّ القوة والقدرة عند غضبه وسخطه عليهم.

١٤ ـ (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) ... : اختلفوا في معنى دعوة الحق ، وذكروا لها معاني كثيرة ، وأنسب ما يقال في المقام أن المراد بالحق كلمة الإخلاص التي هي قول : لا إله إلّا الله ، أو أن يقال : الحقّ هنا نقيض الباطل ، وهو أحسن ما قيل في تفسيره بقرينة الحصر. وقيل إن الحق هو من أسمائه ، أي أنه الموجود المحقّق الثابت وجوده ، أوله الدعوة المجابة بقرينة قوله بعد ذلك : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) أي المشركون معه غيره ، الداعون (مِنْ دُونِهِ) سواه (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) لا تستجيب أصنامهم لهم أدعيتهم ولا توصل إليهم شيئا يطلبونه. والآيات يفسّر بعضها بعضا فلعلّ هذه الكريمة مفسرة لما قبلها من قوله تعالى : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) : أي الدعوة المجابة فإنه سبحانه يستجيب لمن دعاه إذا كان في المطلوب صلاحا للداعي ، أما

١١٦

أصنامهم فإنهم حين يبسطون إليها أيديهم بالدعاء ليسوا (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) أي كالعطشان الذي يشير بيديه ليصعد الماء ويبلغ فمه ، فدعاؤهم لأوثانهم كذلك لا يستجاب إلّا إذا استجاب الماء وصعد إلى فم الظمآن بمجرّد الإشارة ببسط اليدين ، فالماء مادة لا تحس ولا تشعر ، والأصنام كذلك لا تسمع ولا تبصر ولا تعي ولا تقدر على شيء ، فليدعوا أمام تلك الأحجار ما شاؤوا (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) لا يصادف محل إجابة ليكون في طريقه المستقيم للإجابة.

ولا يخفى أن في الآية الكريمة تعليقا على محال ، وذلك أن إجابة الأصنام لدعاء الكفار ـ افتراضا ـ هي كإجابة الماء لأن يبلغ فم العطشان لمجرّد بسط اليدين له ، فالمعلّق عليه محال والمعلّق كذلك. وقيل إن التشبيه في جهة أخرى وهي أن الكفرة الداعين للأصنام شبّه دعاؤهم بعد الأثر وعدم الفائدة من دعائهم لآلهتهم ، وبمن كان عطشانا وجاء الماء ليشرب وبسط إليه يديه وفرّج أصابعه فخرج الماء من بينها ورفع يديه إلى فيه فارغتين ولم يبلغ الماء فمه إذا لم يبق في كفّيه شيء منه ولم يستفد من طلبه للماء. والحاصل أن التشبيه كان في نفس الداعيين والطالبين لا في فعلهما الذي تجلّى بالدعاء للأصنام وبطلب الماء. والظاهر من الآية لا هذا ولا ذاك ، بل هو تشبيه الأصنام بالماء من حيث أنها لا تشعر ولا تحس ولا تعقل حتى تقدر على الإجابة عند الدعاء. ويحتمل أن يكون التشبيه حاويا لجميع هذه الجهات ، بل لأكثر من هذه الاحتمالات والجمع بين جميعها أولى. ويبعّد القول بأن التشبيه في نفس الفاعلين أحدهما بالآخر أنّ ظاهر الكريمة يقرب إلى غير هذا القول لمكان «إلى» فلو كان النّص هكذا : كباسط كفّيه في الماء ، لأمكن القول بهذا القول ، فتأمّل .. نعم نحن وظاهر الآية مع قطع النظر عن الخصوصيات ، ولا يبعد القول بأن ظاهر قوله تعالى : كباسط كفّيه ، يدلّنا على مدّعى الخصم كما لا يخفى ولا سيّما إذا أخذنا بقول بعض المفسّرين للآية من الذين قالوا : أي كمن يبسط كفّيه للماء يطلب منه أن يبلغ فاه بانتقاله من مكانه ومجيئه إلى فيه ، والماء لا يسمع ولا يعقل.

١١٧

ثم أخذ سبحانه في بيان قدرته وسعة ملكه وسلطانه فقال عزّ من قائل :

* * *

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥))

١٥ ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... : أي أن كل من في السماوات والأرض شأنه السجود لعظمته سبحانه ويجب عليه السجود. وقد عبّر تبارك وتعالى عن الوجوب بالوقوع والحصول. ويسمّى لهذا بالسجود الشأني ، وهو بهذا المعنى عامّ والمراد به عام. أو أن المراد بالسجود الخضوع والاعتراف بالعبودية ، وهو بهذا المعنى أيضا عامّ لأن كلّ من في السماوات والأرض معترفون ومقرّون بالعبودية ، والعابد خاضع لمعبوده (طَوْعاً وَكَرْهاً) أي باختياره ، وقهرا ، وكذلك يكون شأن المخلوق لخالقه ، يدلّ على ذلك قوله عزوجل : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟. لَيَقُولُنَّ : اللهُ) ، وقوله تقدّس اسمه : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) ، يعني أنهم في الواقع ونفس الأمر كذلك ، وينبغي أن يكونوا كذلك بحكم افتقارهم لموجدهم.

وأما السجود بمعنى وضع الجبهة على الأرض ـ أي السجود الشرعي وباصطلاح أهل الشرع ـ فليس بمراد في هذه الآية على ما هو الظاهر المستفاد منها. فإن أهل السماوات والأرض ليس سجودهم هكذا ، ولا أكثر أهل الأرض من المسلمين ، وكذلك الكفرة الذين يسجدون كرها وخوفا من السيف وطمعا في المال فإنهم ليسوا مقيّدين بأصل السجود فضلا عن المسجود له .. والأحسن في المقام أن يقال إن السجود اسم جنس وهو يطلق على جميع أقسامه ، والسجود من كل شيء يكون بحسبه ، ولعلّ المعنيّ بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، هو المعنى العام ، فلا

١١٨

إشكال في المقام والله أعلم بما قال. فكل شيء يسجد له سبحانه عند رغبة ورضا وتسليم كالملائكة والمؤمنين من الإنس والجن ، وعن غير رغبة ، بل اضطرارا وجبرا كما في الكفرة والفجرة فإن السجود أصعب عليهم من جميع العبادات كالصلاة والصوم وغيرهما من الأحكام ، فإنهم إن تعبّدوا لله بشيء من ذلك فإنما يتعبّدون مكرهين غير طائعين (وَ) كذلك تسجد (ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) وهم في إكراههم على السجود يشبهون حال ملازمة ظلالهم في الغدوّ والآصال. والغدوة هي البكرة أو بين طلوع الفجر وشروق الشمس ، والآصال : جمع أصيل ، وهو هنا الوقت الواقع بين العصر والمغرب. وظلالهم عطف على : من كما لا يخفى. ولا يخفى أيضا أن لكل حادث ظلّا يتبع صاحبه في السجدة أو عدمها. وقيل إن كان ظلّ يسجد لله تعالى ولو كان ذو الظلّ لا يسجد ، أو إذا سجد ، سجد لغيره تعالى. وسجدة الظّل هي حركته التبعيّة من طرف إلى آخر ومن جهة إلى أخرى. والتخصيص بوقتي الغدوّ والآصال إما لخصوصية في هذين الوقتين لأن امتداد الظلّ يكون فيهما أظهر ، أو هو كناية عن الدّوام : أي منذ الصباح إلى المساء ومدة وجود النور. وقيل : أريد بالظلّ الجسد لأنه ظلّ الروح ، وهو ظلمانيّ والرّوح نورانيّ ، وهو تابع له يتحرك بحركته النفسانية ويسكن بسكونه النفساني ، والله أعلم.

* * *

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ

١١٩

خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))

١٦ ـ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... قد أظهر قدرته الكاملة سبحانه بقوله : يا محمد اسألهم : من ربّ السماوات والأرض وخالقهما ومتولّي أمرهما؟. فإن لم يجيبوا فأجب عنهم : هو (اللهُ) إذ لا جواب غيره ولأن هذا الجواب بيّن لا مرية فيه شاؤوا أم أبوا. ثم ألزمهم الحجة (قُلْ : أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ؟) الهمزة للإنكار ، أي : فكيف اتّخذتم غيره يتولّى شؤونكم مع أن الأصنام التي اتخذتموها لا تملك نفعا ولا ضرّا .. وبعد إلزام الحجة ضرب سبحانه مثلا فقال : سلهم يا محمد : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي الكافر والمؤمن (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي الكفر والإيمان؟. والحاصل أنه لا يستوي من يعيش في ظلمة الكفر والشّرك ولا يبصر شيئا ، مع من هو في نور الإيمان وحقيقة اليقين والمعرفة مع الحجج والبراهين الساطعة ، يبصر ويرى ولا يخفى عليه شيء في طريقه لأنه ينظر بنور الله!. فهما ليسا متساويين كما أن الظّلمة والنور لا تتساويان ، والكفر والإيمان لا يتساويان لأنهما المميّزان بين الكافر والمؤمن وهما أولى بعدم التساوي (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) الهمزة فيها للإنكار. وحاصل الآية الكريمة أنهم ما اتّخذوا لله شركاء مثله تعالى في القدرة والخلق حتى يشتبه الأمر على النّاس ، ولا كان من شبه بين الله وما أشركوه معه ، ولا بين

١٢٠