الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

له غيره سبحانه وتعالى لأنه وحده قادر على ذلك كقدرته على النفع والضر (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) من نعمة يتفضّل بها عليك أو من صحة أو أمن أو غيره (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي فلا أحد يردّ : يمنع الفضل والنعمة والخير عنك ، فهو (يُصِيبُ بِهِ) أي بالخير (مَنْ يَشاءُ) يريد (مِنْ عِبادِهِ) فيعطي الواحد منهم ما تقتضيه الحكمة وما تدعو إليه المصلحة (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) المتجاوز عن ذنوب عباده الرؤوف بهم.

* * *

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

١٠٨ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ ...) أي : أعلن يا محمد بين الناس وناد بهم قائلا لهم : قد جاء الحق : أتاكم القرآن ودين الإسلام الذي هو الحقّ ، أو هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه ـ جاءكم ذلك (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من خالقكم ورازقكم وما لك أموركم (فَمَنِ اهْتَدى) استدلّ بالحجج وعرف أن الدّين الإسلاميّ حق وصواب (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِه) أي تعود عليه منفعة هدايته وإيمانه ، ويفوز بثواب عقيدته وعمله (وَمَنْ ضَلَ) عدل عن ذلك وكفر بالآيات والبيّنات والدعوة إلى الله والدّين (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) يكون وبال ضلاله على نفسه ، وهو يجني عليها (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) يعني أن ليس محمدا (ص) على الناس بحفيظ يدفع عنهم الهلاك ويمنع عنهم العقاب كما يكون الوكيل حفيظا على مال غيره. فهو (ص) مبلّغ وغير ملزم بجعلهم مهتدين ولا بإنجائهم من النار كما يحفظ الوكيل المال من التلف والضياع.

١٠٩ ـ (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ...) هو خطاب لنبيّه الكريم أن سر

٤٦١

بحسب ما ينزل عليك من ربّك بالوحي (وَاصْبِرْ) على تكذيب الكافرين وأذاهم وكيدهم لك وابق على أناتك (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) يقضي بينك وبينهم بظهور الدّين ونصر دعوتك وإعلاء أمرك الّذي هو أمر الله (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه الحاكم بالعدل الذي لا يحيف في حكمه ويتنزّه عن الجور.

* * *

٤٦٢

سورة هود

مكية ، وهي مائة وثلاث وعشرون آية

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))

١ ـ (الر ، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ...) الر : مرّ تفسير هذه الرموز في أول البقرة ، و (كِتابٌ) يعني القرآن الكريم ـ وهو مرفوع خبرا لمبتدأ محذوف بتقدير : هذا كتاب (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي أثبتت دستورا لا ينسخ أبد الدهر كما نسخ غيره من الكتب السماوية (ثُمَّ فُصِّلَتْ) ببيان الحلال والحرام وسائر ما في الشريعة الإسلامية من الأحكام ـ أحكمت ثم فصّلت (مِنْ لَدُنْ) من قبل أو من عند (حَكِيمٍ) في جميع تدابيره وأحكامه (خَبِيرٍ) عليم بأحوال خلقه وبمصالحهم. وقيل (أُحْكِمَتْ) آيات الكتاب بالأمر والنهيّ و (فُصِّلَتْ) بالوعد والوعيد ، وقيل (أُحْكِمَتْ) آياته جملة ،

٤٦٣

و (فُصِّلَتْ) واحدة واحدة لتبيّن الأحكام للمكلّفين بالتفصيل. ثم قيل (أُحْكِمَتْ) في نظمها الفصيح المعجز ، و (فُصِّلَتْ) بالشرح وببيان الشرع. وقيل أيضا (أُحْكِمَتْ) فما فيها خلل ولا باطل ، و (فُصِّلَتْ) بتتابع بعضها بعضا لتفصيل الأحكام المختلفة ، وكل ذلك يشمله إحكام وتفصيل آيات القرآن الكريم.

ونلفت النظر إلى أن هذه الآية الشريفة تدل دلالة قاطعة على أن كلام الله تبارك وتعالى محدث لأن الإحكام والتفصيل من صفات الأفعال ، مضافا أن ذلك (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي أن الفعل أسند إلى محدث وأضيف إليه ، فتأمّل.

٢ ـ (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ...) أي أحكم آيات هذا الكتاب وفصّلها ، ثم أنزله إليكم آمرا أن لا تعبدوا غيره. فلفظة (أَلَّا) تتألف من (أن) و (لا) المدغمتين. فقل يا محمد ذلك للنّاس ، وقل : (إِنَّنِي) أنا رسول الله إليكم ، وأنا (مِنْهُ نَذِيرٌ) يخوّفكم البقاء على الكفر والعصيان (وَبَشِيرٌ) يبشّر السامعين المطيعين بالجنة وجزيل الثواب.

٣ ـ (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ...) هذا تمام لما قبله ، أي جئت لآمركم أن تطلبوا المغفرة من الله والتجاوز عن الذنوب بالتوبة الصحيحة. والتوبة والاستغفار متلازمان لأن الاستغفار إنما يكون بعد التوبة كما أن التوبة تستدعي الاستغفار مما سلف من المعاصي. فإن فعلتم ذلك (يُمَتِّعْكُمْ) يمنحكم الله المتعة بنعمه (مَتاعاً حَسَناً) برغد ودعة وخفض عيش (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت قدّره لكم يعقبه الموت (وَيُؤْتِ) يعطي (كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) كلّ صاحب إفضال على غيره بالمال أو بسواه ، حتى الكلمة الطيّبة ، وكل من يعمل عملا صالحا ، يعطيه ثواب ما عمل. وهذا يقوّي أن تكون (الهاء) في (فَضْلَهُ) عائدة لاسم الله تعالى المكنون في (يُؤْتِ وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن تتولّوا : تعرضوا وتميلوا عما أمرتم به (فَإِنِّي أَخافُ) أخشى (عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) أي كبير شأنه ، بحيث

٤٦٤

يكون عذابا غاية في العظم ، وهو عذاب جهنّم في يوم القيامة نعوذ بالله منه.

٤ ـ (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : يعني أن معادكم ومصيركم في يوم القيامة إلى الله الذي يحكم في ما قدّمتموه من خير أو شر ، وهو القادر على إحيائكم وبعثكم للثواب والجزاء فتجنّبوا معاصيه.

* * *

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦))

٥ ـ (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ... أَلا) حرف استفتاح يستعمل للتّنبيه ولا محلّ له من الإعراب ، وما بعده يكون مبتدأ. و (يَثْنُونَ) يعطفون ويميلون. والمعنى : انتبه أيها السامع إلى أن المنافقين يعطفون ويطوون صدورهم على ما هم عليه من غلّ وكفر حتى لا يسمعوا ما أنزل الله من آيات وبيّنات. وذكر الزجاج وغيره أنهم حين ينضمّ بعضهم إلى بعض لمكايدة النبيّ (ص) ونشر الفساد يثني الواحد منهم صدره إلى صدر صاحبه ويتناجون في تدبير المكائد (لِيَسْتَخْفُوا) ليطلبوا الخفاء والتستّر مختبئين (مِنْهُ) أي من الله عزوجل ، ظنّا منهم أن ثني الصدر يحول دون علم الله جلّت قدرته ويستر منه ومن رسوله الكريم! ... ولكن (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي حين يتغطّون بثيابهم ويتستّرون بها عند تآمرهم بشأن النبيّ (ص) (يَعْلَمُ) الله سبحانه (ما يُسِرُّونَ) ما يقولونه في السّر (وَما

٤٦٥

يُعْلِنُونَ) وما يقولونه علنا على رؤوس الأشهاد لأنه لا تخفى عليه خافية ، بل يعلم السرّ وأخفى (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعلم وساوس الصدور وما تكنّه القلوب وتتحدّث به النفوس.

٦ ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ...) أي ليس من حيوان يدبّ على وجه الأرض : يمشي ، من جميع ما خلقه الله تعالى على هذه الصفة حتى الجن والإنس والطير ، ما من ذلك نفس (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) فهو سبحانه متكفّل لها بالرزق الخاص بها الذي يصلها بحسب ما توجبه حكمة خالقها جلّ وعلا (وَ) هو (يَعْلَمُ) يعرف (مُسْتَقَرَّها) مكان قرارها فيما بين الأصلاب والأرحام وفيما بعد ذلك من وجوه تقلّباتها في الأرض ، ويعلم (مُسْتَوْدَعَها) أي ما تصير إليه وأين تصبح وديعة بعد موتها (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كل هذه التفصيلات بشأن كل مخلوق وكائن ، مكتوب ومسجّل في كتاب ظاهر هو اللّوح المحفوظ ، أثبته فيه لطفا منه بملائكته الموكّلين لأنه هو عالم لذاته لا يعزب عنه علم شيء البتة.

* * *

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

٤٦٦

٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أن هذا الذي خلق كلّ نفس وتكفّل برزقها ، ويعلم مستقرّها ومستودعها ، هو منشئ السماوات والأرض وخالقهن بقدرته (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وهذا إخبار منه سبحانه بإنشائهما في هذه المدة مع أنه يقدر على إيجادهما بمثل لمح البصر ، ولكنه أجرى ذلك مجرى الحكمة في الترتيب والتدبير ، وعلى مبدأ أن الأمور لا تجري إلّا على منهاج النظام والتقدير. أمّا الأيام الستة التي ذكرها سبحانه فهي تعني وقتا مقداره ستة أيام من أيامنا المحدودة بطلوع الشمس وغروبها إذ لم يكن هناك أيام بعد ولا ليالي (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي كان مكان منطلق سلطانه وقدرته وملكه على الماء ، وهذا يدل على وجود الماء والعرش قبل السماوات والأرض كما تشير آيات كثيرة. وقيام العرش على الماء أبدع وأعجب كما عن أبي مسلم ، وأعجب وأبدع منه أن الماء لم يكن قائما على موضع قرار إلّا بما يمسكه به تبارك وتعالى من قدرته ، وقد فعل ذلك كله (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فيظهر إحسان المحسن ، لأنه تعالى عن أن يجازي الناس بحسب معلومه ومن غير اختبار وابتلاء وقبل أن يعملوا ما هم عاملون (وَلَئِنْ) أي : والله إذا (قُلْتَ) لهم يا محمد : (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ) معادون أحياء (مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) للحساب والثواب والعقاب (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فسيقول الكافرون مؤكّدا : (إِنْ هذا) ما هذا القول (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ليس سوى تمويه ظاهر لما لا حقيقة له في الواقع. وننبّه إلى أن (اللام) في (وَلَئِنْ) لام القسم ، ولا يجوز أن تكون (لام الابتداء) لأنها دخلت على (إن) التي للجزاء ، ولام الابتداء للاسم أو ما ضارعه.

٨ ـ (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ ...) أي : إذا أجّلنا عذاب الهلاك والاستئصال عن هؤلاء الكفار المكذّبين لك يا محمد (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) الأمة هنا : الحين ، أي إلى أجل وحين محسوب مقرّر وقته. وذلك كقوله سبحانه : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) : أي بعد حين. وقيل معناه : إذا أخّرنا عذابهم إلى جماعة معدودين يتعاقبون مصرّين على الكفر تقتضي الحكمة إهلاكهم.

٤٦٧

وقيل إن الأمة المعدودة هم أصحاب المهديّ عجّل الله تعالى فرجه وجعل أرواحنا فداه ، يأتون في آخر الزمان ، ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا ، على عدّة أهل بدر يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف كما هو المرويّ عن الإمامين الصادقين عليهما‌السلام ـ فإذا أخّرنا عذاب الكفار إلى ذلك الوقت (لَيَقُولُنَ) أي من المؤكّد قولهم على وجه الاستهزاء : (ما يَحْبِسُهُ) أي ما يمنع ذلك العذاب عنّا إن كان حقّا؟ ولماذا كان تأخيره؟ فنحن نعلن لهم قائلين : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) إنه حين يجيئهم ويحلّ بهم (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) يكون من غير الممكن تحويله عنهم إذ لا أحد يقدر على صرفه في زمانه ومكانه (وَحاقَ) نزل بهم محيطا من جميع الجهات (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي العذاب الذي كانوا يسخرون منه.

* * *

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

٩ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ...) أي : إذا رحمنا الإنسان وأنزلنا عليه النّعم من مال وولد (ثُمَّ نَزَعْناها) أي أخذنا وسلبنا تلك الرحمة (مِنْهُ) حين نرى المصلحة في ذلك (إِنَّهُ) أي الإنسان (لَيَؤُسٌ) مستسلم لليأس والقنوط الأكيد (كَفُورٌ) شديد الكفر لأن من عادته الكفر بنعمة ربّه. وهذا شأن جهلة الكفّار الّذين حرموا من معرفة أبواب حكمة الله في العطاء والأخذ بحسب المصالح ، نعوذ بالله من ذلك.

٤٦٨

١٠ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ...) أي إذا أعطينا الإنسان نعمة جزيلة وأنزلنا عليه فضلا كبيرا بعد بلاء شديد أصابه (لَيَقُولَنَ) بعد حلول النعمة يقول بكل تأكيد : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) أي راح ما يسوؤني من الآلام والفقر وغيرهما ، ثم ينسى فضل الله ولا يشكره لا على ذهاب الضرّاء ولا على حلول النّعماء (إِنَّهُ) لقلّة تفكّره بشكر المنعم حين زوال الضّر (لَفَرِحٌ) مسرور شديد السّرور (فَخُورٌ) يزدهي ويتيه فخرا بين الناس لما أصابه من فضل وهو غير شاكر لذهاب الضّر ومجيء العافية.

١١ ـ (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) هذا تتمّة لما سبقه ، فقد استثنى سبحانه من جحده (الَّذِينَ صَبَرُوا) على البلاء ، وقابلوا الضّر والشدائد بالصبر وبالحمد على السّراء والضرّاء (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فعلوها وقاموا بالطاعات وجميع الواجبات وداوموا على الصلاح ، ف (أُولئِكَ) هؤلاء (لَهُمْ) من ربّهم (مَغْفِرَةٌ) تجاوز عن ذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ثواب عظيم هو الجنّة.

* * *

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

٤٦٩

١٢ ـ (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ ...) أي عساك يا محمد ـ أثناء تلاوة ما ينزل عليك من هذا القرآن على الكفار ، تترك بعض ما فيه من التشنيع على آلهتهم وتتخلّى عنه لتخلص من أذاهم (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي تبدو متضايقا من حجاجهم وتكذيبهم أو من اقتراحاتهم عليك (أَنْ يَقُولُوا) أي مخافة أن يقولوا والجملة في موضع نصب بأنها مفعول له (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) يا ليت لو نزل عليه كنز من المال (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) نزل معه يصدّقه بما يقول ويشهد له (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) أي لم نبعثك لهم إلّا منذرا مخوّفا لهم من عذاب الله (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي أنه حفيظ على كل شيء وبيده مقاليد السماوات والأرض يقدر على النفع ودفع الضرر كما هو شأن الوكيل القائم على حفظ الأشياء. أما كلمة «لعلك» التي تأتي غالبا في مجال الشك ، فيراد بها هنا النهي عن ترك أداء الرسالة برمّتها ، والحثّ على تلاوة القرآن الموحى به كما هو. فالمعنى : لا تترك شيئا مما يوحى إليك ولا يضيق صدرك بأذاهم فأنت نذير. وعن ابن عباس أن رؤساء قريش أتوا النبيّ (ص) فقالوا : إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوّة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وفي العياشي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : أن رسول الله (ص) قال لعليّ (ع) إني سألت ربّي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل ، وسألت ربي أن يجعلك وصيّي ففعل ، فقال بعض القوم : والله لصاع من تمر في شنّ بال أحب إلينا ممّا سأل محمد ربّه ، فهلّا سأله ملكا يعضده على عدوّه أو كنزا يستعين به على فاقته؟ فنزلت الآية الشريفة.

١٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي : بل أيقولون افترى هذا القرآن واخترعه من عنده ونسبه إلى الله ، ف (قُلْ) يا محمد إذا متحدّيا لهم : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) أي : جيئوا بعشر سور تضاهيه نظما وبلاغة وإعجازا تكون مكذوبة على الله مثل هذا القرآن الذي تزعمون افتراءه وكذبه عليه ، وقد نزل بلغتكم العربية وأنتم فصحاء. ثم ارتق معهم في تحدّيك لهم فقل : حاولوا ذلك (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) واطلبوا معونة من شئتم ومن قدرتم

٤٧٠

عليه لتعارضوه وتقلّدوه (مِنْ دُونِ اللهِ) أي ما سوى الله القادر وحده على الإتيان بمثله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم. وهذا منتهى التحدي لأنه أيضا وعدهم بالخسران والقتل والأسر إلى جانب ما عاب به عقائدهم وأصنامهم ، إلى جانب حرصهم على إبطال دعوته وتفشيل أمره ودحض حججه. ولو سأل سائل : لم تحدّاهم سبحانه مرة بعشر سور ، ومرة بسورة ، وثالثة بحديث مثله ، فالجواب أن المقترح يورد تحدّيه بما يظهر فيه الإعجاز سواء كان بالأقل أو بالأكثر طالما كان واقعهم العجز عن معارضة القرآن ، وكان لا فرق بين التحدّي بسورة أو بآية ..

١٤ ـ (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ...) أي إذا لم يجب الكفار على هذا التحدّي بالإتيان بعشر سور (فَاعْلَمُوا) اعرفوا وتيقّنوا أيها المسلمون ـ والخطاب لهم ـ (أَنَّما أُنْزِلَ) هذا القرآن الكريم (بِعِلْمِ اللهِ) ولم يفتر عليه. وقيل بل الخطاب للكفار : أي إذا لم يستجب لكم من تدعونه لمشاركتكم في معارضة القرآن فاعلموا أن القرآن معجز من عند الله وأن الحجة قد قامت عليكم ولزمتكم ، وهو قول وجيه. كما قيل إن الخطاب لرسول الله (ص) على طريقة التفخيم.

أما نزوله (بِعِلْمِ اللهِ) فمعناه أنه جلّ وعلا عالم به وبأنه حقّ ليس فيه افتراء ، وأن تأليفه ليس من إنسان قاصر مهما بلغت فصاحته بل هو مما يتلاءم مع عظمة الله وجلاله ، وأن الإعجاز الذي فيه يقصر كل علم دون علمه سبحانه عنه (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يعني منقادون للحجة بعد قيامها عليكم ومسلّمون بأن القرآن حقّ نزل من عند الله تبارك وتعالى؟

* * *

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ

٤٧١

ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))

١٥ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ...) الزينة هي تحسين الشيء بغيره بلبس جميل أو حلية أو تجميل هيئة. والمعنى : أن الذين يرغبون في الحياة الدنيا وحسن بهجتها وما يغرّ فيها من غير أن يحسبوا حسابا للآخرة (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) أي نعطهم جزاء أعمالهم تامة بكمال الوفاء (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي لا يلحقهم النقص لا في مجال عطائنا للخلق في دار الدنيا ، ولا في مجال جزاء الأعمال في الآخرة. فقد يعطى الكافر في دار الدنيا عوض برّه وصلة رحمه وإحسانه إلى الآخرين وإغاثته للمظلومين ويعجل له ذلك مع إنكاره له جلّ وعلا ومع تكذيبه بالبعث والحساب ، وقيل كثيرا حول من تشملهم هذه الآية كالمنافقين الذين كانوا يغزون مع النبيّ (ص) للكسب والغنيمة دون الرغبة بثواب الآخرة ، وكغيرهم من أهل الدنيا الذين يعيشون بلا دين.

١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ...) أي أن الذين يريدون الدنيا وزينتها فقط ، نعوّض عليهم جزاء حسناهم في الدنيا وليس لهم في الآخرة (إِلَّا النَّارُ) التي يدخلونها بكفرهم وبعدم تجنّبها (وَحَبِطَ) سقط وجاء على خلاف الوجه الصحيح المطلوب كلّ (ما صَنَعُوا) عملوا (فِيها) في الدّنيا (وَباطِلٌ) ذاهب سدى (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من عمل لم يقصدوا به الله عزوجل. وذكر الحسن في تفسيره أن رجلا من أصحاب النبيّ (ص) خرج من عند أهله فإذا جارية عليها ثياب وهيئة ، فجلس عندها ، فقامت فأهوى بيده إلى عارضها ، فمضت فأتبعها بصره ومضى خلفها ، فلقيه حائط فخمش وجهه ، فعلم أنه أصيب بذنبه. فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فذكر له ذلك فقال : أنت رجل عجّل الله عقوبة ذنبك في الدّنيا. إن الله تعالى إذا أراد بعبد شرّا أمسك عنه عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ، وإذا أراد به خيرا عجّل له عقوبة ذنبه في الدّنيا.

* * *

٤٧٢

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

١٧ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ...) البيّنة هي الحجة التي تفصل بين الحق والباطل. و : من كان على بيّنة من ربّه مبتدأ خبره محذوف ، والتقدير : أفمن كان على بيّنة من ربّه ، كمن لا بيّنة له؟ وخذا استفهام يراد به التقرير ، والبيّنة هي القرآن أو هي بيّنة نبوّة محمد (ص) ... وليس من كان يدين بدين قويم (وَيَتْلُوهُ) يتبعه (شاهِدٌ مِنْهُ) أي من يشهد من قبل الله تعالى أي جبرائيل عليه‌السلام الذي يتلو القرآن على النبيّ (ص) وقيل بل الشاهد من الله تعالى هو محمد (ص) كما عن أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام وأرواحنا فداه وعن غيره ، وقيل إن الشاهد هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام يشهد للنبيّ (ص) وهو منه بحسب المرويّ عن أبي جعفر وعن علي بن موسى الرضا عليهما‌السلاموغير هما (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن الذي يدور الكلام في الآية حوله (كِتابُ مُوسى) وهو التوراة التي بشّرت بمحمد (ص) والعبارة عطف على قوله ويتلوه شاهد منه ، أي وكان يتلوه كتاب موسى من قبله. (إِماماً) دليلا يؤتمّ به في أمور الدين وأحكامه (وَرَحْمَةً) نعمة ولطفا منه سبحانه على عباده ، ورحمة وإماما منصوبان على الحال (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي أولئك الذين يؤمنون بمحمد (ص) أو بالقرآن. وحاصل المعنى في الآية الشريفة وسابقتها : ليس من كان على بينة من ربه كمن هو على غير بيّنة فالذين هم على بيّنة معها شاهدها يؤمنون به وليسوا كمن أراد الحياة الدّنيا وزينتها (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) يجحد بمحمد وبالقرآن (مِنَ الْأَحْزابِ) وهم المشركون عامة وأصحاب الأديان

٤٧٣

المنسوخة (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أي هو موعود بها بحيث تكون مقرّه ومصيره. وفي الحديث أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا يسمع بي أحد من الأمة ، لا يهوديّ ولا نصرانيّ ، ثم لم يؤمن بي إلّا كان من أهل النار (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي : لا تكن في شك من ربك ومما أنزله أيها النبيّ ، بل أيها الإنسان السامع ، لأن الخطاب للنبيّ (ص) والمراد به عامة الناس (إِنَّهُ الْحَقُ) الذي لا شك فيه (مِنْ رَبِّكَ) من الله سواء أكان المقصود القرآن أم النبيّ (ص) (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون بصحته وبأنه من عند الله بسبب جهلهم وكفرهم المطبق.

* * *

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢))

١٨ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ...) هذا استفهام يحمل الاستهجان والاستنكار ، ويعني أنه ليس أظلم ممّن يكذب على الله ،

٤٧٤

والصيغة القرآنية في غاية البلاغة ، ف (أُولئِكَ) المفترون (يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) أي يوقفون يوم القيامة بحيث يراهم الناس ويسألون عن افتراءاتهم ، (وَ) عندها (يَقُولُ الْأَشْهادُ) من الملائكة الحفظة الذين يشهدون على ذلك وغيره. وقيل : هم الأنبياء ، وقيل : هم الأئمة في كل قوم ، يقول أولئك الأشهاد : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) أي نافقوا على رسل ربّهم وأضافوا إلى رسالاتهم ما لم يقله افتراء عليه (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي اللعنة موجّهة للذين ظلموا أنفسهم بافترائهم. واللعنة هي إبعادهم من رحمته ، والجملة ابتداء كلام يعلن النتيجة المنتظرة لهم بعد تنبيه الناس والاستفتاح ب (أَلا).

١٩ ـ (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) الجملة صفة للظالمين الذين لعنهم الله تعالى في الآية السابقة ، أي : هم الذين يصرفون الناس عن دين الله بجميع وسائلهم من نفاق وترغيب وترهيب (وَ) هم بذلك (يَبْغُونَها عِوَجاً) أي يريدون لسبيل الله زيغا وميلا عن الصواب كمثل ما يفعل أهل الكتاب من التغيير والتبديل في صفات النبيّ (ص) وغير ذلك (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالقيامة والبعث (هُمْ كافِرُونَ) جاحدون.

٢٠ ـ (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ...) أي أولئك الكفار الملعونين سابقا ليسوا بفائتين الله إذا حاولوا هربا في الأرض ، ولا نعجز عن إدراكهم وأخذهم حين نريد لأنهم في قبضتنا وتحت سلطاننا (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ليس لهم من ينصرهم ويحميهم من بطش الله عزّ وعلا مما يوقعه بهم في الدنيا ، أو مما يحيق بهم من عذاب الآخرة ، و (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) مضاعفته ليست زيادة والعياذ بالله عمّا يستحقون وتعالى الله عن أن يجازيهم إلا بما يوازي معاصيهم سواء بسواء. وقد علل المفسرون هذه المضاعفة بأنه لا يقتصر لهم على عذاب الكفر ، بل يعاقبون على سائر معاصيهم مجموعة ، وذلك كقوله : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ). وأنه كلما مضى نوع من العذاب على جريرة ، يعقبه نوع آخر من العذاب أشد على الجريرة الأشد مسئولية ، وكلاهما على قدر الاستحقاق ، وذلك

٤٧٥

أنهم (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) أي بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون ، وبما كانوا يقدرون على الإبصار فلا يبصرون لعنادهم وإصرارهم على الوقوف في وجه الحق ، وقد أسقطت الباء من (ما) كقول الشاعر الذي حذف (الباء) و (في) :

نغالي اللحم للأضياف نيئا

ونبذله إذانضج في القدور

أي : نغالي باللحم ... إذا نضج في القدور. وقيل : ما كانوا يستطيعون السمع ولا الإبصار لاستثقالهم آيات الله وكراهيتهم لها ، يعني ما كانوا يقدرون على حمل أنفسهم على الاستماع والإبصار لشدة غيظهم من ذلك.

٢١ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ...) أي أهلكوها بما استحقوا من عقاب فكان ذلك بمثابة الخسران إذ ليس بعد ذلك عوض (وَ) قد (ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فسّرناه سابقا.

٢٢ ـ (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) : قال سيبويه في (لا جَرَمَ) : جرم فعل ماض ، و (لا) ردّ لقولهم ، كقوله تعالى : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ، لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ). قال : (لا) أي : ليس لهم الجنة ، ثم قال : (جَرَمَ) أي كسبهم وقولهم أن لهم الحسنى ، إنّ النار لهم. وقيل : جرم ، بمعنى : وجب. وقال الزجّاج : (لا) نفي لما ظنّوا أنه ينفعهم ، كأن المعنى : لا ينفعهم ذلك جرم أنهم كسبوا الخسران في الآخرة بفعلهم. وقيل أيضا : معناه : لا بدّ ولا محالة أنهم الأخسرون. كما قيل : حقّا هم الأخسرون.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ

٤٧٦

وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

٢٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) بعد الكلام عن الكافرين وعن العذاب المعدّ لهم في الآخرة ، نقل الكلام سبحانه إلى المؤمنين الّذين يقومون بطاعات ربّهم والائتمار بأوامره والانتهاء بنواهيه بدافع تصديقهم بالوحدانية وتصديقهم لرسول الله (ص) ثم ابتدأ الكلام ب (إِنَ) المؤكّدة على أن هؤلاء العباد الّذين عملوا بالواجبات (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي أنابوا إليه وخشعوا لعظمته واطمأنّوا لوعده (أُولئِكَ) الموصوفون هم (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مرّ تفسيره.

٢٤ ـ (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ ...) يضرب سبحانه هنا مثلا للمؤمنين والكافرين ، أي أن فريق المسلمين هو (كالبصير والسميع) الشديد البصر والشديد السمع ، وفريق الكافرين (كَالْأَعْمى) الذي لا يبصر ولا يرى (وَالْأَصَمِ) الذي لا يسمع ولا يعي ، فالمؤمن يتمتع بحواسّ التمييز وينتفع بها ويستعملها في سبيل خيره فينقاد لأوامر الدّين ، بينما الكافر لا ينتفع بحواسه ولا يسخّرها لخيره حاله في ذلك حال من هو معدوم من حواسّه ، ف (هَلْ يَسْتَوِيانِ) أي هل يتساوى السامع المبصر مع الأعمى الأصمّ (مَثَلاً) في مقام التمثيل والتشبيه وبنظر العقلاء؟ لا ، وكذلك لا تتساوى حالتا المؤمن والكافر (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني : ألا تتفكّرون بذلك لتجدوا الفرق بينهما؟

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦))

٤٧٧

٢٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) انتقل سبحانه إلى قصة نوح (ع) بعد ذكر المؤمنين والكافرين والوعد والوعيد ، فقال عزّ من قائل : قد بعثنا رسولنا نوحا إلى عشيرته فقال لهم : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فسّرناه سابقا. والحكاية تعني مثلا من أمثلته تعالى لرسوله عن رسله السابقين وما لاقوا من أممهم وعناد جبابرتها. فقد قال نوح (ع) لقومه : جئتكم منذرا :

٢٦ ـ (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ...) أي أن توحّدوا الله وتعبدوه ولا تعبدوا غيره (إِنِّي أَخافُ) أخشى وأحذر (عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي عذابه مؤلم موجع سواء كان عذابا في الدنيا أو في الآخرة وقد قال (أَخافُ) لأنه لا يعرف هل يسمعون ويطيعون أم لا ، وهو لطف في الدعوة مع علمه بأن عقاب الكفار كائن لا محالة. وجملة : أن لا تعبدوا يمكن أن يكون موضعها النّصب بأن كما هو الظاهر ، ويمكن أن يكون الجزم ب (لا الناهية).

* * *

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨))

٢٧ ـ (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...) أي فأجابه رؤوس الكفر والضلال من قومه قائلين : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) يعني أنك إنسان مثلنا لا فرق بيننا وبينك ، زعما منهم بأن الرسول ينبغي أن يكون من غير جنس المرسل إليهم ، جاهلين بأن الرسول الذي يكون مثلهم يكون أحسن

٤٧٨

لمصلحتهم وأقرب إلى التفاهم والحجاج. فقد أنكروا كون الرسول بشرا منهم أولا ، ثم قالوا له : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ) أي صدّقك وتابعك على أمرك (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) يعني السفلة ولم يتّبعك الأشراف والرؤساء بل الأخسّة الدنيئون (بادِيَ الرَّأْيِ) أي للفور ودون أن يتدبّروا قولك ، أو المقصود أنهم اتّبعوك في ظاهر الأمر وهم يبطنون خلافك. وقرئ : بادئ الأمر ، أي ابتداء ودون تفكير (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي ليس لك ولمن تبع مقالتك من إفضال علينا لا في المال ولا في جاه الدنيا ولا في النسب والشرف ، وسها عن بالهم إفضاله بدعوتهم ليخلصوا من الكفر إلى الإيمان إذ أبطرهم أنهم أرباب دنيا فهزءوا من أهل الدّين ونظروا إليهم نظرة ازدراء واسترذال ، وعقّبوا قائلين : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) أي نحسبكم غير صادقين فيما أنتم عليه.

٢٨ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ ...) أي قال نوح (ع) : يا قوم وقد حذفت الياء للنداء ونابت عنها الكسرة ، أتظنّون أني كاذب؟ ما رأيكم إن كانت دعوتي مبنيّة (عَلى بَيِّنَةٍ) برهان من ربي يصدّق نبوّتي (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ) أي أعطاني نعمة جزيلة هي النبوّة التي نزلت عليّ من عنده ، ثم عاندتم ذلك وكفرتم به (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) دعوتي (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي : أنكرهكم بها ونلجئكم إلى الإيمان إلجاء؟ ليس ذلك بمقدوري ولكني أدلّكم على طريق الحق بالبيّنة والبرهان ولست مطالبا باضطراركم إلى ذلك اضطرارا فأنتم الذين تختارون. أما لفظة (أَنُلْزِمُكُمُوها) ففيها ثلاثة ضمائر هي : ضمير المتكلم وهو المستتر ، وضمير المخاطب وهو (كم) وضمير الغائب وهو (ها) وقد جاءت على أحسن ترتيب إذا بدأ بالمتكلم الذي ترمز إليه (ن : نون المضارعة) لأن ضمير المتكلم هو الأخص بالفعل ، ثم بالمخاطب لأنه هو المعنيّ ، ثم بالغائب الذي هو الموضوع.

وليس أبلغ ولا أفصح ولا أجمل من هذا الذي نجده في القرآن لمثل هذا الفعل الثلاثي (لزم) الذي عدّي بالهمز (ألزم) ثم صرّف في المضارع

٤٧٩

واحتمل زيادة سبعة حروف (أصله ومزيداته وضمائره) وجاء محكم السبك ، جميل الجرس ، قوي البناء ، عميق المعنى ، يعطي صفة الاستعلاء على لسان نبيّ كريم يخاطب المعاندين الضالين.

* * *

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١))

٢٩ ـ (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً ...) قال نوح عليه‌السلام لقومه : إنني لا أطلب منكم مالا كأجر على دعوتي لكم إلى ما فيه الصالح لكم في الدارين فلا تخشوا ذلك ولا تخافوا (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ليس ثوابي في تحمّل أعباء الدعوة إلّا على الله وحده (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) لست بمبعدهم عني ولا بمفرّقهم من حولي ، إذ قيل إنهم طلبوا طرد الفقراء الذين آمنوا به أنفة من الكون معهم وإذا طردهم آمن الرؤساء ، فقال لهم ذلك وزاد : (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي سيقفون بين يديه يوم الحساب ويشكون إليه من طردهم وظلمهم إذ لا يستحقون الطرد بعد أن صدّقوه وآمنوا به (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي لا تعرفون الحق ، فإن الناس يتفاضلون بالدّين لا بزخرف الدنيا ، ولو كنتم تعلمون لكرّمتموهم لأنهم سبقوكم بالايمان وكان لهم فضل ذلك ، أو أنهم يجهلون في الذي سألوه من طرد من كانوا حوله.

٤٨٠