الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

أي بقصد تفريقهم عنك ولبثّ الشّقاق بين المسلمين وإبطال ألفتهم (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي أرصدوا ذلك المسجد لأعدائك كأبي عامر المترهّب الذي حسدك وحاربك من قبل وحزّب عليك وذهب إلى قيصر الروم ليأتي بجنده لمحاربتك (وَلَيَحْلِفُنَ) إنهم والله ليقسمنّ الأيمان قائلين : (إِنْ أَرَدْنا) يعني : ما أردنا (إِلَّا الْحُسْنى) إلّا الفعلة الحسنى الجيّدة كالتوسعة على الضعفاء من المسلمين ، وهم في أيمانهم كاذبون ونحن نطلعك على طويّاتهم وسرائرهم الخبيثة (وَاللهُ) العالم بذلك كله (يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أكّد كذبهم ب (إِنْ) وباللام ، وكفاهم خزيا أن يشهد الله تعالى بكذبهم ونفاقهم.

وقد ذكر المفسّرون أن الذين بنوا ذلك المسجد هم بنو عمرو بن عوف ، اتّخذوه ليصلوا فيه بدل أن يحضروا جماعة محمد (ص) وكانوا اثني عشر أو خمسة عشر رجلا منهم ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، ونبتل بن الحرث. بنوه قرب مسجد قباء وجاؤا إلى النبيّ (ص) أثناء تجهيز الجيش إلى تبوك فأخبروه بذلك وقالوا إنّا بنيناه لذوي العلّة والضعفاء ولمن لا يستطيعون الذهاب إلى قباء في ليالي المطر ، ونحن نحب أن تأتينا فتصلّي فيه وتدعو لنا بالبركة : فاعتذر يومئذ لأنه كان على أهبة السفر ووعدهم بالصلاة فيه بعد رجوعه من الغزو. وقد أطلعه الله سبحانه على حقيقة أمرهم وعلى غايتهم من بناء المسجد أثناء سفره ، ولذلك كلّف ـ بعد عودته من تبوك ـ عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الأخشم ، أن ينطلقا إلى ذلك المسجد ويهدماه ويحرّقاه ففعلا. وقيل إنه أرسل عمار بن ياسر ووحشيّا فنفّذا أمره ، وأمر أن يتّخذ كناسة تلقى فيه الجيف والأقذار.

١٠٨ ـ (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ...) أي : يا محمد : لا تقم للصلاة في ذلك المسجد أبدا. والقيام هنا للصلاة ، ولذا يقال للمصلّي بالليل : يقوم الليل. ثم أقسم سبحانه فقال : (لَمَسْجِدٌ) أي : والله إن مسجدا (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) أي قام أساس بنيانه وأصله على طاعة الله واجتناب معاصيه (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) منذ وضع أساسه (أَحَقُ) أجدر (أَنْ تَقُومَ فِيهِ) وهو أولى أن

٣٨١

تقيم الصلاة فيه. وقال ابن عباس وكثيرون غيره : عنى مسجد قباء ، وقيل : هو مسجد رسول الله (ص) كما عن زيد بن ثابت والخدري وغيرهما. ثم وصف المسجد المفضّل وأهله بقوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي يحبّون أن يصلّوا متطهّرين من الخبائث كالطهارة بالماء من البول والغائط كما عن الباقرين عليهما‌السلام، ففي المجمع روي عن النبيّ (ص) أنه قال لأهل قباء : ماذا تفعلون في طهركم فإن الله قد أحسن عليكم الثناء؟ قالوا : نغسل أثر الغائط. فقال : أنزل الله فيكم (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) لأنهم يقفون بين يديه أتقياء أنقياء.

* * *

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

١٠٩ ـ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ ...) استفهام إنكاريّ بيّنا تفسيره فيما مضى ، فقد شبّه الله تعالى بنيانهم لهذا المسجد الممقوت ، بمن بنى بيتا على جانب نهر قد يجرفه الماء ولا يثبت أمام فيضانه واندفاع مائه ، وكذلك بناؤهم هذا سينهار بهم في نار جهنم. وهذا يعني أنه لا يستوي عمل المتّقين وعمل العاصين .. فهل من أسس بنيانه على تقوى (وَرِضْوانٍ) من الله (خَيْرٌ ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ؟ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فقوله عزوجل : على شفا جرف ، يدل على أن بانيه لا يتّقى الله ولا يخشاه. والبنيان : مصدر وضع على المبنيّ ، كمصدر خلق إذا قصد به المخلوق. وجملة : على تقوى من

٣٨٢

الله ، وجملة : على شفا جرف هار ، كلاهما في موضع نصب على الحال ، والتقدير : أفمن أسس بنيانه متّقيا خير أم من أسس بنيانه غير متّق ومعاقبا عليه؟ وفاعل (فَانْهارَ) ضمير مستتر فيه يعود للبنيان.

١١٠ ـ (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ...) أي سيبقى البناء الذي بنوه شكّا في قلوبهم في إظهارهم للإسلام وثباتهم على النفاق ، وقيل سيبقى حسرة فيها لأنه عمل مرفوض لخبث ما انطوى عليه (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي : إلّا أن يموتوا فتنقطع الحسرة من نفوسهم لأنهم لم يقلعوا عمّا هم فيه من النفاق ولم يتوبوا حتى ماتوا على إصرارهم. وقوله : إلّا أن تقطّع ، نصب بتقدير : إلّا على تقطّع قلوبهم ، أي : في حال تقطّعها. ومعنى (إِلَّا) هنا : حتّى ، لأنه استثناء من الزمان المستقبل ، والاستثناء منه ينتهي إليه .. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عظيم العلم بنيّاتهم في بناء ذلك المسجد ، وعظيم الحكمة في هدمه وتحريقه ومنع إقامة الصّلاة فيه.

* * *

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

٣٨٣

١١١ ـ (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ...) الاشتراء هنا للتقريب إلى الذهن بمعنى أنه سبحانه يقبل عمل الخير من المؤمنين ، ويأجرهم عليه بالثواب. والاشتراء لا يجوز عليه سبحانه لأن المشتري يشتري ما لا يملك ، وهو جلّ وعزّ مالك السماوات والأرضين. ولكنه لمّا ضمن الثواب على نفسه لقاء الإيمان والقيام بالطاعات ، عبّر عن ذلك بالاشتراء مجازا. فهو هنا يرغّب المؤمنين بالجهاد لأنه يشتري ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ نفوسهم التي يبذلونها في سبيل إعلاء كلمته ، وأموالهم التي ينفقونها ابتغاء مرضاته (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) أي اشترى ذلك بالجنّة فجعلها ثمنا لأنفسهم ومالهم. وقد ذكر سبحانه النفس والمال خاصة لأن العبادات على نوعين : بدنيّة وماليّة فقط وفي المجمع عن الصادق عليه‌السلام قوله : أيا من ليست له همّة ، إنه ليس لأبدانكم ثمن إلّا الجنّة ، فلا تبيعوها إلّا بها ... ثم وصف الله تبارك وتعالى أولئك المؤمنين بأنهم (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فأوضح السبب الذي من أجله اشترى أنفسهم وأموالهم (فَيَقْتُلُونَ) أعداءهم الكافرين والمشركين (وَيُقْتَلُونَ) أحيانا فيقتلهم الكافرون والمشركون ويكونون شهداء معوّضون بالجنّة (وَعْداً عَلَيْهِ) أي : وعدهم الله تعالى وعدا (حَقًّا) لا شكّ فيه ولا خلف. وقد نصب وعدا على المصدر لأن الفعل (اشْتَرى) يدل على أنه وعد بذلك الشّراء. ومثله : صنع الله الذي أتقن كل شيء وغيره. وقد أثبت الله هذا الوعد لهم (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أي في الكتب السماوية المقدّسة ، وبهذا يدل على أن أهل الملل جميعا مأمورون بالجهاد في سبيل الله وموعودون بالجنّة إذا باشروا الجهاد (فَاسْتَبْشِرُوا) أيها المؤمنون خذوا البشارة (بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) فافرحوا ببيع الزائل بالباقي ، والفاني بالدائم (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي النجاح الكبير والظفر الذي لا يساويه ظفر.

١١٢ ـ (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ ...) هذه كلّها صفات للمؤمنين الّذين اشترى سبحانه منهم أنفسهم وأموالهم ، فهم الراجعون إليه المنيبون النادمون عند فعل كلّ قبيح ، الّذين يعبدونه وحده ولا يشركون به

٣٨٤

شيئا ، ويحمدونه على كل حال في السرّاء والضرّاء ، والسائحون : أي الصائمون إذ روي عنه (ص) قوله : سياحة أمّتي الصيام. وقيل هم المتردّدون في الأرض المتأملون بعجائب صنعه ، أو الذين يضربون في الأرض لطلب العلم ، و (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي المقيمون للصلاة بأركانها ، و (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الهادون غيرهم إلى طرق الخير وفعل أوامر الله. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) المانعون الناس عمّا نهى الله تعالى عنه وأنكر فعله (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) القائمون بطاعته حسبما حدّد من الفرائض والواجبات ، وحدود الله هي أوامره ونواهيه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : يا محمد انقل هذه البشارة للمصدّقين بالله وبك ، وخاصة لمن جمعوا الصفات التي في الآية ، وأخبرهم بالثواب الجزيل والأجر العظيم.

أما الرفع في مطلع هذه الآية الكريمة وقوله : التائبون إلخ ... فعلى القطع والاستئناف ، أي : هم التائبون إلخ ... وقيل إنه رفع على الابتداء ، وخبره محذوف بعد قوله : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) ، أي : لهم الجنّة ، فبشّر المؤمنين. وقيل أيضا هو رفع على البدل من الضمير في يقاتلون ـ الآية السابقة ـ أي : يقاتل التائبون إلخ ...

وقرأ أبي والأعمش وابن مسعود : التائبين العابدين إلخ ... إمّا جرّا على أن يكون وصفا للمؤمنين ، أي : من المؤمنين التائبين إلخ ... وإمّا نصبا على إضمار فعل المدح أو أعني.

* * *

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ

٣٨٥

لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥))

١١٣ ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...) أي : ليس للنبيّ (ص) ولا للمؤمنين أن يطلبوا المغفرة من الله تعالى للمشركين : الذين يعبدون مع الله غيره ولا يعتقدون بوحدانيته عزوجل ، حتى (وَلَوْ كانُوا) أي : ولو كان المشركون (أُولِي قُرْبى) من أقرب الناس إليهم كأن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو من قراباتهم وذوي رحمهم. فليس لهم ذلك (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد أن اتّضح لهم كونهم من أهل النّار ومن المستحقّين دخولها. وسبب نزول هذه الآية هو أن المسلمين قالوا للنبيّ (ص) : ألا نستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟ فنزلت في النهي عن ذلك.

١١٤ ـ (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ...) بعد النّهي عن الاستغفار للمشركين البتة ، ذكر سبحانه أن استغفار إبراهيم عليه‌السلام لأبيه ، لم يكن (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ) أي : لم يصدر إلّا بسبب موعدة (وَعَدَها إِيَّاهُ) وذلك قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ...) وقيل إنه كان يستغفر له بشرط الإيمان وبأمل أن يعود إلى حظيرة الدّين فلمّا يئس منه تبرّأ منه. وقد قرأ الحسن : عن موعدة وعدها أباه (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) أي : إنه كثير الدعاء والاستغاثة والبكاء والتأوّه والحزن. فالأوّاه من التأوّه ، أي : من قول : آه ، قال الشاعر :

فأوّه بذكراها إذا ما ذكرتها

ومن بعد أرض دونها وسماء

فإبراهيم عليه‌السلام أواه من كثرة خشوعه وتضرعه ولشدة إيمانه ورسوخ يقينه ، كما يتأوّه المنيب فرقا من العقاب وتمنّيا للثواب ، وهو (حَلِيمٌ) صبور على الأذى صفوح عن زلّات غيره. ويقال إنه بلغ من

٣٨٦

حلمه أن رجلا قد آذاه وشتمه فقال له : هداك الله.

١١٥ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ ...) أي أن الله سبحانه لا يحكم بضلال قوم أن علم هدايتهم ، فقد قيل إن سبب نزول هذه الآية أن كثيرين من المسلمين ماتوا على الإسلام قبل نزول الفرائض فقال إخوانهم : يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل قوله تعالى أنه لا يعتبر المهتدين ضالّين (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) أي حتى يوضح لهم ما ينبغي أن يفعلوه وأن يجتنبوه ، كأمرهم ببعض الطاعات وكاجتنابهم المعاصي ، وحتى يبيّن لهم ما تستحق الأعمال من الثواب أو العقاب ، فلا يعذّب الله المسلم الذي مات قبل أن يصلّي لقبلتنا ، ولا على غير ذلك مما كان يفعله ونسخته شريعتنا (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم هذه الحالة ممّن ماتوا كما يعلم غيرها ولا يفوته علم شيء لكونه تعالى عالما لنفسه.

* * *

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي أنه عزوجل هو مالك أمور السماوات ومن فيهن ، والأرض وما فيها ، له التصرّف وحده والتدبير فيهما إذ لا ينازعه في ذلك أحد ، وهو (يُحْيِي) الجماد (وَيُمِيتُ) الحيوان ، متى شاء بقدرته ، ولا يستطيع أن يفعل ذلك غيره (وَما لَكُمْ) أيها الناس (مِنْ دُونِ اللهِ) غيره (مِنْ وَلِيٍ) يتولّى أموركم ويحفظكم ويكون مالكا لمصالحكم (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم ويدفع عنكم العذاب والسخط من الله. ووجه وجود هذه الآية في هذا المكان ، أن الله سبحانه هو مالك أمر السماوات والأرض ، وأنكم عبيده يأمركم بما يشاء ، ويدبركم

٣٨٧

بحسب ما يريد ، ويقضي بشأنكم كلّ ما هو مصلحة لكم.

* * *

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨))

١١٧ ـ (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...) اللام في (لَقَدْ) هي لام القسم ، وهذا يعني أنه تبارك وتعالى قبل طاعات وتوبة المهاجرين والأنصار ، وذكر على رأسهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مفتاحا مباركا لهذه البشارة وتحسينا للكلام عنها ولكون النبيّ (ص) سبب كلّ خير من طاعتهم وتوبتهم عن كل ما يكرهه الله جلّ وعلا. وذكر صاحب المجمع رواية عن الرضا عليه‌السلام أنه قرأ : لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) وخرجوا معه إلى غزوة تبوك (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي حين الصعوبات التي عانوها في مشقة السفر وشدة الحرارة وقلّة الزاد ، فقد كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم هذا يركب ساعة وهذا ساعة ، وكان طعامهم من الشعير المسوّس والتمر المدوّد ، وقد بلغ منهم التعب مبلغه ، وبلغ منهم الجوع أن أحدهم كان إذا أخذ التمرة لاكها حتى يجد طعمها ثم ناولها إلى غيره ليمصّها من بعده ويشرب عليها جرعة قليلة من الماء. وكان أبو خيثمة عبد الله بن خيثمة قد

٣٨٨

تخلّف عن الخروج إلى أن مضى من مسير رسول الله (ص) عشرة أيام ، ودخل يومها على امرأتين له في عريشين قد رتّبتاهما وبرّدتا الماء فيهما وهيّأتا له الطعام ، فقام على العريشين وقال : سبحان الله ، رسول الله قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر في الفتح والرّيح والحرّ والقرّ يحمل سلاحه على عاتقه ، وأبو خيثمة في ظلال باردة وطعام مهيّأ وامرأتين حسناوين!! ما هذا بالنّصف. ثم قال : والله لا أكلّم واحدة منكما كلمة ولا أدخل عريشا حتى ألحق بالنبيّ (ص) ثم أناخ ناضحه واشتدّ عليه متزودا ولم يكلّم زوجتيه. وإذ اقترب من تبوك قال الناس : هذا راكب على الطريق. فقال النبيّ (ص) كن أبا خيثمة أولى لك. فلما دنا قال الناس : هذا أبو خيثمة يا رسول الله. فأناخ راحلته وسلّم على رسول الله (ص) وحدّثه بحديثه فقال له خيرا ودعا له ...

وهكذا عاش ذلك الجيش بدعاء النبيّ (ص) لأن وضعه كان في غاية الشدة من حيث التعب والجوع والعطش ، ففي المجمع أن عمر بن الخطاب قال : أصابنا حرّ شديد وعطش فأمطر الله السماء بدعاء النبيّ (ص) فعشنا (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي بعد أن كاد ينحرف ميل كثيرين منهم عن الجهاد ، وراودتهم نفوسهم بالانصراف فعصمهم الله من ذلك. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) من بعد ذلك الزيغ الذي كاد أن يقع في قلوبهم (إِنَّهُ) سبحانه وتعالى (بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قد عطف عليهم وتداركهم برحمته.

١١٨ ـ (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ...) هذه الآية معطوفة على سابقتها ، أي أنه تعالى تاب على أولئك ، وتاب على الثلاثة الذين تأخروا عن مرافقة النبيّ (ص) في حرب تبوك ، وهم : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية الذين تخلّفوا عن الزحف لا عن نفاق بل عن توان ، ثم ندموا وجاؤوا إلى النبيّ (ص) بعد رجوعه ليعتذروا فلم يكلّمهم وهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم ، فهجروهم ، حتى الصبيان ، فجاءت نساؤهم إلى النبيّ (ص) فقلن : يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال : لا ، ولكن لا يقربوكنّ.

٣٨٩

فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال وكان ذووهم يأتونهم بالطعام ولا يكلّمونهم ، ولمّا رأوا هذه الحال تهاجروا فيما بينهم وتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان حتى مضى خمسون يوما كانوا أثناءها يتضرّعون إلى الله ويبتهلون فقبل الله توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية ... فقد كابدوا تلك المهاجرة من المسلمين (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي ضاقت عليهم مع سعتها ، وهذه صفة لبلوغهم غاية النّدم على التأخر عن نصرة النبيّ (ص) وقد شدّد الله تعالى عليهم المحنة لاستصلاحهم واستصلاح غيرهم ، فإنهم ضاقت عليهم الأرض (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) لشدّة الغم التي عمرت صدورهم (وَظَنُّوا) أي اعتقدوا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ) أي لا عاصم منه (إِلَّا إِلَيْهِ) بصدق التوبة (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) يعني سهّل لهم طريق التوبة ليعودوا إلى حالتهم الأولى (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) الكثير القبول للتوبة من عباده الرحيم بهم.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

١١٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ...) خطاب منه سبحانه للمؤمنين يشرّفهم به إذ يخاطبهم آمرا إياهم باجتناب معاصيه واتّباع أوامره بالطاعات ، فمن نعمه سبحانه أنه خاطبهم عشرات وعشرات المرّات في القرآن الكريم ولم يخاطب الكافرين مرة واحدة ، وهنا يأمرهم بأن : اتّقوا (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) الذين لا يكذبون في قول ولا فعل ، ولا يعرف الناس منهم إلا صدق اللهجة في سائر معاملاتهم مع الله ومع الناس. وقوله سبحانه : (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، يعني : اقتدوا بهم. وقيل إنه سبحانه عنى بالصادقين الذين عناهم قوله : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) ـ يعني حمزة بن عبد المطلب ، وجعفر بن أبي طالب ـ (وَمِنْهُمْ

٣٩٠

مَنْ يَنْتَظِرُ) ـ يعني علي بن أبي طالب (ع) ـ وروى الكلبي عن ابن عباس : (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) : مع عليّ وأصحابه ، وعن الباقر عليه‌السلام : مع آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل غير ذلك.

* * *

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))

١٢٠ ـ (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ ...) أي ليس لأهل المدينة ومن يحيط بهم (مِنَ الْأَعْرابِ) سكّان البادية (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) أي عن الغزو معه إلى تبوك ، أو غيرها بغير عذر مشروع يرتضيه الله ورسوله ، ولا أن يؤذوه (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) وليس لهم ، ولا لأحد أن يطلب نفع نفسه دون نفس رسول الله (ص) وهذا إلزام لهم جميعا بحقّ النبيّ (ص) بسبب ما دعاهم إلى الهدى وأخرجهم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان فلا يجوز لهم أن يطلبوا لأنفسهم الدعة والراحة والنعيم ، ورسول الله (ص) في الحرّ والقر والشدائد (ذلِكَ) أي ذلك النهي عن التخلّف (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش (وَلا نَصَبٌ) تعب بدنيّ (وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي مجاعة وهم في طريق طاعته سبحانه (وَلا

٣٩١

يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) يعني : ولا يضعون أقدامهم في موضع ليجلبوا المقت والغيظ للكفار حين مهاجمتهم وغزوهم في عقر دورهم (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) أي : ولا يصيبون من أعدائهم أمرا من القتل والسّبي والكسب ، أجل ، لا يصيبهم شيء من ذلك (لَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) إلّا اعتبره الله تعالى طاعة مقرّبة (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي لا ينقص العاملين للحسنى شيئا من عملهم الحسن الذي يستحقون به المدح والثناء والثواب.

١٢١ ـ (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ...) ما زال الكلام عن الترغيب في الجهاد ونصرة النبيّ (ص) ، أي أن المجاهدين مع النبي (ص) لا يقدّمون من نفقة في الجهاد صغيرة أو كبيرة (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي : لا يتجاوزنه في حال زحفهم (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أجر ذلك وثوابه (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) يأجرهم بقدر استحقاقهم بل (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لأنه تعالى مفضل كريم يجعل الثواب دائما أحسن من العمل فيجزيهم بثواب يكون فوق ما ينتظرونه.

* * *

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))

١٢٢ ـ (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ...) نزلت هذه الآية الشريفة بعد غزوة تبوك ، وكان رسول الله (ص) إذا خرج في غزو لا يتخلف عنه إلّا المنافقون والمعذورون ، ففضح الله تعالى المنافقين في تلك الغزاة ، فصار المسلمون ينفرون جميعا كلّما أمر رسول الله (ص) بالسرايا ويتركون رسول الله (ص) وحده ، فأنزل سبحانه أن ليس للمؤمنين أن يخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم ويتركوا النبيّ (ص) وحيدا. وقيل نزلت في معنى آخر وهو أنه

٣٩٢

ليس لهم أن ينفروا إلى النبيّ (ص) ويتركوا قراهم وبواديهم ويخلوا ديارهم طلبا للتفقّه في الدّين (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) جماعة معدودة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ويتعلّموه ويفهموا حقيقة أوامر الله ونواهيه. فالتفقّه في الدين هو طلب الفقه أي العلم به. ولكلمة (فَلَوْ لا) تعني : هلّا ، وهي للتحضيض إذا دخلت على الفعل كالذي نحن فيه ، وهي لامتناع الشيء لأجل وجود غيره إذا دخلت على الاسم. والمعنى : هلّا ذهب بعض المؤمنين وتعلّموا الدّين وأصوله ليعلموه (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أي ليخوّفوهم إذا عادوا وليعلّموهم القرآن والسنّة (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي عسى أن يخافوا سخط الله فلا يعملون بخلاف ما أمر؟ وقد قال الإمام الباقر عليه‌السلام : كان هذا حين كثر الناس فأمرهم الله أن تنفر منهم طائفة للتفقّه وتقيم طائفة ، وأن يكون الغزو نوبا.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥))

١٢٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ...) هذا أمر منه سبحانه للمؤمنين بأن يحاربوا الكفّار الذين يلونهم : أي بقربهم وجوارهم. وقيل قصد الأقرب فالأقرب بالنّسب والدار والجار لأنه أمر صدر قبل الأمر بمقاتلة المشركين كافّة. وقيل أيضا هو يعني قتال الأقرب قبل الأبعد ، ودعوة الأدنين قبل الأبعدين إلّا أن يكون بين الجيران موادعة

٣٩٣

ومواثيق. وهذا يعني ـ على كل حال ـ أن على أهل كل ثغر الدفاع عن ثغرهم من أجل حفظ بيضة الإسلام وإن كان ابن عباس قد قال : أمروا بقتال عدوّهم الأدنى فالأدنى ، مثل قريظة والنّضير وخيبر وفدك ، وابن عمر قد قال : إنهم الرّوم لأنهم سكان الشام ، والشام أقرب إلى المدينة من العراق ، كما أن الحسن كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم والترك قرأ هذه الآية ... فعليكم أيها المؤمنون أن تقاتلوا من يليكم بالمعاني التي ذكرناها (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي شدّة وقسوة تبرز شجاعتكم وخشونتكم في ذات الله ، فلا تلينوا لهم بل أروهم العنف لتزجروهم عمّا هم فيه من ضلال (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي هو يعينهم وينصرهم فلا يغلبهم أحد معه الله جلّ وعزّ ... ثم عاد سبحانه إلى ذكر المنافقين فقال :

١٢٤ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ...) أي : أن المنافقين الذين ذكرناهم لك ، إذا أنزلت عليك سورة من القرآن (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) فبعضهم يقول لمن يليه على سبيل الاستهجان والإنكار : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) أي تصديقا؟ يعني أنهم لم تزدهم شيئا من ذلك. ولهذا فصّل سبحانه وهو العالم بالسرائر : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) أي زادت المؤمنين يقينا ورسوخا في الإيمان لأنهم كانوا مؤمنين بما مضى نزوله ثم آمنوا بما أنزل الآن (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي يتناقلون البشارة وتتهلّل وجوههم فرحا بنزول ما ينزل من الوحي ، والجملة حاليّة كما لا يخفى.

١٢٥ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي المنافقين الذين مرضت قلوبهم بالشكوك (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) يعني كفرا ودنسا ، إلى جانب نفاقهم وريائهم لأنهم يشكّون فيها كما شكّوا فيما قبلها ، وتلك هي الزيادة. وقد سمّى الكفر رجسا ذمّا له ليتجنّبه من كان يعقل ، وعنى بزيادة الكفر ما أضافته هذه السورة من حقدهم وحنقهم فاغتاظوا (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) أي على حالة الكفر ، وجملة : وهم كافرون ، في موضع نصب على الحال.

* * *

٣٩٤

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))

١٢٦ ـ (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً ...) أي : أولا يعلم المنافقون المذكورون ويدركون أنّهم يمتحنون في كل سنة مرة (أَوْ مَرَّتَيْنِ) يعني دفعة أو دفعتين بالأمراض والآلام التي هي نذير بالموت؟ ولفظة : (أَوَلا) هي : واو العطف ، دخلت عليها همزة الاستفهام .. أفلا ينظرون إلى ذلك (ثُمَّ يَتُوبُونَ) أي ويرجعون عن كفرهم (وَلا يَذْكُرُونَ) يتذكّرون نعم الله عليهم ، وضرورة الاعتراف بالمنعم ووجوب شكره وإطاعة أمره؟

١٢٧ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ...) أي أنهم كلّما نزل وحي (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) تفاخروا في حضرة النبيّ (ص) وتبادلوا النظرات الدالّة على كره ما يسمعون وعلى أنهم يحذرون أن ينكشف نفاقهم لأحد بدليل قوله تعالى كأنهم يقول بعضهم لبعض : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟) أي هل لاحظ هذه العلامة الفارقة فيكم أحد من المحدقين بالنبيّ (ص)؟ (ثُمَّ انْصَرَفُوا) قاموا وخرجوا من المجلس ، وانصرفوا عن الإيمان وعمّا يدعو إليه (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن ذلك وعن كل ما ينتفع به المؤمنون ، وقيل صرفها عن رحمته وثوابه عقابا على انصرافهم عن الإيمان بالنبيّ (ص) وبالقرآن الكريم. وقيل إن الفعل : (صَرَفَ) جاء على وجه الدّعاء عليهم ، كما يقال : فضّ الله فاك ، أو : أطال الله عمرك ، وغيره وهو الأقرب إلى الصواب. والدّعاء من الله على العباد ـ والعياذ بالله منه ـ وعيد لهم وإخبار باستحقاقهم السخط في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وقد دعا

٣٩٥

عليهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يدركون ولا يفهمون مراد الله بخطابه للناس.

* * *

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

١٢٨ ـ (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) هذا خطاب للبشر عامة ، ثم للعرب خاصة ، ثم لبني إسماعيل على الأخص ، فهو من أنفسكم : أي منكم ، فالأحرى بكم أن تؤمنوا به وتصدّقوه خصوصا وقد عرفتم مولده ومنشأه وعاشرتموه صغيرا وكبيرا ، ولم تطّلعوا على شيء فيه يوجب النقص. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : أنه من نكاح لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. وعن ابن عباس عن النبيّ (ص) ـ كما في المجمع ـ أنه قال : ما ولد لي من سفاح أهل الجاهلية شيء ، ما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام. فقد منّ الله سبحانه عليكم أيها الناس بكون رسوله محمد (ص) منكم ، وأنه (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي شديد عليه عنتكم وصعب عليه ما يلحقكم من الضرر بترك الإسلام ، لأنه أيضا (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي حريص على الكافر أن يؤمن لتشمله رحمة الله ويخلص من سخطه وعذابه ، وهو إلى جانب حرصه العامّ الشامل لجميع الناس (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تشملهم رحمته ورأفته التي هي أشد من الرحمة ... وجميل ما ذكره صاحب المجمع رحمه‌الله من أن الله تعالى لم يجمع لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلّا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنه قال : بالمؤمنين رؤف رحيم ، وقال عن نفسه : إن الله بالناس لرؤوف رحيم.

١٢٩ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ ...) كان الخطاب للبشر في الآية

٣٩٦

السابقة ، وهو في هذه الآية الشريفة خطاب لرسوله (ص) يقول له فيه : إذا انصرف هؤلاء عن الحقّ وعن اتّباعك ، وأعرضوا عمّا تدعوهم إليه من الإقرار بوحدانيّة الله وبصدق نبوّتك ، فقل حسبي الله : أي هو كافيّ ، ويكفيني رضاه وعنايته (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وما من ربّ سواه يستحق العبودية (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) وكلت إليه أموري ووثقت به واعتمدت عليه وفوضت أموري إليه لأنه هو ربّي (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) وربّ كل شيء فعلا ، ولكنه ذكر العرش بالخصوص هنا تفخيما لشأنه عزّ وعلا ، لأن العرش كناية عن الملك والسلطان في السماوات والأرضين.

وقد قيل إن هذه الآية هي آخر آية نزلت من السماء. وقال قتادة : آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان ، خاتمة براءة.

* * *

٣٩٧
٣٩٨

سورة يونس

مكية إلّا ثلاث آيات قال ابن عباس وقتادة هي : فإن كنتم في شك ممّا أنزلنا إليك ... إلى آخرهن. وهي مائة وتسع آيات.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

١ ـ (الر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) : قد تكلّمنا عن معاني الحروف المعجمة الواقعة في أول السور ، فيما مضى. والآية : هي العلامة التي تدل على مقطع من الكلام في جهة مخصوصة من القرآن الذي هو مفصّل بالآيات. وقد أضيفت (آياتُ) إلى الكتاب لأنها أبعاض منه كما أن السورة الواحدة بعض منه. فالمعنى : أن الآيات التي جرى ذكرها ، أو يجري نزولها على محمد (ص) هي آيات من الكتاب : أي القرآن الحكيم : يعني المحكم من الباطل الذي لا اختلاف فيه. و (تِلْكَ) أي هذه السور هي من ذلك الكتاب الذي ربما كان اللوح المحفوظ الذي سمّاه حكيما لأنه ينطق بالحكمة ويؤدي إلى الصواب في العلم والمعرفة.

٣٩٩

٢ ـ (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ...) هو استفهام إنكاري ، يعني : هل كان وحينا المنزل على رجل من الناس مدعاة لتعجّبهم؟ وقد قيل : عنى بالناس هنا أهل مكة لأنهم قالوا : نعجب أن الله سبحانه لم يجد رسولا إلى الناس إلّا يتيم أبي طالب؟ والمقصود بهذه الصيغة من السؤال هو : لماذا يعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم؟ مع أن هذا ليس بموضع تعجّب ، بل هو الشيء الذي يقرّره العقلاء ، لأنه سبحانه لمّا خلق الناس وأكمل عقولهم وتكفّل برزقهم كلّفهم بمعرفته وأداء شكره فوجب ـ حكما وحكمة ـ أن يبعث من يوحي إليه (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) خوّفهم بالعذاب (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) عرّفهم الخبر السارّ المفرح وهو (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قيل إن القدم اسم للحسنى من العبد ، واليد اسم للحسنى من السيّد للفرق بين هذا وذاك. فبشّر المؤمنين يا محمد بأن لهم أجرا حسنا ومنزلة سامية بما قدّموا من صالح الأعمال وأنهم سينالون شرف الخلود في نعيم الجنة إكراما لما قدّموه من الطاعات. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام وأبي سعيد الخدري أن قدم الصدق هي شفاعة محمد (ص) ، وجملة : أن أنذر ، في موضع نصب ، والتقدير : أوحينا بأن أنذر ، فحذف الجارّ فوصل الفعل. وكذلك جملة : أنّ لهم قدم صدق ، فموضعها نصب بالفعل : وبشّر .. (قالَ الْكافِرُونَ) المنكرون : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي أن النبيّ (ص) يأتي بسحر يخفي الحقيقة بالحيلة ، ويظهرها على غير وجهها ، حتى يتوهّم الناس أنه يأتي بالمعاجز. وقد قالوا ذلك لعجزهم عن أن يأتوا بمثل القرآن ليعارضوه به.

* * *

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا

٤٠٠