الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

وهي للاستفهام (اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) من كلا الجنسين؟ (نَبِّئُونِي) خبّروني (بِعِلْمٍ) أي عن أمر معلوم متيقّن (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ما ادّعيتم به من التحريم. وبعبارة أخرى : بيّنوا من أين جاء التحريم؟ ولم لم يكن التحريم للذكورة فقط ، أو للأنوثة فقط ، أو لسائر ما اشتملت عليه أرحام الصّنفين؟ ومن أين جاء التّخصيص ببعض دون بعض؟.

١٤٤ ـ (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ...) الآية معطوفة على سابقتها. ومن الإبل : أي العراب ، وهذا خلاف البخاتي. والبخاتي هي الخراسانية. ومن البقر اثنين : الأهلي والوحشي (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) مرّ تفسيرها (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي : أكنتم حاضرين ناظرين شاهدين بهذا (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) أي أمركم بهذا التحريم الذي وصفتموه مع أنكم لم تؤمنوا بنبيّ ، ولا طريق لكم إلى معرفته إلا المشاهدة ، ولا مشاهدة ، فمن أين قلتم بهذا التحريم؟ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟) أي : هل أحد أظلم ممّن يكذب على الله صراحة؟ والمراد به كبراؤهم الّذين سنّوا ذلك وأقرّوه ، أو هو عمر بن لحي المبتدع المؤسس الذي بحر البحائر ، وسيّب السوائب (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) بقصد إضلال الناس عن غير معرفة جاءته من السماء (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) قال داود الرقّي : سألني بعض الخوارج عن هذه الآية : ما الّذي أحلّ من ذلك وما الّذي حرّم؟ فلم يكن عندي جواب من ذلك ، فدخلت على أبي عبد الله ـ جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ـ وأنا حاجّ ، فأخبرته بما كان ، فقال : إن الله تعالى أحلّ في الأضحية بمنى الضأن والمعز الأهلية ، وحرّم الجبليّة. وأمّا قوله : (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) ، فإن الله تعالى أحلّ في الأضحية الإبل العراب وحرّم منها البخاتي ، وأحلّ البقر الأهليّة أن يضحّى بها ، وحرّم الجبلية. فانصرفت إلى الرّجل فأخبرته بهذا الجواب فقال : هذا شيء حملته الإبل من الحجاز!. فالظاهر يقينا أن

١٠١

الخارجيّ قد عرف أن الرجل شيعيّ وأنه قد سأل إمامه المقيم في الحجاز. والله لا يهدي القوم الظالمين إلى ما فيه نيل ثوابه ، أو أنه تعالى لا يلطف بهم لأنهم ليسوا أهلا لذلك ولأنهم لا يطلبون لطفه ولا يرغبون بتوفيقه للعمل الصالح.

* * *

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧))

١٤٥ ـ (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) أي طعاما محرّما (عَلى طاعِمٍ) أي آكل (يَطْعَمُهُ) يأكله. وهذه الآية تدلّنا على أنه لا تحريم في المأكل إلّا بالوحي ، وهنا يتكلّم سبحانه عن الذبائح واللحوم. فقل يا محمد لا حرام في اللحوم (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) أي حيوانا مأكول اللحم مات دون ذبح وتذكية (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أي مصبوبا كالدّم الذي يتدفق من العروق ، بخلاف الدم الذي في الطحال أو ما في الكبد أو بعض الدماء المختلطة باللحم بحيث لا تنفكّ عنه ، فهي لا تعد في

١٠٢

المسفوح ويطلق عليها اسم الدم المتخلّف ، ولا يحرم منها إلّا ما ثبتت حرمته بدليل. فالميتة والدم المسفوح من العروق حرام (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) نجس قذر وحرام (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ما ذبح دون تذكية ولم يذكر اسم الله عليه فسقا أي خلافا لأمره تعالى كالذي يذبح على الصنم لتوغّله في الفسق والتعدي على أمر الله. فهذه كلّها محرّمات ، نعم استثنى حالة واحدة مشروطة بشروط وقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ) في يوم مجاعة مثلا ، أو ألجأه الاضطرار إلى أكل محرّم من اللحوم من غير طلب لذة (غَيْرَ باغٍ) أي عن غير بغي (وَلا عادٍ) وغير تعدّ على حدود الله سبحانه ولا وصل إلى حد الضرورة. فإن وصلت الضرورة إلى أحد الحدّين جاز له أكل شيء من المحرّم بمقدار سدّ الرّمق لوجوب حفظ الحياة مهما أمكن ، لأن الله عزوجل رخّص بأكله في تلك الحالة (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعفو عن مثل هذه الأمور الاضطرارية ولا يؤاخذ العباد لشدة رحمته بهم.

فإن قيل : لم خصّ الله تعالى هذه الأشياء الأربعة هنا بالذكر والتحريم ، مع أن غيرها محرّم أيضا ، بدليل أنه سبحانه ذكر في المائدة تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وغيرها ، بل وردت الأخبار الصحيحة بتحريم كل ذي مخلب من الطير ، وكل ذي ناب من الوحش ، وكل ما لا قشر له من السمك ، إلى غير ذلك؟. قلنا : أما المذكورات في المائدة فكّلها يقع عليها اسم الميتة ويشملها التحريم هنا بهذا العنوان ، فكأنها ذكرت هنا مع حكمها ، فأجمل هنا وفصّل هناك. وأما غيرها فليس بهذا الحد من الحرمة ، فخصّ هذه الأشياء بالتحريم والذكر تعظيما لحرمتها ، وهو تعالى فوّض تحريم ما عداها إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفي هذا المقام كلام مفصّل في التفاسير ومن شاء فليراجعه هناك. وبالمناسبة نذكر بيانا ذكره صاحب التهذيب رحمه‌الله وهو أنه ليس الحرام إلا ما حرّم الله في كتابه. والمعنى أنه ليس الحرام المخصوص المغلّظ الشديد إلّا ما ذكره الله في القرآن وإن كان ما عداه أيضا من المحرّمات

١٠٣

التي هي دونه في التغليظ والتشديد.

١٤٦ ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ...) الّذين هادوا هم اليهود ، وقد حرّم الله عليهم كل حيوان تنتهي قوائمه بظفر أو مخلب من الدوابّ كالسّباع والطيور (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) أي الشحم الرقيق الذي يغشّي الكرش وشحوم الأمعاء وغيرها حرّمها عليهم أيضا (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي اشتملت عليه الظهور مع اللحم الذي تحمله (أَوِ الْحَوايا) أي ما اشتملت عليه الأمعاء ، وهي جمع :حاوية أو حاوياء (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) كشحم الإلية المختلط بالعصعص الذي هو عظم الذنب. كلّ هذا قد حرّمه سبحانه على اليهود (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) أي بسبب ظلمهم حرمهم من أكل تلك الأشياء ، وقال تعالى : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما نقول من أخبار ووعد ووعيد.

١٤٧ ـ (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ...) فإن كذّبوك يا محمد فيما تقول فقل إن الله تعالى لا يعجل بالعقوبة ، ولذا أمهلكم لسعة رحمته ولطفه فلا تغترّوا بإمهاله (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فإن عذابه القوي الشديد لا يرجعه أحد إذا نزل حين النّقمة والغضب.

* * *

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩))

١٠٤

١٤٨ ـ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا ...) أي أن المشركين بالله سبحانه وتعالى سيتعلّلون بالأعذار الواهية ويقولون لو أراد الله ما كنّا مشركين به نحن ولا آباؤنا ، ولكننا فعلنا ذلك بمشيئته لا باختيارنا. فقد علّلوا مشيئته بقول المجبّرة (كَذلِكَ) أي كما كذّبوا شهادة الحجج العقلية والنقلية ـ السمعيّة ـ وقالوا بمقالة الجبرية (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وافتروا على الله تعالى مثل افترائهم هذا ، وأنكروا براهين الرّسل والأنبياء عليهم‌السلام. فقد قلّد المتأخّرون المتقدّمين بمقالتهم الكفريّة وصرّحوا بأنهم على دين آبائهم وأنهم على آثارهم مقتدون (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي عذابنا وشعروا بقوّتنا (قُلْ) يا محمد : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) أي حجة معلومة يصحّ الاحتجاج بها على ما زعمتم (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي تبدوه لنا (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي : إنكم تسيرون بحسب المزاعم والأوهام وهذه لا تغني من الحقّ شيئا (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي تكذبون عليه تعالى.

١٤٩ ـ (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ...) أي له وحده سبحانه البيّنة التي تبلغ قطع عذر المحجوج المعاند ، والقوّة على إثبات المدّعى ، والبرهان القاطع الذي لا ردّ عليه (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو أراد إرادة إلجاء إلى الإيمان وإجبار عليه لتمكّن من ذلك بمجرّد المشيئة ، ولكن يصير إيمانكم إيمانا جبريّا ، والله تعالى لا يحب الإيمان الجبريّ إذ لا يحسن الثواب عليه. وفي الأمالي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن قول الله عزوجل : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) ، فقال : انه تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالما؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما عملت؟ وإن كان جاهلا قال له : أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه ، فتلك الحجة البالغة.

* * *

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ

١٠٥

اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

١٥٠ ـ (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا ...) أي قل : أحضروا شهداءكم الذين تقتدون بهم والذين ترون قولهم حجة عليكم. فإن هؤلاء الّذين اتخذتموهم قدوة وسادة وقادة قد كذبوا على الله تعالى بقولهم إن الله حرّم هذه المحرّمات التي تدّعونها ، فهو لم يحرّمها

١٠٦

قطعا فأحضروهم لإظهار كذبهم (فَإِنْ شَهِدُوا) وأقرّوا واعترفوا بما ادّعوه (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فلا تؤيّدهم في شهادتهم ولا تصدّقهم في قولهم فإن تصديقهم كالشهادة لهم بباطلهم ، بل بيّن لهم فساد قولهم وشهادتهم (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ولا تسلك طريقتهم السائرة وفق أهوائهم ورغباتهم فإن تكذيبهم لآياتنا منبعه الأهواء والغايات والنفوس المريضة التي قادها الشيطان والهوى (وَ) لا تتّبع أيضا (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) من عبدة الأصنام والكافرين بالبعث والنشور فإنهم كافرون (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يجعلون له عديلا ونظيرا لأنهم مشركون.

١٥١ ـ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ...) أتلو : أي أقرأ ما حرّم : يعني منع ربّكم عليكم : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ) فأوجب توحيده سبحانه وعدم الشّرك به. ولفظة : ألّا هي : أن و : لا الناهية. (وَبِالْوالِدَيْنِ) الأب والأم (إِحْساناً) أن تحسنوا إليهما ، وهذا ليس أمرا بالإحسان إليهما فحسب ، بل هو مبالغة في ضرورة الإحسان إليهما ليبيّن أن ترك الإساءة إليهما غير كاف بل لا بد من صريح الإحسان للوالدين عرفانا بجميلهما وبرّا بهما. وعن القمي بطريق مقطوع أن الوالدين هما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليهما‌السلام، ولكن لا بد أن يكون المراد أعمّ منهما (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي خوف الفقر ، فربّما ولد الطفل وكان قرين الغنى لأن الله سبحانه متكفّل برزق عباده وقد صرح بقوله (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) قد أخذ على نفسه الرحمة لمخلوقاته والعطاء. والواو هنا للمصاحبة فالرزق يشمل الوالد والمولود (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) أي ابتعدوا عن الفواحش وهي جمع فاحشة وتعني العمل القبيح المنهيّ عنه بالنهي الشديد شرعا وعرفا (ما ظَهَرَ مِنْها) أي ما بان من تلك الفواحش لأعين الناس (وَما بَطَنَ) كالزّنى واتّخاذ العشيق والخليل سرّا ـ قال الله تعالى ولا متّخذات أخدان ـ. وفي الكافي والعياشي عن الإمام السجاد عليه‌السلام : ما ظهر : هو نكاح امرأة

١٠٧

الأب ، والله أعلم .. (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) فنهى سبحانه عن قتل النفس منعا باتّا واستثنى ما يجب فيه إقامة الحد بالحق كالقصاص والقود ، وقتل المرتدّ ، ورجم المحصن (ذلِكُمْ) إشارة إلى موارد جواز القتل مما ذكرناه (وَصَّاكُمْ بِهِ) لتحفظوه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يعني لكي تفهموا ما أوصاكم به فلا تضيعوا عن وصية ربّكم جلّ وعلا ولتعملوا وفق أوامره وحلاله وحرامه.

١٥٢ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) حرّم سبحانه القرب من مال اليتيم أي التصرّف به إلّا في الوجوه الذي تحفظه لصاحبه وتنمية ، وبأحسن وجوه التصرّف ، وكما يحفظ الإنسان ماله ودراهمه ودنانيره ، ليبقى المال مرصودا لليتيم (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي حتى يقوى ويكمل عقله ويحتلم. وكلمة : أشدّه جمع شدّ أو شدّة ، والأنسب كونها مفردة وهي تعني القوّة والبلوغ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) وأوفوا أي : زيدوا ولا تنقصوا ، والقسط هو العدل والتسوية دون النقصان والتخسير (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي أنه تعالى لم يطلب من العبد إلّا الحدّ الذي يسعه ولا يعسر عليه ، بل يطيقه. ومن المؤكّد أن مراعاة العدل الواقعي في إيفاء حقه تعالى ـ أو أي حق ـ متعسرة ، فلم يطلب إلّا ما في الوسع وهو يعفو عمّا سواه (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) فقد طلب إجراء قاعدة العدل والإنصاف في القول ، في الخصومة والحكومة وفي كل مقام (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان قولكم لمصلحة أحد أقربائكم أو عليه ، فاشهدوا بالحق ولا تقولوا إلّا الصدق (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي بما عهد إليكم ممّا أوجبه عليكم فأدّوه كاملا كما طلبه منكم (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لأجل أن تتّعظوا بما وصّاكم به ولا تنسوا وصية الله سبحانه وتعالى.

١٥٣ ـ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً ...) أي أن طريقه الذي أشار إليه سبحانه هو الطريق العدل المؤدي إلى ما فيه الرشاد ، ذهابا من إثبات وحدانيّته تعالى إلى النبوّة فسائر موادّ الشريعة السمحة (فَاتَّبِعُوهُ) أي فاسلكوه لأنه لائق بالاتّباع والاهتداء به إلى الحقائق من أقرب الطّرق

١٠٨

(وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي لا تسلكوا الطّرق المتشعّبة الملتوية التي تسير وفق الأهواء والرغبات (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فتفرق ، يعني : فتتوزّع وتأخذ بكم وتصرفكم عن طريق الحق المستقيم وتزيلكم عن اتّباع الوحي واقتفاء البرهان الساطع (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي وصّاكم بذلك لتتجنبوا التّيه في الضلال والتفرّق عن الحق والحقيقة ، ولتؤمنوا بما جاء من عند الله. وفي العياشي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال لبريد العجلي : تدري ما يريد : بصراطي مستقيما يعني رسول الله؟ قال : قلت : لا. قال : ولاية علىّ والأوصياء عليهم‌السلام في خطبة الغدير. قال : وتدري ما يعني : فاتّبعوه؟ قال : قلت : لا. قال : يعني علي بن أبي طالب عليه‌السلام. قال : وتدري ما يعني : ولا تتّبعوا السّبل؟ قال : قلت : لا. قال : ولاية فلان وفلان والله. قال : وتدري ما يعني : فتفرّق بكم عن سبيله؟ قال : قلت : لا. قال : يعني سبيل عليّ عليه‌السلام.

* * *

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

١٠٩

١٥٤ ـ (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) هذه الآية الكريمة معطوفة على : وصّاكم ، وقد عطف سبحانه ب : ثم ، للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرّتبة ، كأنه قيل : ذلكم وصّاكم به قديما وحديثا. وقد استفتح سبحانه الآية ب : ثم ، ليبين حالة لليهود كانت أعظم ممّا هم عليه ، وهي عصيانهم يوم آتى موسى (ع) الكتاب يعني التوراة (تَماماً) أي كاملا في موادّه التكليفية للقيام به (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا لكلّ ما يحتاج إليه في الدّين بتفصيل (وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي وجعلناه هدى وجعلنا فيه رحمة لهم (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) وهو يقصد اليهود المشركين الذين خصّهم بكتابهم ليؤمنوا ويصدّقوا بلقائه عزوجل يوم البعث للجزاء.

١٥٥ ـ (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ...) يعني القرآن الكريم الذي أوحى به سبحانه من السماء إلى نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعله كثير الخير والبركة. ومبارك صفة للكتاب (فَاتَّبِعُوهُ) أي اعملوا بما فيه (وَاتَّقُوا) واحذروا (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بأمل أن تنالكم الرحمة باتّباعه وعدم مخالفته.

١٥٦ ـ (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ...) هذه الشريفة مرتبطة بسابقتها ، وهي تعني أننا أنزلنا القرآن المبارك لتعملوا به ولنقطع احتجاجكم أيها الكافرون ولئلا نترك لكم المجال أن تقولوا : أنزل الكتاب من السماء على طائفتين : هما اليهود والنصارى ، ودعا هؤلاء وهؤلاء للإيمان (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ) أي عن مدارستهم وتلاوة ما نزل عليهم (لَغافِلِينَ) لا ندري ما هي ، لأننا لا نعرف مثلها ، ولأن قراءتها حديثة. واللام هنا جاءت للتأكيد بعد : وإن ، التي تعني : وإنّنا كنّا.

١٥٧ ـ (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ...) الآية معطوفة على ما سبقها ، وتعني : أننا أنزلنا عليكم القرآن قبل أن تعتذروا بعدم نزول كتاب عليكم وتقولوا لو كان لنا كتاب لكنّا أسرع إلى الهدى

١١٠

من اليهود والنصارى إذ لا تنقصنا الفصاحة والفهم وحذق الشّعر والخطب وغيرهما وإن كان أكثرنا أميّين (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي حجة واضحة أنزلها الله سبحانه لكم (وَهُدىً) لمن اتّبعها (وَرَحْمَةٌ) لمن تأمل فيها وكان من أهلها (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) أي : هل أظلم لنفسه من الذي كذّب بآيات ربّه وبراهينه وحججه ولم يصدّقها (وَصَدَفَ عَنْها) أي أعرض وانصرف بوجهه عن تلك الآيات البيّنات؟ (سَنَجْزِي) نعاقب (الَّذِينَ يَصْدِفُونَ) يعرضون (عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) العذاب السيّء الأليم (بِما) بسبب ما (كانُوا يَصْدِفُونَ) يشيحون بوجوههم عنها.

* * *

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

١٥٨ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ...) هذا استفهام إنكاري يعني : ما ينتظر كفّار مكة إلّا مجيء الملائكة إليهم إمّا للوفاة وإمّا للعذاب (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي أمر ربّك وقد أقام المضاف محل المضاف إليه (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) بعض ما وعدهم به من الأهوال والعذاب. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في معنى هذه الآية الكريمة :

١١١

إنما خاطب نبيّنا : هل ينظر المنافقون والمشركون إلّا أن يأتيهم الملائكة : أي ملائكة الموت أو العذاب فيعاينونهم ، أو يأتي ربّك أو يأتي بعض آيات ربك يعني بذلك : أمر ربك ، والآيات هي العذاب في دار الدّنيا كما عذّب الأمم السالفة والقرون الخالية .. فإذا كان ذلك (لا يَنْفَعُ) لا يفيد (نَفْساً) أحدا من الناس ذوي النفوس (إِيمانُها) تصديقها (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) أي في حال أنها لم تكن قد صدّقت بذلك قبل وقوعه (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي ربحت أجرا لتصديقها (قُلِ) يا محمد مهدّدا الكفار : (انْتَظِرُوا) اصبروا حتى يحلّ ذلك بكم (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) متربّصون له ومصدّقون به.

١٥٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...) أي آمنوا ببعض ما أمروا به وكفروا بالبعض الآخر (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا وجماعات مختلفة الأهواء متعدّدة الأئمة والقادة. ففي المجمع عن الإمام الباقر عليه‌السلام : أنهم أهل الضلال وأصحاب الشّبهات والبدع من هذه الأمة. وفي الحديث الشريف عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النّار إلّا واحدة وهي التي تتّبع وصيّي علياّ ... فيا محمد ، إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي ما أنت المسؤول عن تفرّقهم وعن كونهم سلكوا مذاهب فاسدة شتّى (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) أي حسابهم وتولّي سماع قولهم والإجابة المقنعة عليه ، فكل شؤونهم موكولة إليه تعالى. والأمر هنا يعني مجازاتهم وعقابهم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي يخبرهم بكل ما عملوه حين محاسبتهم يوم القيامة.

١٦٠ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ...) أي : من فعل الخير واكتسب الحسنة يكتب الله تعالى له عشر حسنات تفضّلا منه وكرما وجزاء لإيمانه. وفي المجمع عن الإمام الصادق عليه‌السلام : لمّا نزلت الآية : من جاء بالحسنة فله خير منها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ربّ زدني. فأنزل الله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها). وفي الكافي

١١٢

عن الإمام الباقر عليه‌السلام : أنه سئل : هل للمؤمن فضل على المسلم في أي شيء من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك؟ فقال : لا ، هما يجريان في مجرى واحد. ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقرّبان به إلى الله عزوجل. أليس الله عزوجل يقول : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، وزعمت أنهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج مع الإيمان؟ قال : أليس قد قال الله أيضا : يضاعفه له أضعافا كثيرة. فالمؤمنون هم الّذين يضاعف الله لهم حسناتهم لكلّ حسنة بسبعين ضعفا. فهذا فضل المؤمن ، ويزيده الله حسنا له على قدر صحة إيمانه أضعافا كثيرة ، ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي اقترف ذنبا كبيرا أو صغيرا (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) لا يكتب عليه إلّا بمقدارها فقط ويجازى بحسبها عدلا من الله سبحانه وتعالى (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص الثواب ويزيد العقاب ، وتعالى الله عن الظلم والجور لأنه ذو المغفرة والرحمة. وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنه لمّا أعطى الله إبليس ما أعطاه من القوة والإنظار ، قال آدم عليه‌السلام : يا ربّ سلّطته على ولدي وأجريته فيهم مجرى الدم في العروق ، وأعطيته ما أعطيته ، فما لي ولولدي؟ فقال تعالى : لك ولولدك : السيئة بواحدة ، والحسنة بعشر أمثالها. قال : يا ربّ زدني. قال : التوبة مبسوطة إلى أن تبلغ النّفس الحلقوم. فقال : يا ربّ زدني. قال : أغفر ولا أبالي. قال آدم عليه‌السلام : حسبي.

* * *

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ

١١٣

اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

١٦١ ـ (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ...) أي اقطع يا محمد نزاع القول مع القوم الكافرين وقل : إنني هداني ربّي : أي أرشدني ودلّني وأراني الطريق المستقيم : الذي لا اعوجاج فيه وحيا من عنده وتفضّلا وكرما (دِيناً قِيَماً) دينا بدل من موضع : إلى صراط ، والمعنى : هداني صراطا ، دينا. وقيما أي : قيّما على وزن فيعل ، وهو مصدر بمعنى القيام وبمعنى قائم وثابت وهو أبلغ منهما (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) عطف بيان ، أي طريقة إبراهيم (ع) ودينه (حَنِيفاً) حال من إبراهيم ، وهو بمعنى الاستقامة ، أي أن إبراهيم عليه‌السلام كان مستقيما في دينه (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) والجملة عطف بيان ممّا قبله ، وقد نفى سبحانه شرك إبراهيم (ع) وشرك من كان على طريقته.

١٦٢ ـ (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ...) أي دعائي وعبادتي وقرباني (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي حياتي وما آتيه فيها ، وموتي وما أموت عليه (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ذلك كلّه خالص لوجهه سبحانه وتعالى فهو رب الكون وسائر العوالم.

١٦٣ ـ (لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ ...) أي لا أشرك معه غيره أحدا في عبادتي وغاية تخضّعي وتذلّلي ، وقد أمرني لأعترف (بِذلِكَ) أي بما ذكر في صدر الآية ، وأنا أعبده بغاية الإخلاص إذ لا تجوز العبادة إلّا له

١١٤

تعالى (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لأن إسلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله يتقدّم إسلام أمّته ككلّ نبيّ يؤمن بربه ويأمر الناس بالإيمان به. وهذا طبيعيّ لأن النّبيّ يؤمر بالإيمان قبل الذين بعث إليهم ، ولأن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أول من أجاب في الميثاق في عالم الذّر كما ورد عنهم عليهم‌السلام ، فإسلامه تقدّم إسلام كافة الخلائق يوم الجبروت والعظمة. وفي حديث ذكر فيه إبراهيم (ع) فقال (ص) : دينه ديني ... إلى أن قال : وأنا أفضل منه.

١٦٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا ...) أبغي : يعني : أطلب ، والاستفهام إنكاريّ يعني أنه (ص) لا يطلب غير الله سبحانه إلها (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي أن كل ما سواه مربوب لا يصلح للرّبوبيّة ، لأن الله تعالى هو ربّ جميع الكائنات (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) أي أن كل نفس تتحمل تبعة عملها وتنال جزاء طاعتها أو معصيتها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، ولا تحمل غير حملها. وفي العيون عن الإمام الرضا عليه‌السلام أنه سئل عمّا يقول في حديث يروى عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه إذا خرج القائم عجّل الله تعالى فرجه قتل ذراري قتله الحسين عليه‌السلام بفعال آبائهم ، فقال عليه‌السلام : هو كذلك. فقيل : قول الله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ما معناه؟ قال : صدق الله في جميع أقواله ، ولكنّ ذراري قتلة الحسين عليه‌السلام يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها ، ومن رضي شيئا كان كمن أتاه. ولو أنّ رجلا قتل في المشرق فرضي بقتله من في المغرب لكان الرّاضي عند الله شريك القاتل. وإنّما يقتلهم القائم عليه‌السلام إذا خرج لرضاهم بعمل آبائهم .. (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي معادكم يوم القيامة إلى خالقكم بقرينة لفظة : ثم ، وبدليل الآيات السابقة (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي بما كنتم في دار الدّنيا تفترقون فيه بتمييز الحق من الباطل والرّشد من الغي والهداية من الضلال.

١١٥

١٦٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ...) الله سبحانه هو الذي جعل الناس يخلف بعضهم ، فاللاحق يأتي بعد السابق بحيث كلّما مضى قرن خلفه قرن آخر من الناس وهكذا حتى آخر الدّهور وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. وقد يراد أنه جعلكم خلفاءه سبحانه في أرضه تتصرفون فيها وبخيراتها وسائر أمورها ، والله أعلم بما أراد في كلامه القدسي. فقد جعلكم خلفاء الأرض (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) بالشرف ، والمال ، والعلم ، وجهات أخر جعلكم متفاوتين في المراتب (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (فِي ما آتاكُمْ) أي ليعلم أتشكرون نعمه أم تكفرون بها؟ (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) أي سريع التأديب بالعذاب الشديد لمن كفر نعمه (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن شكره على أفضاله الجزيلة كالمؤمنين به من عباده.

١١٦

سورة الأعراف

مكية ، غير قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) ، إلى قوله : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) نزلت في المدينة بحسب قول قتادة والضحاك. وعدد آياتها مائتان وست آيات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))

١ ـ (المص ...) قد مرّ تفسيره فيما سبق من كلامنا على مثل هذه الافتتاحيات.

٢ ـ (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...) أي هذا الذي أوحيناه إليك هو كتاب أنزلناه عليك بواسطة الملائكة وبأمر منّا. ولفظة كتاب مرفوعة بغير هذه الحروف : المص ، إذ المعنى : هذا كتاب أنزل إليك (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي فلا يضيقنّ صدرك بما فيه من الأوامر والنواهي الكثيرة التي تخاف من أن لا تقوم بتبليغها حق القيام. وقيل : لا ينبغي أن يضيق صدرك من خوف تكذيب قومك لك بسببه ، وذلك كقوله سبحانه

١١٧

في سورة الكهف : فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا. وقد جاء في الأخبار أنه لمّا نزل القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إني أخشى أن يكذّبني الناس ويثلغوا رأسي ـ أي يخدشوه ـ فيتركوه كالخبزة. فأزال الله تعالى عنه الخوف بهذه الآية ... أما الفاء فقد دخلت على جملة : فلا يكن ، لتعطف الجملة على الجملة السابقة بتقدير : كتاب أنزلناه إليك فلا يكن في صدرك حرج بعد إنزاله. وقيل إنها وقعت في أول جواب بتقدير : إذا أنزل إليك الكتاب لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج ، والأوّل أصوب (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي بالكتاب الذي هو القرآن الكريم والإنذار هو التخويف بالوعيد لمن يخالف أوامر الله ونواهيه ، وذلك بمعنى : كتاب أنزل إليك لتنذر به (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي موعظة لهم ، وقد خصّهم سبحانه بالذكر لأنهم هم المنتفعون به دون غيرهم.

والحاصل أنه سبحانه قال لنبيّه : كن طيّب النفس منشرح الصدر حال التبليغ ليتذكّر من تنفعه الذكرى من المؤمنين المصدّقين.

٣ ـ (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ...) الخطاب لسائر المكلّفين ، فقل يا محمد لهم : اتّبعوا : أي تصرّفوا بما في المنزل إليكم من الله. والاتّباع هو أن يتصرّف التابع بتصرّف المتبوع كالمأموم والإمام يفعل ما يفعل. والاتّباع فيما أنزل الله تعالى يدخل فيه الواجب والنّدب والمباح على أن يعتقد المرء في الحرام وجوب اجتنابه. فيا أيها المكلفون كونوا متّبعين لما في القرآن من أوامر ونواه وأطيعوا ما فيه ولا تتخذوا من دونه أولياء أي لا تقلّدوا أولياء تتولّونهم وتطيعونهم في معصية الله ، فإن من لا يتّبع الله وكتابه يكون متّبعا للشيطان أو للأوثان (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي قليلا تذكّركم وكونكم متّعظين بما فيه. ومعناه هنا الأمر ، يعني : تذكّروا كثيرا كلّ ما أوجبه الله تعالى عليكم وما يلزم لكم من أمور دينكم ومعاشكم ومعادكم. ويقال تذكّر الإنسان إذا اتّعظ وتفقّه وتعلّم شيئا بعد شيء وانتفع بالذكرى.

١١٨

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))

٤ ـ (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ...) كم : لفظة توضع للتكثير بعكس لفظة : ربّ. وقد قال الفرزدق :

كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشاري

وموضع : كم ، في الآية رفع بالابتداء ، وأهلكناها خبرها ... فبعد أن سبق أمره سبحانه للمكلّفين بوجوب اتّباع القرآن الكريم ، وبالتحذير من مخالفته ، وبالتذكّر والانتفاع بالذكرى ، عقّب بهذه الآية الكريمة قائلا : كم من قرية أهلكناها : أي من أهل قرية ، فإنهم هم الذين يقع عليهم الهلاك ، وقد حذف اللفظ لدلالة المعنى عليه. والإهلاك يكون بالإبادة والاستئصال والعذاب الشديد. فكثيرا من القرى أهلكناها (فَجاءَها بَأْسُنا) أي حين حلّ فيها عذابنا (بَياتاً) في الليل وأهلها بائتون ، وقد سمّي البيت بيتا لأنه يصلح للمبيت (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) يعني نزل العذاب بأهل القرى حين مبيتهم أو حين القيلولة التي هي نصف النهار حين يأوي الإنسان إلى بيته ليرتاح بعد العمل منذ الصباح إلى الظهر.

أما الفاء في : فجاءها بأسنا ، فهي للتعقيب. فإن قيل كيف عقّبنا بها

١١٩

في حال يوهم أن البأس جاء بعد إهلاك القرى والإهلاك لا يتم إلّا بنزول البأس والعذاب؟ ... فالجواب : أننا أهلكنا القرى بحكمنا عليها فجاءها بأسنا ، أو أهلكناها ببعث ملائكة العذاب فجاءها بأسنا ، أو أخيرا : أهلكناها فصحّ أنه جاءها بأسنا كما فصّله في المجمع. وأما الواو في : وهم قائلون فقد قال الفراء : واو الحال مقدّرة فيه ، يعني : أو وهم قائلون. ولفظة : بياتا ، مصدر وضع مكان الحال بمعنى بائتين ، وقيل غير ذلك وهذا هو الأصح.

٥ ـ (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا ...) أي لم يكن دعاء من أهلكناهم عقوبة على كفرهم ومعاصيهم حين نزول عذابنا بهم في وقتي الراحة من البيات أو من القيلولة (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) يعني لم يقع منهم سوى الاعتراف بظلمهم لأنفسهم ، والإقرار بالذنوب والمعاصي في وقت لا تنفع فيه التوبة عند معاينة العذاب والتيقّن بالهلاك.

٦ ـ (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ...) قد أقسم الله سبحانه أنه سيسأل المكلّفين الذين أرسلت إليهم الرّسل. وقد وقع هذا القسم بعد الإنذار بعذاب الدّنيا وعذاب الآخرة ، ثم أقسم أيضا بقوله القدسيّ : (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الّذين بعثناهم. نسأل هؤلاء عن التبليغ ، ونسأل أولئك عن الطاعة والامتثال ، مع كونه تعالى عالما بما كان من هؤلاء وهؤلاء. ولكنه أورد القسمين لإخراج الكلام مخرج التهديد والوعيد ليهتم المكلّفون وليعرفوا أنهم مسئولون. وما أحسن ما جاء في المجمع عن الحسن من أن المكلّفين يسألون سؤال توبيخ ، والأنبياء يسألون سؤال شهادة على الحق ، وأنه كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ، وقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) ، وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، فأجاب :

أولا : إنه تعالى نفى أن يسألهم سؤال استرشاد واستعلام ، بل سؤال تبكيت وتقريع كمن يقول : ألم أحسن إليك فكفرت نعمتي؟

١٢٠