جواهر البلاغة

السيّد أحمد الهاشمي

جواهر البلاغة

المؤلف:

السيّد أحمد الهاشمي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مديرية العامة للحوزة العلمية في قم
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٥
ISBN: 964-6918-33-6
الصفحات: ٣٥٤

الشريفة بتآليف عديدة لما اشتملت عليه من البلاغة ، حتى عد بعضهم فيها مائة وخمسين نوعاً ، وقد أجمع المعاندون على أن طوق الشر عاجز عن الإتيان بمثلها.

(٣٣) الأسلوب الحكيم

أسلوب الحكيم : هو تلقى المخاطب بغير ما يترقّبهُ

(١) إما بترك سُؤله : والاجابة عن سؤال لم يسأله. تنبيهاً على أنه كان ينبغي له أن يسأل هذا السؤال.

(٢) وإما بحمل كلام المتكلم على غير ما كان يقصد ويريد ، أو يقصد هذا المعنى.

فمثال الأول : قوله تعالى : (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِي) سألو النبي عليه الصلاة والسلام عن حقيقة ما ينفعون من مالهم ، فأجيبوا ببيان طرق إنفاق المال : تنبيهاً على أن هذا هو الأولى والأجدر بالسؤال عنه. وقال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (١).

ومثال الثاني : ما فعل القبثرِى بالحجَّاج(٢) ، إذ قال اله الجحاجُ متوعداً (لأحملنك عل الأدهم).

__________________

(١) بيان ذلك : أن أصحاب رسول الله سألوه عن الأهلة؟ لم تبدو صغيرة ، ثم تزداد حتى يتكامل نورها. ثم تتضاءل حتى لا ترى «وهذه مسألة دقيقة من علم الفلك» تحتاج إلى فسلقة عالية وثقافة عامة. فصر فهم عنهما ببيان أن الأهلة وسائل للتوقيت في المعاملات ، والعبادات ، إشارة إلى أن الأولى بهم أن يسألوا عن هذا.

(٢) هو الحجاج بن يوسف الثقفي ، كان عاملا على العراق وخراسان : لعبد الملك ابن مروان ، ثم للوليد من بعده ، وكان شديد البطش قاسيا ، حتى ضرب المثل بجوره وظلمه توفى سنة ٩٥ ه.

٣٢١

يريد الحجّاج : القيد الحديد الأسود : فقال القبعثري «مثلُ الأمير يحمل على الأدهم والأشهب» يعني الفرس الأسود ، والفرس الأبيض ، فقال له الحجاج : أردت (الحديد) ، فقال القبعثري : لأن يكون حديداً خيرٌ من أن يكون بليداً ، ومراده تخطئة الحجاج بأن الأليق به الوعد لا الوعيد (١).

وقال ابن حجُاج البغدادي :

قال : ثَقَّلتُ إذ أتيتُ مراراً

قال : ثقلتَ كاهلي بالايادي

قال : طوّلت ، قال : أوليت طولا

قلتُ : أبرمتُ ، قال : حبل وادادي (٢)

فصاحب ابن حجَّاج : يقول له ، قد ثقَّلت عليك بكثرة زياراتي ، فيصرفه عن رأيه في أدب وظرف ، وينقل كلامه من معنى إلى معنى آخر ـ وكقول الشاعر :

ولما نعى الناعي سألناه خشيةً

وللعين خوف البين تسكاب أمطار

أجاب قضى : قلنا قضى حاجة العلا

فقال مضى : قلنا بكل فخار

ويحكى : أنه لما توجّه (خالد بن الوليد) لفتح الحيرة ، أتى إليه من قبل أهلها رجل ذو تجربة : فقال له (خالد) فيم أنت؟ قال في ثيابي ، فقال علام أنت؟ فأجاب على الأرض فقال كم سنّك؟ قال اثنتان وثلاثون فقال : أسألك عن شيء ، وتجيبني بغيره : فقال : إنّما أجبتك عمّا سألت.

_________________

(١) سبب ذلك : ان الحجاج بلغه أن القبعثري لما ذكر الحجاج بينه وبين أصحابه في بستان ، قال : اللهم سود وجهه ، واقطع عنقه ، واسقني من دمه ، فوشى به إلى الحجاج فلما مثل بين يديه ، وسأله عن ذلك ، قال : انما أردت (العنب) ، فقال له الحجاج ما ذكر.

(٢) فقد وقع لفظ «ثقلت» في كلام المتكلم بمعنى «حملتك المؤونة» فحمله المخاطب على الاكثار من المنن والأيادي «وأبرمت» وقع في كلامه بمعنى «أمللت» فحمله المخاطب على ابرام حبل الوداد وإحكامه ، وليس في طولت الأولى التي هي من طول الاقامة ، وتطولت من التطول وهو التفضل : شاهد.

٣٢٢

(٣٤) تشابه الأطراف

تشابه الاطراف : قسمان معنوي ولفظي.

فالمعنوي : هو أن يختم المتكلم كلامه بما يناسب ابتداءه في المعنى كقوله :

ألذّ من السحر الحلال حديثهُ

وأعذب من ماء الغمامة ريقُهُ

فالريق : يناسب اللذة في أول البيت.

واللفظي نوعان : الأوّل : أن ينظر الناظم أو الناثر إلى لفظة وقعت في آخر المصراع الأول أو الجملة ، فيبدأ بها المصراع الثاني ، أو الجملة التالية ، كقوله تعالى : (مثل نوره كمشكاة فيها مصباحٌ المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دريٌ) وكقول أبي تمام :

هوى كان خلساً إن من أبرد الهوى

هوى جلت في أفيائه وهو خامل

الثاني : أن يعيد الناظم : لفظة القافية من كل بيت في أول البيت الذي يليه ، كقوله :

رمتني وستر الله بيني وبينها

عشية آرام الكناس رميمُ

رميمُ التي قالت لجيران بيتها

ضمنت لكم ألا يزال يهيمُ

(٣٥) العكس

العكسُ : هو أن تقدِّم في الكلام جُزءاً ثم تعكس : بأن تُقدِّم ما أخرت ، وتؤخر ما قدّمت ، ويأتي على أنواع

أ ـ أن يقع العكس بين أحد طرفي جملة ، وما أضيف إليه ذلك الطرف ، نحو : كلام الملوك ملوك الكلام ـ وكقول المتنبي :

إذا أمطر منهم ومنك سحابة

فوابلهم طل وطَلُّكَ وابلُ

٣٢٣

ب ـ أن يقع العكس بين متعلقي فعلين في جملتين ، كقوله تعالى : (يُخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحي).

ج ـ أن يقع العكس بين لفظين في طرفي الجملتين ، كقوله تعالى : (لاهُنَّ حلٌّ لهم ، ولا هم يحلّون لهنَّ).

د ـ أن يقع العكس بين طرفي الجملتين ، كقول الشاعر :

طويت بإحراز الفنون ونيلها

رداء شباب والجنون فُنونُ

فحين تعاطيت الفنون وحظها

تبيَّن لي أن الفنون جنون

ه ـ أن يكون العكس بترديد مصراع البيت معكوساً ، كقول الشاعر :

إنَّ للوجد في فؤادي تراكمُ

ليت عيني قبل الممات تراكمُ

في هواكم يا سادتي متّ وجدا

مت وجداً يا ساداتي في هواكمُ

(٣٦) تجاهل العارف

تجاهل العارف : هو سؤال المتكلم عمَّا يعلمه حقيقة ، تجاهلاً منه لنكتة ، كالتوبيخ ، في قوله :

أيا شجر الخابور مالك مورقاً

كأنك لم تجزع على ابن طريف

أو المبالغة في المدح ، كقول البحتري :

ألمعُ برق سرى أم ضوء مصباح؟؟

أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي

أو المبالغة في الذّم ، كقول زهير :

وما أدرى وسوف إخالُ أدري

أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساء؟؟

أو التعجّب ، نحو : (أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تُبصرون) إلى غير ذلك من الأغراض البديعية التي لا تحصّى.

٣٢٤

تمرين

بين الأنواع البديعية فيما يلي :

(١) قال بعضهم في وصف إبل :

صلبُ العصا بالضرب قد أدماها

تودُّ أن الله قد أفناها (١)

(٢) وللغزالة شيء من تَلفُّته

ونورها من ضيا خدّيه مُكتسب (٢)

(٣) أفنى جيوش العِدا غزواً فلست ترى

سوى قتيل ومأسور ومنهزم (٣)

(٤) ولا عيب فيهم غير أنّ ذوي الندى

خساسٌ إذا قيسوا بهم ولئام (٤)

(٥) على رأس عبد تاج عز يزينُهُ

وفي رجل حُرّ قيدُ ذُلٍ يشينُه (٥)

__________________

(١) الضرب : لفظ مشترك بين الضرب بالعصا وهو المعنى القريب الذي لم يقصد ـ والسير في الأرض ، وهو المعنى البعيد المقصود والمراد بالتورية.

(٢) في استخدام : إذ أراد بالغزالة الحيوان المعروف وبضمير (نورها) الغزالة بمعنى الشمس.

(٣) فيه تقسيم : إذ هو قد استوفى جميع أقسام جيش العدو ، بحصرها في الأقسام الثلاثة.

(٤) فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم ، فانه استثنى من صفة ذم منفية ، صفة مدح.

(٥) فيه مقابلة بين ستة وستة : فقد قابل بين على وفي ، رأس ورجل ، حر وعبد ناج وقيد ، عز وذل ، يزين ويشين.

٣٢٥

(٦) فلا الجودُ يفنى المال والجد مقبلٌ

ولا البخل يبقى المال والجدُ مدبر (١)

(٧) رحم الله من تصدَّق من فضل

أو آسى من كفاف ، أو آثر من قُوتِ (٢)

(٨) آراؤكم ووُجوهكم وسيوفكم

في الحادثات إذا دجونَ نجوم (٣)

(٩) ما زلزلت مصر من كيد ألمّ بها

لكنّها رقصت من عدلكم طربا (٤)

(١٠) أراعي النجم في سيرى اليكم

ويرعاه من البيدا جوادي (٥)

تطبيق عام على البديع المعنوي

ياسيدا حاز لطفا

له البرايا عبيدُ

أنت الحسين ولكن

جفاك فينا يزيدُ

__________________

(١) فيه مقابلة : بين الجود والبخل ، يفنى ويبقى ، مقبل ومدير.

(٢) فيه تقسيم : باستيفاء أقسام الشيء ، لأن طبقات الناس هذه الثلاثة ليس غير.

(٣) فيه الجمع : فقد جمع بين ثلاثة أشياء في حكم واحد.

(٤) فيه حسن التعليل : فقد جعل علة زلزال مصر طربا من عدل الممدوح لا لمكروه نزل بها ، وهي لا شك غير العلة التي يتعارفها الناس فيما بينهم.

(٥) فيه استخدام : إذ النجم الأول الكوكب ، وأعاد عليه الضمير بمعنى النبات الذي لا ساق له.

٣٢٦

في هذا الكلام تورية ، مهيَّأة بلفظ قبلها ، فان ذكر «الحسين» لازم لكون «يزيد» اسما بعد احتمال الفعل المضارع الموري عنه

حُماة في بهجتها جنَّة

وهي من الغمّ لنا جنّة

لا تيأسوا من رحمة الله فقد

رايتم العاصي في الجنة

في هذا الكلام تورية مرشحة ، فان ذكر الرحمة ترشيح للفظ العاصي الموري به الذي هو من العصيان ، والموري عنه النهر المعروف الذي عبر حماه.

فان ضيعتُ فيه جميع مالي

فكم من لحية حلقت بموسى

في هذا الكلام فيه التورية المرشحة ، بذكر اللحية والحلق ، وهما يناسبان المورى به وهو «موسى الحديد» والمورى عنه الاسم المذكور.

يا عذولي في مغنّ مطرب

حرك الأوتار لما سفرا

لم تهز العطف منه طربا

عند ما تسمع منه وترا

فيه تورية في لفظ «وترا» فانَّ معناه البعيد المراد هو الرؤية ، والقريب أحد الأوتار ـ ولفظ «تسمع» هيّأ قوله «وتراً» للتورية بالرؤية.

سألته عن قومه فانثنى

يعجب من افراط دمعي السخي

وأبصر المسك وبد الدُّجى

فقال ذا خالي وهذا أخي

فيه تورية في لفظ «خالي» فمعناه البعيد المراد ، النقطة السوداء في الخد ، والقريب أخ الأم ، ولفظة «أخي» هي التي هيّأت خالي للتورية ـ وهي بعيدة.

٣٢٧
٣٢٨

في المحسنات اللفظية

١ ـ الجناس (١)

__________________

(١) ويقال له التجنيس ، والتجانس ، والمجانسة ، ولا يستحسن إلا إذا ساعد اللفظ المعنى ، ووازى مصنوعه مطبوعه ، مع مراعاة النظير ، وتمكن القرائن ، فينبغي أن ترسل المعاني على سجيتها لتكتسي من الألفاظ ما يزينها ، حتى لا يكون التكلف في الجناس مع مراعاة الالتئام ، موقعا صاحبه في قول من قال :

طبع المجنس فيه نوع قيادة

أو ما ترى تأليفه للأحرف

وبملاحظة ما قدمنا يكون فيه استدعاء لميل السامع والاصغاء إليه ، لأن النفس تستحسن المكرر مع اختلاف معناه ، ويأخذها نوع من الاستغراب ، وتلخيص القول في الجناس : أنه نوعان ، تام ، وغير تام ـ فالتام هو ما اتفق فيه اللفظان المتجانسان في أمور أربعة ، نوع الحروف ، وشكلها من الهيئة الحاصلة من الحركات والسكنات ، وعددها ، وترتيبها وغير التام ، وهو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من الأمور الأربعة المتقدمة كقول الله تعالى (والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق) وكقول الشاعر :

وسميته يحيى ليحيا فلم يكن

إلى رد أمر الله فيه سبيل

وكقوله :

أشكو وأشكر فعله

فاعجب لشاك منه شاكر

طرفي وطرف النجم فيــ

ـه كلاهما ساه وساهر

٣٢٩

الجناس : هو تشابه لفظين في النطق ، واختلافهما في المعنى.

وهو ينقسم إلى نوعين : لفظي ومعنوي.

أنواع الجناس اللفظي

(١) منها : الجناس التّام : وهو ما اتفق فيه اللفظان المتجانسان في أربعة أشياء ، نوع الحروف ، وعددها ، وهيئآتها الحاصلة من الحركات والسكنات ، وترتيبها مع اختلاف المعنى.

فان كان اللفظان المتجانسان من نوع واحد : كاسمين ، أو فعلين ، أو حرفين سمى : الجناس مماثلاً (١) ومستوفياً نحو : (ويوم تقوم الساعة يقسمُ المجرمون ما لبثوا غير ساعة) فالمراد بالساعة الأولى يوم القيامة ، وبالساعة الثانية المدة من الزمان ، ونحو : رحبة رحبة :

فرحبة الأولى : فناء الدار ، ورحبة الثانية : بمعنى واسعة

وإن كانا من نوعين : كفعل واسم ، سُمِّي : الجناس مستوفياً ، نحو إرع الجار ولو جار ـ وكقول الشاعر :

ما مات من كرم الزَّمان فإنَّه

يحيا لدى يحيى بن عبد الله

فيحيا الأول فعل مضارع ، يحيى الثاني اسم الممدوح ، ونحو :

إذا رماك الدهر في معشر

قد أجمع الناسُ على بغضهم

فدارهم ما دُمت في دارهم

وأرضهم ما دُمت في أرضهم

٣٣٠

والجناس التام : ممّا لا يتفق للبليغ إلا على ندور وقلة : فهو لا يقع موقعه من الحسن حتى يكون المعنى هو الذي استدعاه وساقهُ ، وحتى تكون كلمتهُ ممّا لا يبتغي الكاتب منها بدلاً ، ولا يجد عنها حولا.

والجناس غير التام : وهو ما اختلف فيه اللفظان في واحد أو أكثر من الأربعة السابقة واختلافهما : يكون إمّا :

بزيادة حرف (في الأول) نحو : دوام الحال من المحال. أو (في الوسط) نحو : جدّي جهدي أو (في الآخر) نحو : الهوى مطية الهوان والأول يسمى «مردوفاً» ، والثاني يُسمى «مكتنفاً» والثالث «مطرّفاً».

أو باختلاف حرف في الأول كقوله تعالى : (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) وفي الوسط وكقول الشاعر :

فان حلّوا فليس لهم مقرٌّ

وإن رحلُوا فليس لهم مفرُّ

وفي الآخر وكقوله عليه السلام (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).

ومن اختلاف أعدادها ، قولك : هذا بناء ناء.

ومن اختلاف ترتيب الحروف ، قوله (في حسامه فتح لأوليائه ، وحتفٌ لأعدائه).

ومن اختلاف الهيئة ، قول الشاعر :

الجَدّ في الجد والحِرمان في الكسل

فانصب تُصب عن قريب غاية الأمل

(٢) ومنها الجناس المطلق : وهو توافق رُكنيه في الحروف وترتيبها بدون أن يجمعهما اشتقاق ٌ ، كقوله صلى الله عليه وسلم ـ (أسلم) سالمها الله (وغفارٌ) غفر الله لها ، (وعصيّة) عصت الله ورسوله.

فان جمعهما اشتقاق نحو : (لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد)

٣٣١

فقيل : يسمى جناس الاشتقاق (١).

(٣) ومنها : الجناس المُذيَّل ، والجناس المطرَّف.

فالأول : يكون الاختلاف بأكثر من حرفين في آخره.

__________________

(١) كقوله :

فيا دمع انجدني

على ساكني نجد

وكقوله :

وإذا ما رياح جودك هبت

صار قول العذول فيه هباء

وقول النابغة :

فيالك من حزم وعزم طواهما

جديد الردى بين الصفا والصفائح

وقول البحتري :

نسيم الروض في ريح شمال

وصوب المزن في راح شمول

وكقوله :

أراك فيمتلى قلبي سروراً

واخشى أن تشط بك الديار

فجر ، واهجر ، وصل ولا تصلني

رضيت بأن نجور وأنت جار

وكقوله :

من بحر جودك أغترف

وبفضل علمك أعترف

وكقولهم (خلف الوعد خلق الوغد).

وكقول البشتي :

بسيف الدولة اتسقت أمور

رأيناها مبددة النظام

وكقول البشكي :

كن كيف شئت عن الهوى لا أنتهى

حتى تعود لي الحياة وانت هي

وكقوله :

سما وحمى سام وحام

فليس كمثله سام وحام

وقول أبي نواس :

عباس عباس إذا احتدم

الوغى والفضل فضل والربيع ربيع

٣٣٢

والثاني : يكون الاختلاف بزيادة حرفين في أوله.

فالجناس المذيل : كقول أبي تمام :

انّ الكساء هو الشفا

ء من الجوى بين الجوانح

والجناس المطرف : كقول أبي تمام :

يمدون من أيدٍ عواص عواصم

تصول بأسياف قواض قواضبِ

 (٤) ومنها الجناس المضارع والجناس اللاحق.

فالجناس المضارع : يكون باختلاف ركنيه في حرفين ، لم يتباعدا مخرجاً.

إما في الأول : نحو : ليلٌ دامسٌ ، وطريق طامس.

وإما في الوسط : نحو : (وهم ينهون عنه ، وينأون عنه).

وإما في الآخر : نحو قوله الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.

والجناس اللاحق : يكون في متباعدين.

إما في الأول نحو : (همزة لمزة).

وإما في الوسط نحو : (إنه على ذلك لشهيد ، وإنه لحب الخير لشديدٌ).

وإما في الآخر : نحو قوله تعالى : (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به).

(٥) ومنها : «الجناس اللفظي» وهو ما تماثل ركناه لفظاً ، واختلف أحد (ركنيه) عن الآخر خطّاً ، إما الاختلاف في الكناية (بالنون والتنوين) وإما الاختلاف في الكتابة بالضاد والظاء ، أو الهاء والتاء.

فالأول : وهو ما تماثل ركناه لفظاً ، واختلف أحدُ ركنيه عن الآخر خطاً في الكتابة بالنون والتنوين) قوله :

أعذبُ خلق الله نطقاً (وفماً)

ان لم يكن أحقّ بالحُسن (فمن)

مثل الغزال نظرةً ولفتةً

من ذا رآه مقبلا ولا افتتن

٣٣٣

والثاني : وهو اختلاف أحد (ركنيه) في الضاد والظاء ، نحو قوله تعالى : (وجوه يومئذ (ناضرةٌ) إلى ربها (ناظرة)) ، وكقول أبي فراس :

ما كنت تصبر في القديــ

ـم فلم صبرت الآن عنّا

ولقد ظننت بك الظنو

ن لأنه من (ضن ظنّا)

والثالث : وهو اختلاف أحدرُ كنيه في الهاء والتاء كقوله :

إذا جلست إلى قوم لتؤنسهم

بما تحدّث من ماض ومن آت

فلا تعيدن حديثاً إنّ طبعهم

موكلٌ (بمعاداة المعادات)

(٦) ومنها : الجناس المُحرِّف والجناس المُصحَّف.

فالأول : ما اختلف ركناه في هيآت الحروف الحاصلة من حركاتها وسكناتها ، نحو : جبة البرد جنة البرد

والثاني : ما تماثل ركناه وضعاً ، واختلفا نقطاً ، بحيث لو زال إعجام أحدهما لم يتميز عن الآخر كقول بعضهم : غرك عزُّك ، فصار قصارى ذلك ذلك ، فاخش فاحش فعلك ، فعلك بهذا تهتدي. ومثل قولى أبي فراس :

من بحر شعرك أغترف

وبفضل علمك أعترف

(٧) ومنها : الجناس المركّب «والجناس الملفق».

فالأول : ما اختلف (ركناه) إفراداً وتركيباً فان كان من كلمة وبعض أخرى ، سُمى (مرفُوّاً) كقول الحريري :

ولا تلهُ عن تذكار ذنبك وابكه

بدمع يضاهى المزن حال «مصابه»

ومثّل لعينيك الحمام ووقعه

وروعة ملقاه ومطعم «صابه»

وان كان من كلمتين فان اتفق الركنان خطاً سُمِّي (مقرونا) كقوله :

إذا مَلِك لم يكن ذاهبة

فدعه فدولته ذاهبة

٣٣٤

وإلا سمى (مفروقا) كقوله :

لا تعرضن على الرواة قصيدة

ما لم تكن بالغت في «تهذيبها»

فاذا عرضت الشعر غير مُهذّب

عدوه منك وساوساً «تهذى بها»

والثاني : وهو الجناس المُلفّق : يكون بتركيب الركنين جميعاً كقوله :

وليت الحكم خمساً وهي خمس

لعمري والصبا في العنفوان

فلم تضع الأعادي قدر «شاني»

ولا قالوا فلان قد «رشاني»

(٨) ومنها : (جناس القلب) وهو ما اختلف فيه اللفظان في ترتيب الحروف ، نحو : حسامه فتحٌ لأوليائه ، وحتفٌ لأعدائه ، «ويسمى قلب كلٍّ» لانعكاس الترتيب ، ونحو : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، ويسمى (قلب بعض) ونحو : رحم الله امرأ ، أمسك ما بين فكيه ، وأطلق ما بين كفيه.

وإذا وقع أحد المتجانسين في أول البيت ، والآخر في آخره ، سمى (مقلوباً مجنحاً) كأنه ذو جناحين كقوله :

لاح انوارُ الهدى

من كفّه في كل حال

وإذا ولى أحد المتجانسين الآخر قيل له «المزدوج» وإن كان التركيب بحيث لو عكس حصل بعينه (فالمستوى) وهو أخص من (المقلوب المجنح) ويسمى أيضاً «ما لا يستحيل بالانعكاس» نحو (كل في فلك) ونحو (وربك فكبر) ، وبعد : فلا يخفى على الأديب ، ما في الجناس من الاستدعاء لميل السامع ، لأن النفس ترى حسن الإفادة ، والصورة صورة تكرار وإعادة ومن ثم تأخذها الدهشة والاستغراب ولأمرٍ ما ، عُدّ الجناس من حُلى الشعر.

٣٣٥

أنواع الجناس المعنوي

الجناس المعنوي : نوعان جناس إضمار وجناس إشارة.

(أ) فجناس الاضمار أن يأتي بلفظ يحضرب في ذهنك لفظاًَ آخر وذلك اللفظ المحضر يراد به غير معناه ، بدلالة السياق كقوله :

«منعم» الجسم تحكى الماء رقَّته

وقلبه «قسوة» يحكى ابا أوس

وأوس شاعر مشهور من شعراء العرب ، واسم أبيه حجر ، فلفظ أبي «أوس» يحضر في الذهن اسمه ، وهو (حجر) ، وهو غير مراد ، وإنما المراد : الحجر المعلوم ، وكان هذا النوع في مبدئه مستنكراً ، ولكنّ المتأخرين ولعوا به ، وقالوا منه كثيراً ، فمن ذلك قول البهاء زهير :

وجاهل طال به عنائي

لازمني وذاك من شقائي

أبغض للعين من الأقذاء

أثقل من شماتة الأعداء

فهو إذا رأته عين الرائي

أبو معاذ أو أخو الخنساء

(ب) «وجناس الإشارة» هو ما ذكر فيه أحد الركنين ، واشير للآخر بما يدل عليه ـ وذلك إذا لم يساعد الشعر على التصريح به ـ نحو :

يا «حمزة» اسمح بوصلٍ

وامُنن علينا بقُربِ

في ثغرِ : اسمك أضحى

مصحّفاً وبقلبي

فقد ذكر الشاعر أحد المتجانسين : وهو (حمزة) ، وأشار إلى الجناس فيه ، بأن مصحَّفة ، في ثغره ، أي (خمرة) وفي قلبه ، أي (جمرة) وبعد فاعلم أنه لا يستحسن الجناس ، ولا يعدّ من أسباب الحسن ، إلا إذا جاء عفواً ، وسمح به الطبع من غير تكلف ، حتى لا يكون من أسباب ضعف القول وانحطاطه ، وتعرض قائله للسخرية والاستهزاء.

٣٣٦

٢ ـ التصحيف

التصحيف : هو التشابه في الخط بين كلمتين فأكثر : بحيث لو أزيل أو غيرت نقط كلمة ، كانت عين الثانية ، نحو التخلي ، ثم التحلّي ، ثم التَّجلّي.

٣ ـ الازدواج

الازدواج : هو تجانس اللفظين المجاورين ، نحو : من جدّ وجدَ ، ومن لج ولج.

٤ ـ السجع

السجعُ : هو توافق الفاصلتين (١) في الحرف الأخير من (النثر) وأفضلهُ : ما تساوت فقره ، وهو ثلاثة أقسام :

أولها : (السجع المطرف) وهو ما اختلفت فاصلتاه في الوزن ، واتفقنا في التقفية ، نحو قوله تعالى (ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً).

ونحو قوله تعالى (ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً).

ثانيها : (السجع المُرصَّع) : وهو ما اتفقت فيه ألفاظ إحدى الفقرتين أو أكثرها في الوزن والتّقفية ، مثل قول الحريري : هو يبع الأسجاع بجواهر لفظه ، ويقرع الأسماع بزواجر واعظه (٢) ، ومثل قول الهمداني : إن بعد الكدر صفواً ، وبعد المطر صحواً.

ثالثها : (السجع المتوازي) : وهو ما اتفقت فيه الفقرتان في الوزن والتقفية نحو قوله تعالى (فيها سرر مرفوعة وأكوابُ موضوعة) لاختلاف سُرر ، وأكواب ، وزناً

__________________

(١) (الفاصلة) في النثر (كالقافية) في الشعر والسجع خاص بالنثر.

(١) ولو أبدلت الاسماع بالآذان كان مثالا للأكثر : وسمى السجع سجعا تشبيها له بسجع الحمام ، وفواصل الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الاعجاز ، موقوفا عليها ، لأن الغرض أن يزاوج بينها ، ولا يتم ذلك إلا بالوقف.

٣٣٧

وتقفية ، ونحو قوله تعالى (والمُرسلات عرفاً فالعاصفات عصفاً) لاختلاف المرسلات ، والعاصفات وزناً فقط ونحو : حسدَ الناطق والصامت ، وهلك الحاسد والشامت لاختلاف ما عدا الصَّامت ، والشامت : تقفية فقط.

والأسجاع مبنية على سُكون أواخرها ، وأحسن السجع ما تساوت فقرهُ ، نحو قوله تعالى (في سدر مخضود ، وطلح منضود ، وظل ممدود) ، ثم ما طالت فقرته الثانية ، نحو قوله تعالى (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى) ثم ما طالت ثالثته ، نحو قوله تعالى (النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهودٌ) ولا يحسن عكسه ، لأن السامع ينتظر إلى مقدار الأول ، فاذا انقطع دونهن أشبه العثار (١) ، ولا يحسن السجع إلا إذا كانت المفردات رشيقة ، والألفاظ خدم المعاني.

ولا يستحسن السجع أيضاً إالا إذا جاء عفواً ، خالياً من التكلف والتصنح ، ومن ثم لاتجد لبليغ كلاماً يخلو منه ، كما لا تخلو منه سورة وإن قصرت.

والسجع : موطنه النثر ، وقد يجىء في الشعر نادراً ، كقوله :

فنحن في جزل

والروم في وجل

والبر في شغلٍ

والبحر في خجل

ولا يقال في القرآن اسجاع لان في الصل هدير الخمام ونحوها؛ بل يقائل : فواصل.

٥ ـ الموازنة

الموازنة : هي تساوى الفاصلتين في الوزن دون التقفية ، نحو قوله تعالى : (ونمارق مصفوفة وزرا بي مبثوثة) فان مصفوفة ومبثوثة متفقتان في الوزن ، دون التقفية.

__________________

(١) يعني أنه لا يحسن أن يؤتى في السجع بفقرة أقصر مما قبلها كثيراً ، لأن السجع إذا استوفى امده من الأولى لطولها ، ثم جاءت الثانية أقصر منها ، يكون كالشيء المبتور.

٣٣٨

(٦) الترصيع

الترصيع : هو توازن الألفاظ ، مع توافق الأعجاز ، أو تقاربها ـ مثال التوافق : نحو قوله تعالى : (إن الأبرار لفي نعيمٍ ، وإن الفجّار لفي جحيمٍ)

ومثال التقاربُ : نحو قوله تعالى : (وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم)

(٧) التشريع

التشريعُ : هو بناء البيت على قافيين ، يصحّ المعنى عند الوقوف على كلّ منهما ـ كقول الشاعر :

يا خاطبَ الدُّنيا الدَّنية إنّها

شركُ الردى وقرارة الأقذار

دارٌ متى ما أضحكت في بومها

أبكت غداً تباً لها من دار

وإذا أظلَّ سحَابها لم ينتفع

منه صدى لجهامه الغرَّار

غاراتها لا تنقضى وأسيرُها

لا يُفتدى بجلائل الأخطار

فتكون هذه الأبيات من (بحر الكامل) ويصح أيضاً الوقوف على الرّدَى وغدا ، وصدَى ، ويفتدَى ، ونكون إذاً من (مجزوء الكامل) وتُقرأ هكذا :

يا خاطبَ الدُّنيا الدَّنية إنها

شركُ الردَى وقرارةث الأقذار

دارٌ متى ما أضحكت

في يومها أبكت غدا

وإذا أظل سحابُها

لم ينتفع منه صدَى

غاراتها لا تنقضى

وأسيرَها لا يُفتدى

وكقوله :

يأيّها الملك الذي عمّ الورى

ما في الكِرام له نظيرٌ يُنظر

لو كان مثلك آخر في عصرنا

ما كان في الدنيا فقيرٌ مُعسر

٣٣٩

إذ يمكن أن يُقال أيضاً في هذين البيتين :

يأيها الملك الذي

ما في الكرام له نظير

لو كان مثلك آخرٌ

ما كان في الدنيا فقيرُ

٩ ـ لزوم ما لا يلزم

لزومُ ما لا يَلزمُ : هو أن يجىء قبل حرف الرَّويِّ ، أو ما في معناه من الفاصلة ، بما ليس بلازم في التقفية ، ويُلتزم في بيتين أو أكثر من (النظم) أو في فاصلتين أو أكثر من (النثر) نحو قوله تعالى (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر).

وكقول الطغراني في أول لاميَّته المشهورة :

أصالةُ الرّأي صانتني عن الخطل

وحِلية الفضلِ زانتني لدى العطلِ

وكقوله :

يا مُحرقاً بالنار وجه محبه

مهلا فان مدامعي تطفيه

احرق بها جسدي وكل جوارحي

واحرص على قلبي فانّك فيه

وقد يلتزمُ أكثرُ من حرف : كقوله

كُل واشرب الناس على خبرة

فهم يمرُّونَ ولا يُعذَّبون

ولا تُصدِّقهم إذا حدّثُوا

فإنّهم من عهدهم يكذبون

٩ ـ رد العجز على الصدر(١)

(١) رد العجزُ على الصَّدر : في النثر هو أن يُجعلَ أحدُ اللّفظين المُكرّرين ، أو المُتجانسين ، أو المُلحقين بهما بأن جمعهما اشتقاق او شبهُ في أول الفقرة ، ثم تعادُ في آخرها ، كقوله تعالى (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاهُ). ونحو قول سبحانه : (اسْتقفِرُوا رَبكمْ إنهُ كانَ غَفاراً) وقولك : «سائل» اللئيم يرجع ودمعه سائل. فَسَائل الأول : من

__________________

(١) وقد سمّى : «التصدير»

٣٤٠