جواهر البلاغة

السيّد أحمد الهاشمي

جواهر البلاغة

المؤلف:

السيّد أحمد الهاشمي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مديرية العامة للحوزة العلمية في قم
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٥
ISBN: 964-6918-33-6
الصفحات: ٣٥٤

ب ـ وكناية بعيدة : وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بواسطة ، أو بوسائط ، نحو «فلان كثير الرماد» كناية عن المضياف ، والوسائط : هي الانتقال من كثرة الرّماد إلى كثرة الإحراق ، ومنها إلى كثرة الطبخ والخبز ، ومنها إلى كثرة الضيوف ، ومنها إلى المطلوب ، وهو المضياف الكريم.

القسم الثاني : الكناية التي يكون المكنى عنه موصوفاً (١) بحيث يكون إما معنى واحداً «كمواطن الأسرار» كناية عن القلب ، وكما في قول الشاعر :

فلما شربناها ودب دبيبها

إلى موطن الأسرار قلت لها قفي

وإما مجموع معان : كقولك «جاءني حيٌّ مستوى القامة ، عريض الأظفار» (كناية عن الانسان) لاختصاص مجموع هذه الأوصاف الثلاثة به ، ونحو :

الضاربين بكل أبيض مخذم

والطاعنين مجامع الأضغان (٢)

ويشترط في هذه الكناية : أن تكون الصفة أو الصفات مختصة بالموصوف ، ولا تتعداه ليحصل الانتقال منها اليه.

القسم الثالث : الكناية التي يراد بها نسبة أمر لآخر ، إثباتاً أو نفياً فيكون المكنى عنه نسبةً ، أسندت إلى ماله اتصال به ، نحو قول الشاعر :

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

فانّ جعل هذا الاشياء الثلاثة في مكانه المختص به يستلزم اثباتها له.

والكناية المطلوب بها نسبةٌ.

___________________

(١) أي يكون المكنى عنه فيها ذاتا ملازمة للمعنى المفهوم من الكلام.

(٢) الضاربين منصوب بأمدح الهذوف ، والأبيض السيف ، والهذم بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الذال المعجمتين القاطع ، والأضغان جمع ضنن وهو ما انطوى عليه الصدر من الحقد ، كنى الشاعر بجامع الأضفان عن القلوب ، وهي لا كناية صفة ، ولا كناية نسبة ، بل هي كناية موصوف.

٢٨١

أ ـ إما أن يكون ذو النسبة مذكوراً فيها ، كقول الشاعر :

أليُمن يتبع ظلّه

والمجدُ يمشي في ركابه

ب ـ وإمّا أن يكون ذو النسبة غير مذكور فيها : كقولك «خير الناس من ينفع الناس» كناية عن نفي الخيرية عمّن لا ينفعهم.

وتنقسم الكناية أيضاً باعتبار الوسائط (اللوازم) والسياق : إلى أربعة أقسام : تعريض ، وتلويح ، ورمز ، وإيماء.

(١) فالتعريض : لغة : خلاف التصريح ، واصطلاحا : هو أن يطلق الكلام ، ويشار به إلى معنى آخر ، يفهم من السياق نحو قولك للمؤذي (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) تعريضاً بنفي صفة الإسلام عن المؤذي ، وكقول الشاعر :

إذا الجودُ لم يرزق خلاصاً من الأذى

فلا الحمدُ مكسوباً ولا المال باقيا

(٢) والتلويح : لغة : أن تشير إلى غيرك من بعد واصطلاحاً : هو الذي كثرت وسائطه بلا تعريض نحو :

وما يكُ فيّ من عيبٍ فإنى

جبانُ الكلب مهزول الفصل

كنى عن كرم الممدوح بكونه جبان الكلب ، مهزول الفصيل ، فان الفكر ينتقل إلى جملة وسائط.

(٣) والرمز : لغة : أن تشير إلى قريب منك خفية ، بنحو : شفة ، أو حاجب. واصطلاحاً هو الذي قلّت وسائطه ، مع خفاء في اللزوم بلا تعريض نحو : فلان عريض القفا ، أو عريض الوسادة كناية عن بلادته وبلاهته ونحو : (هو مكتنز اللحم) كناية عن شجاعته ، (ومتناسب الأعضاء) كناية عن ذكائه ، ونحو : (غليظ الكبد) كناية عن القسوة ـ وهلم جرّا والإيماء أو الإشارة : هو الذي قلت وسائطه ، مع وضوح اللزوم ، بلا تعريض ، كقول الشاعر :

أو ما رأيت المجد ألقى رحله

في آلِ طلحة ثم لم يتحول

كناية عن كونهم : أمجاداً أجواداً ، بغاية الوضوح.

٢٨٢

ومن لطيف ذلك قول بعضهم :

سألت الندى والجود مالي أراكما

تبدلتما ذلاً بعزٍّ مؤبدِ

وما بال رُكن المجد أمسى مهدّما

فقالا ، أصبنا بابن يحيى محمد

فقلت : فهلاّ مُتُّما عند موته

فقد كنتما عبديه في كل مشهد

فقالا : أقمنا كي نُعزّى بفقده

مسافة يوم ثم نتلوه في غد

والكناية من ألطف أساليب البلاغة وأدقها ، وهي أبلغ من الحقيقة والتصريح ، لأن الانتقال فيها يكون من الملزوم إلى اللازم ، فهو كالدَّعوى ببينة ، فكأنك تقول في «زيد كثير الرماد» زيد كريم ، لأنه كثير الرماد وكثرته تستلزم كذا الخ كيف ، لا وانها تمكن الإنسان من التعبير عن أمور كثيرة ، يتحاشى الأفصاح بذكرها ، إمّا احتراماً للمخاطب ، أو للأبهام على السّامعين ، أو للنيل من خصمه ، دون أن يدعَ له سبيلا عليه ، أو لتنزيه الأذن عمّا تنبو عن سماعه ، ونحو ذلك من الأغراض واللطائف البلاغية.

تمرين

بين أنواع الكنايات الآتية ، وعيّن لازم معنى كل منها.

(١) قال البحتري يصف قتله ذئبا :

فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها

بحيث يكون اللبُّ والرعب والحقد (١)

__________________

(١) ضمير أتبعتها يعود على الطعنة ، وأضللت أخفيت ، والنصل حديدة السيف واللب العقل ، والرعب الفزع ، والخوف.

واعلم أن الكناية ، إما حسنة وهي ما جمعت بين الفائدة ولطف الاشارة كما في الأمثلة السابقة.

وإما قبيحة وهي ما خلت عن الفائدة المرادة ، وهي معيبة لدى أرباب البيان كقول المتنبي

إني على شغفي بما في خمرها

لأعف عما في سراويلاتها

كناية عن النزاهة والعفة ، الا أنها قبيحة لسوء تأليفها وقبح تركيبها.

٢٨٣

(٢) وقال آخر في رثاء من مات بعلّة في صدره :

ودبت له في موطن الحلم علة

لها كالصلال الرُّقش شرُّ ذبيب (١)

تمرين آخر

بين أنواع الكنايات الآتية ، وعيّن لازم معنى كل منها بين أنواع الكنايات الآتية ، وبين منها ما يصح فيه إرادة المعنى المفهوم من صريح اللفظ ، وما لا يصح :

(١) وصف أعرابي رجلا بسوء العشرة فقال : كان إذا رآني قرَّب من حاجب حاجباً.

(٢) وقال أبو نواس في المديح :

فما جازه جود ولا حل دونه

ولكن يسير الجود حيث يسير

(٣) فتى مختصر المأكولِ

والمشروب والعطر

نقى الكأس والقصـ

ـة والمنديل والقد

(٤) وقال آخر : اليُمن يتبع ظلهُ

والمجد يمشى في ركابه

(٥) أصبح في قيدك السماحة والمجد

وفضل الصلاح والحسب

(٦) فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا

ولكن على أقدامنا تُقطرُ الدما (٢)

المجد بين ثوبيك والكرم ملء برديك.

__________________

(١) الصلال جمع صل يالكسر ضرب من الحيات صغير أسود لا نجاة من لدغته والرقش جمع رقشاء ، وهي التي فيها نقط سوداء في بياض ، والحية الرقشاء من أشد الحيات إيذاء

(٢) الأعقاب جمع عقب وهو مؤخر القدم ، والكلوم الجراح ، يقول : نحن لا نولى فنجرح في ظهورنا فتقطر دماء كلومنا على أعقابنا ، ولكنا نستقبل السيوف بوجوهنا ، فان جرحنا قطرت الدماء على أقدامنا.

٢٨٤

بلاغة الكناية

الكناية مظهر من مظاهر البلاغة ، وغاية لا يصل إليها إلا من لطف طبعهُ ، وصفت قريحتُه ، (والسر في بلاغتها) أنها في صُور كثيرة تعطيك الحقيقة ، مصحوبة بدليلها ، والقضية وفي طيّها برهانها ، كقول البحتري في المديح :

يغضُّون فضل اللحظ من حيث مابدا

لهم عن مهيب في الصدور مُحبَّب

فإنه كنى عن إكبار الناس للممدوح ، وهيبتهم إياه ، بغض الأبصار الذي هو في الحقيقة برهان على الهيبة والإجلال ، وتظهر هذه لنا جلية في الكنايات عن الصفة والنسبة.

ومن أسباب بلاغة الكنايات أنها تضع لك المعاني في صورة المحسوسات ولا شك أن هذه خاصة الفنون ، فإن المصور إذا رسم لك صورة للأمل أو لليأس ، بهرك وجعلك ترى ما كنت تعجز عن التعبير عنه واضحاً ملموساً.

فمثل «كثير الرماد» في الكناية عن الكرم «ورسول الشر» في الكناية عن المزاح.

وقول البحتري :

أو ما رأيت المجد ألقى رحله

في آل طلحةَ ثمَّ لم يتحوَّل

وذلك في الكناية عن نسبة الشرف إلى آل طلحة. كل أولئك يبرز لك المعاني في صورة تشاهدها ، وترتاح نفسك إليها.

ومن خواص الكناية : أنها تمكنك من أن تشفى غلتك من خصمك من غير أن تجعل له اليك سبيلاً ، ودون أن تخدش وجه الأدب ، وهذا النوع يسمى بالتعريض. ومثاله قول المتنبي في قصيدة ، يمدح بها كافورا ويعرض بسيف الدولة :

٢٨٥

رحلتُ فكم باك بأجفان شادن

علىَّ وكم باكٍ بأجفانِ ضيغم (١)

وما ربّة القرط المليح مكانه

بأجزع من رب الحسامِ المصممِ (٢)

فلو كان ما بي من حبيب مقنع

عذرتُ ولكن من حبيب معمم

رمى واتقى رمي ومن دون ما اتقى

هوى كاسرُ كفي وقوسي وأسهمي

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم

فإنه كنى عن سيف الدولة ، أولاً : بالحبيب المعمم ، ثم وصفه بالغدر الذي يدعى أنه من شيمة النساء ، ثم لامهُ على مبادهته بالعدوان ، ثم رماه بالجبن ، لأنه يرمى ويتقى الرمي بالاستتار خلف غيره ، على أن المتنبي لا يجازيه على الشر بمثله ، لأنه لا يزال يحمل له بين جوانحه هوى قديماً ، يكسر كفه وقوسه ، وأسهمه ، إذا حاول النضال ، ثم وصفه بأنه سىء الظن بأصدقائه لأنه سيء الفعل ، كثير الأوهام والظنون ، حتى ليظن أن الناس جميعاً مثله في سوء الفعل ، وضعف الوفاء ، فانظر كيف نال المتنبي من سيف الدولة هذا النيل كلهن من غير أن يذكر من اسمه حرفاً.

هذا ، ومن أوضح مميزات الكناية التعبير عن القبيح بما تسيغ الآذان سماعه ، وأمثلة ذلك كثيرة جداً في القرآن الكريم ، وكلام العرب فقد كانوا لا يعبرون عما لا يحسن ذكره الا بالكتابة ، وكانوا لشدة نخوتهم يكنون عن المرأة بالبيضة والشاة.

ومن بدائع الكنايات قول بعض العرب :

ألا يا نخلة من ذات عرق

عليك ورحمة الله السلام (٣)

فانه كنى بالنخلة ، عن المرأة التي يحبها.

__________________

(١) الشادن ولد الغزال ، والضيغم الاسد ، اراد بالباكي بأجفان الشادن المرأة الحسناء ، وبالباكي بأجفان الضغم الرجل الشجاع ، يقول كم من نساء ورجال بكوا على فراقي ، وجزعوا لارتحالي.

(٢) القرط ما يعلق في شحمة الأذن والحسام السيف القاطع ، والمصمم الذي يصيب المفاصل ويقطعها ، يقول لم تكن المرأة الحسناء بأجذع على فراقي من الرجل الشجاع.

(٣) ذات عرق موضع بالبادية وهو مكان احرام أهل العراق.

٢٨٦

أثر علم البيان في تادية المعاني

ظهر لك من دراسة علم البيان : أن معنى واحداً يستطاع أداؤه بأساليب عدة ، وطرائق مختلفة ، وأنه قد يوضع في صورة رائعة من صور التشبيه أو الاستعارة ، أو المجاز المرسل ، أو المجاز العقلي ، أو الكناية ، قد يصف الشاعر انساناً بالكرم ، فيقول :

يريد المُلوكُ مدى جعفرٍ

ولا يصنعونَ كما يصنعُ

وليس بأوسعهم في الغنى

ولكنَّ معروفه أوسعُ

وهذا كلام بيلغ جداً ، مع أنه لم يقصد فيه إلى تشبيه أو مجاز ، وقد وصف الشاعر فيه ممدوحه بالكرم ، وأن الملوك يريدون أن يبلغوا منزلته ، ولكنهم لا يشترون الحمد بالمال كما يفعل مع أنه ليس بأغنى منهم ، ولا بأكثر مالا.

وقد يعمد الشاعر : عند الوصف بالكريم إلى اسلوب آخر ، فيقول :

كالبحر يقذف للقريب جواهراً

جوداً ويبعثُ للبعيد سحائبا

فيشبه الممدوح : بالبحر ، ويدفع بخيالك إلى أن يضاهى بين الممدوح والبحر الذي يقذف الدرر للقريب ، ويرسل السحائب للبعيد أو يقول :

هو البحر من أي النواحي أتيته

فلُجّتهُ المعروف والجودُ ساحله

فيدّعى ، أنه البحر نفسه ، وينكر التشبيه نكرانا يدل على المبالغة ، وادعاء المماثلة الكاملة ، أو يقول :

علا فما يستقر المالُ في يده

وكيف تمسك ماء قنةُ الجبل؟

٢٨٧

فيرسل إليك التشبيه : متن طريق خفيّ ، ليرتفع الكلام إلى مرتبة أعلى في البلاغة ، وليجعل لك من (التشيبه الضمني) دليلاً على دعواه ، فانه ادعى : أنه لعلو منزلته ينحدر المال من يديه ، وأقام على ذلك برهاناً ، فقال «وكيف تمسك ماء قنة الجبل» أو يقول :

جرى النهر حتى خلته منك أنعماً

تساق بلا ضنٍ وتعطى بلا منِّ (١)

فيقلب التشبيه زيادة في المبالغة ، وافتناناً في أساليب الإجادة ، ويشبه ماء النهر بنعم الممدوح بعد أن كان المألوف : أن تشبه النعم ، بالنهر الفيّاض أو يقول :

كأنه حين يعطى المال مبتسما

صوب الغمامة تهمي وهي تأتلق (٢)

فيعمد إلى التشبيه المركب ، ويعطيك صورة رائعة ، تمثل لك حالة الممدوح وهو يجود وابتسامة السرور تعلو شفتيه ، أو يقول :

جادت يد الفتح والأنواء باخلة

وذاب نائله والغيثُ قد جمدا

فيضاهي بين جود الممدوح والمطر ، ويدعى أن كرم ممدوحه لا ينقطع ، إذا انقطعت الأنواء ، أو جمد القطر ، أو يقول :

قد قلت للغيم الركام ولجَّ في

إبراقه والح في إرعاده(٣)

لا تعرضن لجعفر متشبِّها

بندى يديه فلست من أنداده

فيصرح لك في جلاء ، وفي غير خشية ، بتفضيل جود صاحبه على جود الغيم ، ولا يكتفي بهذا ، بل تراه ينهى الحساب في صورة تهديد أن نحاول التشبه بممدوحه ، لأنه ليس من أمثاله ونظرائه ، أو يقول :

وأقبل يمشى في البساط فما درى

إلى البحر يسعى أم إلى البدر يرتقي

__________________

(١) الضن البخل ، والمن الامتنان بتعداد الصنائع.

(٢) تهمى تسيل ، وتاتلق تلمع.

(٣) الغيم الركلام المتراكم ، ولج وألح كلاهما بمعنى استمر.

٢٨٨

يصف حال رسول الروم داخلا على سيف الدولة ، فينزع في وصف الممدوح بالكرم ، إلى الاستعارة التصريحية ، والاستعارة كما علمت مبنية على تناسى التشبيه ، والمبالغة فيها أعظم ، وأثرها في النفوس أبلغ أو يقول :

دعوت نداهُ دعوة فأجابني

وعلّمني إحسانه كيف آمله

فيشّبه ندى ممدوحه وإحسانه (بانسان) ، ثم يحذف المشبه به ، ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهذا ضرب آخر من ضروب المبالغة التي تساق الاستعارة لأجلها : أو يقول :

ومن قصد البحر استقل السواقيا

فيرسل العبارة كأنها مثلٌ ، ويصوّر لك أن من قصد ممدوحه استغنى عمن هو دونه ، كما أن قاصد البحر لا يأبه للجداول ، فيعطيك استعارة تمثيلية ، لها روعة ، وفيها جمال ، وهي فوق ذلك تحمل برهاناً على صدق دعواه ، وتؤيد الحال الذي يدعيها أو يقول :

ما زلت تتبع ما تولي يداً بيدٍ

حتى ظننت حياتي من أياديكا

فيعدل عن التشبيه والاستعارة ، إلى (المجاز المرسل) ويطلق كلمة «يد» ويريد بها النعمة ، لأن اليد آلة النعم وسببها أو يقول :

أعاد يومك أيامى لنضرتها

واقتص جودُك من فقري وإعسارى

فيسند الفعل : إلى اليوم ، وإلى الجود ، على طريقة المجاز العقلي أو يقول :

فما جازه جودٌ ولا حلَّ دونه

ولكن يسير الجود حيث يسير

فياتي بكناية عن نسبة الكرم إليه ، بادعاء أن الجود يسير معه دائماً لأنه بدل أن يحكم بأنه كريم ، ادّعى أن الكرم يسير معه أينما سار.

ولهذه الكناية من البلاغة ، والتأثير في النفس ، وحسن تصوير المعنى ، فوق ما يجده السامع في غيرها من بعض ضروب الكلام ، فأنت ترى أنه من المستطاع ، التعبير عن وصف انسان بالكرم بأربعة عشر اسلوباً كل : له جماله ، وحسنه ، وبراعته ، ولو نشاء ، لأتينا

٢٨٩

بأساليب كثيرة أخرى في هذا المعنى ، فان للشعراء ورجال الأدب افتناناً وتوليداً للأساليب والمعاني ، لا يكاد ينتهي إلى حدّ ، ولو أردنا : لأوردنا لك ما يقال من الأساليب المختلفة المناحي في صفات أخرى ، كالشجاعة ، والإباء ، والحزم وغيرها ، ولكنّا لم نقصد إلى الإطالة ، ونعتقد أنك عند قراءتك الشعر العربي ، والآثار الأدبية ، ستجد بنفسك هذا ظاهراً ، وستدهش للمدى البعيد الذي وصل إليه العقل الانساني في التصوير البلاغي ، والابداع في صوغ الأساليب عن البلاغة الواضحة بتصرف.

٢٩٠

علم البديع

البديع : لغة : المخترع الموجد على غير مثال سابق ، وهو مأخوذ ومشتقٌ من قولهم بدع الشيء ، وأبدعه ، اخترعه لا على مثال (١).

واصطلاحا : هو علم يعرف به الوجوه (٢) ، والمزايا التي تزيد الكلام حسنا وطلاوة ،

__________________

(١) البديع فعيل بمعنى مفعل ، أو بمعنى مفعول ـ ويأتي البديع بمعنى اسم الفاعل في قوله تعالى (بديع السموات والأرض) أي مبدعها.

(٢) وجوه التحسين أساليب وطرق معلومة وضعت لتزيين الكلام وتنميقه وتحسين الكلام بعلمي المعاني والبيان «ذاتي» وتحسين الكلام بعلم البديع «عرضي».

ووجوه التحسين : إما معنوية ، وإما لفظية ، وأدخل المتأخرون فيهما أنواعا كثيرة.

فالبديع المعنوي هو الذي وجبت فيه رعاية المعنى دون اللفظ ، فيبقى مع تغيير الالفاظ كقوله :

أتطلب صاحبا لاعيب فيه

وأنت لكل من تهوى ركوب

ففي هذا القول ضربان من البديع (هما الاستفهام والمقابلة) لا يتغيران بتبدل الألفاظ ، كما لو قلت مثلا : كيف تطلب صديقاً منزها عن كل نقص ، مع أنك أنت نفسك ساع وراء شهواتك!

والبديع اللفظي : هو ما رجعت وجوه تحسينه إلى اللفظ دون المعنى ، فلا يبقى الشكل إذا تغير اللفظ كقوله :

إذا ملك لم يكن ذاهبه

فدعه فدولته ذاهبه

فانك إذا أبدلت لفظة (ذاهبة) بغيرها ولو بمعناها يسقط الشكل البديعي بسقوطها ، وملخص القول أن المحسنات المعنوية هي ما كان التحسين بها راجعاً إلى المعنى أولا وبالذات ، وان حسنت اللفظ تبعاً والمحسنات اللفظية هي ما كان التحسين بها راجعاً إلى اللفظ بالاصالة ، وان حسنت المعنى تبعاً ، وقد أجمع العلماء : على أن هذه المحسنات خصوصا اللفظية منها ، لا تقع موقعها من الحسن ، ألا إذا طلبها المعنى ، فجاءت عفواً بدون تكلف ، والا فهي مبتذلة.

٢٩١

ونكوه بهاءً ورونقاً ، بعد مطبابقته لمقتضى الحال. مع وضوح دلالته على المراد لفظاً ومعنى.

وواضعه عبدالله بن المعتز العباسي المتوفى سنة ٢٧٤ هجرية. هم اقتفى اُثره في عصره قدامة بن جعفر الكاتب فزاد عليها ، ثم ألف فيه كثيرون كأبي هلال العسكري وابن رشيق القيرواني ، وصفي الدين الحلي ، وابن حجة الحموي وغيرهم ممن زادُوا في أنواعه ، ونظموا فيها قصائد تُعرف (بالبديعيّات).

وفي هذا العلم بابان : وخاتمة.

٢٩٢

في المحسنات المعنوية

(١) التورية (١)

__________________

(١) التورية أن يطلق لفظ له معنيان ، أحدهما قريب غير مراد ، والآخر بعيد هو المراد ، ويدل عليه بقرينة يغلب أن تكون خفية لا يدركها الا الفطن.

وتنقسم التورية إلى أربعة أقسام مجردة ، ومرشحة ومبينة ومهيأة.

(٢) فالمجردة ، هي التي لم تقترن بما يلائم المعنيين : كقول الخليل لما سأله الجبار عن زوجته : فقال «هذه أختي» ، أراد أخوة الدين ، وكقوله (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار).

(٣) المرشحة ، هي التي اقترنت بما يلائم المعنى القريب ، وسميت بذلك لتقويتها به ، لأن القريب غير مراد ، فكانه ضعيف ، فاذا ذكر لازمه تقوى به ، نحو (والسماء بنيناها بأيد) فانه يحتمل (الجارحة) وهو القريب ، وقد ذكر من لوازمه البنيان على وجه الترشيح : ، ويحتمل (القدرة) وهو البعيد المقصود ، وهي قسمان باعتبار ذكر اللازم قبلها أو بعدها.

(٣) والمبنية هي ما ذكر فيها لازم المعنى البعيد ـ سميت بذلك لتبيين المورى عنه ، بذكر لازمه ، إذ كان قبل ذلك خفياً ، فلما ذكر لازمه تبين : نحو :

يا من رآني بالهموم مطوقا

وظللت من فقدي غصونا في شجون

أتلومني في عظم نوحي والبكا

شأن المطوق أن ينوح على غصون

وهي أيضا قسمان باعتبار ذكر اللازم قبل أو بعد.

٢٩٣

التورية : لغة : مصدر ورّيت الخبر تورية : إذا سترته ، وأظهرت غيره. واصطلاحاً : هي أن يذكر المتكلم لفظاً مفرداً له معنيان ، أحدهما قريب غير مقصود ودلالة الفظ عليه ظارهة ، والآخر بعيد مقصود ، ودلالة اللفظ عليه خفية ، فيتوهم السامع : أنه يريد المعنى القريب ، وهو إنما يريد المعنى البعيد بقرينة تشير إليه ولا تظهره ، وتستره عن غير المتيقظ الفطن ، كقوله تعالى (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) أراد بقوله جرحتم معناه البعيد ، وهو ارتكاب الذنوب ، ولأجل هذا سميت التورية «إبهاماً وتخييلاً» وكقول سراج الدين الوراق :

أصونُ أديم وجهي عن أناسٍ

لقاء الموتِ عندهُم الأديبُ

ورب الشعر عندهم بغيض

ولو وافى به لهم «حبيب»

وكقوله :

أبيات شعرك كالقصـ

ـور ولا قصور بها يعوق

ومن العجائب لفظها

حُرٌ ومعناها «رقيق»

___________________

(٤) والمهيأة : هي التي لا تقع التورية فيها إلا بلفظ قبلها أو بعدها ، فهي قسمان أيضاً.

فالأول : وهو ما تتهيأ بلفظ قبل ، نحو قوله :

وأظهرت فينا من سماتك سنة

فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب

فالفرض والندب معناهما القريب الحكمان الشرعيان.

والبعيد ، الفرض ، معناه العطاء ، والندب ، معناه الرجل السريع في قضاء الحوائج ، ولولا ذكر السنة لما تهيأت التورية ولا فهم الحكمان.

والثاني : وهو ما تتهيأ بلفظ بعد : كقول الامام على رضي الله تعالى عنه في الاشعث بن قيس ، أنه كان يحرك الشمال باليمين ، فالشمال معناها القريب ضد اليمين ، والبعيد جمع شملة ، ولولا ذكر اليمين بعده لما فهم منه السامع معنى اليد الذي به التورية.

٢٩٤

وكقوله :

برغم شبيب فارق السيف كفَّه

وكانا على العلات يصطحبان

كأن رقاب الناس قالت لسيفه

رفيقك قيسىٌ وأنت يماني (١)

(٢) الاستخدام

الاستخدام : هو ذكر لفظ مشترك بين معنيين ، يراد به أحدهما ثم يعاد عليه ضمير ، أو إشارة ، بمعناه الآخر ، أو يعاد عليه ضميران يراد بثانيهما غير ما يراد بأولهما.

فالأول : كقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) أريد أولا بالشهر (الهلال) ثم أُعيد عليه الضمير أخيراً بمعنى أيام رمضان. وكقول معاوية بن مالك :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وان كانوا غضابا

أراد بالسماء (المطر) وبضميره في «رعيناه» (النبات) (٢) وكلاهما معنى مجازي للسماء.

____________________

(١) يريد أن كف (شبيب وسيفه متنافران ، لا يجتمعان ، لأن شيباً كان قيسياً ، والسيف يقال له (يماني) فوري به عن الرجل المنسوب إلى اليمين ، ومعلوم ما بين قيس واليمن من التنافر ، فظاهر قوله (يماني) أنه رجل منسوب إلى اليمين ، ومراده البعيد الدلالة على السيف ، لأن كلمة يماني من أسمائه.

(٢) ملخص الاستخدام : هو أن يؤتى بلفظ له معنيان ، فيراد به أحدهما ، ثم يراد بضميره المعنى الآخر ، كقول الشاعر :

وللغزالة شيء من تلفته

ونورها من ضيا خديه مكتسب

أراد الشاعر : بالغزالة الحيوان المعروف ، وبضمير (نورها) الغزالة بمعنى الشمس وكقوله :

رأى العقيق فأجرى ذاك

ناظره متيم لج في الاشواق خاطره

وكقوله :

إذا لم أبرقع بالحيا وجه عفتي

فلا أشبهته راحتي بالتكرم

ولا كنت ممن يكسر الجفن بالوغى

إذا أنا لم أغضضه عن رأى محرم

٢٩٥

والثاني : كقول البحتري

فسقى الغضا والساكنيه وان همو

شبُّوهُ بين جوانحي وضلوعي

الغضا : شجر بالبادية ، وضمير ساكنيه أولاً راجع إلى الغضان باعتبار المكان وضمير شيّوه عائد ثانيا إلى الغضا بمعنى النار الحاصلة من شجر الغضا وكلاهما مجاز للغضا.

(٣) الاستطراد

الاستطراد : هو أن يخرج المتكلم من الغرض الذي هو فيه إلى غرض آخر لمناسبة بينهما ، ثم يرجع فينتقل إلى إتمام الكلام الأول ، كقول السموأل :

وإنا لقومٌ لا نرى القتل سُبّه

إذا ما راته عامر وسلولُ

يقرب حب الموت آجلنا لنا

وتكرههُ آجالهم فتطولُ

فسياق القصيدة ، للفخر بقومه ، وانتقل منه إلى هجو قبيلتي «عامر وسلول» ثم عاد إلى مقامه الأول ، وهو الفخر بقومه وكقوله :

لنا نفوس لنيل المجد عاشقة

فان تسلت أسلناها على الأسل

لا ينزلُ المجد إلا في منازلنا

كالنوم ليس له مأوى سوى المُقل

___________________

وقال الآخر في الدعاء ، أقر الله عين الأمير وكفاه شرها ، وأجرى له عذبها ، وأكثر لديه تبرها وكقول الشاعر :

رحلتم بالغداة فبت شوقا

أسائل عنكم في كل ناد

أراعي النجم في سيرى إليكم

ويرعاه من البيدا جوادي

٢٩٦

(٤) الافتنان

الافتنان : هو الجمع بين فنين مختلفين ، كالغزل ، والحماسة ، والمدح والهجاء ، والتعزية ، والتهنئة ، كقول عبد الله بن همّام السلولي ، جامعاً بن التعزية والتهنئة كقول رجل ، جامعاً بين التعزية والتنهئة ، حين دخل على ولد سلطان وقد مات ابوه ، وخلفه في الملك :

آجرك الله على الرزية ، وبارك لك في العطية ، وأعانك على الرعية فقد رُزئت عظيماً ، واعطيت جسيما ، فاشكر الله على ما أعطيت ، واصبر على ما رُزيت ، فقد فقدت الخليفة ، وأعطيت الخلافة ، ففارقت خليلا ووهبت جليلاً.

وكقول عنترة يخاطب عبلة :

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

منِّى وبيض الهند تقطُر من دمى

فوددتُ تقبيلَ السيوف لأنها

لمعت كبارقٍ ثغرِك المُتبسِّم

(٥) الطباق (١)

الطباق : هو الجمع بين لفظين متقابلين في المعنى ، وهما قد يكونان اسمين ، نحو : قوله تعالى (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) وكقوله تعالى (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود).

___________________

(١) ويسمى بالمطابقة ، وبالتضاد ، وبالتطبيق ، وبالتكافؤ ، وبالتطابق. وهو أن يجمع المتكلم في كلامه بين لفظين ، يتنافى وجود معناهما معاً في شيء واحد ، في وقت واحد ، بحيث ، يجمع المتكلم في الكلام بين معنيين متقابلين ، سواء أكان ذلك التقابل : تقابل الضدين ، أو النقيضين ، أو الايجاب والسلب ، أو التضايف.

٢٩٧

أو فعلين نحو : قوله تعالى (وأنّه هو أضحك وأبكى وأنَّهُ هو أمات وأحيا).

وكقوله تعالى (ثم لا يموتُ فيها ولا يحيا).

أو مختلفين نحو : قوله تعالى (ومن يضلل الله فما له من هاد).

ونحو : قوله تعالى (أو من كان ميتاً فأحييناه) (١).

فيكون تقابل المعنيين وتخالفهما مما يزيد الكلام حسناً وطرافة.

____________________

(١) والطباق ضربان :

أحدهما طباق الايجاب : وهو ما لم يختلف فيه الضدان ايجابا وسلبا نحو (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) وكقوله :

حلو الشمائل وهو مر باسل

يحمى الذمار صبيحة الارهاق

وثانيهما طباق السلب : وهو ما اختلف فيه الضدان ايجابا وسلبا ، بحيث يجمع بين فعلين من مصدر واحد ، أحدهما مثبت مرة ، والآخر منفي تارة أخرى في كلام واحد نحو (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) ونحو (لا يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) (وقل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).

أو أحدهما أمر ، والآخر نهى نحو (اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) ونحو : (فلا تخشوا الناس واخشون).

وملخص الطباق الذي هو الجمع بين معنيين متقابلين في كلام واحد ، وهو نوعان.

(١) طباق سلب : وهو أن يجمع بين فعلين ، من مصدر واحد ، أحدهما مثبت ، والآخر منفي ، وأحدهما أمر ، والآخر نهي.

(٢) طباق الايجاب : وهو ما كان تقابل المعنيين فيه بالتضاد ، ويلحق بالطباق ، ما بني على المضادة ، تأويلا في المعنى ، نحو (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) فان التعذيب لا يقابل المغفرة صريحاً لكن على تاويل كونه صادراً عن المؤاخذة التي هي ضد المغفرة ، أو تخييلا في اللفظ باعتبار أصل معناه نحو (من تولاه فانه يضله ويهديه الىعذاب السعير) أي يقوده فلا يقابل الضلالة بهذا الاعتبار ولكن لفظه ياقبلها في أصل معناه ، وهذا يقال له «إيهام» التضاد.

٢٩٨

(٦) المقابلة

المقابلة : هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معانٍ متوافقة ، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب ، كقوله تعالى (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) وكقوله تعالى (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) وقال صلى الله عليه وسلم للأنصار (إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع) وقال خالد بن صفوان يصف رجلا : ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية وكقوله :

فتىً كان فيه ما يسر صديقه

ولكن فيه ما يسوء الأعاديا

وكقوله :

وباسط خير فيكم بيمينه

وقابض شر عنكم بشماله

وكقوله :

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والأفلاس بالرجل

وكقوله :

يا أُمّة كان قبح الجور يسخطها

دهراً فأصبح حسن العدل يرضيها

(٧) مراعاة النظير (١)

مراعاة النظير : هي الجمع بين أمرين ، أو أمور متناسبة ، لا على جهة التضاد ، وذلك إما بين اثنين نحو قوله تعالى (وهو السميع البصير) وأما بين أكثر ، نحو قوله تعالى (اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم).

__________________

(١) وتسمى : بالتناسب ، والتوافق ، والائتلاف.

٢٩٩

ويلحق بمراعاة النظير ، ما بني على المناسبة في «المعنى» بين طرفي الكلام يعني : ان يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى ، نحو قوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) ، فان «اللطيف» يناسب عدم إدراك الأبصار له ، و «الخبير» يناسب ادراكه سبحانه وتعالى للأبصار ، وما بني على المناسبة في «اللفظ» باعتبار معنى له غير المعنى المقصود في العبارة ، نحو قوله تعالى (الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان).

فإن المراد «بالنجم» هنا النبات ، فلا يناسب «الشمس» و «القمر» ولكن لفظه يناسبهما ، باعتبار دلالته على الكواكب ، وهذا يقال له إيهام التناسب.

(٨) الارصاد

الارصاد : هو أن يذكر قبل الفاصلة «من الفقرة ، أو القافية ، من البيت» ما يدل عليها إذا عرف الرَّويّ ، نحو : قوله تعالى (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) ، ونحو : قوله تعالى (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (١) وكقول الشاعر :

أحلّت دمى من غير جرم وحرَّمت

بلا سبب عند اللقاء كلامي

فليس الذي حللته بمحلل

وليس الذي حرمته بمحرم

__________________

(١) فالسامع : إذا وقف على قوله تعالى (قبل طلوع الشمس) بعد الاحاطة بما تقدم ، علم أنه «وقبل الغروب» وكذلك البصير بمعاني الشعر وتأليفه ، إذا سمع المصراع الأول (أحلت دمى ـ الخ) علم أن العجز (وحرمت ـ الخ) ليس إلا ما قاله الشاعر.

٣٠٠