جواهر البلاغة

السيّد أحمد الهاشمي

جواهر البلاغة

المؤلف:

السيّد أحمد الهاشمي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مديرية العامة للحوزة العلمية في قم
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٥
ISBN: 964-6918-33-6
الصفحات: ٣٥٤

فقد شبه مطلق ترتب علة واقعية على فعل ، (١) بمطلق ترتب علة غائية على فعل(٢) ، بجامع مطلق الترتب في كل(٣) ، فسرى التشببيه من الكليين إلى الجزئيات ، ثم استعمل في جزئي المشبه(٤) (اللام) الموضوعة لجزئي المشبه به(٥) على سبيل الاستعارة التبعية ، ونحو : قوله تعالى (ولأصلبنكم في جذوع النخل (٦)) ، ونحو : قوله تعالى (أولئك على هدى من ربهم)(٧) ، ونحو : زيد في نعمة (٨).

ومن هذه الأمثلة السابقة : تتبين أنه لا يشترط أن يكون للمشبه حرف موضوع له يدل عليه.

___________________

الربط بين معنيين مستقلين بالفهم : هما السير والبصرة في قولك : سرت من البصرة ، ولذا كان جزئيا بالنسبة للابتداء الأول ، وما قيل في الابتداء يقال نظيره في الظرفية والعلة الغائية والاستعلاء ، وغيرها من المعاني التي تستفاد من الحروف نحو : في ، واللام ، وعلى فأي معنى يستفاد من الحرف في جملة ما ، يعتبر جزئيا من كليه ، غير مقصود لذاته ، بل للربط بين معنيين مستقلين ، وتعتبر الحروف حينئذ روابط بين المعاني المقصودة.

(١) العداوة والحزن علة واقعية للالتقاط.

(٢) العلة الغائية لفعل هي التي تحمل على تحصيله لتحصل بعد حصوله كتبني فرعون لموسى ، ومحبة موسى إياه ، لأن فرعون وآله إنما كفوله بعد التقاطه لذلك.

(٣) إلا أن الترتب في الغائبة (رجائي أو تقديري) وفي العداوة والحزن (واقعي).

(٤) جزئي المشبه هنا هو ترتب العداوة والحزن الخاصين المتعلقين (بموسى).

(٥) جزئي المشبه به هنا هو ترتب علة الالتقاط الخاصة : وهي تبنى موسى والمحبة ، لأنهما متقدمان على كفالته بعد الالتقاط ، ومرتبان عليه في الخارج ..

(٦) شبه مطلق ارتباط بين مستعل ومستعلى عليه ، بمطلق ارتباط بين ظرف ومظروف ، بجامع التمكن ، أو مطلق الارتباط في كل ، فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات ، فاستعير لفظ «في» من جزئيات المشبه به ، لجزئي من جزئيات المشبه استعارة تبعية.

(٧) شبه مطلق ارتباط بين مهدي وهدى ، بمطلق ارتباط بين مستعل ومستعلى عليه ، بجامع مطلق الارتباط في كل ، فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات ، فاستعير لفظ «على» من جزئيات المشبه به ، لجزئي المشبه ، استعارة تبعية.

(٨) شبه مطلق ملابسة الانسان للنعمة ، بمطلق ملابسة بين ظرف ومظروف بجامع مطلق الملابسة في كل ، فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات ، فاستعير لفظ «في» من جزئيات المشبه به ، لجزئي من جزئيات المشبه ، استعارة تبعية.

٢٦١

واختار السّكاكيّ تقليلا لأقسام الاستعارة : أن يستغنى عن التبعية في الفعل ، والمشتق ، والحرف ، بأن يجعل قرينة التبعية ، استعارة مكنية ، وأن يجعل التبعية ، قرينة للمكنية ، ففي قوله تعالى : (إنّا لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية) يجعل القوم الطغيان مستعاراً للكثرة المفسدة. ويقول (السكاكي) في لفظ (الماء) استعارة مكنية ونسبة الطغيان إليه قرينة.

المبحث الثامن

في تقسيم الاستعارة المصرّحة باعتبار الطرفين

إلى عنادية ووفاقية

فالعنادية : هي التي لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد ، لتنافيهما كاجتماع النور والظلام.

والوفاقية : هي التي يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد ، لعدم التنافي ـ كاجتماع النور والهدى.

ومثالهما قوله تعالى (أو من كان ميتاً فأحييناه) أي ضالاً فهديناه ففي هذه الآية استعارتان.

الأولى : في قوله «ميتاً» شبه الضلال ، بالموت ، بجامع ترتب نفى الانتفاع في كل ، واستعير الموت للضلال ، واشتق من الموت بمعنى الضلال ، ميتاً بمعنى ضالاً ، وهي عنادية ، لأنه لا يمكن اجتماع الموت والضلال في شيء واحد.

والثانية : استعارة الإحياء ، للهداية ، وهي (وفاقية) لامكان اجتماع الإحياء والهداية في الله تعالى ، فهو محيٍ وهادٍ.

ثم العنادية : قد تكون تمليحية ، أي المقصود منها التمليح والظرافة وقد تكون تهكمية أي المقصود منها التهكم والاستهزاء ، بأن يستعمل اللفظ الموضوع لمعنى شريف ، على ضدِّه أو نقيضه ، نحو رأيت أسداً تريد جباناً ، قاصداً التّمليح والظّرافة ، أو التهكّم والسّخرية : وهما اللتان نُزّل فيهما التضاد ، منزلة التَّناسب ، نحو : (فبشِّرهم بعذاب أليم) أي أنذرهم فاستعيرت البشارة التي هي الخبر السّار ، للإنذار الذي هو ضده بادخال الإنذار في جنس البشارة ، على سبيل التهكم والاستهزاء. وكقوله تعالى : (فاهدوهم إلى صراط الجحيم).

٢٦٢

المبحث التاسع

في تقسيم الاستعارة باعتبار الجامع

الاستعارة المصرحة باعتبار (الجامع) نوعان (١) :

___________________

(١) الجامع في الاستعارة : بمثابة (وجه الشبه) في التشبيه ، وهو ما قصد اشتراك الطرفين فيه ، وسمى جامعاً لأنه جمع المشبه في أفراد المشبه به تحت مفهومه وأدخله في جنسه ادعاء ، ولابد أن يكون في المستعار منه أقوى ، لأن الاستعارة مبنية على المبالغة في التشبيه ، والمبالغة فيه توجب ابلاغ المشبه لما هو أكمل.

وينقسم الجامع إلى داخل وخارج ، فالأول : ما كان داخلا في مفهوم الطرفين ، نحو قوله تعالى (قطعناهم في الأرض أمماً) فاستعير التقطيع الموضوع لازالة الاتصال بين الأجسام الملتصق بعضها ببعض ، لتفريق الجماعة ، وإبعاد بعضها على بعض ، والجامع إزالة الاجتماع ، وهي داخلة في مفهومها ، وهي في القطع أشد.

والثاني : وهو ما كان خارجا عن مفهوم الطرفين ، نحو : رأيت أسداً. أي رجلا شجاعاً ، فالجامع وهي الشجاعة أمر عارض للأسد ، لا داخل في مفهومه.

وينقسم الجامع أيضا باعتباره وباعتبار الطرفين ، إلى ستة أقسام ـ لأن الطرفين إما حسيان وإما عقليان (أو المستعار منه حسي والمستعار له عقلي أو بالعكس) والجامع في الأول من الصور الأربع تارة يكون حسيا وتارة يكون عقليا وأخرى مختلفا ، وفي الثلاث الأخيرة لا يكون إلا عقليا.

مثال ما إذا كان الطرفان حسيين والجامع كذلك قوله تعالى (فأخرج لهم عجلا جسداً له خوار) فان المستعار منه ولد البقرة ، والمستعار له الحيوان المصوغ من (حلى القبط) بعد سبكها بنار السامري ، وإلقاء التراب المأخوذ من أثر فرس جبريل (عليه السلام) ، والجامع لهما الشكل والخوار ، فانه كان على شكل ولد البقر ، مما يدرك بحاسة البصر «ويحث بعضهم بأن ابدال جسداً من عجلا يمنع الاستعارة». ومثال ما إذا كان الطرفان حسيين ، والجامع عقلي ، قوله تعالى : (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فاذا هم مظلمون) أي نكشف ونزيل الضوء من مكان الليل ، وموضع ظلمته ، فان المستعار منه أعنى السلخ وهو كشط الجلد وإزالته عن الشاة ونحوها والمستعار له : إزالة الضوء عن مكان الليل وموضع ظلمته : وهما حسيان.

والجامع لهما ما يعقل من ترتب أمر على آخر بحصوله عقبه ، كترتب ظهور اللحم على السلخ والكشط ، وترتب حصول الظلمة على ازالة ضوء النهار عن مكان ظلمة الليل ، والترتب عقلي ، واجراء الاستعارة ، شبه كشف

٢٦٣

١ ـ عامية : وهي القريبة المبتذلة التي لاكتها الألسن ، فلا تحتاج إلى بحث : ويكون الجامع فيها ظاهراً ، نحو : رأيت أسداً يرمى.

__________________

الضوء عن الليل ، بكشط الجلد عن نحو الشاة ، بجامع ترتب ظهور شيء على شيء في كل ، واستعير لفظ المشبه به وهو «السلخ» للمشبه ، وهو كشف الضوء ، واشتق منه «نسلخ» بمعنى نكشف ، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ، ومثال ما إذا كان الطرفان حسيين ، والجامع بعضه حسي ، وبعضه عقلي ، قولك رأيت بدراً يضحك ـ تريد شخصاً مثل «البدر» في حسن الطلعة وعلو القدر ، فحسن الطلعة حسي ، وعلو القدر عقلي ، ومثال ما إذا كان الطرفان عقليين ولا يكون الجامع فيهما إلا عقلياً ، كباقي الأقسام ، قوله تعالى (من بعثنا من مرقدنا) فان المستعار منه «الرقاد» أي النوم ، والمستعار له الموت والجامع بينهما عدم ظهور الأفعال الاختيارية ، (والجميع عقلي) ، واجراء الاستعارة : شبه الموت بالنوم ، بجامع عدم ظهور الفعل في كل ، واستعير لفظ المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية ، وقال بعضهم عدم ظهور الفعل في الموت أقوى ، وشرط الجامع أن يكون في المستعار منه أقوى ، فليجعل الجامع هو «البعث» الذي هو في النوم أظهر ، وقرينة الاستعارة أن هذا الكلام كلام الموتى ، مع قوله (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) وعلى هذا يقال : شبه الموت بالرقاد ، بجامع عدم ظهور الفعل في كل ، واستعير الرقاد للموت واشتق منه «مرقد» اسم مكان الرقاد بمعنى قبر اسم مكان الموت ، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ومثال ما إذا كان المستعار منه حسيا ، والمستعار له عقليا ، قوله تعالى (فاصدع بما تؤمر) فان المستعار منه كسر الزجاجة ، وهو أمر حسي ، باعتبار متعلقة ، والمستعار له التبليغ جهراً والجامع التأثير الذي لا يمكن معه رد كل منهما إلى ما كان عليه «أي أظهر الأمر إظهاراً لا ينمحى ، كما أن صدع الزجاجة لا يلتئم واجراء الاستعارة : شبه التبليغ جهراً بكسر الزجاجة ، بجامع التأثير الشديد في كل واستعير المشبه به وهو «الصدع» للمشبه وهو التبليغ جهراً واشتق منه إصدع بمعنى بلغ جهراً ، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ـ ومثال ما إذا كان المستعار منه عقليا ، والمستعار له حسيا ، قوله تعالى (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية) فان المستعار له كثرة الماء كثرة مفسدة وهي حسية ، والمستعار منه التكبر ، والجامع الاستعلاء المفرط ، وهما عقليان ، واجراء الأستعارة ، شبهت كثرة الماء المفرطة ، بمعنى الطغيان ، وهو مجاوزة الحد ، بجامع الاستعلاء المفرط في كل واستعير لفظ المشبه به ، وهو الطغيان للمشبه وهو الكثرة المفرطة ، واشتق منه طغى بمعنى كثر كثرة مفرطة ، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.

٢٦٤

وكقوله :

وأدهم يسمتدّ الليل منه

وتطلع بين عينيه الثُّريَّا

فقد استعار الثريا ، لُغرّة المهر ، والجامع بين الطرفين ظاهر ، وهو البياض وقد يتصرف في العامية بما يخرجها إلى الغرابة.

(٢) وخاصية : وهي الغريبة التي يكون الجامع فيها غامضاً ، لا يُدركه إلا أصحاب المدارك (من الخواص) ، كقول كثير يمدح عبد العزيز بن مروان :

غمرُ الرِّداء إذا تبسم ضاحكاً

غلقت لضحكته رقابُ المال

غمر الرداء «كثير العطايا والمعروف» استعار الرداء للمعروف لأنه يصون ويستر عرض صاحبه ، كستر الرِّداء ما يلقى عليه ، واضاف إليه الغمر ، وهو القرينة على عدم إرادة معنى

الثوب : لأنّ الغمر من صفات المال ، لا من صفات الثوب.

وهذه الاستعارة : لا يظفر باقتطاف ثمارها إلاّ ذووا الفطر السليمة والخبرة التامة.

المبحث العاشر

في تقسيم الاستعارة باعتبار ما يتصل بها

من الملائمات ، وعدم اتصالها

تنقسم الاستعارة : باعتبار ذكر ملائم المستعار منه أو باعتبار ذكر ملائم المستعار له أو باعتبار عدم اقترانها بملا يلائم أحدهما.

إلى ثلاثة أقسام : مطلقة ، ومرشحة ، ومجردة.

أ ـ فالمطلقة : هي التي لم تقترن بما يلائم المشبه والمشبه به : نحو (ينقضون عهد الله) أو ذكر فيها ملائمها معاً ، كقول زهير :

لدى أسدٍ شاكي السلاح مقذّف

له لبدٌ أظفاره لم تُقلَّم

٢٦٥

استعار الأسد : للرجل الشجاع ، وقد ذكر ما يناسب المستعار له ، في قوله «شاكى السلاح مقذف» وهو التجريد ، ثم ذكر ما يناسب المستعار منه ، في قوله «له لبد أظفاره لم تقلم» وهو الترشيح ، واجتماع التجريد والترشيح يؤدى إلى تعارضهما وسقوطهما ، فكأن الاستعارة لم تقترن بشيء وتكون في رتبة (المطلقة).

ب ـ والمرشحة : هي التي قرنت بملائم المستعار منه «أي المشبه به» نحو : (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم) استعير الشراء للاستبدال والاختيار ، ثم فرع عليها ما يلائم المستعار منه (من الربح والتجارة) ، ونحو : من باع دينه بدنياه لم تربح تجارته «وسميت مرشحة : لترشيحها وتقويتها بذكر الملائم» وترشيح الاستعارة التصريحية متفق عليه

ج ـ والمجردة : هي التي قرنت بملائم المستعار له «أي المشبه» نحو : اشتر بالمعروف عرضك من الأذى.

وسميت بذلك : لتجريدها عن بعض المبالغة ، لبعد المشبه حينئذ عن المشبه به بعض؛ بعد وذلك يبعد دعوى الاتحاد الذي هو مبني الاستعارة.

ثم اعتبار الترشيح والتجريد : إنما يكون بعد تمام الاستعارة بقرينتها سواء أكانت القرينة مقالية أم حالية ـ فلا تعد قرينة المصرحة تجريداً ولا قرينةُ المكنيّة ترشيحا ، بل الزائد على ما ذكر.

واعلم : أن الترشيح أبلغ من غيره ، لاشتماله على تحقيق المبالغة بتناسى التشبيه ، وادّعاء أن المستعار له هو نفس المستعار منه «لا شيء شبيهٌ به» وكأن الاستعارة غير موجودة أصلا ، والإطلاق أبلغ من التجريد فالتجريد أضعف الجميع ، لأنّ به تضعف دعوى الاتحاد.

٢٦٦

وإذا اجتمع ترشيح وتجريد : فتكون الاستعارة في رتبة المطلقة إذ بتعارضها يتساقطان ، كما سبق تفصيله.

وكما يجري هذا التقسيم في (التّصريحية) يجرى أيضاً في (المكنية) (١).

المبحث الحادي عشر

في المجاز المرسل المركب

المجاز المرسل المركب : هو الكلام المستعمل في غير المعنى الذي وضع له ، لعلاقة غير المشابهة : مع قرينة مانعة من إرادة معناه الوضعي.

ويقع أولا : في المركبات الخبرية المستعملة في الإنشاء وعكسه ، لأغراض :

__________________

(١) والاستعارة المكنية المرشحة هي ما قرنت بما يلائم المشبه فقط ، نحو نطق لسان الحال بكذا شبهت «الحال» بمعنى الانسان واستعير لفظ المشبه به ، للمشبه وحذف ورمز إليه بشىء من لوازمه وهو «لسان» واثبات اللسان للحال تخييل ، وهو القرينة ، والنطق ترشيح ، لأنه يلائم المشبه به فقط.

وترشيح المكنية فيه خلاف مبسوط في المطولات ، والمكنية المجردة هي ما قرنت بما يلائم المشبه فقط ، نحو : نطقت الحال الواضحة بكذا فالوضوح تجريد ، لأنه يلائم المشبه الذي هو انسان فقط.

والمكنية المطلقة هي التي لم تقترن بشيء يلائم المشبه ولا المشبه به أو قرنت بما يلائمهما معاً نحو نطقت الحال بكذا ونطق لسان الحال الواضحة بكذا ففي الأول شبهت الحال بانسان واستعير لها اسمه وحذف ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو النطق ، واثبات النطق للحال تخييل ، وهي مجردة لانها لم تقترن بشيء يلائمها.

وفي الثاني : شبهت الحال بانسان واستعير له اسمه «وحذف ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «لسان» واثباته للحال تخييل ، وهو القرينة ، والنطق ترشيح ، لأنه يلائم المشبه به ، والوضوح تجريد ، لأنه يلائم المشبه ولما تعارضا سقطا.

وتنقسم المكنية أيضا إلى عادية نحو أنشبت المنية أظفارها بفلان لأنه لا يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد يكون منية وسبعا ، ووفافية نحو نطقت الحال بكذا ـ لأنه يمكن اجتماع طرفيها في شيء واحد. كالحال مع الانسان.

٢٦٧

(١) منها : التّحسر وإظهار التأسف ، كما في قول الشاعر :

ذهب الصِّبا وتولّت الايامُ

فعلى الصِّبا وعلى الزمان سلام

فانه وإن كان خبراً في أصل وضعهن إلا أنه في هذا المقام مستعمل في إنشاء التَّحسر والتَّحزَّن على ما فات من الشباب.

وكما في قول جعفر ابن عُلبة الحارثي :

هواي مع الرَّكب اليمانين مصعدٌ

جنيبُ وجثماني بمكة مُوثقُ

فهو يشير إلى الأسف والحزن الذي ألم به من فراق الأحبة ، ويتحسُّر على ما آل إليه أمرهُ ، والقرينة على ذلك حال المتكلم ، كما يفهم من الشطر الثاني في قوله (هواي ـ الخ).

(٢) ومنها : إظهار الضعف ، كما في قوله :

رب إني لا أستطيع اصطباراً

فاعف عني يا من يقبلُ العثارا

(٣) ومنها : إظهارُ السرور ، نحو : كُتِبَ اسمي بين الناجحين.

(٤) ومنها : الدعاء ، نحو : نجَّح الله مقاصدنا ، أيها الوطن لك البقاء.

وثانيا ً : في المركبات الانشائية : كالأمر ، والنهي ، والاستفهام التي خرجت عن معانيها الأصلية ، واستعملت في معان أخر : كما في قول المصطفى عليه الصلاة والسلام : «من كذب علي متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار» إذ المرادُ «يتبوّأ مقعده» والعلاقة في هذا (السببية والمسببية) لأن إنشاء المتكلم للعبارة سبب لاخباره بما تتضمنه ، فظاهره أمرُ ، ومعناه خبر.

٢٦٨

المبحث الثاني عشر

في المجاز المركب (١) بالاستعارة التمثيلية

المجاز المركب بالاستعارة التمثيلية : هو تركيب استعمل في غير ما وضع له ، لعلاقة المشابهة ، مع قرينة مانعة من إرادة معناه الوضعي ، بحيث يكون كل من المشبه والمشبه به هيأة منتزعة من متعدد وذلك بأن تشبه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين ، أو أمور (بأخرى) ثم تدخل المشبه في الصورة المشبه بها مبالغة في التشبيه ويسمى بالاستعارة التمثيلية (٢) وهي كثيرة الورود في الأمثال السائرة ، نحو : الصيف ضيعت اللبن يضرب لمن فرط في تحصيل أمر في زمن يمكنه الحصول عليه فيه ، (٣)

__________________

(١) المجاز المركب : هو تركيب استعمل في ما يشبه بمعناه الأصلي (تشبيه التمثيل).

(٢) سميت تمثيلية مع أن التمثيل عام في كل استعارة ، للاشارة إلى عظم شأنها كأن غيرها ليس فيه تمثيل أصلا إذ الاستعارة التمثيلية مبينة على تشبيه التمثيل ، ووجه الشبه فيه هيئة منزعة من متعدد ـ لهذا كان أدق أنواع التشبيه ، وكانت الاستعارة المبنية عليه أبلغ أنواع الاستعارات ـ ولذلك كان كل من تشبيه التمثيل ، والاستعارة التمثيلية غرض البلغاء.

(٣) أصل المثل : أن امرأة كانت متزوجة بشيخ غني فطلبت طلاقها منه في زمن الصيف لضعفه ـ فطلقها وتزوجت بشاب فقير ، ثم طلبت من مطلقها لبنا وقت الشتاء فقال لها ذلك المثل واجراء الاستعارة في المثل الأول ، أن يقال : شبهت هيئة من فرط في أمر زمن امكان تحصيله ، بهيئة المرأة التي طلقت من الشيخ اللابن ، ثم رجعت إليه ، تطلب منه اللبن شتاء ، بجامع التفريط في كل ، واستعير الكلام الموضوع للمشبه به للمشبه ، على طريق الاستعارة التمثيلية.

واجراء الاستعارة في المثل الثاني ، أن يقال : شبهت هيئة من يتردد في أمر بين أن يفعله وألا يفعله بهيئة من يتردد في الدخول ، فتارة يقدم رجله ، وتارة يؤخرها بجامع الحيرة في كل ، واستعير الكلام الموضوع للمشبه به للمشبه ، على طريق الاستعارة التمثيلية.

٢٦٩

ونحو إني أراك تقدّم رجّلاُ وتؤخر أخرى يضرب لمن يتردد في أمر ، فتارة يقدم ، وتارة يحجم ، ونحو : (أحشفاً وسوء كيلة) يضرب لمن يظلم من وجهين وأصله أنّ رجلا اشترى تمراً من آخر) فاذا هو ردىءٌ ، وناقص الكيل ، فقال المشتري ذلك ـ ومثل ما تقدم جميع الأمثال السائرة نثراً ونظماً.

فمن النثر قولهم : لمن يحتال على حصول أمر خفي ، وهو متستر تحت أمرٍ ظاهرٍ «لأمر ما جدع قصير أنفه» وقولهم : «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها وقولهم : لمن يريد أن يعمل عملا وحده وهو عاجز عنه «اليد لا تصفق وحدها» وقولهم : لمجاهد عاد إلى وطنه بعد سفر «عاد السيف إلى قرابه ، وحلّ الليث منيع غابه» وقولهم لمن يأتي بالقول الفصل :

__________________

واجراء الاستعارة في المثل الثالث ، شبهت هيئة من يظلم من وجهين ، بهيئة رجل باع آخر تمراً رديئاً وناقص الكيل بجامع الظلم من وجهين في كل واستعير الكلام الموضوع للمشبه به للمشبه ، على طريق الاستعارة التمثيلية.

واجراء الاستعارة في المثل الرابع : شبهت هيئة الرجل المتستر تحت أمر ليحصل على أمر خفي يريده ـ بهيئة الرجل المسمى (قصيراً) حين جدع أنفه ليأخذ بثأر (جذيمة) من (الزباء) بجامع الاحتيال في كل واستعير الكلام الموضوع للمشبه به للمشبه ، على طريق الاستعارة التمثيلية.

واجراء الاستعارة في المثل الخامس ، أن يقال شبهت هيئة رجل كريم الأصل عزيز النفس ، الذي لا يفضل الدنايا على الرزايا عند ما تزل به القدم ، بهيئة المرأة التي تفضل جوعها على إجارتها للارضاع عند فقرها بجامع ترجيح الضرر على النفع في كل ، واستعير الكلام الموضوع للمشبه به للمشبه ، على طريق الاستعارة التمثيلية.

واجراء الاستعارة في المثل السادس ، شبهت هيئة من يريد أن يعمل عملا وحده وهو عاجز عنه ، بهيئة من يريد أن يصفق بيد واحدة ، بجامع العجز في كل ، واستعير الكلام الموضوع للمشبه به ، للمشبه ، على سبيل الاستعارة التمثيلية.

واجراء الاستعارة في المثل السابع ، شبهت هيئة الرجل الذي يحصل بوجوده فصل المشكلات ، بهيئة نبي الله موسى عليه السلام ، مع سحرة فرعون ، بجامع حسم النزاع في كل ، واستعير الكلام الموضوع للمشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التمثيلية ، واجراء الاستعارة في المثل الثامن ، شبهت هيئة الرجل الذي لا يقول إلا الحق ولا يخبر إلا بالصدق ، بهيئة المرأة المسماة «جذام» بجامع الصدق في كل ، واستعير الكلام الموضوع للمشبه به للمشبه ، على طريق الاستعارة التمثيلية.

٢٧٠

قطعت جهيزةُ قول كلِّ خطيب (١).

ومن الشعر قول الشاعر :

إذا جاء موسى وألقى العصا

فقد بطل السحر والساحر

وقول آخر :

إذا قالت حذام فصدِّقوها

فان القول ما قالت حذام

وقول آخر :

متى يبلغ البنيان يوما تمامهُ

إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم (٢)

وإذا فشت وشاعت الاستعارة التمثيلية (٣) وكثُر استعمالها تكون مثلاً (٤) لا يغير مطلقا ، بحيث يخاطب به

___________________

(١) أصل هذا المثل : أن قوماً اجتمعوا للتشاور في الصلح بين حيين من العرب قتل رجل من أحدهما رجلا من الآخر ، وبينما خطباؤهم يتكلمون ، إذا بجارية تدعى (جهيزة) أقبلت فأخبرتهم أن أولياء المقتول ظفروا بالقاتل ، فقتلوه : فقال أحدهم (قطعت جهيزة قول كل خطيب) فذهب قوله مثلا.

(٢) واجراء الاستعارة في المثل التاسع : شبهت حال المصلح يبدأ الاصلاح ثم يأتي غيره فيبطل عمله ، بحال البنيان ينهض به حتى إذا أوشك أن يتم جاء من يهدمه ، والجامع هو الحالة الحاصلة من عدم الوصول إلى الغاية ، لوجود ما يفسد على المصلح اصلاحه ، ثم حذف المشبه ، واستعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه.

(٣) وتنقسم التمثيلية إلى قسمين تحقيقة وتخييلية فالتحقيقية هي المنتزعة من عدة امور متحققة موجودة خارجا كما في الأمثلة السابقة والتخييلية هي المنتزعة من عدة أمور متخيلة مفروضة لا تحقق لها في الخارج ولا في الذهن ، وتسمى الأولى «تمثيلية تحقيقية» والثانية «تمثيلية تخييلية» كقوله تعالى (إنا عرضنا الامانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها) الآية على احتمال فيها فانه لم يحصل عرض وإباء واشفاق منها حقيقة ، بل هذا تصوير وتمثيل ، بأن يفرض تشبيه حال التكاليف في ثقل حملها وصعوبة الوفاء بها ، بحال أنها عرضت على هذه الأشياء ، مع كبر أجرامها ، وقوة متانتها ، فامتنعن وخفن من حملها ، بجامع عدم تحقق الحمل في كل ، ثم استعير التركيب الدال على المشبه به ، للمشبه استعارة تمثيلية ، ونحو قوله تعالى (فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) فان معنى أمر المساء والأرض بالاتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما فكانتا كما اراد ، فالغرض تصوير تأثير قدرته فيهما وتأثرهما عنها ـ وتمثيل ذلك بحالة الآمر المطاع لهما واجابتهما له بالطاعة فرضاً وتخييلا من غير أن يتحقق شيء من الخطاب والجواب ، هذا أحد وجهين في الآيتين كما في (الكشاف) فارجع اليه.

(٤) الأمثال (١) ، هي عبارات موجزة مأثورة ، يشبه الناس بها جديد أحوالهم بقديها ، وهي نوعان : حقيقة وفرضية.

٢٧١

المفرد ، والمذكر ، وفروعهما ، بلفظ واحد من غير تغيير ولا تبديل عن مورده الأول ، وإن لم يطابق المضروب له.

ولذا : كانت هذه الاستعارة محظ أنظار البلغاء ، لا يعدلون بها إلى غيرها إلا عند عدم إمكانها ، فهي أبلغ أنواع المجاز مفرداً أو مركباً ، إذ مبناها تشبيه التمثيل : الذي قد عرفت أن وجه الشبه فيه هيئةٌ منتزعة من أشياء متعددة.

___________________

فالحقيقة : هي ما حدث موردها في الوجود ، والفرضية ، ما لم يحدث موردها في الوجود وانما اخترعت على لسان حيوان أو غيره.

ولكل مثل (مورد) وهو الحالة القديمة التي قيل فيها لأول مرة ولكل مثل (مضرب) وهو الحالة الجديدة التي استعير لها وكما تكون الأمثال نثراً تكون شعراً ـ وتضرب كما وردت دون تغيير في لفظها.

(١) الأمثال الحققية أسباب ونتائج ، تفيد المجتمع الإنساني.

منها ، كونها مرآة صقلية للمواعظ والعبر. ومنها ، كونها مقياساً لرق الأمة ولسان أخلاقها ، ومنها كونها مجموعية تفية من السلف إلى الخلف. أما الأمثال الفرضية فهي عظة للعاقل ومسلاة للجاهل. العقد الففريد. لابن عبد ربه ، كتاب كليلة ودمنه لابن المقفع ، وغيرهم. ولا سيمى القول مثلاً إلا إذا سارو ذاع بين الناس جميعاً ، ومما تقدم شره في تشبيه التمثيل ، والاستعارة التمثيلية ، يعلم الرق بين كل منها في الجدول اللآتة للموازنة بينهما.

تشبيه التمثيل

الاستعارة التمثيلية

١ ـ تشبيه التمثيل يذكر فيه المشبه ، والأداة

٢ ـ تشبيه التمثيل يجوز أن يكون بين مفردين مثل : المنافق كالحرباء

٣ ـ تشبيه التمثيل لا يصلح استعارة دون حذف

٤ ـ تشبيه التمثيل لا يحتاج إلى قرينة معه تدل على حقيقته

٥ ـ تشبيه التمثيل نوع من

الحقيقة.

١ ـ الاستعارة التمثيلية لا تكون الا في التراكيب

٢ ـ الاستعارة التمثيلية نوع من المجاز فهي لذلك أبلغ منه

٣ ـ الاستعارة التمثيلية تحتاج إلى قرينة تمنع من ارادة المعنيى الأصلي

٤ ـ الاستعارة التمثيلية يحذف منها المشبه والأداة ، ولا يبقى فيها من أركان التشبيه الا ما كان مشبها به فقط

٥ ـ الاستعارة التمثيلية تصلح مشبها به دون حذف ، والتشبيه معها أكثر ما يكون غير تمثيل

٢٧٢

ومن ثم كانت هي والتشبيه المبنية عليه غرض البلغاء الذين يتسامون إليه ، ويتفاوتون في إصابته ، حتى كُثرا في القرآن الكريم كثرة كانت إحدى الحجج على إعجازه.

والاستعارة ميدان فسيح من ميادين البلاغة ، وهي أبلغ من التشبيه لأنها تضع أمام المخاطب بدلاً من المشبه صورة جديدة تملك عليه مشاعره وتذهله عمّا ينطوي تحتها من التشبيه ، وعلى مقدار ما في تلك الصورة من الروعة ، وسمو الخيال ، تكون البلاغة في الاستعارة.

وأبلغ أنواع الاستعارة «المُرشّحة» لذكر ما يناسب المستعار منه فيها «بناء على الدعوى بأن المستعار له هو عين المُستعار منه.

ثم تليها «المطلقة» لترك ما يُناسب الطرفين فيها ، بناء على دعوى التساوى بينهما ثم تليها «المجردة» لذكر ما يناسب المستعار له فيها ، بناء على تشبيهه بالمستعار منه.

ولابد في الاستعارة ، وفي التمثيل على سبيل الاستعارة ، من مراعاة جهات حسن التشبيه ، كشمول وجه الشبه للطرفين ، ومن كون التشبيه وافياً بافادة الغرض ، ومن عدم شم رائحة التشبيه لفظاً ، ويجب أن يكون وجه الشبه بين الطرفين جليا ، لئلا تصير الاستعارة والتمثيل تعمية.

٢٧٣

تمرين آخر على كيفية إجراء الاستعارات

(١) فسمونا والفجر يضحك في

الشر ق الينا مبشراً بالصباح (١)

(٢) عضَّنا الدهر بنابه

ليت ما حَلَّ بنابه (٢)

(٣) سقاه الردى سيفٌ إذا سلَّ أو مضت

إليه ثنايا الموتِ من كلّ مرقد (٣)

(٤) (سنفرغ لكم أيها الثقلان) (٤)

(٥) (إنا لنراك في ضلال مبين) (٥)

__________________

(١) شبه تمكنه عليه الصلاة والسلام من الهدى والأخلاق الشريفة والثبوت عليها (يتمكن من علا دابة يصرفا كيف شاء) بجامع التمكن والاستقرار في كل فسرى التشبيه من الكليين للجزئيات التي هي معاني الحروف ، فاستعير لفظ «على» الموضوع للاستعلاء الحسي للارتباط والاستعلاء المعنوي على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

(٢) شبه لحاق الموت به (بالسقى) بجامع الوصول في كل ـ واستعار اللفظ الدال على المشبه به للمشبه ، ثم اشتق من السقى سقى على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية والقرينة إلى ذلك نسبة السقي إلى الردى وأيضاً قد شبه الموت بانسان له ثنايا يضحك منها فتلمع وتضىء ـ والجامع البريق واللمعان ، واستعار اللفظ الدال على المشبه به للمشبه ثم حذفه ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو التنايا ، على سبيل الاستعارة المكنية الاصلية المرشحة ـ والثناي استعارة تخييلية وأو مض ترشيح.

(٣) شبه القصد إلى الشيء والتوجه له ، بالفراغ والخلوص من الشواغل ـ بجامع الاهتمام في كل ، واستعار اللفظ الدال على المشبه به للمشبه ، ثم اشتق من الفراغ بمعنى الخلو : نفرغ ـ على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية ، والقرينة حالية.

(٤) شبخ القصد إلى الشىء والتوجه له ، بالفراغ والخلوص من الشواغل ، بجامع الاهمّام في كلّ ، واستعار اللفظ الدال على الشبه به للمشبه هم اشبق من الفراغ بمعنى الخلو : تفرغ ، على سبيل الستعارة التصريحية التبعية ، والقرينة حالية.

(٥) في كلمة «في» استعارة تصريحية تبعية ، فقد شبهت «في» التي تدل على الارتباط «بفي» التي تدل على الظرفية بجامع التمكن في كل فسري التشبيه من الكليين إلى الجزئيات فاستعيرت في من الثاني للاول على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية ـ والقرينة على ذلك كلمة الضلال.

٢٧٤

بلاغة الاستعارة بجميع أنواعها

سبق لك أن بلاغة التشبيه آتية من ناحيتين ، الأولى : طريقة تأليف الفازه. والثانية : ابتكار مشبه به بعيد عن الأذهان ، لا يجول إل في نفس أديب ، وهب له استعداداً سليماً في تعرف وجوه اشبه الدقيقة بين الأشياء وأودعه قدرة على ربط المعاني ، وتوليد بعض إلى مدى بعيد لايكاد ينتهي.

وسر بلاغة الاستعارة لا تعتدي هاتني ، فبلاغتها من ناحية اللفظ أ ، تركيبها يدل على تناسي التشبيه ، ويحملك عمداً على تخيل صورة جديدية تنسيك روعتها ما تضمنه الكلام من تشبيه خفي مستور.

انظر لى قول البحتري في الفتح بن خاقان :

يمو بكف على العافين حانية

تهمي وطرف إلى العلياء طمّاح

ألست ترى كفه : وعد تمثلت في صورة سحابة هتانة ، تصب وبلها على العافين والسائلين ، وإن هذه صورة قد تملكت عليك مشاعرك فأهلتك علما اختبأ في الكلام من تشبيه؟

لهذا كانت الاستعارة أبلغ من التشبيه البليغ لأنه وإن بنى على ادعاء أن المشبه والمشبه به سواء ، لايزال فيه التشبيه منوياُ ملحوضاً. بخلاف الاستعارة فالتشبيه فيها منسي بجحود ، ومن ذلك يظهر لك أن الاستعارة المرشحة أبلغ من الاستعارة المطلقة ، وأن الاستعارة المطلقة ، وأن الاستعارة المطلقة أبلغ من الاستعارة المجردة.

أما بلاغة الاستعارة من حيث الابتكار ، وروعة الخيال ، وما تحدثه من أثر في نفوس سامعيها ، فمجال فسيح للإبداع ، وميدان لتسابق المجيدين من فرسان الكام. انظر إلى قوله عز شأنه في وصف النار : (تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوجُ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير). ترسم أمامك النار في صورة مخلوق ضخم, بطاش مكفهر الوجه عابس يغلى صدره حقداً وغيظاً. (عن البلاغة الواضحة بتصرف).

٢٧٥
٢٧٦

الباب الثالث

في الكناية وتعريفها وأنواعها

الكناية (١) لغة : ما يتكلم به الإنسان ، ويريد به غيره ، وهي : مصدر كنيت ، أو كنوت بكذا ، عن كذا ، إذا تركت التصريح به

__________________

(١) توضيح المقام : أنه إذا أطلق اللفظ ، وكان المراد منه غير معناه فلا يخلو إما : أن يكون معناه الأصلي مقصودا أيضا ، ليكون وسيلة إلى المراد وإما : ألا يكون مقصوداً ، فالأول : الكناية : والثاني : المجاز.

فالكناية : هي أن يريد المتكلم اثبات معنى من المعاني : فلا يذكره باللفظ الموضوع له ولكن يجىء إلى معنى هو مرادفه ، فيومىء به إلى المعنى الأول ، ويجعله دليلا عليه أو الكناية هي اللفظ الدال على ما له صلة بمعناه الوضعي ، لقرينة لا تمنع من ارادة الحقيقة ، كفلان نقي الثوب ، أي مبرأ من العيب ، كلفظ «طويل النجاد» المراد به طول القامة ، فانه يجوز أن يراد منه طول النجاد أي علاقة السيف أيضا ، فهي تخالف المجاز من جهة إمكان إيراد المعنى الحقيقي مع إرادة لازمه.

بخلاف المجاز فانه لا يجوز فيه ارادة المعنى الحقيقي لوجود القرينة المانعة من ارادته.

ومثل ذلك قولهم «كثير الرماد» يعنون به أنه كثير القرى والكرم ، وقول الحضرمي :

قد كان تعجب بعضهن براعتي

حتى رأين تنحنحى وسعالى

كنى عن كبر السن بتوابعه ، وهي التنحنح والسعال.

وقولهم : المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه ، وقوله :

ان السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

 

٢٧٧

__________________

وقوله :

ومابك في من عيب فاني

جبان الكلب مهزول الفصيل

فان «جبان الكلب» كناية ، وكذا «مهزول الفصيل» والمراد منهما ثبوت الكرم ، وكل واحدة على حدتها تؤدي هذا المعنى ، وقد جاء عن العرب كنايات كثيرة كقوله :

بيض المطابخ لا تشكو إماؤ هم

طبخ القدور ولا غسل المناديل

ويروي أن خلافا وقع بين بعض الخلفاء ونديم له في مسألة ، فاتفقا على تحكيم بعض أهل العلم ، فاحضر ، فوجد الخليفة مخطئاً ، فقال : القائلون بقول أمير المؤمنين أكثر (يريد الجهال) وإذا كان الرجل أحمق قيل ، نعته لا ينصرف ، ونظر البديع الهمذاني إلى رجل طويل بارد ، فقال : قد أقبل ليل الشتاء ، ودخل رجل على مريض يعوده وقد اقشعر من البرد ، فقال ما تجد (فديتك) قال أجدك (يعني البرد) وإذا كان الرجل ملولا قيل : هو من بقية قوم موسى ، وإذا كان ملحداً ، قيل قد عبر (يريدون جسر الايمان) وإن كان يسىء الأدب في المؤاكلة قبل : تسافر يده على الخوان ويرعى أرض الجيران ، ويقال عمن يكثر الاسفار : (فلان) لا يضع العصا على عاتقه ـ وجاء في القرآن الكريم (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً) فانه كنى عن الغيبة يأكل الانسان لحم الانسان ، وهذا شديد المناسبة لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم وتمزيق العرض مماثل لأكل الانسان لحم من يغتابه.

ومن أمثال العرب : قولهم : لبست لفلان جلد النمر ، وجلد الأرقم ـ كناية عن العداوة ، وكذلك قولهم (قلبت له ظهر المجن) كناية عن تغيير المودة ، ويقول القوم : فلان برىء الساحة ، إذا برؤوه من تهمة ـ ورحب الذراع ، إذا كان كثير المعروف ـ وطويل الباع في الأمر ، إذا كان مقتدرا فيه ، وقوى الظهر ، إذا كثر ناصروه ، ومن ذلك أن (المنصور) كان في بستان له ، أيام محاربته (ابراهيم بن عبد الله بن الحسن) فنظر إلى شجرة خلاف فقال للربيع ، ما هذه الشجرة ، فقال طاعة يا أمير المؤمنين فتفاءل المنصور به ، وعجب من ذكائه ، ومثل ذلك : أن رجلا مر في صحن دار (الرشيد) ومعه حزمة خيزران ، فقال الرشيد للفضل بن الربيع ، ما ذاك فقال (عروق الرماح) يا أمير المؤمنين ، وكره أن يقول «الخيزران» لموافقته اسم (والدة الرشيد) ومن كلامهم «فلان طويل الذيل».

٢٧٨

بكذا ، عن كذا إذا تركت التصريح به.

واصطلاحاً : لفظ أريد به غيرُ معناهُ الذي وضع له ، مع جواز إرادة المعنى الأصلي ، لعدم وجود قرينة مانعة من إرادته ، نحو «زيد طويل النجاد «تريد بهذا التركيب أنه شجاع عظيم ، فعدلت عن التصريح بهذه الصفة ، إلى الاشارة إليها بشيء تترتب عليه وتلزمه ، لأنه يلزم من طول حمالة السيف طول صاحبه ، ويلزم من طول الجسم الشجاعة عادة ، فإذاً : المراد طول قامته ، وان لم يكن له نجاد ، ومع ذلك يصحّ أن يراد المعنى الحقيقي ، ومن هنا يعلم أن الفرق بين الكناية والمجاز صحة إرادة المعنى الأصلي في الكناية ، دون المجاز ، فإنه ينافى ذلك.

__________________

يريدون أنه غني من الحال ، وعليه قول الحريري :

أن الغريب الطويل الذيل ممتهن

فكيف حال غريب ماله قوت

وكذلك قولهم : فلان طاهر الثوب ، أي منزه عن السيئات ، وفلان دثن الثوب أي متلوث بها ، قال امرؤ :

القيس ثياب بني عوف طهارة نقية

وأوجههم عند المشاهد غرات

ويقولون : فلان غمر الرداء ، إذا كان كثير المعروف عظيم العطايا ، قال كثير :

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال

ومن الكنايات اللطيفة : ما ذكرها الأدباء في الشيب والكبر ، فيقولون : عرضت لفلان فترة ، وعرض له ما يمحو ذنوبه ، واقمر ليله ، ونور غصن شيابه ، وفضض الزمان أبنوسه وجاءه النذير ، وقرع ناجذ الحلم ، وارتاض بلجام الدهر ، وأدرك زمان الحنكة ، ورفض غرة الصبا ، ولبى دواعي الحجي ، ومن كناياتهم عن الموت : استأثر الله به ، وأسعده بجواره ، ونقله إلى دار رضوانه ومحل غفرانيه ، واختار له النقلة من دار البوار إلى دار الأبرار ، ومن الكنايات أيضاً أن يقام وصف الشيء مقام اسمه كما ورد في القرآن الكريم (وحملناه على ذات أولاح ودسر) يعني السفينة ، فوضع صفتها موضع تسميتها ، كما ورد (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد) يعني الخيل ، وقال بعض المتقدمين :

سألت قتيبة عن أبيها صحبة

في الروح هل ركب الاغر الاشقرا

يعني هل قتل ، لأن الاغر الاشقر ، وصف الدم ، فأقامه مقام اسمه.

٢٧٩

نعم : قد تمتنع إرادة المعنى الأصلي في الكناية ، لخصوص الموضوع كقوله تعالى (والسموات مطويات بيمينه) وكقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) كناية عن تمام القدرة ، وقوة التمكن والاستيلاء.

وتنقسم الكناية بحسب المعنى الذي تشير إليه إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ كناية عن صفةٍ : كما تقول (هو ربيب أبي الهول) تكنى عن شدة كتمانه لسره.

وتعرف كناية الصفة بذكر الموصوف : ملفوظاً أو ملحوظاً من سياق الكلام.

٢ ـ كناية عن موصوف : كما تقول (أبناء النيل) تكنى عن المصريين ، و (مدينة النور) تكنى عن باريس ، وتعرف بذكر الصفة مباشرة ، أو ملازمة ومنها : قولهم (تستغنى مصر عن مصب النيل ولا تستغني عن منبعه) كنوا بمنبع النيل عن أرض السودان.

ومنها : قولهم (هو حارس على ماله) كنوا به عن البخيل الذي يجمع ماله ، ولا ينتفع به ، ومنها : قولهم (هو فتىً رياضي) يكنون عن القوة ، وهلم جرّا.

٣ ـ كناية عن نسبة ، وسيأتي الكلام عليها فيما بعد ، فالقسم الأول وهو الكناية التي يطلب بها (صفة) هي ما كان المكنى عنه فيها صفة ملازمة لموصوف مذكور في الكلام.

وهي نوعان :

(أ) كناية قريبة : وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بغير واسطة بين المعنى المنتقل عنه ، والمعنى المنتقل إليه ، نحو قول الخنساء في رثاء أخيها صخر :

رفيع العماد طويل النجا

دسادَ عشيرته أمردا(١)

__________________

(١) قصدت الخنساء وصف صخر بطول القامة والشجاعة ، فعدلت عن التصريح بما أرادت إلى الاشارة إليه بطول النجاد لأنه يلزم من طول حمالة السيف طول قامة صاحبه ، أو طول القامة يلزمه الشجاعة غالباً ـ كما أرادت وصفه بالعزة والسيادة فلم تصرح بقصدها وصرحت بما يستدعي ما أرادت فقالت : (رفيع العماد) فرفعة العماد تستلزم أنه عظيم المكانة في قومه على الشأن بين عشيرته ، لجريان العادة بذلك ، وعمدت إلى وصفه بالجود والكرم ، فقالت (كثير الرماد) تشير كثرة الايقاد للاطعام ، وهذا يلزمه الكرم.

٢٨٠